الصفحة السابقة الصفحة التالية

الإمامة والسياسة (ج1)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 91

نفسك منه حاجة، فامض لأمرك، أما أنت فلست راضيا دون دخولنا في طاعتك، ولسنا بداخلين فيها أبدا، فاقض ما أنت قاض. وكتبت عائشة: جل الأمر عن العتاب، والسلام. قال: ورجعت رسل علي من البصرة. فمنهم من أجابه وأتاه، ومنهم من لحق بعائشة وطلحة والزبير، وبعث الأحنف بن قيس إلى علي: إن شئت أتيتك في مائتي رجل من أهل بيتي، وإن شئت كففت عنك أربعة آلاف سيف (1)، فأرسل إليه علي: بل كف عني أربعة آلاف سيف، وكفى بذلك ناصرا. فجمع الأحنف بني تميم، فقال: يا معشر بني تميم، إن ظهر أهل البصرة فهم إخوانكم وإن ظهر علي فلن يهيجكم، وكنتم قد سلمتم. فكف بنو تميم، ولم يخرجوا إلى أحد الفريقين. قال: ولما كتب علي إلى طلحة والزبير أتى زمعة بن الأسود إلى طلحة والزبير. فقال لهما: إن عليا قد أكثر إليكما الرسل، كأنه طمع فيكما، وأطمعتماه في أنفسكما، فاتقيا الله إن كنتما بايعتماه طائعين، واتقيا الله علينا وعلى أنفسكما، فإن اللبن في الضرع، ومتى يحلب لا يرجع، وإن كنتما بايعتماه مكرهين فاخرقا هذا الوطب، وادفعا هذا اللبن، فما أغنانا عن هذه الكتب والرسل. قال: فخرج طلحة والزبير وعائشة، وهي على جمل عليه هودج، قد ضرب عليه صفائح الحديد، فبرزوا حتى خرجوا من الدور ومن أفنية البصرة، فلما تواقفوا للقتال، أمر علي مناديا ينادي من أصحابه لا يرمين أحد سهما ولا حجرا، ولا يطعن برمح حتى أعذر إلى القوم، فأتخذ عليهم الحجة. قال: فكلم علي طلحة والزبير قبل القتال، فقال لهما: استحلفا عائشة بحق الله وبحق رسوله على أربع خصال أن تصدق فيها: هل تعلم رجلا من قريش أولى مني بالله ورسوله، وإسلامي قبل كافة الناس أجمعين وكفايتي رسول الله كفار العرب بسيفي ورمحي، وعلى براءتي من دم عثمان، وعلى أني لم أستكره أحدا على أني لم أكن أحسن قولا في عثمان منكما. فأجابه طلحة جوابا غليظا، ورق له الزبير، ثم رجع علي إلى أصحابه فقالوا: يا أمير المؤمنين، بم كلمت الرجلين؟ فقال علي: إن شأنهما لمختلف أما الزبير فقاده اللجاج، ولن يقاتلكم، وأما طلحة فسألته عن الحق فأجابني بالباطل، ولقيته باليقين، ولقيني

(هامش)

(1) في الطبري: عشرة آلاف. وفي رواية أخرى فكالأصل. (وانظر البداية والنهاية 7 / 267). (*)

ص 92

بالشك، فوالله ما نفعه حقي، ولا ضرني باطله، وهو مقتول غدا في الرعيل الأول. قال: ثم خرج علي على بغلة رسول الله الشهباء بين الصفين، وهو حاصر، فقال: أين الزبير؟ فخرج إليه، حتى إذا كانا بين الصفين اعتنق كل واحد منهما صاحبه وبكيا، ثم قال علي: يا عبد الله ما جاء بك هاهنا؟ قال: جئت أطلب دم عثمان. قال علي: تطلب دم عثمان، قتل الله من قتل عثمان، أنشدك الله يا زبير، هل تعلم أنك مررت بي وأنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متكئ على يدك فسلم علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضحك إلي، ثم التفت إليك، فقال لك: يا زبير، إنك تقاتل عليا وأنت له ظالم؟ قال: اللهم نعم (1). قال علي: فعلام تقاتلني؟ قال الزبير: نسيتها والله، ولو ذكرتها ما خرجت إليك، ولا قاتلتك فانصرف علي إلى أصحابه، فقالوا: يا أمير المؤمنين مررت إلى رجل في سلاحه وأنت حاسر، قال علي: أتدرون من الرجل؟ قالوا: لا. قال: ذلك الزبير ابن صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما إنه قد أعطى الله عهدا أنه لا يقاتلكم، إني ذكرت له حديثا قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لو ذكرته ما أتيتك. فقالوا: الحمد لله يا أمير المؤمنين، ما كنا نخشى في هذا الحرب غيره. ولا نتقي سواه. إنه لفارس رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريه، ومن عرفت شجاعته وبأسه ومعرفته بالحرب، فإذا قد كفاناه الله فلا نعد من سواه إلا صرعى حول الهودج.

 رجوع الزبير عن الحرب

 قال: وذكروا أن الزبير دخل على عائشة (2)، فقال: يا أماه، ما شهدت موطنا قط في الشرك ولا في الإسلام إلا ولي فيه رأي وبصيرة غير هذا الموطن، فإنه لا رأي لي فيه، ولا بصيرة، وإني لعلى باطل. قالت عائشة: يا أبا عبد الله، خفت سيوف بني عبد المطلب؟ فقال: أما والله إن سيوف بني عبد المطلب

(هامش)

(1) رواه ابن كثير في البداية 7 / 268 من عدة طرق. والبيهقي في الدلائل 6 / 414 وقال: هذا مرسل وقد روي من وجه آخر موصولا. والطبري 5 / 200 وابن الأعثم 2 / 310 ومروج الذهب 2 / 400 - 401. (2) كذا بالأصل وابن الأعثم والطبري، وفي رواية أخرى عند الطبري، أنه عاد إلى ابنه عبد الله. (*)

ص 93

طوال حداد، يحملها فتية أنجاد. ثم قال لابنه عبد الله: عليك بحزبك (1)، أما أنا فراجع إلى بيتي. فقال له ابنه عبد الله: الآن حين التقت حلقتا البطان (2)، واجتمعت الفئتان؟ والله لا نغسل رؤوسنا منها، فقال الزبير لابنه: لا تعد هذا مني جبنا، فوالله ما فارقت أحدا في جاهلية ولا إسلام، قال: فما يردك؟ قال: يردني ما إن علمته كسرك. فقام بأمر الناس عبد الله بن الزبير (3).

 قتل الزبير بن العوام

 قال: وذكروا أن الزبير لما انصرف راجعا إلى المدينة أتاه ابن جرموز، فنزل به (4)، فقال: يا أبا عبد الله، أحييت حربا ظالما أو مظلوما ثم تنصرف؟ أتائب أنت أم عاجز؟ فسكت عنه، ثم عاود، فقال له: يا أبا عبد الله، حدثني عن خصال خمس أسألك عنها. فقال: هات. قال: خذلك عثمان، وبيعتك عليا، وإخراجك أم المؤمنين. وصلاتك خلف ابنك، ورجوعك عن الحرب. فقال الزبير: نعم أخبرك، أما خذ لي عثمان فأمر قدر الله فيه الخطيئة وأخر التوبة. وأما بيعتي عليا فوالله ما وجدت من ذلك بدا، حيث بايعه المهاجرون والأنصار وخشيت القتل، وأما إخراجنا أمنا عائشة فأردنا أمر وأراد الله غيره، وأما صلاتي خلف ابني فإنما قدمته عائشة أم المؤمنين ولم يكن لي دون صاحبي أمر، وأما رجوعي عن هذه الحرب فظن بي ما شئت غير الجبن. فقال ابن جرموز: والهفاه على ابن صفية، أضرمها نارا ثم أراد أن يلحق بأهله، قتلني الله إن لم أقتله، ثم أتاه فقال له: يا أبا عبد الله كالمستنصح له، إن دون أهلك فيافي، فخذ نجيبي هذا، وخل فرسك ودرعك، فإنهما شاهدتان عليك بما تكره. فقال الزبير: أنظر في ذلك ليلتي، ثم ألح عليه في فرسه ودرعه فلم يزل حتى أخذهما منه، وإنما أراد ابن جرموز أن يلقاه حاسرا، لما علم بأسه، ثم أتى ابن جرموز الأحنف بن

(هامش)

(1) في نسخة: بحربك. (2) البطان: الحزام الذي يشد على البطن. (3) الخبر رواه الطبري 5 / 200 و204 وابن الأعثم 2 / 310 وابن كثير 7 / 269 ومروج الذهب 2 / 400 - 401. باختلاف. (4) وهو بوادي السباع، وكان الزبير قد نزل على قوم من بني تميم. وفي البداية والنهاية 7 / 277 اتبعه عمرو بن جرموز وفضالة بن حابس ونفيع في طائفة من غواة بني تميم، ويقال أدركه ابن جرموز. وهذا القول هو الأشهر. (*)

ص 94

قيس، فساره بمكان الزبير عنده وبقوله، فقال له الأحنف: اقتله قتله الله مخادعا، وأتى الزبير رجل من كلب، فقال له: يا أبا عبد الله، أنت لي صهر، وابن جرموز لم يعتزل هذه الحرب مخافة الله، ولكنه كره أن يخالف الأحنف، وقد ندم الأحنف على خذله عليا، ولعله أن يتقرب بك إليه، وقد أخذ منك درعك وفرسك، وهذا تصديق ما قلت لك، فبت عندي الليلة ثم اخرج بعد نومه، فإنك أن فتهم لم يطلبوك. فتهاون بقوله، ثم بدا له فقال له، فما ترى يا أخا كلب؟ قال: أرى أن ترجع إلى فرسك ودرعك فتأخذهما، فإن أحدا من الناس لا يقدم عليك وأنت فارس أبدا، فأصبح الزبير غاديا، وسار معه ابن جرموز وقد كفر (1) على الدرع فلما انتهى إلى وادي السباع استغفله فطعنه، ثم رجع برأسه وسلبه إلى قومه، فقال له رجل من قومه: يا بن جرموز، فضحت والله اليمن بأسرها، قتلت الزبير رأس المهاجرين، ورأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحواريه، وابن عمته، والله لو قتلته في حرب لعز ذلك علينا، ولمسنا عارك، فكيف في جوارك وذمتك؟ والله ليزيدنك على أن يبشرك بالنار. فغضب ابن جرموز وقال: والله ما قتلته إلا له، ووالله ما أخاف ما أخاف فيه قصاصا، ولا أرهب فيه قرشيا، وإن قتله علي لهين (2).

