الصفحة السابقة الصفحة التالية

الإمامة والسياسة (ج1)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 61

أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني، ولم أكن استكرهتهم من قبل على السمع والطاعة، ولكن أتوها طائعين، يبتغون بذلك مرضاة الله، وصلاح الأمة، ومن يكن منهم يبتغي الدنيا فلن ينال منها إلا ما كتب له، فاتقوا الله، فإني لا أرضى لكم أن تنكثوا عهد الله، وإني أنشدكم الله والإسلام ألا تأخذوا الحق ولا تعطوه مني: (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء، إلا ما رحم ربي) وإني عاقبت أقواما، وما أبتغي بذلك إلا الخير، وإني أتوب إلى الله من كل عمل عملته، وأستغفره، أما والله لقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يحل دم امرئ مسلم إلا في إحدى ثلاث: الردة عن الإسلام، والزنا بعد الاحصان، ولا والله ما كان ذلك مني في جاهلية ولا إسلام، أو رجل قتل رجلا فيقاد به (1). فقال بعضهم: إنه ليقول مقالا. وقال آخر: لئن سمعتم منه ليصرفنكم، فأبوا، ورموه بالسهام، واستقبلوه بما لا يستقبل به مثله، ثم أشرف عليهم عبد الله بن سلام، وكان من أهل الدار، فقال (2): يا معشر من حاصر دار عثمان من المهاجرين والأنصار، ممن أنعم الله عليهم بالإسلام، لا تقتلوا عثمان فوالله إن حقه على كل مؤمن لحق الوالد على ولده، ووالله إن على حوائط المدينة اثني عشر ألف ملك منذ أن أمد الله بهم نبيكم صلى الله عليه وسلم، والله لئن قتلتموه ليسخطن عليكم ربكم، ولتتفرقن ملائكته عنكم وليقتلن بقتله أقواما هم في الأصلاب وما خلقوا في الأرحام وإني لأجده في التوراة التي أنزل الله على موسى عليه السلام، وكتب بيده عز وجل إليكم بالعبراني وبالعربي: خليفتكم المظلوم الشهيد والذي نفسي بيده لئن قتلتموه لا تؤدى بعده طاعة إلا عن مخافة، ولا توصل رحم إلا عن مكافأة، وليقتلن به الرجل ومن في الأصلاب. فقالوا له: أيا يهودي، أشبع بطنك، وكسا ظهرك والله لا ينتطح فيه شاتان، ولا يتنافر فيه ديكان، فقال: أما الشاتان والديكان فصدقتم، ولكن التيسان الأكبر أن يتناطحان فيه فحصبوه ورموه حتى شجوه. فالتفت إلى عثمان، فقال له: زعموا أنك أشبعت بطني وكسوت ظهري، فاصبر

(هامش)

(1) أخرجه أحمد في مسنده 1 / 61، 63، 70، 382، 444، 465 و6 / 58، 214 وابن سعد في الطبقات 6773. (2) كلمة عبد الله بن سلام في الطبري / 130 وفتوح ابن الأعثم 2 / 223 قارن مع الأصل فثمة اختلاف. (*)

ص 62

يا أمير المؤمنين، فوالذي نفسي بيده إني أجدك في كتاب الله تعالى المنزل: الخليفة المظلوم الشهيد، فرميت بالسهام من كل جانب، وكان الحسن بن علي حاضرا، فأصابه سهم فخضبه بالدم، وأصاب مروان سهم، وهو في الدار، وخضب محمد بن طلحة، وشج قنبر مولى علي فخشي محمد بن أبي بكر أن يغضب بنو هاشم للحسن فيثيروها فتنة.

 قتل عثمان رضي الله عنه وكيف كان

 قال: وذكروا أن محمد بن أبي بكر لما خرج الحسن بن علي أخذ بيد رجلين، فقال لهما: إن جاءت بنو هاشم، فرأوا الدماء على وجه الحسن، كشفوا الناس عن عثمان، وبطل ما تريدون ولكن قوموا حتى نتسور عليه، فنقتله من غير أن يعلم أحد، فتسور هو وصاحباه من دار رجل من الأنصار (1)، حتى دخلوا على عثمان (2)، وما يعلم أحد ممن كان معه، لأن كل من معه كان فوق البيت، ولم يكن معه إلا امرأته، فدخل عليه محمد بن أبي بكر فصرعه، وقعد على صدره، وأخذ بلحيته، وقال: يا نعثل (3) ما أغنى عنك معاوية، وما أغنى عنك ابن عامر وابن أبي سرح. فقال له عثمان: لو رآني أبوك رضي الله عنه لبكاني، ولساءه مكانك مني، فتراخت يده عنه، وقام عنه وخرج فدعا عثمان بوضوء فتوضأ، وأخذ مصحفا، فوضعه في حجره، ليتحرم به ودخل عليه رجل من أهل الكوفة بمشقص في يده، فوجأ به منكبه مما يلي الترقوة، فأدماه ونضح الدم على ذلك المصحف، وجاء آخر فضربه برجله، وجاء آخر فوجأه بقائم سيفه، فغشي عليه، ومحمد بن أبي بكر لم يدخل مع هؤلاء، فتصايح نساؤه، ورش الماء على وجهه فأفاق، فدخل محمد بن أبي بكر وقد أفاق فقال له: أي نعثل، غيرت وبدلت وفعلت. ثم دخل رجل من أهل مصر، فأخذ بلحيته، فنتف منها خصلة، وسل سيفه، وقال: افرجوا لي، فعلاه بالسيف، فتلقاه عثمان بيده، فقطعها، فقال عثمان: أما والله إنها أول يد خطت المفصل، وكتبت القرآن، ثم دخل رجل

(هامش)

(1) هي دار عمر وبن حزم من الأنصار. (2) والذين تسوروا الحائط هم: كنانة بن بشر بن عتاب وسودان بن حمران وعمرو بن الحمق (الطبري 5 / 131). (3) نعثل: قيل اسم رجل يهودي كان طويل اللحية، لقب به عثمان. (*)

ص 63

أزرق قصير مجدر، ومعه جرز (1) من حديد، فمشى إليه فقال: على أي ملة أنت يا نعثل؟ فقال: لست بنعثل، ولكني عثمان بن عفان، وأنا على ملة إبراهيم حنيفا وما أنا من المشركين. قال كذبت. وضربه بالجرز على صدغه الأيسر فغسله الدم، وخر على وجهه، وحالت نائلة بنت الفرافصة زوجته بينه وبينه، وكانت جسيمة، وألقت بنت شيبة (2) نفسها عليه، ودخل عليه رجل من أهل مصر (3)، ومعه سيف مصلت، فقال والله لأقطعن أنفه، فعالج امرأته عنه، فكشف عنها درعها. فلما لم يصل إليه أدخل السيف بين قرطها ومنكبها، فضربت على السيف، فقطع أناملها، فقالت: يا رباح، غلام لعثمان أسود ومعه سيف، أعن عني هذا، فضربه الأسود فقتله، ثم دخل آخر معه سيف فقال: افرجوا لي، فوضع ذباب السيف في بطن عثمان، فأمسكت نائلة زوجته السيف، فحز أصابعها، ومضى السيف في بطن عثمان فقتله (4)، فخرجت امرأته وهي تصيح، وخرج القوم هاربين من حيث دخلوا، فلم يسمع صوت نائلة، لما كان في الدار من الجلبة، فصعدت امرأته إلى الناس، فقالت إن أمير المؤمنين قد قتل. فدخل الحسن والحسين ومن كان معهما، فوجدوا عثمان مقتولا قد مثل به فأكبوا عليه يبكون وخرجوا فدخل الناس فوجدوه مقتولا فبلغ عليا الخبر وطلحة والزبير وسعدا ومن كان بالمدينة فخرجوا وقد ذهبت عقولهم، فدخلوا عليه واسترجعوا، وأكبوا عليه يبكون ويعولون حتى غشي على علي ثم أفاق، فقال لابنيه: كيف قتل أمير المؤمنين وأنتما على الباب؟ فرفع يده فضرب الحسن والحسين (5)، وشتم محمد بن طلحة، ولعن عبد الله بن الزبير، وخرج علي وقد سلب عقله، لا يدري ما يستقبل من أمره، فقال طلحة: ما لك يا أبا الحسن ضربت الحسن والحسين؟ فقال يا طلحة، يقتل أمير المؤمنين ولم نقم عليه

(هامش)

(1) الجرز بضم الجيم وسكون الراء عمود من حديد. (2) هي رملة بنت شيبة بن ربيعة، ولدت له عائشة أم أبان وأم عمرو (ابن الأثير 2 / 299). (3) هو كنانة بن بشر التجيبي. (4) اختلف أهل السير فيمن قتله وكيفية قتله انظر في ذلك الطبري 5 / 130 و132 مروج الذهب 2 / 382 البداية والنهاية 7 / 185 فتوح ابن الأعثم 2 / 231 الكامل لابن الأثير 2 / 231 تاريخ اليعقوبي 2 / 176 طبقات ابن سعد 3 / 72 - 73. وقد أجمعوا على مقتله في ذي الحجة لكنهم اختلفوا في وقت مقتله ومدة ولايته وقدر مدة حياته. (5) في مروج الذهب: لطم الحسن وضرب صدر الحسين. (*)

ص 64

بينة ولا حجة، فقال طلحة: لو دفع مروان لم يقتل. فقال علي: لو دفع مروان قتل قبل أن تقوم عليه حكومة. فخرج علي فأتى منزله وأغلق الباب، وكتبت نائلة بنت الفرافصة إلى معاوية تصف دخول القوم على عثمان، وأخذه المصحف ليتحرم به، وما صنع محمد بن أبي بكر وأرسلت بقميص عثمان مضرجا بالدم ممزقا، وبالخصلة التي نتفها الرجل المصري من لحيته، فعقدت الشعر في زر القميص، ثم دعت النعمان بن بشير الأنصاري، فبعثته إلى معاوية (1)، ومضى بالقميص حتى أتى على يزيد بن أسيد ممدا لعثمان بعثه معاوية في أربعة آلاف، فأخبرهم بقتل عثمان فانصرفوا إلى الشام. قال ثم دخل أهل مصر الدار، فلما رأوا عثمان مقتولا ندموا واستحيوا وكره ذلك، وثار أهل الدار في وجوههم، فأخرجهم منها. ثم اقتتلوا عند الباب، فضرب مروان بالسيف فصرع.