 مخاطبة علي لطلحة بين الصفين

 قال: وذكروا أن عليا نادى طلحة بعد انصراف الزبير، فقال له: يا أبا محمد ما جاء بك؟ قال: أطلب دم عثمان. قال علي: قتل الله من قتله، قال طلحة: فحل بيننا وبين من قتل عثمان، أما تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنما يحل دم المؤمن في أربع خصال، زان فيرجم، أو محارب لله، أو مرتد عن الإسلام، أو مؤمن يقتل مؤمنا عمدا. فهل تعلم أن عثمان أتى شيئا من ذلك؟ فقال علي: لا. قال طلحة: فأنت أمرت بقتله. قال علي:

(هامش)

(1) يعني لبس على الدرع سترا (الكفر: الستر) أو ثوبا فستره به. (2) المشهور أن ابن جرموز بعدما قتل الزبير احتز رأسه وأخذ سلاحه وفرسه وخاتنه ثم جاء به بين يدي علي.. فأخذ علي سيفه وقال لابن جرموز: ويحك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بشر قاتل ابن صفية بالنار. فانصرف ابن جرموز وهو يقول: أتيت عليا برأس الزبير * وقد كنت أرجو به الزلفة فبشر بالنار قبل العيان * وبئس بشارة ذي النحفة (*)

ص 95

اللهم لا. قال طلحة: فاعتزل هذا الأمر، ونجعله شورى بين المسلمين، فإن رضوا بك دخلت فيما دخل فيه الناس، وإن رضوا غيرك كنت رجلا من المسلمين. قال علي: أو لم تبايعني يا أبا محمد طائعا غير مكره؟ فما كنت لأترك بيعتي. قال طلحة: بايعتك والسيف في عنقي. قال: ألم تعلم أني ما أكرهت أحدا على البيعة، ولو كنت مكرها أحدا لأكرهت سعدا وابن عمر ومحمد بن مسلمة، أبوا البيعة، واعتزلوا، فتركتهم. قال طلحة: كنا في الشورى ستة، فمات اثنان وقد كرهناك، ونحن ثلاثة، قال علي: إنما كان لكما ألا ترضيا قبل الرضى وقبل البيعة. وأما الآن فليس لكما غير ما رضيتما به، إلا أن تخرجا مما بويعت عليه بحدث، فإن كنت أحدثت حدثا فسموه لي. وأخرجتم أمكم عائشة، وتركتم نساءكم، فهذا أعظم الحدث منكم أرضى هذا لرسول الله أن تهتكوا سترا ضربه عليها، وتخرجوها منه؟ فقال طلحة: إنما جاءت للإصلاح. قال علي: هي لعمر الله إلى من يصلح لها أمرها أحوج، أيها الشيخ أقبل النصح وارض بالتوبة مع العار. قبل أن يكون العار والنار.

التحام الحرب

 قال: وذكروا أنه بينما الناس وقوف إذ رمي رجل من أصحاب علي، فجئ به إلى علي، فقالوا: يا أمير المؤمنين، هذا أخونا قد قتل. فقال علي: أعذروا إلى القوم (1). فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: إلى متى؟ قد والله أعذرنا وأعذرت إن كنت تريد الإعذار، والله لتأذنن لنا في لقاء القوم أو لننصرفن إلى متى تستهدف نحورنا للقتال والسلاح، يقتلوننا رجلا رجلا؟ فقال علي: قد والله أرانا أعذرنا. أين محمد ابني؟ فقال: هأنذا. فقال: أي بني، خذ الراية، فابتدر الحسن والحسين ليأخذاها، فأخرهما عنها، وكان علي يؤخرهما شفقة عليهما، فأخذ محمد الراية، ثم قام علي، فركب بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعا بدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلبسها، ثم قال: احزموني، فحزم بعمامة أسفل من سرته، ثم خرج وكان عظيم البطن، فقال لابنه: تقدم وتضعضع الناس حين سمعوا به قد تحرك، فبينما هم كذلك إذ

(هامش)

(1) وكان أهل البصرة قد جعلوا يرمون أصحاب علي بالنبل حتى عقروا منهم جماعة، فقالت الناس: يا أمير المؤمنين إنه قد عقرتنا نبالهم فما انتظارك؟ (انظر مروج الذهب 2 / 400). (*)

ص 96

سمعوا صوتا، فقال علي: ما هذا؟ فقيل: عائشة تلعن قتلة عثمان. فقال علي ورفع بصره إلى السماء: لعن الله قتلة عثمان في السهل والجبل، وقد كان علي عبأ الناس أثلاثا، فجعل مصر قلب العسكر، واليمن ميمنته، وربيعة ميسرته، وعبأ أهل البصرة مثل ذلك، فاقتتل القوم قتالا شديدا، فهزمت يمن البصرة يمن علي، وهزمت ربيعة البصرة ربيعة علي، قال حية بن جهين: نظرت إلى علي وهو يخفق نعاسا فقلت له: تالله ما رأيت كاليوم قط، إن بإزائنا لمائة ألف سيف، وقد هزمت ميمنتك وميسرتك، وأنت تخفق نعاسا، فانتبه ورفع يديه، وقال: اللهم إنك تعلم أني ما كتبت في عثمان سوادا في بياض، وأن الزبير وطلحة ألبا وأجلبا علي الناس، اللهم أولانا بدم عثمان فخذه اليوم. ثم تقدم علي فنظر إلى أصحابه يهزمون ويقتلون فلما نظر إلى ذلك صاح بابنه محمد ومعه الراية، أن اقتحم، فأبطأ وثبت، فأتى علي من خلفه، فضربه بين كتفيه، وأخذ الراية من يده، ثم حمل، فدخل عسكرهم وإن الميمنتين والميسرتين تضطربان، في إحداهما عمار، وفي الأخرى عبد الله بن عباس، ومحمد بن أبي بكر، قال: فشق علي في عسكر القوم يطعن ويقتل، ثم خرج وهو يقول: الماء الماء، فأتاه رجل بإداوة فيها عسل فقال له: يا أمير المؤمنين، أما الماء فإنه لا يصلح لك في هذا المقام، ولكن أذوقك هذا العسل فقال: هات، فحسا منه حسوة، ثم قال: إن عسلك لطائفي، قال الرجل: لعجبا منك والله يا أمير المؤمنين، لمعرفتك الطائفي من غيره في هذا اليوم، وقد بلغت القلوب الحناجر. فقال له علي: إنه والله يا بن أخي ما ملأ صدر عمك شيء قط، ولا هابه شيء ثم أعطى الراية لابنه، وقال: هكذا فاصنع، فتقدم محمد بالراية ومعه الأنصار حتى انتهى إلى الجمل والهودج وهزم ما يليه، فاقتتل الناس ذلك اليوم قتالا شديدا حتى كانت الواقعة والضرب على الركب وحمل الأشتر النخعي وهو يريد عائشة، فلقيه عبد الله بن الزبير (1)، فضربه، واعتنقه عبد الله فصرعه، وقعد على صدره، ثم نادى عبد الله: اقتلوني ومالكا (2). فلم يدر الناس من مالك فانفلت الأشتر منه،

(هامش)

(1) قيل للأشتر ما أخرجك بالبصرة وقد كنت كارها لقتل عثمان؟ قال: هؤلاء بايعوا ثم نكثوا وكان ابن الزبير هو الذي أكره عائشة على الخروج فكنت أدعو الله أن يلقينيه فلقيني كفة لكفة. (2) في رواية في الطبري عن علقمة عن الأشتر أن الذي قال ذلك هو عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد لما صرعا بعضهما. وفي رواية أخرى فكالأصل: وفيه: ولو قال والأشتر وكانت له ألف ألف نفس ما نجا منها شيء وما زال يضطرب في يدي عبد الله حتى أفلت . (*)

ص 97

فلما رأى كعب بن سور الهزيمة، أخذ بخطام البعير، ونادى: أيها الناس، الله الله، فقاتل وقاتل الناس معه، وعطفت الأزد على الهودج، وأقبل علي وعمار والأشتر والأنصار معهم يريدون الجمل فاقتتل القوم حوله، حتى حال بينهم الليل، وكانوا كذلك يروحون ويغدون على القتال سبعة أيام، وإن عليا خرج إليهم بعد سبعة أيام فهزمهم، فلما رأى طلحة ذلك رفع يديه إلى السماء. وقال: اللهم إن كنا قد داهنا في أمر عثمان وظلمناه فخذ له اليوم منا حتى ترضى، قال: فما مضى كلامه حتى ضربه مروان ضربة أتى منها على نفسه (1)، فخر وثبتت عائشة، وحماها مروان في عصابة من قيس ومن كنانة وبني أسد، فأحدق بهم علي بن أبي طالب، ومال الناس إلى علي، وكلما وثب رجل يريد الجمل ضربه مروان بالسيف، وقطع يده، حتى قطع نحو عشرين يدا من أهل المدينة والحجاز والكوفة، حتى أتي مروان من خلفه، فضرب ضربة فوقع، وعرقب الجمل الذي عليه عائشة (2). وانهزم الناس، وأسرت عائشة، وأسر مروان بن الحكم وعمرو بن عثمان، وموسى بن طلحة، وعمرو بن سعيد بن العاص، فقال عمار لعلي: يا أمير المؤمنين، اقتل هؤلاء الأسرى. فقال علي: لا أقتل أسير أهل القبلة إذا رجع ونزع. فدعا علي بموسى بن طلحة، فقال الناس: هذا أول قتيل يقتل، فلما أتى به علي قال: تبايع وتدخل فيما دخل فيه الناس؟ قال: نعم. فبايع وبايع الجميع وخلى سبيلهم، وسأل الناس عليا ما كان عرض عليهم قبل ذلك فأعطاه، ثم أمر المنادي فنادى: لا يقتلن مدبر، ولا يجهز على جريح، ولكم ما في عسكرهم وعلى نسائهم العدة، وما كان لهم من مال في أهليهم فهو ميراث على فرائض الله، فقام رجل فقال: يا أمير المؤمنين، كيف تحل لنا أموالهم، ولا تحل لنا نساؤهم ولا أبناؤهم؟ فقال: لا يحل ذلك لكم. فلما أكثروا عليه في ذلك. قال: اقترعوا، هاتوا بسهامكم ثم قال: أيكم يأخذ أمكم عائشة في سهمه؟

(هامش)

(1) قيل في قتله: أنه أتاه سهم غرب، وقيل رماه مروان بسهم مسموم فأصابه به. وفي موضع إصابته قيل: وقع في ركبته، وقيل في رقبته، وقيل في أكحله. أنظر في ذلك الطبري 5 / 204 ومروج الذهب 2 / 403 تاريخ خليفة ص 185 سير أعلام النبلاء 1 / 26 فتوح ابن الأعثم 2 / 326 البداية والنهاية 7 / 275 ابن الأثير 2 / 337. (2) عقر الجمل رجل من بني ضبة يقال له ابن دلجة عمرو أو بجير (رواية الطبري) وفي الأخبار الطوال: كشف عرقوبه رجل من مراد يقال له أعين بن ضبيعة، وقال ابن الأعثم: عرقبه من رجليه عبد الرحمن بن صرد التنوخي. (*)

ص 98

فقالوا: نستغفر الله. فقال: وأنا أستغفر الله. قال: ثم إن عليا مر بالقتلى، فنظر إلى محمد بن طلحة وهو صريع في القتلى، وكان يسمى السجاد، لما بين عينيه من أثر السجود. فقال: رحمك الله يا محمد، لقد كنت في العبادة مجتهدا آناء الليل قواما، وفي الحرور صواما، ثم التفت إلى من حوله فقال: هذا رجل قتله بر أبيه فاختلفوا في طلحة وابنه محمد أيهما قتل قبل؟ فشهدت عائشة لمحمد أنها رأته بعد قتل أبيه، فورثوا ولده في مال طلحة. قال: وأتى محمد بن أبي بكر، فدخل على أخته عائشة رضي الله عنها، قال لها: أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: علي مع الحق، والحق مع علي؟ ثم خرجت تقاتلينه بدم عثمان، ثم دخل عليهما علي فسلم وقال: يا صاحبة الهودج، قد أمرك الله أن تقعدي في بيتك، ثم خرجت تقاتلين. أترتحلين؟ قالت: أرتحل. فبعث معها علي رضي الله عنه أربعين امرأة (1)، وأمرهن أن يلبسن العمائم، ويتقلدن السيوف، وأن يكن من الذين يلينها، ولا تطلع على أنهن نساء، فجعلت عائشة تقول في الطريق فعل الله في ابن أبي طالب وفعل، بعث معي الرجال، فلما قدمن المدينة وضعن العمائم والسيوف، ودخلن عليها. فقالت: جزى الله ابن أبي طالب الجنة. قال: ودفن طلحة في ساحة البصرة (2)، فأتى عائشة (3) في المنام. فقال: حوليني من مكاني، فإن البرد قد آذاني فحولته (4). وقال عبد الله بن الزبير: أمسيت يوم الجمل وفي بضع وثلاثون بين ضربة وطعنة، وما رأيت مثل يوم الجمل قط، ما ينهزم منا أحد ولا يأخذ أحد منا بخطام الجمل إلا قتل أو قطعت يده، حتى ضاع الخطام من يد بني ضبة، فعقر الجمل. قال: دخل موسى بن طلحة على علي، فقال علي: إني لأرجو أن أكون أنا وأبوك ممن قال الله فيهم: (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين) [الحجر 47] وأمسى علي بالبصرة ذلك اليوم الذي أتاه فيه موسى بن طلحة، فقال ابن الكواء: أمسيت بالبصرة يا أمير المؤمنين؟ فقال: كان عندي ابن أخي. قال: ومن هو؟ قال: موسى بن طلحة. فقال ابن الكواء: لقد شقينا

(هامش)

(1) في مروج الذهب: عشرين امرأة 2 / 410. (2) دفن في مكان يقال له السبخة. وفي البداية والنهاية: دفن إلى جانب الكلأ. وفي العقد الفريد: في عرصة بالبصرة. (3) يريد عائشة بنت طلحة. (4) الخبر في العقد الفريد: اشترت عرصة بالبصرة ودفنته بها. (*)

ص 99

إن كان ابن أخيك. فقال علي: ويحكم، إن الله قد اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. ثم قال ابن الكواء: يا أمير المؤمنين، من أخبرك بمسيرك هذا الذي سرت فيه، تضرب الناس بعضهم ببعض، وتستولي بالأمر عليهم؟ أرأي رأيته حين تفرقت الأمة، واختلفت الدعوة، فرأيت أنك أحق بهذا الأمر منهم لقرابتك؟ فإن كان رأيا رأيته أجبناك فيه، وإن كان عهدا عهده إليك رسول الله فأنت الموثوق به، المأمون على رسول الله فيما حدثت عنه. فقال علي: أنا أول من صدقه فلا أكون أول من كذب عليه. أما أن يكون عندي عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا والله، ولكن لما قتل الناس عثمان نظرت في أمري، فإذا الخليفتان اللذان أخذاها من رسول الله قد هلكا ولا عهد لهما، وإذا الخليفة الذي أخذها بمشورة المسلمين قد قتل، وخرجت ربقته من عنقي، لأنه قتل ولا عهد له، قال ابن الكواء: صدقت وبررت، ولكن ما بال طلحة والزبير؟ ولم استحللت قتالهما وقد شاركاك في الهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الشورى مع عمر بن الخطاب؟ قال علي: بايعاني بالحجاز (1)، ثم خالفاني بالعراق، فقاتلتهما على خلافهما، ولو فعلا ذلك مع أبي بكر وعمر لقاتلاهما.

 مبايعة أهل الشام معاوية بالخلافة

 قال: وذكروا أن النعمان بن بشير لما قدم على معاوية ب زوجة عثمان، تذكر فيه دخول القوم عليه، وما صنع محمد بن أبي بكر من نتف لحيته، في كتاب قد رققت فيه وأبلغت، حتى إذا سمعه السامع بكى حتى يتصدع قلبه، وبقميص عثمان مخضبا بالدم ممزقا، وعقدت شعر لحيته في زر القميص. قال: فصعد المنبر معاوية بالشام، وجمع الناس، ونشر عليهم القميص، وذكر ما صنعوا بعثمان، فبكى الناس وشهقوا، حتى كادت نفوسهم أن تزهق، ثم دعاهم إلى الطلب بدمه، فقام إليه أهل الشام، فقالوا: هو ابن عمك، وأنت وليه، ونحن الطالبون معك بدمه، فبايعوه أميرا عليهم، وكتب وبعث الرسل إلى كور (2) الشام، وكتب إلى شرحبيل بن السمط الكندي وهو

(هامش)

(1) في العقد الفريد: بالمدينة. (2) ذكر الخبر في العقد الفريد أن ذلك كان يوم صفين 4 / 303 باختلاف وزيادة. (3) نص الكتاب في العقد الفريد 4 / 300. (*)

ص 100

بحمص، يأمره أن يبايع له بحمص كما بايع أهل الشام، فلما قرأ شرحبيل كتاب معاوية دعا أناسا من أشراف أهل حمص، فقال لهم: ليس من قتل عثمان بأعظم جرما ممن يبايع لمعاوية أميرا، وهذه سقطة، ولكنا نبايع له بالخلافة، ولا نطلب بدم عثمان مع غير خليفة. فبايع لمعاوية بالخلافة هو وأهل حمص، ثم كتب إلى معاوية: أما بعد: فإنك أخطأت خطأ عظيما، حين كتبت إلي أن أبايع لك بالإمرة، وأنك تريد أن تطلب بدم الخليفة المظلوم وأنت غير خليفة، وقد بايعت ومن قبلي لك بالخلافة. فلما قرأ معاوية كتابه سره ذلك، ودعا الناس، وصعد المنبر، وأخبرهم بما قال شرحبيل، ودعاهم إلى بيعته بالخلافة، فأجابوه، ولم يختلف منهم أحد، فلما بايع القوم له بالخلافة، واستقام له الأمر، كتب إلى علي:

 كتاب معاوية إلى علي

 سلام الله على من اتبع الهدى. أما بعد، فإنا كنا نحن وإياكم يدا جامعة، وألفة أليفة، حتى طمعت يا بن أبي طالب فتغيرت، وأصبحت تعد نفسك قويا على من عاداك. بطعام أهل الحجاز، وأوباش أهل العراق وحمقى الفسطاط وغوغاء السواد وأيم الله لينجلين عنك حمقاها، ولينقشعن عنك غوغاؤها انقشاع السحاب عن السماء. قتلت عثمان بن عفان، ورقيت سلما أطلعك الله عليه مطلع سوء عليك لا لك. وقتلت الزبير وطلحة، وشردت بأمك عائشة، ونزلت بين المصريين فمنيت وتمنيت، وخيل لك أن الدنيا قد سخرت لك بخيلها ورجلها وإنما تعرف أمنيتك لو قد زرتك في المهاجرين من أهل الشام بقية الإسلام، فيحيطون بك من ورائك، ثم يقضي الله علمه فيك، والسلام على أولياء الله.

 رد الإمام علي على معاوية فأجابه

علي: أما بعد، فقدر الأمور تقدير من ينظر لنفسه دون جند، ولا يشتغل بالهزل من قوله، فلعمري لئن كانت قوتي بأهل العراق، أوثق عندي من قوتي بالله ومعرفتي به فليس عنده بالله تعالى يقين من كان على هذا، فناج نفسك مناجاة من يستغني بالجد دون الهزل، فإن في القول سعة، ولن يعذر مثلك فيما طمح إليه الرجال. وأما ما ذكرت من أنا كنا وإياكم يدا جامعة (1) فكنا

(هامش)

(1) في النهج: ما ذكرت من الألفة والجماعة. (*)

ص 101

كما ذكرت، ففرق بيننا وبينكم أن الله بعث رسوله منا، فآمنا به وكفرتم، ثم زعمت أني قتلت طلحة والزبير، فذلك أمر غبت عنه ولم تحضره، ولو حضرته لعلمته، فلا عليك، ولا العذر فيه إليك، وزعمت أنك زائري في المهاجرين، وقد انقطعت الهجرة حين أسر أخوك (1)، فإن يك فيك عجل فاسترفه (2) وإن أزرك فجدير أن يكون الله بعثني عليك للنقمة منك، والسلام

. قدوم عقيل بن أبي طالب على معاوية

 قال: وذكروا أن عقيل بن أبي طالب قدم على أخيه علي بالكوفة، فقال له علي: مرحبا بك وأهلا. ما أقدمك يا أخي؟ قال تأخر العطاء عنا، وغلاء السعر ببلدنا، وركبني دين عظيم، فجئت لتصلني. فقال علي: والله ما لي مما ترى شيئا إلا عطائي، فإذا خرج فهو لك. فقال عقيل: وإنما شخوصي من الحجاز إليك من أجل عطائك؟ وماذا يبلغ مني عطاؤك؟ وما يدفع من حاجتي؟ فقال علي: فمه! هل تعلم لي ما لا غيره؟ أم تريد أن يحرقني الله في نار جهنم في صلتك بأموال المسلمين؟ فقال عقيل: والله لأخرجن إلى رجل هو أوصل لي منك: يريد معاوية ، فقال له علي: راشدا مهديا. فخرج عقيل! حتى أتى معاوية. فلما قدم عليه، قال له معاوية: مرحبا وأهلا بك يا بن أبي طالب، ما أقدمك علي؟ فقال: قدمت عليك لدين عظيم ركبني، فخرجت إلى أخي ليصلني، فزعم أنه ليس له مما يلي إلا عطاؤه، فلم يقع ذلك مني موقعا، ولم يسد مني مسدا فأخبرته أني سأخرج إلى رجل هو أوصل منه لي، فجئتك. فازداد معاوية فيه رغبة، وقال: يا أهل الشام هذا سيد قريش، وابن سيدها، عرف الذي فيه أخوه من الغواية والضلالة، فأثاب إلى أهل الدعاء إلى الحق، ولكني أزعم أن جميع ما تحت يدي لي، فما أعطيت فقربة إلى الله، وما أمسكت فلا جناح علي فيه فأغضب كلامه عقيلا لما سمعه ينتقص أخاه، فقال: صدقت خرجت من عند أخي على هذا القول، وقد عرفت من في عسكره، لم أفقد والله رجلا من المهاجرين والأنصار، ولا والله ما رأيت في عسكر معاوية رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. فقال معاوية عند ذلك: يا

(هامش)

(1) إثارة إلى أسر أخيه عمرو بن أبي سفيان يوم بدر. (2) استرفه فعل أمر أي استرح ولا تستعجل. (*)

ص 102

أهل الشام، أعظم الناس من قريش عليكم حقا ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وسيد قريش، وها هو ذا تبرأ إلى الله مما عمل به أخوه. قال: وأمر له معاوية بثلاث مئة ألف دينار، قال له: هذه مئة ألف تقضي بها ديونك، ومئة ألف تصل بها رحمك، ومئة ألف توسع بها على نفسك (1).

 نعي عثمان بن عفان إلى معاوية

 قال عبد الله بن مسلم: وذكر ابن عفير، عن عون بن عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري، قال (2): قدم الحجاج بن خزيمة الشام بكتاب معاوية: بعد قتل عثمان بأيام، فقال له: أتعرفني؟ قال: نعم. أنت الحجاج بن خزيمة، فما وراءك؟ فقال الحجاج: أنا النذير العريان. أنعي إليك أمير المؤمنين عثمان. ثم قال: إني كنت ممن خرج معينا لعثمان مع يزيد بن أسد، فتقدمت إلى الربذة فلقينا بها رجلا حدثنا عن قتل عثمان، وزعم أنه ممن قتله. فقتلناه. وإني أخبرك يا معاوية أنك تقوى على علي بدون ما يقوى به عليك، لأن من معك لا يقولون إذا قلت (3). ولا يسألون إذا أمرت (4)، ولأن من مع علي يقولون إذا قال، ويسألون إذا أمر، فقليل ممن معك خير من كثير ممن معه. واعلم أن عليا لا يرضيه إلا الرضى، وإن رضاه يسخطك، ولست وعلي بالسواء لا يرضى علي بالعراق. دون الشام، ورضاؤك بالشام دون العراق. قال: وذكروا أنه لما فرغ من وقعة الجمل بايع له القوم جميعا، وبايع له أهل العراق، واستقام له الأمر بها فكتب إلى معاوية: أما بعد، فإن القضاء السابق، والقدر النافذ، ينزل من السماء كقطر المطر، فتمضي أحكامه عز وجل، وتنفذ مشيئته بغير تحاب المخلوقين، ولا رضا الآدميين، وقد بلغك ما كان من قتل عثمان رحمه الله، وبيعة الناس عامة إياي، ومصارع الناكثين لي فادخل فيما دخل الناس فيه، وإلا فأنا الذي عرفت، وحولي من تعلمه، والسلام (5).

(هامش)

(1) الخبر رواه المسعودي في مروج الذهب 3 / 44 باختلاف عما هنا. (2) الخبر في الأخبار الطوال ص: 155 وابن الأعثم 2 / 265. (3) في الأخبار الطوال: إذا سكت. (4) في الأخبار الطوال: ويسكتون إذا نطقت. (5) الكتاب في ابن الأعثم 2 / 352 - 353 باختلاف. (*)

ص 103

فلما قدم على معاوية كتاب علي مع الحجاج بن عدي الأنصاري، ألفاه وهو يخطب الناس بدمشق، فلما قرأه اغتم بذلك، وأسره عن أهل الشام، ثم قام الحجاج بن عدي خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أهل الشام، إن أمر عثمان أشكل على من حضره، المخبر عنه كالأعمى، والسميع كالأصم، عابه قوم فقتلوه، وغدره قوم فلم ينصروه (1)، فكذبوا الغائب واتهموا الشاهد وقد بايع الناس عليا على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة عامة، من رغب عنها رد إليها صاغرا داحرا، فانظروا في ثلاث وثلاث، ثم اقضوا على أنفسكم: أين الشام من الحجاز؟ وأين معاوية من علي؟ وأين أنتم من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بالإحسان؟ قال: فغضب معاوية لقوله وقال: يا حجاج، أنت صاحب زيد بن ثابت يوم الدار؟ قال: نعم، فإن كان بلغك وإلا أحدثك، قال: هات. قال: أشرف علينا زيد بن ثابت، وكان مع عثمان في الدار، وقال: يا معشر الأنصار، انصروا الله (مرتين)، فقلت: يا زيد، إنا نكره أن نلقى الله فنقول كما قال القوم: (ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا)، فقال معاوية: انصرف إلى علي، وأعلمه أن رسولي على إثرك. ثم إن معاوية انتخب رجلا من عبس، وكان له لسان، فكتب معاوية إلى علي كتابا عنوانه: من معاوية إلى علي، وداخله: بسم الله الرحمن الرحيم لا غير . فلما قدم الرسول دفع الكتاب إلى علي، فعرف علي ما فيه، وأن معاوية محارب له، وأنه لا يجيبه إلى شيء مما يريد، وقام رسول معاوية خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: هل هاهنا أحد من أبنا قيس عيلان، وبني عبس وذبيان؟ قالوا: نعم، هم حولك، قال: فاسمعوا ما أقول لكم، يا معشر قيس، إني أحلف بالله لقد خلفت بالشام خمسين ألف شيخ، خاضبين لحاهم من دموع أعينهم تحت قميص عثمان، رافعيه على الرماح مخضوبا بدمائه، قد أعطوا الله عهدا أن لا يغمدوا سيوفهم، ولا يغمضوا جفونهم، حتى يقتلوا قتلة عثمان، يوصي به الميت الحي، ويرثه الحي من الميت، حتى والله نشأ عليه الصبي، وهاجر عليه الأعرابي، وترك القوم تعس الشيطان، وقالوا: تعسا لقتلة عثمان،