 دفن عثمان بن عفان رضي الله عنه

 قال: وذكروا أن عبد الرحمن بن أزهر، قال: لم أكن دخلت في شيء من أمر عثمان، لا عليه ولا له، فإني لجالس بفناء داري ليلا بعدما قتل عثمان بليلة إذ جاءني المنذر بن الزبير، فقال ابن أخي يدعوك فقمت إليه، فقال لي: إنا أردنا أن ندفن عثمان، فهل لك؟ قلت: والله ما دخلت في شيء من شأنه، وما أريد ذلك، فانصرفت عنه، ثم اتبعته، فإذا هو في نفر فيهم جبير بن مطعم، وأبو الجهم بن حذيفة، والمسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن الزبير، فاحتملوه على باب وإن رأسه ليقول: طق طق، فوضعوه في موضع الجنائز، فقام إليهم رجال من الأنصار، فقالوا لهم: لا والله لا تصلون عليه. فقال أبو الجهم: ألا تدعونا نصلي عليه، فقد صلى الله تعالى عليه وملائكته. فقال له رجل منهم (2): إن كنت (3) فأدخلك الله مدخله، فقال له، حشرني الله معه. فقال له: إن الله حاشرك مع الشياطين، والله إن تركناكم به لعجز منا. فقال القوم لأبي الجهم: اسكت عنه وكف، فسكت، فاحتملوه ثم انطلقوا مسرعين

(هامش)

(1) نص كتابها إلى معاوية في العقد الفريد 4 / 300. (2) هو الحجاج بن عمرو بن غزية الأنصاري (ابن الأعثم 2 / 240). (3) كذا بالأصل، وفي فتوح ابن الأعثم: إن كنت كاذبا. (*)

ص 65

كأني أسمع وقع رأسه على اللوح، حتى وضعوه في أدنى البقيع فأتاهم جبلة بن عمر الساعدي من الأنصار، فقال: لا والله لا تدفنوه في بقيع رسول الله، ولا نترككم تصلون عليه، فقال أبو الجهم: انطلقوا بنا، إن لم نصل عليه فقد صلى الله عليه، فخرجوا ومعهم عائشة بنت عثمان، معها مصباح في حق، حتى إذا أتوا به حش كوكب (1) حفروا له حفرة، ثم قاموا يصلون عليه، وأمهم جبير بن مطعم (2)، ثم دلوه في حفرته، فلما رأته ابنته صاحت، فقال ابن الزبير: والله لئن لم تسكتي لأضربن الذي فيه عينيك، فدفنوه، ولم يلحدوه بلبن، وحثوا عليه التراب حثوا.

 بيعة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وكيف كانت

قال: وذكروا أنه لما كان في الصباح اجتمع الناس في المسجد، وكثر الندم والتأسف على عثمان رحمه الله، وسقط في أيديهم، وأكثر الناس على طلحة والزبير واتهموهما بقتل عثمان، فقال الناس لهما: أيها الرجلان، قد وقعتما في أمر عثمان، فخليا عن أنفسكما، فقام طلحة فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنا والله ما نقول اليوم إلا ما قلناه أمس، إن عثمان خلط الذنب بالتوبة. حتى كرهنا ولايته وكرهنا أن نقتله وسرنا أن نكفاه، وقد كثر فيه اللجاج، وأمره إلى الله، ثم قام الزبير فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إن الله قد رضي لكم الشورى، فأذهب بها الهوى، وقد تشاورنا فرضينا عليا فبايعوه، وأما قتل عثمان فإنا نقول فيه إن أمره إلى الله، وقد أحدث أحداثا والله وليه فيما كان، فقام الناس، فأتوا عليا في داره (3)، فقالوا: نبايعك، فمد يدك، لا بد من أمير، فأنت أحق بها، فقال: ليس ذلك إليكم، إنما هو لأهل الشورى وأهل بدر، فمن رضي به أهل الشورى وأهل بدر فهو الخليفة، فنجتمع وننظر في هذا الأمر فأبى أن يبايعهم، فانصرفوا عنه، وكلم بعضهم بعضا فقالوا: يمضي قتل عثمان في الآفاق والبلاد فيسمعون بقتله، ولا يسمعون أنه بويع لأحد بعده، فيثور كل رجل منهم في ناحية، فلا نأمن أن يكون في ذلك الفساد فارجعوا إلى علي، فلا

(هامش)

(1) حش كوكب: موضع بالمدينة، مما يلي البقيع. (2) وقيل: حكيم بن حزام، وقيل مروان. قال الواقدي: الثبت عندنا أنه صلى عليه جبير بن مطعم. (3) قيل كان بعرف الضبع (موضع راجع معجم البلدان). (*)

ص 66

تتركوه حتى يبايع، فيسير مع قتل عثمان بيعة علي، فيطمئن الناس ويسكنون فرجعوا إلى علي، وترددوا إلى الأشتر النخعي، فقال لعلي: أبسط يدك نبايعك، أو لتعصرن عينيك عليها ثالثة، ولم يزل به يكلمه، ويخوفه الفتنة، ويذكر له أنه ليس أحد يشبهه، فمد يده، فبايعه الأشتر ومن معه، ثم أتوا طلحة، فقالوا له: اخرج فبايع، قال: من؟ قالوا: عليا. قال: تجتمع الشورى وتنظر، فقالوا: أخرج فبايع، فامتنع عليهم. فجاؤوا به يلببونه، فبايعه بلسانه ومنع يده، فقال أبو ثور: كنت فيمن حاصر عثمان فكنت آخذ سلاحي وأضعه، وعلي ينظر إلي لا يأمرني ولا ينهاني، فلما كانت البيعة له، خرجت في أثره، والناس حوله يبايعونه، فدخل حائطا من حيطان بني مازن (1)، فألجأوه إلى نخلة، وحالوا بيني وبينه، فنظرت إليهم وقد أخذت أيدي الناس ذراعه، تختلف أيديهم على يده ثم أقبل إلى المسجد الشريف، وكان أول من صعد المنبر طلحة فبايعه بيده، وكانت أصابعه شلاء، فتطير منها علي، فقال: ما أخلقها أن تنكث، ثم بايعه الزبير وسعد (2) وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جميعا، ثم نزل فدعا الناس، وأمر مروان، فهرب منه، وطلب نفرا من بني أمية وابن أبي معيط فهربوا، وخرجت عائشة باكية تقول قتل عثمان رحمه الله، فقال لها عمار (2): بالأمس تحرضين عليه الناس، واليوم تبكينه، ثم جاء علي إلى امرأة عثمان فقال لها: من قتل عثمان؟ قالت: لا أدري، دخل عليه رجال لا أعرفهم إلا أن أرى وجوههم، وكان معهم محمد بن أبي بكر، فدعا علي محمدا، فسأله عما ذكرت امرأة عثمان، فقال محمد: صدقت، قد والله دخلت عليه، فذكر لي أبي، فقمت عنه، وأنا تائب إلى الله تعالى، والله ما قتلته، ولا أمسكته، فقالت: صدق، ولكن هو أدخلهم. قال: ثم خرج طلحة، فلقي عائشة، فقالت له: ما صنع الناس؟ قال: قتلوا عثمان. قالت: ثم ما صنعوا؟ قال: بايعوا عليا، ثم أتوني فأكرهوني ولببوني حتى بايعت. قالت: وما لعلي يستولي على رقابنا، لا أدخل المدينة ولعلي فيها سلطان، فرجعت. وكان الزبير خارجا لم يشهد قتل عثمان، وكان عمرو بن العاص بفلسطين يوم قتل عثمان، فطلع عليه راكب من

(هامش)

(1) في الطبري 5 / 153 حائط بني عمرو بن مبذول. (2) في فتوح ابن الأعثم 2 / 248 الذي قال لها ذلك عبيد ابن أم كلاب وهو عبيد بن أبي سلمة الليثي وقد لقيها قريبا من المدينة قادمة من مكة: (أنظر الطبري 5 / 165 وابن الأثير 3 / 102). (*)

ص 67

الحجاز، فقال له: ما وراءك؟ قال تركت عثمان محصورا، قال عمرو: قد يضرط العير والمكواة في النار، ثم لبث أياما، فطلع عليه راكب آخر، فقال له عمرو: ما الخبر؟ قال: قتل عثمان. قال: فما فعل الناس؟ فقال: بايعوا عليا. قال: فما فعل علي في قتلة عثمان؟ قال: دخل عليه الوليد بن عقبة فسأله عن قتله، فقال: ما أمرت ولا نهيت، ولا سرني ولا ساءني. قال: فما فعل بقتلة عثمان! فقال: آوى ولم يرض، وقد قال له مروان: إن لا تكن أمرت فقد توليت الأمر، وإلا تكن قتلت فقد أويت القاتلين، فقال عمرو بن العاص: خلط والله أبو الحسن، قال: ثم كتب عمرو بن العاص إلى سعد بن أبي وقاص يسأله عن قتل عثمان، ومن قتله، ومن تولى كبره؟ فكتب إليه سعد: إنك سألتني من قتل عثمان؟ وإني أخبرك أنه قتل بسيف سلته عائشة، وصقله طلحة، وسمه ابن أبي طالب، وسكت الزبير وأشار بيده، وأمسكنا نحن، ولو شئنا دفعنا عنه، ولكن عثمان غير وتغير، وأحسن وأساء، فإن كنا أحسنا، وإن كنا أسأنا فنستغفر الله، وأخبرك أن الزبير مغلوب بغلبة أهله وبطلبه بذنبه، وطلحة لو يجد أن يشق بطنه من حب الإمارة لشقه. قال: وكان ابن عباس غائبا بمكة المشرفة، فأقبل إلى المدينة وقد بايع الناس عليا. قال ابن عباس: فوجدت عنده المغيرة بن شعبة، فجلست حتى خرج، ثم دخلت عليه، فسألني وساءلته. ثم قلت له: ما قال لك الخارج من عندك آنفا؟ قال لي قبل هذه الدخلة، أرسل إلى عبد الله بن عامر بعهده على البصرة، وإلى معاوية بعهده على الشام (1) فإنك تهدئ عليك البلاد، وتسكن عليك الناس. ثم أتاني الآن، فقال لي: إني كنت أشرت عليك برأي لم أتعقبه، فلم أر ذلك رأيا، وإني أرى أن تنبذ (2) إليهما العداوة، فقد كفاك الله عثمان، وهما أهون موتة منه. فقال له ابن عباس: أما المرة الأولى فقد نصحك فيها (3)، وأما الثانية فقد غشك فيها، قال: فإني قد وليتك الشام فسر إليها، قال: قلت: ليس هذا برأي، أترى معاوية وهو ابن عم عثمان مخليا بيني وبين عمله، ولست آمن إن ظفر بي أن يقتلني بعثمان، وأدنى ما هو صانع أن

(هامش)

(1) زيد في الطبري 5 / 159 وأقرر العمال على أعمالهم. (2) في الطبري: أن تعاجلهم بالنزوع. (3) يريد أن معاوية وأصحابه أهل دنيا فمتى تثبتهم فلا يبالوا بمن ولي هذا الأمر، وأن تعزلهم يقولوا: تولى هذا الأمر بغير شورى وهو قتل صاحبنا ويؤلبون عليك (الطبري 5 / 160). (*)

ص 68

يحبسني ويحكم علي، ولكن اكتب إلى معاوية، فمنه وعده (1)، فإن استقام لك الأمر فابعثني، قال: ثم أرسل بالبيعة إلى الآفاق، وإلى جميع الأمصار! فجاءته البيعة من كل مكان إلا الشام، فإنه لم يأته منها بيعة. فأرسل إلى المغيرة بن شعبة فقال له: سر إلى الشام فقد وليتكها. قال: تبعثني إلى معاوية وقد قتل ابن عمه، ثم آتيه واليا، فيظن أني من قتلة ابن عمه؟ ولكن إن شئت أبعث إليه بعده، فإنه بالحري إذا بعثت له بعهده أن يسمع ويطيع. فكتب علي إلى معاوية (2): أما بعد فقد وليتك ما قبلك من الأمر والمال، فبايع من قبلك، ثم أقدم إلي في ألف رجل من أهل الشام. فلما أتى معاوية كتاب علي دعا بطومار فكتب فيه: من معاوية إلى علي، أما بعد، فإنه: ليس بيني وبين قيس عتاب * غير طعن الكلى وضرب الرقاب فلما أتى عليا الكتاب، ورأى ما فيه، وما هو مشتمل عليه، وكره ذلك، وقام فأتى منزله فدخل عليه الحسن ابنه، فقال له: أما والله كنت أمرتك فعصيتني، فقال له علي: وما أمرتني به فعصيتك فيه؟ قال: أمرتك أن تركب رواحلك، فتلحق بمكة المشرفة، فلا تتهم به، ولا تحل شيئا من أمره فعصيتني، وأمرتك حين دعيت إلى البيعة أن لا تبسط يدك إلا على بيعة جماعة، فعصيتني، وأمرتك حين خالف عليك طلحة والزبير أن لا تكرههما على البيعة، وتخلي بينهما وبين وجههما، وتدع الناس يتشاورون عاما كاملا، فوالله لو تشاوروا عاما ما زويت عنك، ولا وجدوا منك بدا، وأنا آمرك اليوم أن تقيلهما بيعتهما، وترد إلى الناس أمرهم، فإن رفضوك رفضتهم، وإن قبلوك قبلتهم، فإني والله قد رأيت الغدر في رؤوسهم، وفي وجوههم النكث والكراهية. فقال له علي: أنا إذا مثلك، لا والله يا بني، ولكن أقاتل بمن أطاعني من عصاني، وأيم الله يا بني ما زلت مبغيا علي منذ هلك جدك، فقال له الحسن: وأيم الله يا أبت ليظهرن عليك معاوية، لأن الله تعالى قال: (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) [الإسراء: 33] فقال علي: يا بني، وما علينا من ظلمه، والله ما ظلمناه، ولا أمرنا

(هامش)

(1) زيد في الطبري: فأبى علي وقال: والله لا كان هذا أبدا. (2) ابن كثير ذكر في البداية والنهاية أن عليا ولى الشام سهل بن حنيف. (*)

ص 69

ولا نصرنا عليه، ولا كتبت فيه إلى أحد سوادا في بياض، وإنك لتعلم أن أباك أبرأ الناس من دمه ومن أمره. فقال له الحسن: دع عنك هذا، والله إني لا أظن، بل لا أشك أن ما بالمدينة عاتق (1) ولا عذراء ولا صبي إلا وعليه كفل من دمه. فقال: يا بني إنك لتعلم أن أباك قد رد الناس عنه مرارا أهل الكوفة وغيرهم، وقد أرسلتكما جميعا بسيفيكما لتنصراه وتموتا دونه، فنها كما عن القتال، ونهى أهل الدار أجمعين. وأيم الله لو أمرني بالقتال لقاتلت دونه، أو أموت بين يديه. قال الحسن: دع عنك هذا، حتى يحكم الله بين عباده يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون. قال: ثم دخل المغيرة بن شعبة، فقال له علي: هل لك يا مغيرة في الله؟ قال: فأين هو يا أمير المؤمنين؟ قال: تأخذ سيفك، فتدخل معنا في هذا الأمر، فتدرك من سبقك، وتسبق من معك، فإني أرى أمورا لا بد للسيوف أن تشحذ لها، وتقطف الرؤوس بها، فقال المغيرة: إني والله يا أمير المؤمنين ما رأيت عثمان مصيبا، ولا قتله صوابا، وإنها لظلمة تتلوها ظلمات، فأريد يا أمير المؤمنين - إن أذنت لي - أن أضع سيفي وأنام في بيتي حتى تنجلي الظلمة ويطلع قمرها، فنسري مبصرين، نقفو آثار المهتدين، ونتقي سبيل الجائرين. قال علي: قد أذنت لك، فكن من أمرك على ما بدا لك. فقام عمار فقال: معاذ الله يا مغيرة تقعد أعمى بعد أن كنت بصيرا. يغلبك من غلبته، ويسبقك من سبقته، انظر ما ترى وما تفعل، فأما أنا فلا أكون إلا في الرعيل الأول. فقال له المغيرة: يا أبا اليقظان، إياك أن تكون كقاطع السلسلة، فر من الضحل فوقع في الرمضاء. فقال علي لعمار: دعه، فإنه لن يأخذ من الآخرة إلا ما خالطته الدنيا، أما والله يا مغيرة إنها المثوبة المؤدية، تؤدي من قام فيها إلى الجنة، ولما اختار بعدها، فإذا غشيناك فنم في بيتك. فقال المغيرة: أنت والله يا أمير المؤمنين أعلم مني، ولئن لم أقاتل معك لا أعين عليك، فإن يكن ما فعلت صوابا فإياه أردت، وإن يكن خطأ فمنه نجوت، ولي ذنوب كثيرة، لا قبل لي بها إلا الاستغفار منها (2).

(هامش)

(1) العاتق المرأة في منتصف العمر. (2) ذكر الطبري أن المغيرة خرج من المدينة حتى لحق مكة. وقد قال أبياتا منها: نصحت عليا في ابن هند مقالة * فردت، فلا يسمع لها الدهر ثانيه (مروج الذهب 2 / 414). (*)

ص 70

خطبة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه

 قال: وذكروا أن البيعة لما تمت بالمدينة، خرج علي إلى المسجد الشريف، فصعد المنبر، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ووعد الناس من نفسه خيرا، وتألفهم جهده، ثم قال: لا يستغني الرجل وإن كان ذا مال وولد عن عشيرته، ودفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم. هم أعظم الناس حيطة من ورائه، وإليهم سعيه وأعطفهم عليه إن أصابته مصيبة، أو نزل به بعض مكاره الأمور ومن يقبض يده عن عشيرته فإنه يقبض عنهم يدا واحدة، وتقبض، عنه أيد كثيرة، ومن بسط يده بالمعروف ابتغاء وجه الله تعالى، يخلف الله له ما أنفق في دنياه، ويضاعف له في آخرته، واعلموا أن لسان صدق يجعله الله للمرء في الناس، خير له من المال، فلا يزدادن أحدكم كبرياء، ولا عظمة في نفسه، ولا يغفل أحدكم عن القرابة أن يصلها، بالذي لا يزيده إن أمسكه، ولا ينقصه إن أهلكه. واعلموا أن الدنيا قد أدبرت، والآخرة قد أقبلت، ألا وإن المضمار (1) اليوم، والسبق (2) غدا. ألا وإن السبقة (3) الجنة. والغاية النار، ألا إن الأمل يشهي القلب، ويكذب الوعد، ويأتي بغفلة، ويورث حسرة فهو غرور، وصاحبه في عناء، فافزعوا إلى قوام دينكم، وإتمام صلاتكم، وأداء زكاتكم، والنصيحة لإمامكم، وتعلموا كتاب الله، واصدقوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوفوا بالعهد إذا عاهدتم، وأدوا الأمانات إذا ائتمنتم وارغبوا في ثواب الله، وارهبوا عذابه، واعملوا الخير تجزوا خيرا يوم يفوز بالخير من قدم الخير.

اختلاف الزبير وطلحة على علي كرم الله وجهه

قال: وذكروا أن الزبير وطلحة أتيا عليا بعد فراغ البيعة، فقالا: هل تدري على ما بايعناك يا أمير المؤمنين؟ قال علي: نعم، على السمع والطاعة، وعلى

(هامش)

(1) المضمار: الموضع والزمن الذي تضمر فيه الخيل، وتضمير الخيل أن تربط ويكثر علفها وماؤها حتى تسمن ثم يقلل علفها وماؤها وتجري في الميدان حتى تهزل. (2) في نهج البلاغة: السباق. (3) السبقة بالتحريك الغاية التي يحب السابق أن يصل إليها وبالفتح المرة من السبق، والسبقة بالضم الجنة. (*)

ص 71

ما بايعتم عليه أبا بكر وعمر وعثمان، فقالا: لا، ولكنا بايعناك على أنا شريكاك في الأمر، قال علي: لا، ولكنكما شريكان في القول والاستقامة والعون على العجز والأولاد، قال: وكان الزبير لا يشك في ولاية العراق، وطلحة في اليمن، فلما استبان لهما أن عليا غير موليهما شيئا، أظهرا الشكاة، فتكلم الزبير في ملأ من قريش، فقال: هذا جزاؤنا من علي، قمنا له في أمر عثمان، حتى أثبتنا عليه الذنب، وسببنا له القتل، وهو جالس في بيته وكفي الأمر. فلما نال بنا ما أراد، جعل دوننا غيرنا، فقال طلحة: ما اللوم إلا أنا كنا ثلاثة من أهل الشورى، كرهه أحدنا وبايعناه، وأعطيناه ما في أيدينا، ومنعنا ما في يده، فأصبحنا قد أخطأنا ما رجونا. قال: فانتهى قولهما إلى علي فدعا عبد الله بن عباس وكان استوزره، فقال له: بلغك قول هذين الرجلين؟ قال: نعم، بلغني قولهما. قال: فما ترى؟ قال: أرى أنهما أحبا الولاية. فول البصرة الزبير، وول طلحة الكوفة، فإنهما ليسا بأقرب إليك من الوليد وابن عامر من عثمان، فضحك علي، ثم قال: ويحك، إن العراقين بهما الرجال والأموال، ومتى تملكا رقاب الناس يستميلا السفيه بالطمع، ويضربا الضعيف بالبلاء، ويقويا على القوي بالسلطان، ولو كنت مستعملا أحدا لضره ونفعه لاستعملت معاوية على الشام، ولولا ما ظهر لي من حرصهما على الولاية، لكان لي فيهما رأي. قال ثم أتى طلحة والزبير إلى علي، فقالا: يا أمير المؤمنين، ائذن لنا في العمرة، فإن تقم إلى انقضائها رجعنا إليك، وإن تسر نتبعك. فنظر إليهما علي، وقال: نعم، والله ما العمرة تريدان، وإنما تريدان أن تمضيا إلى شأنكما، فمضيا (1 و2).