(هامش)

(1) يشير إلى موقف معاوية وتربصه بعثمان وعدم الاستعجال بنصرته، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا الموقف. (*)

ص 104

وأحلف بالله ليأتينكم من خضر (1) الخيل اثنا عشر ألفا، فانظروا كم الشهب (2) وغيرها؟ فقال له علي: ما يريدون بذلك؟ قال: يريدون بذلك والله خبط رقبتك. فقال علي: تربت يداك، وكذب فوك، أما والله لو أن رسولا قتل لقتلتك. فقام الصلت (3) بن زفر فقال: بئس وافد أهل الشام أنت ورائد أهل العراق، ونعم العون لعلي، وبئس العون لمعاوية، يا أخا عبس أتخوف المهاجرين والأنصار بخضر الخيل، وغضب الرجال؟ أما والله ما نخاف غضب رجالك، ولا خضر خيلك، فأما بكاء أهل الشام على قميص عثمان، فوالله ما هو بقميص يوسف ولا بحزن يعقوب (4)، ولئن بكوا عليه بالشام، لقد خذلوه بالحجاز، وأما قتالهم عليا، فإن الله يصنع في ذلك ما أحب. قال: وإن العبسي أقام بالعراق عند علي، حتى اتهمه معاوية، ولقيه المهاجرون والأنصار فأشربوه حب علي، وحدثوه عن فضائله، حتى شك في أمره.

 قدوم ابن عم عدي بن حاتم الشام

 قال: وذكروا أن عدي بن حاتم قدم إلى علي بالكوفة، قبل أن يسير إلى البصرة، فقال: يا أمير المؤمنين، لسنا نخاف أحدا إلا معاوية، وعندي رجل من قومي يريد أن يزور ابن عم له بالشام، يقال له حابس بن سعد، فلو أمرناه أن يلقى معاوية لعله أن يكسره ويكسر أهل الشام؟ فقال له علي: افعل، فأغروه بذلك، فلما قدم على ابن عمه، وكان سيد طئ بالشام، سأله فأخبره أنه شهد قتل عثمان بالمدينة المنورة، وسار مع علي إلى الكوفة، وكان له لسان وهيبة، فغدا به حابس إلى معاوية، فقال: هذا ابن عمي، قدم من الكوفة، وكان مع علي، وشهد قتل عثمان بالمدينة، وهو ثقة، فقال له معاوية: حدثنا عن أمر عثمان، قال: نعم وليه محمد بن أبي بكر، وعمار بن ياسر، وتجرد في أمره ثلاثة نفر، عدي بن حاتم، والأشتر النخعي، وعمرو بن الحصين. ودب في أمره

(هامش)

(1) الخيل الخضر التي في لونها غبرة مع سواد. (2) الخيل الشهب: ذات اللون الأبيض. (3) في ابن الأعثم 2 / 357 صلة بن زفر العبسي صاحب حذيفة بن اليمان. (4) إشارة إلى قوله تعالى: (وجاؤوا على قميصه بدم كذب قال: بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان عما تصفون) وذلك عندما ألقى أخوة يوسف أخاهم في الجب، وجاؤوا يخبرون أباهم بأن الذئب أكله. فحزن يعقوب على فقدان يوسف وابيضت عيناه من الحزن. (*)

ص 105

رجلان: طلحة والزبير. وأبرأ الناس منه علي بن أبي طالب، ثم تهافت الناس على علي بالبيعة تهافت الفراش، حتى ضلت النعل، وسقط الرداء، ووطئ الشيخ. ولم يذكر عثمان، ولم يذكروه، ثم تهيأ للمسير، فخف معه المهاجرون والأنصار، وكره القتال معه ثلاثة نفر: عبد الله بن عمر، وسعد بن أبي وقاص، ومحمد بن مسلمة، فلم يستكره أحدا، واستغنى بمن خف عمن ثقل، ثم سار حتى انتهى إلى جبل طئ، فأتاه منهم جماعة عظيمة، حتى إذا كان في بعض الطريق أتاه مسير طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة، فسرح رسله إلى الكوفة، فأجابوا دعوته، ثم قدمها، فحملوا إليه الصبي ودبت (1) إليه العجوز، وخرجت إليه العروس، فرحا به وسرورا وشوقا إليه (2)، ثم سار إلى البصرة، فبرز إليه القوم، طلحة والزبير وأصحابهما، فلم يلبثوا إلا يسيرا، حتى صرعهم الله، وأبرزهم إلى مضاجعهم، ثم صارت البصرة وما حولها في كفة، قال: وتركته وليس له هم إلا أنت والشام. فانكسر معاوية لقوله، وقال: والله ما أظنه إلا عينا لعلي، أخرجوه لا يفسد أهل الشام. ثم قال معاوية: وكيف لا يضيع عثمان ويقتل وقد خذله أهل ثقاته، وأجمعوا عليه؟ أما والله لئن بقينا لهم لندرسنهم (3) درس الجمال هشيم اليبيس (4).

 استعمال علي عبد الله بن عباس على البصرة

قال: وذكروا أن عليا لما صار من البصرة بعد فراغه من أصحاب الجمل، استعمل عليها عبد الله بن عباس (5)، وقال له: أوصيك بتقوى الله عز وجل، والعدل على من ولاك الله أمره، اتسع للناس بوجهك وعلمك وحكمك، إياك والإحن، فإنها تميت القلب والحق، واعلم أن ما قربك من الله بعدك من النار، وما قربك من النار بعدك من الله. اذكر الله كثيرا ولا تكن من الغافلين.

(هامش)

(1) في فتوح ابن الأعثم: ودنت. (2) إشارة إلى إجماع البيعة واتفاق الكلمة على علي. (3) لندرسنهم: لندوسهم بقسوة، المعنى: لنقتلنهم. (4) الخبر رواه ابن الأعثم باختلاف عما هنا. قارن به 2 / 360. (5) قال ابن كثير في البداية والنهاية 7 / 274: إنه عرض البصرة على أبي بكر فامتنع وأشار عليه بابن عباس فولاه البصرة، وجعل معه زياد بن أبيه على الخراج وبيت المال. وأمر ابن عباس أن يسمع من زياد. (وانظر الطبري 5 / 224). (*)

ص 106

فلم يلبث علي حين قدم الكوفة، وأراد المسير إلى الشام، أن انضم إليه ابن عباس، واستعمل على البصرة زياد بن أبي سفيان.

 ما أشار به الأحنف بن قيس على علي

 قال: وذكروا أن الأحنف بن قيس قام إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين، إنه إن يك بنو سعد (1) لم ينصروك يوم الجمل، فلن ينصروا عليك غيرك، وقد عجبوا ممن نصرك يومئذ، وعجبوا اليوم ممن خذلك، لأنهم شكوا في طلحة والزبير، ولم يشكوا في عمرو ومعاوية، وإن عشيرتنا بالبصرة فلو بعثنا إليهم فقدموا علينا، فقاتلنا بهم العدو، وانتصفنا بهم من الناس، وأدركوا اليوم ما فاتهم أمس، وهذا جمع قد حشره الله عليك بالتقوى، لم نستكره شاخصا، ولم نشخص فيه مقيما، ومن كان معك نافعك، ورب مقيم خير من شاخص. وإنما نشوب الرجاء بالمخافة، ووالله لوددنا أن أمواتنا رجعوا إلينا، فاستعنا بهم على عدونا، وليس لك إلا من كان معك، ولنا من قومنا عدد، ولا نلقى بهم عدوا أعدى من معاوية، ولا نسد بهم ثغرا أشد من الشام.

كتاب الأحنف إلى قومه يدعوهم به إلى نصرة علي

 قال: وذكروا أن عليا قال للأحنف بن قيس: اكتب إلى قومك. قال: نعم. فكتب الأحنف إلى بني سعد: أما بعد، فإنه لم يبق أحد من بني تميم إلا وقد شقوا (2) برأي سيدهم غيركم، وعصمكم الله برأيي، حتى نلتم ما رجوتم، وأمنتم مما خفتم، وأصبحتم منقطعين من أهل البلاء، لا حقين بأهل العافية، وإني أخبركم أنا قدمنا على تميم بالكوفة، فأخذوا علينا بفضلهم مرتين: مسيرهم إلينا مع علي، وتهيئهم للمسير إلى الشام، ثم انحشرنا معهم، فصرنا كأنا لا نعرف إلا بهم، فأقبلوا إلينا، ولا تتكلوا علينا، فإن لهم أعدادنا من رؤسائهم فلا تبطئوا عنا، فإن من تأخير العطاء حرمانا، ومن تأخير النصر خذلانا. فحرمان العطاء القلة، وخذلان النصر الابطاء ولا تنقضي الحقوق إلا بالرضا وقد يرضى المضطر بدون الأمل.