 خلاف عائشة رضي الله عنها على علي

 قال: وذكروا أن عائشة لما أتاها أنه بويع لعلي. وكانت خارجة عن المدينة، فقيل لها: قتل عثمان. وبايع الناس عليا. فقالت: ما كنت أبالي أن تقع السماء على الأرض، قتل والله مظلوما، وأنا طالبة بدمه، فقال لها عبيد (3):

(هامش)

(1) في رواية للطبري أنهما غادرا إلى مكة بعد مقتل عثمان بأربعة أشهر. (2) وفي مروج الذهب: أن علي قال لهما: لعلكما تريدان البصرة أو الشام فأقسما أنهما لا يقصدان غير مكة. (3) وهو عبيد بن أبي سلمة الليثي ويقال له: عبيد ابن أم كلاب وكان لاقاها قرب المدينة. (*)

ص 72

إن أول من طعن عليه وأطمع الناس فيه لأنت، ولقد قلت: اقتلوا نعثلا فقد فجر (1)، فقالت عائشة: قد والله قلت وقال الناس، وآخر قولي خير من أوله (2) فقال عبيد: عذر والله يا أم المؤمنين. ثم قال: منك البداء ومنك الغير * ومنك الرياح ومنك المطر وأنت أمرت بقتل الإمام * وقلت لنا إنه قد فجر فهبنا أطعناك في قتله * وقاتله عندنا من أمر (3) قال: فلما أتى عائشة خبر أهل الشام أنهم ردوا بيعة علي، وأبوا أن يبايعوه، أمرت فعمل لها هودج من حديد، وجعل فيه موضع عينيها، ثم خرجت ومعها الزبير وطلحة وعبد الله بن الزبير ومحمد بن طلحة.

 اعتزال عبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة عن مشاهدة علي وحروبه

 قال: وذكروا أن عمار بن ياسر قام إلى علي، فقال: يا أمير المؤمنين، ائذن لي آتي عبد الله بن عمر فأكلمه، لعله يخف معنا في هذا الأمر، فقال علي: نعم، فأتاه، فقال له: يا أبا عبد الرحمن، إنه قد بايع عليا المهاجرون والأنصار، ومن إن فضلناه عليك لم يسخطك، وإن فضلناك عليه لم يرضك، وقد أنكرت السيف في أهل الصلاة، وقد علمت أن على القاتل القتل، وعلى المحصن الرجم، وهذا يقتل بالسيف، وهذا يقتل بالحجارة، وأن عليا لم يقتل أحدا من أهل الصلاة، فيلزمه حكم القاتل. فقال ابن عمر: يا أبا اليقظان، إن أبي جمع أهل الشورى، الذين قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، فكان أحقهم بها علي، غير أنه جاء أمر فيه السيف ولا أعرفه، ولكن والله ما أحب أن لي الدنيا وما عليها وأني أظهرت أو أضمرت عداوة علي؟ قال:

(هامش)

(1) في فتوح ابن الأعثم 2 / 249 فقد كفر. (2) العبارة في ابن الأعثم: ثم رجعت عما قلت لما عرفت خبره من أوله، وذلك أنكم استتبتموه حتى إذا جعلتموه كالفضة البيضاء قتلتموه، فوالله لأطلبن بدمه. (وانظر الطبري 5 / 172 وابن الأثير 3 / 102). (3) الأبيات في الطبري وابن الأثير وابن الأعثم باختلاف بعض الألفاظ وزيادة أبيات أخرى. (*)

ص 73

فانصرف عنه، فأخبر عليا بقوله (1)، فقال علي: لو أتيت محمد بن مسلمة الأنصاري، فأتاه عمار، فقال له محمد: مرحبا بك يا أبا اليقظان على فرقة ما بيني وبينك، والله لولا ما في يدي من رسول الله صلى الله عليه وسلم لبايعت عليا، ولو أن الناس كلهم عليه لكنت معه، ولكنه يا عمار كان من النبي أمر ذهب فيه الرأي، فقال عمار: كيف؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأيت المسلمين يقتتلون أو إذا رأيت أهل الصلاة. فقال عمار: فإن كان قال لك: إذا رأيت المسلمين فوالله لا ترى مسلمين يقتتلان بسيفيهما أبدا، وإن كان قال لك: أهل الصلاة، فمن سمع هذا معك، إنما أنت أحد الشاهدين، فتريد من رسول الله قولا بعد قوله يوم حجة الوداع: دماؤكم وأموالكم عليكم حرام إلا بحدث، فتقول: يا محمد، لا نقاتل المحدثين. قال: حسبك يا أبا اليقظان. قال: ثم أتى سعد بن أبي وقاص فكلمه، فأظهر الكلام القبيح، فانصرف عمار إلى علي، فقال له علي: دع هؤلاء الرهط، أما ابن عمر فضعيف، وأما سعد فحسود، وذنبي إلى محمد بن مسلمة أني قتلت أخاه يوم خيبر، مرحب اليهودي.

 هروب مروان بن الحكم من المدينة المنورة

 قال: وذكروا أن مروان بن الحكم لما بويع علي هرب من المدينة، فلحق بعائشة بمكة. فقالت له عائشة: ما وراءك؟ فقال مروان: غلبنا على أنفسنا. فقال له رجل من أهل مكة (2): إياك وعليا فقد طلبك، ففر من بين يديه. فقال مروان: لم؟ فوالله ما يجد إلي سبيلا. أما هو فقد علمت أنه لا يأخذني بظن، ولا ينصب إلا على اليقين، وأيم الله ما أبالي إذا قصر علي سيفه ما طال علي من لسانه. فقال الرجل: إذا أطال الله عليك لسانه طال سيفه. قال مروان: كلا إن اللسان أدب، والسيف حكم.

(هامش)

(1) وكان عبد الله بن عمر قد أخبر كلثوم بنت علي أنه سيخرج معتمرا على طاعة علي ما خلا النهوض. (الطبري 5 / 164). (2) في فتوح ابن الأعثم أن مروان لم يبايع عليا، وقد خيره علي أن يلحق بأي بلد شاء فاختار الإقامة بالمدينة. وقوله هذا كان بالمدينة وليس بمكة (2 / 261). (*)

ص 74

خروج علي من المدينة

 قال: وذكروا أن عليا تردد بالمدينة أربعة أشهر، ينتظر جواب معاوية، وقد كان كتب إليه كتابا بعد كتاب يمنيه ويعده أولا، ثم كتابا يخوفه ويتواعده فحبس معاوية جواب كتابه ثلاثة أشهر، ثم أتاه جوابه على غير ما يحب، فلما أتاه ذلك شخص من المدينة في تسعمائة راكب من وجوه المهاجرين والأنصار من أهل السوابق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعهم بشر كثير من أخلاط الناس، واستخلف على المدينة قثم بن عباس، وكان له فضل وعقل، وأمره أن يشخص إليه من أحب الشخوص، ولا يحمل أحدا على ما يكره، فخف الناس إلى علي بعده، ومضى معه من ولده الحسن والحسين ومحمد، فلما كان في بعض الطريق، أتاه كتاب أخيه عقيل بن أبي طالب، وفيه: بسم الله الرحمن الرحيم: أما بعد يا أخي، كلاك الله، والله جائرك من كل سوء، وعاصمك من كل مكروه على كل حال، وإني خرجت معتمرا، فلقيت عائشة معها طلحة والزبير وذووهما، وهم متوجهون إلى البصرة، قد أظهروا الخلاف، ونكثوا البيعة، وركبوا عليك قتل عثمان، وتبعهم على ذلك كثير من الناس، من طغاتهم وأوباشهم، ثم مر عبد الله بن أبي سرح، في نحو من أربعين راكبا، من أبناء الطلقاء، من بني أمية، فقلت لهم وعرفت المنكر في وجوههم: أبمعاوية تلحقون؟ عداوة والله إنها منكم ظاهرة غير مستنكرة، تريدون بها إطفاء نور الله، وتغيير أمر الله. فأسمعني القوم وأسمعتهم ثم قدمت مكة، فسمعت أهلها يتحدثون أن الضحاك بن قيس أغار على الحيرة واليمامة، فأصاب ما شاء من أموالهما، ثم انكفأ راجعا إلى الشام، فأف لحياة في زهو جرأ عليك الضحاك، وما الضحاك إلا فقع بقرقره (1) فظننت حين بلغني ذلك أن أنصارك خذلوك، فاكتب إلي يا بن أمي برأيك وأمرك، فإن كنت الموت تريد، تحملت إليك ببني أخيك، وولد أبيك، فعشنا ما عشت ومتنا معك إذا مت، فوالله ما أحب أن أبقى بعدك، فوالله الأعز الأجل إن عيشا أعيشه بعدك في الدنيا لغير هنئ، ولا مرئ، ولا نجيع، والسلام. فكتب إليه علي كرم الله وجهه: أما بعد يا أخي، فكلاك الله كلاءة من

(هامش)

(1) الفقع: نبات طري أبيض. والقرقرة: الأرض الواطئة. (*)

ص 75

يخشاه، إنه حميد مجيد. قدم علي عبد الرحمن الأزدي بكتابك، تذكر فيه أنك لقيت ابن أبي سرح، في أربعين من أبناء الطلقاء من بني أمية، متوجهين إلى المغرب، وابن أبي سرح يا أخي طال ما كاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصد عن كتابه وسنته وبغاها عوجا، فدع ابن أبي سرح وقريشا وتركاضهم (1) في الضلال، فإن قريشا قد اجتمعت على حرب أخيك، اجتماعها على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل اليوم، وجهلوا حقي، وجحدوا فضلي، ونصبوا لي الحرب، وجدوا في إطفاء نور الله، اللهم فأجز قريشا عني بفعالها، فقد قطعت رحمي، وظاهرت علي، وسلبتني سلطان ابن عمي (2)، وسلمت ذلك لمن ليس في قرابتي، وحقي في الإسلام، وسابقتي التي لا يدعي مثلها مدع، إلا أن يدعي ما لا أعرف، ولا أظن الله يعرفه، والحمد لله على ذلك كثيرا. وأما ما ذكرت من غارة الضحاك على الحيرة واليمامة، فهو أذل وألام من أن يكون مر بها، فضلا عن الغارة، ولكن جاء في خيل جريدة (3) فسرحت إليه جندا من المسلمين، فلما بلغه ذلك ولى (4) هاربا، فاتبعوه فلحقوه ببعض الطريق، حين همت الشمس للإياب، فاقتتلوا، وقتل من أصحابه بضعة عشر رجلا، ونجا هاربا (5)، بعد أن أخذ منه بالمخنق (6)، فلولا الليل ما نجا. وأما ما سألت أن أكتب إليك فيه برأيي، فإن رأيي جهاد المحلين حتى ألقى الله، لا يزيدني كثرة الناس حولي عزة، ولا تفرقهم عني وحشة لأني محق، والله مع المحق، وما أكره الموت على الحق لأن الخير كله بعد الموت لمن عقل ودعا إلى الحق. وأما ما عرضت به من مسيرك إلي ببنيك وبني أبيك، فلا حاجة لي في ذلك، فذرهم راشدا مهديا، فوالله ما أحب أن تهلكوا معي إن هلكت، وأنا كما قال أخو بني سليم (7):

(هامش)

(1) في شرح النهج كتاب 279 سقط وتركاضهم في الضلال والتركاض: المبالغة في الركض: استعارة لسرعة في خواطرهم في الشقاق والضلال. وزيد فيه: وتجوالهم في الشقاق، وجماحهم في التيه. (2) في شرح النهج: أمن أمي. يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن فاطمة بنت أسد أم علي ربت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرها فقال النبي صلى الله عليه وسلم في شأنها: فاطمة أمي بعد أمي. (3) يريد الخيل التي لا رجالة فيها أي أنها غارة ليست خطرة. (4) في شرح النهج: شمر. (5) في شرح النهج: نجا جريضا. (6) المخنق: قال في شرح النهج: هو موضع الخنق من الحيوان. (7) ينسب الشعر إلى عباس بن مرداس السلمي. وليس في ديوانه. (*)

ص 76

فإن تسأليني كيف صبري (1) فإنني * صبور على ريب الزمان صليب عزيز علي أن أرى بكآبة * فيشمت واش (2) أو يساء حبيب

 كتاب أم سلمة إلى عائشة

 قال: وذكروا أنه لما تحدث الناس بالمدينة بمسير عائشة مع طلحة والزبير، ونصبهم الحرب لعلي، وتألفهم الناس كتبت أم سلمة إلى عائشة أما بعد: فإنك سدة بين رسول الله وبين أمته، وحجابك (3) مضروب على حرمته، قد جمع القرآن الكريم ذيلك، فلا تندحيه (4)، وسكن عقيرتك، فلا تصحريها (5)، الله من وراء هذه الأمة، قد علم رسول الله مكانك، لو أراد أن يعهد إليك، وقد علمت أن عمود الدين لا يثبت بالنساء إن مال، ولا يرأب بهن إن انصدع، حماديات (6) النساء غض الأبصار وضم الذيول، وما كنت قائلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لو عارضك بأطراف الجبال والفلوات، على قعود (7) من الإبل، من منهل إلى منهل، إن بعين الله مهواك، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تردين، وقد هتكت حجابه الذي ضرب الله عليك، وتركت عهيداه. ولو أتيت الذي تريدين، ثم قيل لي ادخلي الجنة لاستحييت أن ألقى الله هاتكة حجابا قد ضربه علي، فاجعلي حجابك الذي ضرب عليك حصنك، فأبغيه منزلا لك حتى تلقيه، فإن أطوع ما تكونين إذا ما لزمته، وأنصح ما تكونين إذا ما قعدت فيه، ولو ذكرتك كلاما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لنهشتني نهش الحية، والسلام. فكتبت إليها عائشة: ما أقبلني لوعظك، وأعلمني بنصحك (8)، وليس مسيري على ما تظنين، ولنعم المطلع مطلع فزعت فيه إلي فئتان متناجزتان، فإن أقدر ففي غير حرج، وإن أحرج مالي ما لا غني بي عن الازدياد منه، والسلام.

(هامش)

(1) في شرح النهج: أنت. (2) في شرح النهج: يعز علي أن تري بي... فيشمت عاد. (3) كذا بالأصل وبلاغات النساء، وفي العقد الفريد: حجاب. (4) لا تندحيه: أي لا توسيعه. (5) في العقد الفريد: وسكر خفارتك فلا تبتذليها. 4 / 316. (6) في العقد: جهاد النساء. (7) القعود: بالفتح: من الإبل يقتعده الراعي في كل حاجة. (8) في العقد: وأعرفني لحق نصيحتك. (*)

ص 77

استنفار عدي بن حاتم قومه لنصرة علي رضي الله عنه

 قال: وذكروا أن ابن حاتم قام إلى علي، فقال: يا أمير المؤمنين، لو تقدمت إلى قومي أخبرهم بمسيرك وأستنفرهم، فإن لك من طئ مثل الذي معك. فقال علي: نعم، فافعل، فتقدم عدي إلى قومه، فاجتمعت إليه رؤساء طئ، فقال لهم: يا معشر طئ، إنكم أمسكتم عن حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشرك، ونصرتم الله ورسوله في الإسلام على الردة، وعلي قادم عليكم، وقد ضمنت له مثل عدة من معه منكم، فخفوا معه، وقد كنتم تقاتلون في الجاهلية على الدنيا، فقاتلوا في الإسلام على الآخرة، فإن أردتم الدنيا فعند الله مغانم كثيرة، وأنا أدعوكم إلى الدنيا والآخرة، وقد ضمنت عنكم الوفاء، وباهيت بكم الناس، فأجيبوا قولي، فإنكم أعز العرب دارا، لكم فضل معاشكم وخيلكم، فاجعلوا أفضل المعاش للعيال وفضول الخيل للجهاد، وقد أظلكم علي والناس معه، من المهاجرين والبدريين والأنصار، فكونوا أكثرهم عددا، فإن هذا سبيل للحي فيه الغنى والسرور، وللقتيل فيه الحياة والرزق، فصاحت طئ: نعم نعم، حتى كاد أن يصم من صياحهم. فلما قدم على طئ أقبل شيخ من طئ قد هرم من الكبر، فرفع له من حاجبيه، فنظر إلى علي، فقال له: أنت ابن أبي طالب؟ قال: نعم. قال: مرحبا بك وأهلا، قد جعلناك بيننا وبين الله، وعديا بيننا وبينك، ونحن بينه وبين الناس، لو أتيتنا غير مبايعين لك لنصرناك، لقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيامك الصالحة، ولئن كان ما يقال فيك من الخير حقا إن في أمرك وأمر قريش لعجبا، إذ أخرجوك وقدموا غيرك. سر، فوالله لا يتخلف عنك من طئ إلا عبد أو دعي إلا بإذنك. فشخص معه من طئ ثلاثة عشر آلاف راكب (1).

 استنفار زفر بن زيد قومه لنصرة علي

 قال: وذكروا أن زفر بن زيد بن حذيفة الأسدي، وكان من سادة بني أسد قام إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين، إن طيئا إخواننا وجيراننا قد أجابوا عديا. ولي في قومي طاعة، فأذن لي فآتهم. قال: نعم، فأتاهم فجمعهم وقال: يا بني

(هامش)

(1) في مروج الذهب: ستمئة راكب. (*)

ص 78

أسد، إن عدي بن حاتم ضمن لعلي قومه فأجابوه، وقضوا عنه ذمامه، فلم يعتل الغني بالغنى، ولا الفقير بالفقر، وواسى بعضهم بعضا، حتى كأنهم المهاجرون في الهجرة، والأنصار في الأثرة، وهم جيرانكم في الديار، وخلطاؤكم في الأموال، فأنشدكم الله لا يقول الناس غدا: نصرت طئ وخذلت بنو أسد، وإن الجار يقاس بالجار، كالنعل بالنعل، فإن خفتم فتوسعوا في بلادهم، وانضموا إلى جبلهم، وهذه دعوة لها ثواب من الله في الدنيا والآخرة. فقام إليه رجل منهم، فقال له: يا زفر، إنك لست كعدي، ولا أسد كطئ، ارتدت العرب، فثبتت طئ على الإسلام، وجاد عدي بالصدقة، وقاتل بقومه قومك، فوالله لو نفرت طئ بأجمعها لمنعت رعاؤها دارها، ولو أن معنا أضعافنا لخفنا على دارنا، فإن كان لا يرضيك منا إلا ما أرضى عديا من طئ، فليس ذلك عندنا، وإن كان يرضيك قدر ما يرد عنا عذر الخذلان، وإثم المعصية، فلك ذلك منا. فسار معه من أسد جماعة ليست كجماعة طئ، حتى قدم بها على علي.

 توجه عائشة وطلحة والزبير إلى البصرة

 قال: وذكروا أنه لما اجتمع طلحة والزبير وذووهما مع عائشة، وأجمعوا على المسير من مكة، وأتاهم عبد الله بن عامر (1)، فدعاهم إلى البصرة، ووعدهم الرجال والأموال، فقال سعيد بن العاصي لطلحة والزبير: إن عبد الله بن عامر كلمه إلى البصرة، وقد فر من أهلها فرار العبد الآبق، وهم في طاعة عثمان، ويريد أن يقاتل بهم عليا، وهم في طاعة علي، وخرج من عندهم أميرا، ويعود إليهم طريدا، وقد وعدكم الرجال والأموال، فأما الأموال فعنده، وأما الرجال فلا رجل. فقال مروان بن الحكم: أيها الشيخان، ما يمنعكما أن تدعوا الناس إلى بيعة مثل بيعة علي، فإن أجابوا كما عارضتماه ببيعة كبيعته، وإن لم يجيبوكما عرفتما ما لكما في أنفس الناس. فقال طلحة: يمنعنا أن الناس بايعوا عليا بيعة عامة، فبم ننقضها؟ وقال الزبير: ويمنعنا أيضا من ذلك تثاقلنا عن نصرة عثمان، وخفتنا إلى بيعة علي. فقال الوليد بن عقبة: إن كنتما أسأتما فقد أحسنتما، وإن

(هامش)

(1) وكان عبد الله بن عامر بن كريز واليا على البصرة لعثمان، وهو ابن خاله، وقد هرب ليلا من الكوفة بعدما بايع أهل البصرة عليا. وقد جهزهم علي قاله المسعودي في مروج الذهب 2 / 394 بألف ألف درهم ومائة من الإبل وغير ذلك. (*)

ص 79

كنتما أخطأتما فقد أصبتما، وأنتما اليوم خير منكما أمس. فقال مروان: أما أنا فهواي الشام، وهواكما البصرة، وأنا معكم وإن كانت الهلكة. فقال سعيد بن العاصي: أما أنا فراجع إلى منزلي. فلما استقام أمرهم، واجتمعت كلمتهم على المسير، قال طلحة للزبير: إنه ليس شيء أنفع ولا أبلغ في استمالة أهواء الناس من أن نشخص لعبد الله بن عمر، فأتياه فقالا: يا أبا عبد الرحمن، إن أمنا عائشة خفت لهذا الأمر، رجاء الاصلاح بين الناس، فاشخص معنا، فإن لك بها (1) أسوة، فإن بايعنا الناس فأنت أحق بها. فقال ابن عمر: أيها الشيخان، أتريدان أن تخرجاني من بيتي (2)، ثم تلقياني بين مخالب ابن أبي طالب؟ إن الناس إنما يخدعون بالدينار والدرهم. وإني قد تركت هذا الأمر عيانا في عافية أنالها. فانصرفا عنه. وقدم يعلى بن منبه عليهم من اليمن، وكان عاملا لعثمان، فأخرج أربع مئة بعير (3)، ودعا إلى الحملان، فقال الزبير: دعنا من إبلك هذه، وأقرضنا من هذا المال، فأقرض الزبير ستين ألفا، وأقرض طلحة أربعين ألفا، ثم سار القوم، فقال الزبير: الشام بها الرجال والأموال، وعليها معاوية، وهو ابن عم الرجل، ومتى نجتمع يولنا عليه، وقال عبد الله بن عامر: البصرة، فإن غلبتم عليا فلكم الشام، وإن غلبكم علي كان معاوية لكن جنة، وهذه كتب أهل البصرة إلي، فقال يعلى بن منبه، وكان داهيا: أيها الشيخان، قدرا قبل أن ترحلا أن معاوية قد سبقكم إلى الشام وفيها الجماعة، وأنت تقدمون عليه غدا في فرقة وهو ابن عم عثمان دونكم، أرأيتم إن دفعكم عن الشام، أو قال: اجعلها شورى، ما أنتم صانعون؟ أتقاتلونه أم تجعلونها شورى فتخرجا منها؟ وأقبح من ذلك أن تأتيا رجلا في يديه أمر قد سبقكما إليه، وتريدا أن تخرجاه منه، فقال القوم: فإلى أين؟ قال: إلى البصرة، فقال الزبير لعبد الله بن عامر: من رجال البصرة؟ قال: ثلاثة، كلهم سيد مطاع، كعب بن سور في اليمن، والمنذر بن ربيعة في ربيعة، والأحنف بن قيس في مضر. فكتب طلحة والزبير إلى كعب بن سور: أما بعد، فإنك قاضي عمر بن الخطاب، وشيخ أهل البصرة، وسيد أهل