(هامش)

(1) وهم بنو سعد بن زيد مناة بن تميم. (2) في ابن الأعثم 2 / 372 أخذوا. (*)

ص 107

فلما انتهى

 الأحنف إلى بني سعد، ساروا بجماعتهم، حتى نزلوا الكوفة.

 كتاب أهل العراق إلى مصقلة (1)

 قال: وذكروا أنه قام إلى علي بعد انصرافه من البصرة إلى الكوفة، وجوه بكر بن وائل، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن نعيما أخا مصقلة يستحي منك، لما صنع مصقلة، وقد أتانا اليقين أنه لا يمنع مصقلة من الرجوع إليك إلا الحياء، ولم يبسط منذ فارقنا لسانه ولا يده، فلو كتبنا إليه كتابا، وبعثنا من قبلنا رسولا، فإنا نستحيي أن يكون فارقنا مثل مصقلة من أهل العراق إلى معاوية، فقال علي: اكتبوا. فكتبوا (2): أما بعد، فقد علمنا أنك لم تلحق بمعاوية رضا بدينه، ولا رغبة في دنياه، ولم يعطفك عن علي طعن فيه، ولا رغبة عنه، ولكن توسطت أمرا فقويت فيه الظن، وأضعفت فيه الرجاء، فكان أولاهما عندك أن قلت: أفوز بالمال، وألحق بمعاوية. ولعمرنا ما استبدلت الشام بالعراق، ولا السكاسك (3) بربيعة، ولا معاوية بعلي، ولا أصبت (4) دنيا تهنأ بها، ولا حظا تحسد عليه، وإن أقرب ما تكون مع الله، أبعد ما تكون مع معاوية، فارجع إلى مصرك، فقد اغتفر أمير المؤمنين الذنب، واحتمل الثقل، واعلم أن رجعتك اليوم خير منها غدا، وكانت أمس خيرا منها اليوم، وإن كان عليك حياء من أبي الحسن، فما أنت فيه أعظم فقبح الله أمرا ليس فيه دنيا ولا آخرة. فلما انتهى كتابهم إلى مصقلة، وكان لرسولهم عقل ولسان، قال الرسول: يا مصقلة، انظر فيما خرجت منه، وفيما صرت إليه، وانظر من أخذت، ومن تركت، وانظر من جاورت، ومن

(هامش)

(1) هو مصقلة بن هبيرة الشيباني. أنظر قصة هربه في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2 / 65 - 66. وملخصها أن مصقلة بن هبيرة الشيباني كان عاملا لعلي بن أبي طالب على بلد من بلاد الأهواز، وقد أتى معقل بن قيس بأسارى فاشتراهم مصقلة ب‍ 500 ألف درهم وأعتقهم ثم هرب ليلا إلى البصرة دون دفع المال. فأرسل معقل إلى ابن عباس فطالبه بالمال فهرب ليلا إلى علي بن أبي طالب بالكوفة. ولما طالبه بالمال دفع له 100 ألف وبقي عليه 400 ألف درهم فهرب ليلا إلى معاوية. (أنظر فتوح ابن الأعثم 2 / 78). (2) في ابن الأعثم أنهم فوضوا الحضين بن المنذر السدوسي. (3) السكاسك: حي من اليمن. (4) في ابن الأعثم: أصبت ذنبا بهما. (*)

ص 108

زايلت، ثم اقض بعقلك دون هواك. قال وإن مصقلة مضى إلى معاوية بالكتاب، فأقرأه إياه، فقال معاوية: يا مصقلة إنك عندي غير ظنين، فإذا أتاك شيء فاستره عني، فانصرف مصقلة إلى منزله، فدعا الرسول فقال: يا أخا بكر، إنما هربت بنفسي من علي، ولا والله ما يطول لساني بغيبته (1)، ولا قلت فيه قط حرفا بسوء، اذهب بكتابي هذا إلى قومي.

 جواب مصقلة إلى قومه

قال: وذكروا أن مصقلة كتب إلى قومه: أما بعد، فقد جاءني كتابكم (2)، وإني أخبركم أنه من لم ينفعه القليل لم ينفعه الكثير، وقد علمتم الأمر الذي قطعني من علي، وأضافني إلى معاوية، وقد علمت أني لو رجعت إلى علي وإليكم لكان ذنبي مغفورا، ولكني أذنبت إلى علي، وصحبت معاوية، فلو رجعت إلى علي أحدثت عيبا، وأحييت عارا، وكنت بين لائمين (3)، أولهما خيانة، وآخرهما غدر، ولكني أقيم بالشام، فإن غلب معاوية فداري العراق، وإن غلب علي فداري أرض الروم. فأما الهوى فإليكم طائر، وكانت فرقتي عليا على بعض العذر أحب إلي من فرقتي معاوية ولا عذر لي. ثم قال للرسول: يا بن أخي، استعرض الناس (4) عن قولي في علي. فقال: قد سألت، فقالوا خيرا. قال: فإني والله عليه حتى أموت. فرجع الرسول بالكتاب، فأقرأه عليا، فقال: كفوا عن صاحبكم، فليس براجع حتى يموت. فقال حصين: أما والله ما به إلا الحياء.

 لحوق عبد الله بن عامر بالشام

 قال: وذكروا أن عبد الله بن عامر لحق بالشام، ولم يأت معاوية، وخاف يوما كيوم الجمل، فبعث إليه معاوية أن يأتيه، وألح عليه. فكتب ابن عامر، أما بعد: فإني أخبرك أني أقحمت طلحة والزبير إلى البصرة، وأنا أقول إذا رأى

(هامش)

(1) في ابن الأعثم: بعيبه ولا ذمه:. (2) زيد في ابن الأعثم: فقرأته وفهمته. (3) في ابن الأعثم: لومتين. (4) في ابن الأعثم: تسأل أهل الشام. (*)

ص 109

الناس أم المؤمنين مالوا إليها، وإن فر الناس لم يفر الزبير، وإن غدر الناس لم يغدر مروان، فغضبت عائشة، ورجع الزبير، وقتل مروان طلحة، وذهب مالي بما فيه، والناس أشباه، واليوم كأمس، فإن أتبعتني هواي، وإلا أرتحل عنك والسلام. فكتب معاوية إليه: أما بعد، فإنك قلدت أمر دينك قتلة عثمان، وأنفقت مالك لعبد الله بن الزبير، وآثرت العراق على الشام، فأخرجك الله من الحرب صفر اليدين، ليس لك حظ الحق، ولا ثأر القتيل. فلما انتهى كتابه إلى ابن عامر أتاه، فغمس يده معه، وبايعه، فلاطفه معاوية، وعرف له قرابته من عثمان.

 ما أشار به عمار بن ياسر على علي

 قال: وذكروا أن عمار بن ياسر قام إلى علي، فقال: يا أمير المؤمنين، إنما بايعناك ولا نرى أحدا يقاتلك، فقاتلك من بايعك، وأعطاك الله فيهم ما وعد في قوله عز وجل: (ثم بغي عليه لينصرنه الله) [الحج: 60]، وقوله: (يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم) [يونس: 23]، وقوله: (فمن نكث فإنما ينكث على نفسه) [الفتح: 10]، وقد كانت الكوفة لنا، والبصرة علينا، فأصبحنا على ما تحب، بين ماض مأجور، وراجع معذور، وإن بالشام الداء العضال، رجلا لا يسلمها أبدا إلا مقتولا أو مغلوبا، فعاجله قبل أن يعاجلك، وانبذ إليه قبل الحرب (1).

 ما أشار به الأشتر على علي

 قال: وذكروا أن الأشتر النخعي قام إلى علي، فقال: يا أمير المؤمنين، إنما لنا أن نقول قبل أن تقول (2)، فإذا عزمت فلم نقل، فلو سرت بنا إلى الشام بهذا الحد والجد، لم يلقوك بمثله، فإن القلوب اليوم سليمة، والأبصار صحيحة، فبادر بالقلوب القسوة، وبالأبصار العمى.

(هامش)

(1) الخبر في ابن الأعثم 2 / 345 وقال أن ذلك حصل بعدما فرغ علي بن أبي طالب من أمر البصرة في يوم الجمل وخطب الناس. (2) في فتوح ابن الأعثم 2 / 346 تعزم. (*)

ص 110

كتاب علي إلى جرير بن عبد الله

 قال: وذكروا أن عليا كتب إلى جرير بن عبد الله، وكان على ثغر همذان، كان استعمله عليه عثمان، فكتب علي إليه مع زفر بن قيس: أما بعد، فإن الله (لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له، وما لهم من دونه من وال) [الرعد: 11]. ثم إني أخبرك عنا وعمن سرنا إليهم، من جمع طلحة والزبير، عند نكثهما ببيعتهما، وما صنعا بعاملي عثمان بن حنيف: إني هبطت من المدينة بالمهاجرين والأنصار، حتى إذا كنت ببعض الطريق، بعثت إلى الكوفة الحسن ابني، وعبد الله بن العباس ابن عمي، وعمار بن ياسر، وقيس بن سعد بن عابدة، فاستنفرتهم بحق الله ورسوله فأجابوا، وسرت بهم، حتى نزلت بظهر البصرة، فأعذرت في الدعاء، وأقلت في العثرة، وناشدتهم عقد بيعتهم، فأبوا إلا قتالي، فاستعنت الله عليهم، فقتل من قتل، وولوا مدبرين إلى مصرهم، فسألوني ما كنت دعوتهم إليه قبل اللقاء، فقبلت العافية، ورفعت عنهم السيف، واستعملت عليهم عبد الله بن عباس، وبعثت إليك زفر (1) بن قيس فاسأله عنا وعنهم.