(هامش)

(1) في فتوح ابن الأعثم 2 / 278 بنا. (2) زيد عند ابن الأعثم: كما يخرج الأرنب من جحره. (3) في مروج الذهب 2 / 394 أعطى عائشة وطلحة والزبير أربعمئة ألف درهم وكراعا وسلاحا، وبعث إلى عائشة بالجمل المسمى عسكرا وكان شراؤه باليمن مائتي دينار. وعند ابن الأثير 2 / 313: ستمئة بعير وستمئة ألف درهم. (*)

ص 80

اليمن، وقد كنت غضبت لعثمان من الأذى، فاغضب له من القتل، والسلام. وكتب إلى الأحنف بن قيس: أما بعد، فإنك وافد عمر وسيد مضر، وحليم أهل العراق، وقد بلغك مصاب عثمان، ونحن قادمون عليك، والعيان أشفى لك من الخبر، والسلام. وكتب إلى المنذر: أما بعد، فإن أباك كان رئيسا في الجاهلية، وسيدا في الإسلام، وإنك من أبيك بمنزلة المصلي (1) من السابق. يقال: كاد أو لحق، وقد قتل عثمان من أنت خير منه، وغضب له من هو خير منك، والسلام. فلما وصلت كتبهما إلى القوم، قام زياد بن مضر، والنعمان بن شوال، وغزوان، فقالوا: ما لنا ولهذا الحي من قريش؟ أيريدون أن يخرجونا من الإسلام بعد أن دخلنا فيه؟ ويدخلونا في الشرك بعدما خرجنا منه؟ قتلوا عثمان، وبايعوا عليا، لهم ما لهم، وعليهم ما عليهم. وكتب كعب بن سور إلى طلحة والزبير: أما بعد، فإنا غضبنا لعثمان من الأذى والغير باللسان، فجاء أمر الغير فيه بالسيف، فإن يك عثمان قتل ظالما، فما لكما وله؟ وإن كان قتل مظلوما فغير كما أولى به، وإن كان أمره أشكل على من شهده، فهو على من غاب عنه أشكل. وكتب الأحنف إليهما: أما بعد، فإنه لم يأتنا من قبلكم أمر لا نشك فيه إلا قتل عثمان، وأنتم قادمون علينا، فإن يكن في العيان فضل، نظرنا فيه ونظرتم، وإلا يكن فيه فضل فليس في أيدينا ولا في أيديكم ثقة، والسلام. وكتب المنذر: أما بعد، فإنه لم يلحقني بأهل الخير إلا أن أكون خيرا من أهل الشر، وإنما أوجب حق عثمان اليوم حقه أمس وقد كان بين أظهركم فخذلتموه، فمتى استنبطتم هذا العلم، وبدا لكم هذا الرأي؟ فلما قرآ كتب القوم ساءهما ذلك وغضبا. ثم غدا مروان إلى طلحة والزبير، فقال لهما: عاودا ابن عمر، فلعله ينيب، فعاوداه، فتكلم طلحة، فقال: يا أبا عبد الرحمن، إنه والله لرب حق ضيعناه وتركناه، فلما حضر العذر قضينا بالحق، وأخذنا بالحظ، إن عليا يرى إنفاذ بيعته، وإن معاوية لا يرى أن يبايع له، وإنا نرى أن نردها شورى، فإن سرت معنا ومع أم المؤمنين صلحت الأمور، وإلا فهي الهلكة. فقال ابن عمر: إن يكن قولكما حقا ففضلا ضيعت، وإن يكن باطلا فشر منه نجوت، واعلما أن بيت عائشة خير لها من هودجها، وأنتما المدينة خير لكما من البصرة، والذل خير لكما من السيف، ولن يقاتل عليا إلا من كان خيرا منه، وأما الشورى فقد والله كانت، فقدم وأخرتما،

(هامش)

(1) المصلي من الخيل الذي يلي الأول في السباق، والسابق الفائز الأول في السباق. (*)

ص 81

ولن يردها إلا أولئك الذين حكموا فيها، فاكفياني أنفسكما، فانصرفا. فقال مروان: أستعينا عليه بحفصة، فأتيا حفصة، فقالت: لو أطاعني أطاع عائشة، دعاه، فاتركاه وتوجها إلى البصرة. وأتاهما عبد الله بن خلف، فقال لهما: إنه ليس أحد من أهل الحجاز كان منه في عثمان شيء إلا وقد بلغ أهل العراق، وقد كان منكما في عثمان من التحليب والتأليب ما لا يدفعه جحود، ولا ينفعكما فيه عذر، وأحسن الناس فيكما قولا من أزال عنكما القتل وألزمكما الخذل، وقد بايع الناس عليا بيعة عامة، والناس لاقوكما غدا، فما تقولان؟ فقال طلحة: ننكر القتل، ونقر بالخذل، ولا ينفع الاقرار بالذنب إلا مع الندم عليه، ولقد ندمنا على ما كان منا. وقال الزبير: بايعنا عليا والسيف على أعناقنا (1)، حيث تواثب الناس بالبيعة إليه دون مشورتنا، ولمن نصب لعثمان خطأ فتجب علينا الدية، ولا عمدا فيجب علينا القصاص. فقال عبد الله بن خلف: عذركما أشد من ذنبكما، قال: فتهيأ القوم للمسير، فقال طلحة والزبير: أسرعوا السير، لعلنا نسبق عليا من خلاف طريقه إلى البصرة. قال: وكتب قثم بن عباس إلى علي يخبره أن طلحة والزبير وعائشة قد خرجوا من مكة، يريدون البصرة، وقد استنفروا الناس، فلم يخف معهم إلا من لا يعتد بمسيره، ومن خلفت بعدك فعلى ما تحب. فلما قدم على علي كتابه غمه ذلك، وأعظمه الناس، وسقط في أيديهم، فقام قيس بن سعد بن عبادة، فقال: يا أمير المؤمنين، إنه والله ما غمنا بهذين الرجلين كغمنا بعائشة، لأن هذين الرجلين حلالا الدم عندنا، لبيعتهما ونكثهما، ولأن عائشة من علمت مقامها في الإسلام، ومكانها من رسول الله، مع فضلها ودينها وأمومتها منا ومنك، ولكنهما يقدمان البصرة، وليس كل أهلها لهما، وتقدم الكوفة، وكل أهلها لك، وتسير بحقك إلى باطلهم، ولقد كنا نخاف أن يسيرا إلى الشام، فيقال صاحبا رسول الله وأم المؤمنين، فيشتد البلاء، وتعظم الفتنة، فأما إذا أتيا البصرة وقد سبقت إلى طاعتك، وسبقوا إلى بيعتك، وحكم عليهم

(هامش)

(1) تقدم أن عليا رفض البيعة خفية ولا تكون إلا عن رضى المسلمين، وأنه بعد اجتماع المهاجرين والأنصار - وفيهم طلحة والزبير - رفض في البداية وقال: لا حاجة لي في أمركم، أنا معكم فمن اخترتم فقد رضيت به. ثم أن طلحة والزبير بايعاه على ملأ من الناس بعد أن قال لهما علي: إن أحببتما أن تبايعا لي وإن أحببتما بايعتكما، فقالا: بل نبايعك (الطبري 5 / 152 - 153 من عدة طرق). (*)

ص 82

عاملك، ولا والله ما معهما مثل ما معك، ولا يقدمان على مثل ما تقدم عليه، فسر فإن الله معك، وتتابعت الأنصار فقالوا وأحسنوا. قال: ولما نزل طلحة والزبير وعائشة بأوطاس (1)، من أرض خيبر، أقبل عليهم سعيد بن العاصي على نجيب له، فأشرف على الناس، ومعه المغيرة بن شعبة، فنزل وتوكأ على قوس له سوداء، فأتى عائشة، فقال لها: أين تريدين يا أم المؤمنين؟ قالت: أريد البصرة، قال: وما تصنعين بالبصرة؟ قالت: أطلب بدم عثمان. قال: فهؤلاء قتلة عثمان معك. ثم أقبل على مروان فقال له: وأنت أين تريد أيضا؟ قال: البصرة. قال وما تصنع بها؟ قال: أطلب قتلة عثمان، قال: فهؤلاء قتلة عثمان معك، إن هذين الرجلين قتلا عثمان طلحة والزبير ، وهما يريدان الأمر لأنفسهما، فلما غلبا عليه قالا: نغسل الدم بالدم، والحوبة (2) بالتوبة. ثم قال المغيرة بن شعبة: أيها الناس، إن كنتم إنما خرجتم مع أمكم، فارجعوا بها خيرا لكم، وإن كنتم غضبتم لعثمان، فرؤساؤكم قتلوا عثمان، وإن كنتم نقمتم على علي شيئا، فبينوا ما نقمتم عليه، أنشدكم الله فتنتين في عام واحد، فأبوا إلا أن يمضوا بالناس، فلحق سعيد بن العاصي باليمن، ولحق المغيرة بالطائف، فلم يشهدا شيئا من حروب الجمل ولا صفين، فلما انتهوا إلى ماء الحوأب في بعض الطريق ومعهم عائشة، نبحها كلاب الحوأب، فقالت لمحمد بن طلحة: أي ماء هذا؟ قال: هذا ماء الحوأب، فقالت: ما أراني إلا راجعة، قال: ولم؟ قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنسائه: كأني بإحداكن قد نبحها كلاب الحوأب، وإياك أن تكوني أنت يا حميراء (3). فقال لها محمد بن طلحة: تقدمي رحمك الله، ودعي هذا القول. وأتى عبد الله بن الزبير، فحلف لها بالله لقد خلفته أول الليل، وأتاها ببينة زور من الأعراب (4)، فشهدوا بذلك، فزعموا أنها أول شهادة زور شهد بها في الإسلام، فلما انتهى إقبالهم على أهل البصرة، ودنوا منها، قام عثمان بن حنيف

(هامش)

(1) في الكامل في التاريخ 2 / 315 بذات عرق. (2) الحوبة: الإثم والذنب. (3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 6 / 52، 97 ونقله ابن كثير في البداية والنهاية 7 / 211 وقال: هذا إسناد على شرط الصحيحين ولم يخرجاه. (4) خمسين رجلا ممن كان معهم (عن مروج الذهب 2 / 395). (*)

ص 83

عامل البصرة لعلي بن أبي طالب فقال: يا أيها الناس، إنما بايعتم الله (يد الله فوق أيديهم، فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما) [الفتح 10] والله لو علم علي أن أحدا أحق بهذا الأمر منه ما قبله، ولو بايع الناس غيره لبايع من بايعوا، وأطاع من ولوا، وما به إلى أحد من صحابة رسول الله حاجة، وما بأحد عنه غنى، ولقد شاركهم في محاسنهم، وما شاركوه في محاسنه، ولقد بايعه هذان الرجلان وما يريدان الله، فاستعجلا الفطام قبل الرضاع، والرضاع قبل الولادة، والولادة قبل الحمل، وطلبا ثواب الله من العباد، وقد زعما أنهما بايعا مستكرهين. فإن كانا استكرها قبل بيعتهما كانا رجلين من عرض قريش لهما أن يقولا ولا يأمرا، ألا وإن الهدي ما كانت عليه العامة، والعامة على بيعة علي، فما ترون أيها الناس؟ فقام حكم بن جبل العبدي، فقال: نرى إن دخلا علينا قاتلناهما، وإن وقفا تلقيناهما والله ما أبالي أن أقاتلهما وحدي، وإن كنت أحب الحياة، وما أخشى في طريق الحق وحشة، ولا غيرة ولا غشا ولا سوء منقلب إلى بعث، وإنها لدعوة قتيلها شهيد، وحيها فائز، والتعجيل إلى الله قبل الأجر خير من التأخير في الدنيا، وهذه ربيعة معك.

نزول طلحة والزبير وعائشة البصرة

قال: وذكروا أن طلحة والزبير لما نزلا البصرة (1)، قال عثمان بن حنيف: نعذر إليهما برجلين، فدعا عمران بن الحصين صاحب رسول الله، وأبا الأسود الدؤلي، فأرسلهما إلى طلحة والزبير، فذهبا إليهما فناديا: يا طلحة فأجابهما، فتكلم أبو الأسود الدؤلي، فقال: يا أبا محمد، إنكم قتلتم عثمان غير مؤامرين لنا في قتله وبايعتم عليا غير مؤامرين في بيعته، فلم نغضب لعثمان إذ قتل، ولم نغضب لعلي إذ بويع، ثم بدا لكم، فأردتم خلع علي، ونحن على الأمر الأول، فعليكم المخرج مما دخلتم فيه. ثم تكلم عمران، فقال: يا طلحة، إنكم قتلتم عثمان ولم نغضب له إذا لم تغضبوا، ثم بايعتم عليا وبايعنا من بايعتم، فإن كان قتل عثمان صوابا فمسيركم لماذا؟ وإن كان خطأ فحظكم منه الأوفر، ونصيبكم منه الأوفى. فقال طلحة: يا هذان إن صاحبكما لا يرى أن معه في هذا الأمر غيره، وليس على هذا بايعناه، وأيم الله ليسفكن دمه. فقال أبو الأسود: يا عمران، أما

(هامش)

(1) في الطبري 5 / 174 بالحفير، وهو أول منزل من البصرة لمن يريد مكة وقيل الحفير: موضع بين مكة والبصرة. (*)

ص 84

هذا فقد صرح أنه إنما غضب للملك. ثم أتيا الزبير فقالا: يا أبا عبد الله، إنا أتينا طلحة، قال الزبير: إن طلحة وإياي كروح في جسدين، وإنه والله يا هذان، قد كانت منا في عثمان فلتأت، احتجنا فيها إلى المعاذير، ولو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا نصرناه، ثم أتيا فدخلا على عائشة، فقالا: يا أم المؤمنين، ما هذا المسير؟ أمعك من رسول الله به عهد؟ قالت: قتل عثمان مظلوما، غضبنا لكم من السوط والعصا، ولا نغضب لعثمان من القتل؟ فقال أبو الأسود: وما أنت من عصانا وسيفنا وسوطنا؟ فقالت: يا أبا الأسود، بلغني أن عثمان بن حنيف يريد قتالي. فقال أبو الأسود: نعم والله قتالا أهونه تندر منه الرؤوس (1). وأقبل غلام من جهينة إلى محمد بن طلحة، فقال له: حدثني عن قتلة عثمان، قال: نعم، دم عثمان على ثلاثة أثلاث، ثلث على صاحبة الهودج، وثلث على صاحب الجمل الأحمر (2)، وثلث على علي بن أبي طالب. فضحك الجهني، ولحق بعلي بن أبي طالب، وبلغ طلحة قول ابنه محمد، وكان محمد من عباد الناس، فقال له: يا محمد، أتزعم عنا قولك إني قاتل عثمان، كذلك تشهد على أبيك؟ كن كعبد الله بن الزبير، فوالله ما أنت بخير منه، ولا أبوك بدون أبيه، كف عن قولك، وإلا فارجع فإن نصرتك نصرة رجل واحد، وفسادك فساد عامة. فقال محمد: ما قلت إلا حقا، ولن أعود.

 نزول علي بن أبي طالب الكوفة

 قال: وذكروا أن عليا لما نزل قريبا من الكوفة (3) بعث عمار بن ياسر، ومحمد بن أبي بكر (4) إلى أبي موسى الأشعري، وكان أبو موسى عاملا لعثمان على الكوفة، فبعثهما علي إليه وإلى أهل الكوفة يستفزهم، فلما قدما عليه قام عمار بن ياسر، ومحمد بن أبي بكر، فدعوا الناس إلى النصرة لعلي، فلما أمسوا

(هامش)

(1) قارن مع ما ذكره الطبري 5 / 174 وابن الأثير 2 / 316 والبداية والنهاية 7 / 258 بشأن مقابلة الرجلين مع عائشة وطلحة والزبير. (2) يريد طلحة بن عبيد الله. (3) في مكان يدعى ذي قار (عن الطبري). في ابن الأعثم 2 / 290 الحسن بن علي. وفي الطبري 5 / 187 أنه أرسل الحسن بن علي وعمار بن ياسر للمرة الثانية إلى أبي موسى الأشعري. (وانظر مروج الذهب 2 / 396). وكان قد أرسل إليه في المرة الأولى، محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر (*)

ص 85

دخل رجال من أهل الكوفة على أبي موسى، فقالوا: ما ترى؟ أتخرج مع هذين الرجلين إلى صاحبهما، أم لا؟ فقال أبو موسى: أما سبيل الآخرة ففي أن تلزموا بيوتكم، وأما سبيل الدنيا فالخروج مع من أتاكم، فأطاعوه فتباطأ الناس على علي، وبلغ عمارا ومحمدا ما أشار به أبو موسى على أولئك الرهط، فأتياه فأغلظا له في القول، قال أبو موسى: إن بيعة عثمان في عنقي وعنق صاحبكم، ولئن أردنا القتال ما لنا إلى قتال أحد من سبيل، حتى نفرغ من قتلة عثمان.

 خطبة أبي موسى الأشعري (1)

ثم خرج أبو موسى فصعد المنبر، ثم قال: أيها الناس: إن أصحاب رسول الله الذين صحبوه في المواطن أعلم بالله ورسوله ممن لم يصحبه، وإن لكم حقا علي أؤديه إليكم، إن هذه الفتنة النائم فيها خير من اليقظان، والقاعد خير من القائم، والقائم خير من الساعي، والساعي خير من الراكب، فأغمدوا سيوفكم حتى تنجلي هذه الفتنة.

خطبة عمار بن ياسر

فقام عمار بن ياسر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إن أبا موسى ينهاكم عن الشخوص إلى هاتين الجماعتين، ولعمري ما صدق فيما قال، وما رضي الله من عباده بما ذكر. قال عز وجل: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا) [الحجرات 9] وقال: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) [الأنفال 39] فلم يرض من عباده بما ذكر أبو موسى من أن يجلسوا في بيوتهم ويخلوا بين الناس، فيسفك بعضهم دماء بعض، فسيروا معنا إلى هاتين الجماعتين واسمعوا من حججهم، وانظروا من أولى بالنصرة فاتبعوه، فإن أصلح الله أمرهم رجعتم مأجورين وقد قضيتم حق الله، وإن بغى بعضهم على بعض نظرتم إلى الفئة الباغية، فقاتلتموها حتى تفئ إلى أمر الله، كما أمركم الله، وافترض عليكم ثم قعد. فلما انصرفا إلى علي من عند أبي موسى وأخبراه بما قال أبو موسى، بعث

(هامش)

(1) أنظر الطبري 5 / 187 الكامل لابن الأثير 2 / 327. (*)

ص 86

إليه الحسن بن علي، وعبد الله بن عباس، وعمار بن ياسر، وقيس بن سعد، وكتب معهم إلى أهل الكوفة.

 كتاب علي إلى أهل الكوفة

 أما بعد، فإني أخبركم عن أمر عثمان حتى يكون سامعه كمن عاينه (1)، إن الناس طعنوا على عثمان، فكنت رجلا من المهاجرين أقل عيبه وأكثر استعتابه (2)، وكان هذان الرجلان طلحة والزبير أهون سيرهما فيه اللهجة والوجيف (3)، وكان من عائشة فيه قول (4) على غضب، فانتحى له قوم فقتلوه، وبايعني الناس غير مستكرهين، وهما أول من بايعني على ما بويع عليه من كان قبلي، ثم استأذنا إلى العمرة، فأذنت لهما، فنقضا العهد، ونصبا الحرب، وأخرجا أم المؤمنين من بيتها، ليتخذاها فتنة، وقد سارا إلى البصرة، اختيارا لأهلها، ولعمري ما إياي تجيبون، ما تجيبون إلا الله. وقد بعثت ابني الحسن، وابن عمي عبد الله بن عباس، وعمار بن ياسر، وقيس بن سعد، فكونوا عند ظننا بكم، والله المستعان. فسار الحسن ومن معه، حتى قدموا الكوفة على أبي موسى، فدعاه إلى نصرة علي، فبايعهم، ثم صعد أبو موسى المنبر، وقام الحسن أسفل منه، فدعاهم إلى نصرة علي، وأخبرهم بقرابته من رسول الله، وسابقته، وبيعة طلحة والزبير إياه، ونكثهما عهده، وأقرأهم كتاب علي، فقام شريح بن هانئ، فقال:

خطاب شريح بن هانئ

لقد أردنا أن نركب إلى المدينة، حتى نعلم قتل عثمان، فقد أتانا الله به في بيوتنا، فلا تخالفوا عن دعوته، والله لو لم يستنصر بنا لنصرناه سمعا وطاعة، ثم قال الحسن بن علي، فقال: أيها الناس، إنه قد كان من مسير أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ما قد بلغكم، وقد أتيناكم مستنفرين، لأنكم جبهة الأنصار (5)

(هامش)

(1) في نهج البلاغة: سمعه كعيانه. (2) الاستعتاب: الاسترضاء. (3) الوجيف: ضرب من سير الخيل والإبل سريع. يعني أنهما سارعا الإثارة الفتنة عليه. (4) في شرح النهج: فلتة غضب. (5) شبههم بجبهة الأنصار من حيث الكرم. ورؤوس العرب من حيث الرفعة. (*)

ص 87

ورؤوس العرب، وقد كان من نقض طلحة والزبير بعد بيعتهما وخروجهما بعائشة ما بلغكم، وتعلمون أن وهن النساء وضعف رأيهن إلى التلاشي، ومن أجل ذلك جعل الله الرجال قوامين على النساء، وأيم الله لو لم ينصره منكم أحد لرجوت أن يكون فيمن أقبل معه من المهاجرين والأنصار كفاية، فانصروا الله ينصركم. ثم قام عمار بن ياسر فقال: يا أهل الكوفة، إن كان غاب عنكم أنباؤنا فقد انتهت إليكم أمورنا، إن قتلة عثمان لا يعتذرون من قتله إلى الناس، ولا ينكرون ذلك، وقد جعلوا كتاب الله بينهم وبين محاجيهم، فبه أحيا الله من أحيا، وأمات من أمات. وإن طلحة والزبير كانا أول من طعن، وآخر من أمر، وكانا أول من بايع عليا، فلما أخطأهما ما أملاه نكثا بيعتهما، من غير حدث. وهذا ابن بنت رسول الله الحسن قد عرفتموه. وقد جاء يستنفركم، وقد أظلكم علي في المهاجرين والبدريين والأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان. فانصروا الله ينصركم. ثم قام قيس بن سعد، فقال: أيها الناس، إن الأمر لو استقبل به أهل الشورى كان علي أحق بها، وكان قتال من أبى ذلك حلالا، فكيف والحجة على طلحة والزبير، وقد بايعاه رغبة، وخالفاه حسدا، وقد جاءكم المهاجرون والأنصار.