خطبة زفر (1) بن قيس

 قال: وذكروا أنه لما قدم زفر (1) على جرير ب علي، وقرأه جرير، قام زفر (1) خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إن عليا كتب إليكم بكتاب لا يقول بعده إلا رجيعا من القول، إن الناس بايعوا عليا بالمدينة غير محاباة ببيعتهم، لعلمه بكتاب الله، ويرى الحق فيه، وإن طلحة والزبير نقضا بيعة علي على غير حدث، ثم لم يرضيا حتى نصبا له الحرب، وألبا عليه الناس. وأخرجا أم المؤمنين عائشة من حجاب ضربه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عليها، فلقيهما فأعذر في الدعاء، وخشي البغي، وحمل الناس على ما يعرفون، فهذا عيان ما غاب عنكم. وإن سألتم الزيادة زدناكم.

(هامش)

(1) في الأخبار الطوال ص 156 والنجوم الزاهرة: زحر . (*)

ص 111

خطبة جرير بن عبد الله البجلي قال: وذكروا أن جرير بن عبد الله قام خطيبا. فحمد الله. فقال: أيها الناس. هذا كتاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. وهو المأمون على الدين والدنيا. وكان من أمره وأمر عدوه ما قد سمعتم، فالحمد لله على أقضيته. وقد بايعه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والتابعون بإحسان، ولو جعل الله هذا الأمر شورى بين المسلمين لكان علي أحق بها (1)، ألا وإن البقاء في الجماعة، والفناء في الفرقة، وعلي حاملكم على الحق ما استقمتم له، فإن ملتم أقام ميلكم، قال الناس: سمعا وطاعة، ورضانا رضا من بعدنا.

 كتاب علي إلى الأشعث بن قيس

 قال: وذكروا أن عليا كتب إلى الأشعث بن قيس مع زياد بن كعب. والأشعث يومئذ بآذربيجان عاملا لعثمان (2)، كان استعمله عليها: أما بعد (3)، فلولا هنات كن فيك كنت المقدم في هذا الأمر قبل الناس، فلعل أمرا يحمل بعضه بعضا إن اتقيت الله، وقد كان من بيعة الناس إياي ما قد بلغك، وكان طلحة والزبير أول من بايعني، ثم نقضا بيعتي على غير حدث، وأخرجا أم المؤمنين إلى البصرة، فسرت إليهما في المهاجرين والأنصار، فالتقينا، فدعوتهما إلى أن يرجعا إلى ما خرجا منه، فأبيا. فأبلغت في الدعاء، وأحسنت في البقاء، وإن عملك ليس لك بطعمة، ولكنه أمانة في عنقك، والمال مال الله، وأنت من خزاني عليه حتى تسلمه إلي إن شاء الله، وعلي أن لا أكون شر ولاتك.

خطبة زياد بن كعب (4)

 قال: وذكروا أن الأشعث بن قيس لما قرأ كتاب علي، قام زياد بن كعب خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنه من لم يكفه القليل لم

(هامش)

(1) زيد في ابن الأعثم 2 / 365 لمصاهرته وقرابته وخدمته وشجاعته وهجرته. (2) وكان عثمان قد استعمل الأشعث بن قيس على آذربيجان بعدما زوج عثمان ابنة الأشعث من ابنه، وكانت ولايته له من الأشياء التي عتب الناس فيها على عثمان (الأخبار الطوال ص 156). (3) الكتاب في العقد الفريد 4 / 330 الأخبار الطوال ص 156 ابن الأعثم 2 / 367. (4) في الأخبار الطوال وابن الأعثم: زياد بن مرحب الهمداني. (*)

ص 112

يكفه الكثير، وإن أمر عثمان لم ينفع فيه العيان، ولم يشف منه الخبر، غير أن من سمعه كمن عاينه (1)، وإن المهاجرين والأنصار بايعوا عليا راضين به، وإن طلحة والزبير نقضا بيعة علي، على غير حدث، وأخرجا أم المؤمنين على غير رضى، فسار إليهم، ولم ينلهم، فتركهم وما في نفسه منهم حاجة، فأورثه الله الأرض، وجعل له عاقبة المتقين. خطبة الأشعث بن قيس قال: فقام الأشعث بن قيس خطيبا، فقال (2): أيها الناس، إن عثمان رحمه الله ولأني آذربيجان، وهلك وهي في يدي، وقد بايع الناس عليا، وطاعتنا له لازمة، وقد كان من أمره وأمر عدوه ما قد بلغكم، وهو المأمون على ما غاب عنا وعنكم من ذلك.

 مشورة الأشعث ثقاته في اللحوق بمعاوية إلى الشام

 قال: وذكروا أن الأشعث رجع إلى منزله، فدعا أهل ثقته من أصحابه، فقال لهم: إن كتاب علي جاءني، وقد أوحشني، وهو آخذي بمال آذربيجان وأنا لاحق بمعاوية، فقال القوم: الموت خير لك من ذلك، أتدع مصرك وجماعة قومك، وتكون ذنبا لأهل الشام؟ (3).

كتاب جرير إلى الأشعث (4)

 قال: وذكروا أن جريرا كتب إلى الأشعث: أما بعد. فإنه أتتني بيعة علي فقبلتها. ولم أجد إلى دفعها سبيلا، وإني نظرت فيما غاب عني من أمر عثمان، فلم أجده يلزمني، وقد شهده المهاجرون والأنصار، فكان أوثق أمرهم فيه الوقوف، فاقبل بيعته، فإنك لا تلتفت إلى خير منه. واعلم أن بيعة علي خير من

(هامش)

(1) كذا بالأصل: وفي ابن الأعثم: ليس كمن عاينه. (2) قارن مع العقد الفريد وفتوح ابن الأعثم. (3) زيد في فتوح ابن الأعثم والأخبار الطوال أنه عدل عن مسيره إلى معاوية وجمع الناس وسار بهم إلى الكوفة، وقدم على علي رضي الله عنه مبايعا. (4) في فتوح ابن الأعثم: وكتب رجل من كندة من بني عم الأشعث. (*)

ص 113

مصارع أهل البصرة. وقد تحلب الناقة الضجور. ويجلس العود على البعير الدبر. فانظر لنفسك. والسلام. إرسال علي جريرا إلى معاوية قال: وذكروا أن جريرا لما قدم على علي قال له: يا جرير. انطلق إلى معاوية بكتابي هذا، وكن عند ظني فيك، وأعلم يا جرير أنك ترى من حولي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والبدريين والعقبيين. وإني اخترتك عليهم، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير ذي يمن جرير (1)، فاذهب إلى معاوية بكتابي هذا ورسالتي، فإن دخل فيما دخل فيه المسلمون، وإلا فانبذ إليه بالحرب، وأعلمه أني لا أرضى به أميرا، والعامة لا ترضى به واليا، فقال جرير: إني لأكره أن أمنعك معونتي، وما أطمع لك في معاوية، ويصنع الله ما يشاء (2)

 كتاب علي إلى معاوية مرة ثانية (3)

قال: وذكروا أن عليا كتب إلى معاوية مع جرير: أما بعد، فإن بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام، لأنه بايعني الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوا، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإذا اجتمعوا على رجل فسموه إماما كان ذلك لله رضا، فإن خرج منهم خارج (4) ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وأولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم. وساءت مصيرا. وإن طلحة والزبير بايعاني بالمدينة، ثم نقضا بيعتهما، فكان نقضهما كردتهما، فجاهدتهما بعدما أعذرت إليهما، حتى جاء الحق، وظهر أمر الله وهم كارهون، فادخل فيما دخل فيه المسلمون، فإن أحب أمورك إلي العافية، فإن تتعرض للبلاء قاتلتك،

(هامش)

(1) أخرجه أحمد في مسنده 4 / 360 - 364 والطبراني برجال ثقات، والبيهقي في الدلائل 5 / 346. (2) وقد أرسله بعد مشاورة أصحابه، ورغم معارضة الأشتر النخعي لهذا الاختيار. (3) قارن نسخة الكتاب في الأخبار الطوال ص 157 وفتوح ابن الأعثم 2 / 357 والعقد الفريد 4 / 332 وانظر مروج الذهب 2 / 412 ونهج البلاغة. (4) زيد في النهج: خارج بطعن أو بدعة. (*)

ص 114

واستعنت بالله عليك، وقد أكثرت الكلام في قتلة عثمان، فادخل في الطاعة، ثم حاكم القوم إلي أحملك وإياهم على كتاب الله، فأما تلك التي تريدها فهي خدعة الصبي عن اللبن، ولعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك، لتجدني أبرأ الناس من دم عثمان، واعلم يا معاوية أنك من الطلقاء، الذين لا تحل لهم الخلافة، ولا تعقد معهم الإمامة، ولا تعرض فيهم الشورى، وقد بعثت إليك وإلى من قبلك جرير بن عبد الله، وهو من أهل الإيمان والهجرة السابقة، فبايع، ولا قوة إلا بالله.

 قدوم جرير إلى معاوية

 قال: وذكروا أن جريرا لما قدم على معاوية بكتاب علي، قام جرير بالشام خطيبا، فقال: أيها الناس، إن أمر عثمان قد أعيا من شهده، فما ظنكم بمن غاب عنه، وإن الناس بايعوا عليا، وإن طلحة والزبير كانا ممن بايع، ثم نقضا بيعته، ألا وإن هذا الدين لا يحتمل الفتن، ألا وإن هذا الدين لا يحتمل السيف. وقد كانت بالبصرة أمس روعة ملمة، إن يشفع البلاء بمثلها فلا بقاء للناس، وقد بايعت العامة عليا، ولو ملكنا أمرنا لم نختر لها غيره، فمن خالف هذا فقد استعتب فادخل يا معاوية فيما دخل الناس فيه، فإن قلت: إن عثمان ولاني ولم يعزلني، فإن هذا لو كان لم يقم لله دين، وكان لكل امرئ ما هو فيه. إشارة الناس على علي بالمقام بالكوفة قال: وذكروا أن عليا استشار الناس، فأشاروا عليه بالمقام بالكوفة عامه ذلك، غير الأشتر النخعي، وعدي بن حاتم، وشريح بن هانئ (1)، فإنهم قاموا إلى علي، فتكلموا بلسان واحد، فقالوا: إن الذين أشاروا عليك بالمقام، إنما خوفوك بحرب الشام، وليس في حربهم شيء أخوف من الموت ونحن نريده. فقال لهم: إن استعدادي لحرب أهل الشام، وجرير عندهم إغلاق للشام، وصرف لأهله عن خير إن أرادوه، ولكني قد وقت له وقتا لا يقيم بعده إلا أن

(هامش)

(1) زيد عند ابن الأعثم 2 / 381 وعمرو بن الحمق الخزاعي وسعيد بن قيس الهمداني وهانئ بن عروة المذحجي - ولم يذكر شريحا. (*)

ص 115

يكون مخدوعا أو عاصيا، ولا أكره لكم الإعداد، وأبطأ جرير على علي بالشام حتى يئس منه، وإن جريرا لما أبطأ عليه معاوية برأيه، استحثه بالبيعة، فقال معاوية لجرير: يا جرير، إن البيعة ليست بخلسة، وإنه أمر له ما بعده. فأبلعني ريقي (1) و(2).

 مشورة معاوية أهل ثقته

قال: وذكروا أن معاوية دعا أهل ثقته فاستشارهم، فقال عتبة بن أبي سفيان: استعن على هذا الأمر بعمرو بن العاص، فإنه من قد عرفت، وقد اعتزل عثمان في حياته، وهو لأمرك أشد اعتزالا إلا أن ترضيه. كتاب معاوية إلى عمرو بن العاص قال: وذكروا أن معاوية كتب إلى عمرو بن العاص وهو بفلسطين: أما بعد، فقد كان من أمر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك، وقد سقط علينا مروان بن الحكم في رافضة من أهل البصرة، وقدم علي جرير بن عبد الله في بيعة علي، وقد حبست نفسي عليك، فاقدم على بركة الله (3)، والسلام.

ما سأل معاوية من علي من الاقرار بالشام ومصر

 قال: وذكروا أن معاوية قال لجرير: إني قد رأيت رأيا. قال جرير: هات. قال: أكتب إلى علي أن يجعل لي الشام ومصر جباية، فإن حضرته الوفاة لم يجعل لأحد من بعده في عنقي بيعة، وأسلم إليه هذا الأمر، وأكتب إليه بالخلافة. قال جرير: اكتب ما شئت. وإنما أراد معاوية في طلبه الشام ومصر ألا يكون لعلي في عنقه بيعة، وأن يخرج نفسه مما دخل فيه الناس، فكتب إلى علي يسأله ذلك، فلما أتى عليا كتاب معاوية عرف أنها خدعة منه.

(هامش)

(1) أبلعني ريقي أي انتظر حتى أتروى في الأمر وأفكر فيه مليا لأرد عليك. (2) زيد في فتوح ابن الأعثم: حتى أنظر في أمري وأستطلع رأي أهل الشام ثم إني أجيب صاحبك عن كتابه وكرامته لك. (3) زيد في فتوح ابن الأعثم: لأشاورك وأستعين على أمري برأيك، والعبارة في الأخبار الطوال: فأقبل، أناظرك في ذلك. (*)

ص 116

كتاب علي إلى جرير بن عبد الله

 قال: وذكروا أن عليا كتب إلى جرير: أما بعد، فإن معاوية إنما أراد بما طلب ألا يكون لي في عنقه بيعة، وأن يختار من أمره ما أحب، وقد كان المغيرة ابن شعبة أشار علي وأنا بالمدينة أن أستعمله على الشام، فأبيت ذلك عليه، ولم يكن الله ليراني أتخذ المضلين عضدا، فإن بايعك الرجل، وإلا فأقبل (1).

 استشارة عمرو بن العاص ابنيه ومواليه

 قال وذكروا أنه لما انتهى إلى عمرو بن العاص كتاب معاوية وهو بفلسطين، استشار ابنيه عبد الله ومحمدا، وقال: يا ابني، إنه قد كان مني في أمر عثمان فلتات لم أستقبلها بعد، وقد كان من هروبي بنفسي حين ظننت أنه مقتول ما قد احتمله معاوية عني، وقد قدم على معاوية جرير ببيعة علي، وقد كتب إلي معاوية بالقدوم عليه، فما تريان؟ فقال عبد الله وهو الأكبر: أرى والله أن نبي الله قبض وهو عنك راض، والخليفتان من بعده كذلك. وقتل عثمان وأنت غائب، فأقم في منزلك، فلست مجعولا خليفة، ولا تزيد على أن تكون حاشية لمعاوية على دنيا قليلة، أوشكتما أن تهلكا فتستويا فيها جميعا. وقال محمد: أرى أنك شيخ قريش، وصاحب أمرها، فإن ينصرم هذا الأمر وأنت فيه غافل، يصغر أمرك، فالحق بجماعة أهل الشام، واطلب بدم عثمان، فإنك به تستميل إلى بني أمية. فقال عمرو: أما أنت يا عبد الله فأمرتني بما هو خير لي في ديني (2)، وأما أنت يا محمد فقد أمرتني بما هو خير لي في دنياي. ثم دعا غلام له يقال له وردان، وكان داهيا، فقال له عمرو: يا وردان احطط، يا وردان ارحل، يا وردان احطط، يا وردان ارحل. فقال وردان: أما إنك إن شئت نبأتك بما في نفسك، فقال عمرو: هات يا وردان، فقال: اعتركت الدنيا والآخرة على قلبك، فقلت: مع علي الآخرة بلا دنيا، ومع معاوية الدنيا بغير آخرة، فأنت واقف بينهما. فقال

(هامش)

(1) وقد استعجل علي بت الأمر وفصله فأرسل كتابا آخر إلى جرير يستعجله أخذ البيعة من معاوية: ونصه من النهج: أما بعد فإذا أتاك كتابي فاحمل على الفصل، وخذه بالأمر الجزم، ثم خيره بين حرب مجلية أو سلم مخزية، فإن اختار الحرب فانبذ إليه، وإن اختار السلم فخذ بيعته والسلام. (2) في ابن الأعثم: في دنياي وديني. (*)

ص 117

عمرو: ما أخطأت ما في نفسي، فما ترى يا وردان؟ فقال: أرى أن تقيم في منزلك، فإن ظهر أهل الدين عشت في عفو دينهم، وإن ظهر أهل الدنيا لم يستغنوا عنك، فقال عمرو: الآن حين شهرتني العرب بمسيري إلى معاوية؟

 قدوم عمرو إلى معاوية

 قال: وذكروا أن عمرو بن العاص لما قدم إلى معاوية، وعرف حاجته إليه باعده من نفسه، وكايد كل واحد منهما صاحبه، فقال عمرو لمعاوية: أعطني مصر، فتلكأ معاوية وقال: ألم تعلم أن مصر كالشام؟ قال بلى ولكنها إنما تكون لي إذا كانت لك، وإنما تكون لك إذا غلبت عليا على العراق. وقد بعث أهلها بطاعتهم إلى علي. فدخل عتبة بن أبي سفيان على معاوية، فقال: أما ترضى أن تشتري عمرا بمصر إن هي صفت لك؟ ليتك لا تغلب على الشام. فلما سمع معاوية قول عتبة بعث إلى عمرو، فأعطاه مصر، ولما كتب معاوية لعمرو بمصر، كتب في أسفل الكتاب: ولا ينقض شرط طاعة. وكتب عمرو، ولا تنقض طاعة شرطا، وكايد كل واحد منهما صاحبه، وكان مع عمرو بن العاص ابن أخ له، جاءه من مصر، فلما جاء عمرو بالكتاب مسرورا به، عجب ابن أخيه من سروره، فقال: يا عمرو ألا تخبرني بأي رأي تعيش في قريش وقد أعطيت دينك غيرك؟ أترى أهل مصر وهم قتلة عثمان يدفعونها إلى معاوية وعلي حي؟ أو تراها إن صارت إلى معاوية لا يأخذك بالجدل الذي قدمه