 دخول طلحة والزبير وعائشة البصرة

 قال: وذكروا أنه لما نزل طلحة والزبير وعائشة البصرة، اصطف لها الناس في الطريق، يقولون: يا أم المؤمنين، ما الذي أخرجك من بيتك؟ فلما أكثروا عليها تكلمت بلسان طلق، وكانت من أبلغ الناس، فحمدت الله، وأثنت عليه، ثم قالت: خطبة عائشة رضي الله عنها أيها الناس، والله ما بلغ من ذنب عثمان أن يستحل دمه، ولقد قتل مظلوما، غضبنا لكم من السوط والعصا، ولا نغضب لعثمان من القتل، وإن من الرأي أن تنظروا إلى قتلة عثمان، فيقتلوا به، ثم يرد هذا الأمر شورى، على ما جعله عمر بن الخطاب. فمن قائل يقول: صدقت، وآخر يقول: كذبت، فلم يبرح الناس يقولون

ص 88

ذلك حتى ضرب بعضهم وجوه بعض، فبينما هم كذلك أتاهم رجل من أشراف البصرة بكتاب كان كتبه طلحة في التأليب على قتل عثمان، فقال لطلحة: هل تعرف هذا الكتاب؟ قال: نعم. قال: فما ردك على ما كنت عليه؟ وكنت أمس تكتب إلينا تؤلبنا على قتل عثمان، وأنت اليوم تدعونا إلى الطلب بدمه، وقد زعمتما أن عليا دعاكما إلى أن تكون البيعة لكما قبله، إذ كنتما أسن منه، فأبيتما إلا أن تقدماه لقرابته وسابقته، فبايعتماه، فكيف تنكثان بيعتكما بعد الذي عرض عليكما؟ قال طلحة: دعانا إلى البيعة بعد أن اغتصبها وبايعه الناس، فعلمنا حين عرض علينا أنه غير فاعل، ولو فعل أبى ذلك المهاجرون والأنصار، وخفنا أن نرد بيعته فنقتل، فبايعناه كارهين. قال: فما بدا لكما في عثمان؟ قالا: ذكرنا ما كان من طعننا عليه، وخذلاننا إياه، فلم نجد من ذلك مخرجا إلا الطلب بدمه. قال: ما تأمرانني به؟ قالا: بايعنا على قتال علي، ونقض بيعته، قال: أرأيتما إن أتانا بعدكما من يدعونا إلى ما تدعوان إليه، ما نصنع؟ قالا: لا تبايعه. قال: ما أنصفتما، أتأمرانني أن أقاتل عليا وأنقض بيعته وهي في أعناقكما، وتنهياني عن بيعة من لا بيعة له عليكما؟ أما إننا قد بايعنا عليا، فإن شئتما بايعناكما بيسار أيدينا. قال: ثم تفرق الناس، فصارت فرقة مع عثمان بن حنيف، وفرقة مع طلحة والزبير (1). ثم جاء جارية بن قدامة، فقال: يا أم المؤمنين، لقتل عثمان كان أهون علينا من خروجك من بيتك على هذا الجمل الملعون (2)، إنه كانت لك من الله تعالى حرمة وستر فهتكت سترك، وأبحت حرمتك إنه من رأى قتالك فقد رأى قتلك، فإن كنت يا أم المؤمنين أتيتنا طائعة فارجعي إلى منزلك، وإن كنت أتيتنا مستكرهة فاستعتبي الله.

 قتل أصحاب عثمان بن حنيف عامل علي على البصرة

 قال: وذكروا أنه لما اختلف القوم اصطلحوا (3) على أن لعثمان بن حنيف دار الإمارة ومسجدها وبيت المال، وأن ينزل أصحابه حيث شاؤوا من البصرة،

(هامش)

(1) في الطبري 5 / 175 بقي أصحاب عثمان يتدافعون حتى تحاجزوا، ومال بعضهم إلى عائشة وبقي بعضهم مع عثمان على فم السكة. (2) زيد في الطبري: عرضة للسلاح. (3) نص كتاب الصلح في الطبري 5 / 177. (*)

ص 89

وأن ينزل طلحة والزبير وأصحابهما حيث شاؤوا حتى يقدم علي، فإن اجتمعوا دخلوا فيما دخل فيه الناس، وإن يتفرقوا يلحق كل قوم بأهوائهم، عليهم بذلك عهد الله وميثاقه، وذمة نبيه، وأشهدوا شهودا من الفريقين جميعا. فانصرف عثمان، فدخل دار الإمارة، وأمر أصحابه أن يلحقوا بمنازلهم، ويضعوا سلاحهم وافترق الناس، وكتموا ما في أنفسهم، غير بني عبد القيس، فإنهم أظهروا نصرة علي، وكان حكيم بن جبل (1) رئيسهم، فاجتمعوا إليه، فقال لهم: يا معشر عبد القيس: إن عثمان بن حنيف دمه مضمون، وأمانته مؤداة، وأيم الله لو لم يكن علي أميرا لمنعناه، لمكانته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف وله الولاية والجوار، فاشخصوا بأنصاركم، وجاهدوا العدو، فإما أن تموتوا كراما وأما أن تعيشوا أحرارا. فمكث عثمان بن حنيف في الدار أياما، ثم إن طلحة والزبير ومروان بن الحكم أتوه نصف الليل في جماعة معهم، في ليلة مظلمة سوداء مطيرة وعثمان نائم، فقتلوا أربعين رجلا من الحرس، فخرج عثمان بن حنيف، فشد عليه مروان فأسره، وقتل أصحابه، فأخذه مروان، فنتف لحيته ورأسه وحاجبيه، فنظر عثمان بن حنيف إلى مروان فقال: أما إنك إن تفتني بها في الدنيا، لم تفتني بها في الآخرة (2).

 تعبئة الفئتين للقتال

 وذكروا أنه لما تعبأ القوم للقتال، فكانت الحرب للزبير، وعلى الخيل طلحة، وعلى الرجالة عبد الله بن الزبير، وعلى القلب محمد بن طلحة، وعلى المقدمة مروان (3)، وعلى رجال الميمنة عبد الرحمن بن عبادة (4)، وعلى الميسرة هلال بن وكيع (5)، فلما فرغ الزبير من التعبئة قال: أيها الناس، وطنوا أنفسكم

(هامش)

(1) في الطبري: جبلة بالتحريك. (2) بعدما أسر عثمان أمرت عائشة بإخلاء سبيله، فقصد عليا وليس في وجهه شعرة إلى ذي قار وقيل إلى الربذة، وقال له: يا أمير المؤمنين بعثتني ذا لحية وقد جئتك أمرد، فقال: أصبت أجرا وخيرا. (3) في ابن الأعثم 2 / 294 على خيل الميمنة مروان بن الحكم. (4) في الطبري: عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد. (5) أضاف ابن الأعثم: وعلى رجالة الميسرة حاتم بن بكير الباهلي، وعلى الجناح عمر بن طلحة، وعلى رجالتها عبد الله بن حكيم بن حزام، وعلى خيل الكمين جندب بن يزيد المجاشعي، وعلى رجالتها مجاشع بن مسعود السلمي. (*)

ص 90

على الصبر، فإن يلقاكم غدا رجل لا مثل له في الحرب ولا شبيه، ومعه شجعان الناس. فلما بلغ عليا تعبئة القوم عبأ الناس للقتال (1)، فاستعمل على المقدمة عبد الله بن عباس، وعلى الساقة هندا المرادي، وعلى جميع الخيل عمار بن ياسر، وعلى جميع الرجالة محمد بن أبي بكر. ثم كتب إلى طلحة والزبير: أما بعد فقد علمتما أني لم أرد الناس حتى أرادوني، ولم أبايعهم حتى بايعوني، وإنكما لممن أراد وبايع، وإن العامة لم تبايعني لسلطان خاص (2)، فإن كنتما بايعتماني كارهين، فقد جعلتما لي عليكما السبيل، بإظهاركما الطاعة، وإسراركما المعصية، وإن كنتما بايعتماني طائعين، فارجعا إلى الله من قريب. إنك يا زبير لفارس رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريه، وإنك يا طلحة لشيخ المهاجرين، وإن دفاعكما هذا الأمر (3) قبل أن تدخلا فيه، كان أوسع عليكما من خروجكما منه إقراركما به، وقد زعمتما أني قتلت عثمان فبيني وبينكما فيه بعض من تخلف عني وعنكما من أهل المدينة، وزعمتما أني آويت قتلة عثمان، فهؤلاء بنو عثمان، فليدخلوا في طاعتي، ثم يخاصموا إلي قتلة أبيهم، وما أنتما وعثمان إن كان قتل ظالما أو مظلوما؟ وقد بايعتماني وأنتما بين خصلتين قبيحتين نكث بيعتكما، وإخراجكما أمكما.

 كتاب علي إلى عائشة

وكتب إلى عائشة: أما بعد، فإنك خرجت غاضبة لله ولرسوله، تطلبين أمرا كان عنك موضوعا، ما بال النساء والحرب والإصلاح بين الناس؟ تطالبين بدم عثمان، ولعمري لمن عرضك للبلاء، وحملك على المعصية، أعظم إليك ذنبا من قتلة عثمان وما غضبت حتى أغضبت، وما هجت، حتى هيجت، فاتقي الله، وارجعي إلى بيتك (4). فأجابه طلحة والزبير: إنك سرت مسيرا له ما بعده، ولست راجعا وفي

(هامش)

(1) قارن مع العقد الفريد 4 / 314 وابن الأعثم 2 / 308. (2) في نهج البلاغة: لسلطان غالب ولا لعرض حاضر. (3) يعني خلافته. (4) زيد في ابن الأعثم 2 / 301 واسبلي عليك بسترك، والسلام. (*)

 

الصفحة السابقة الصفحة التالية

الإمامة والسياسة (ج1)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب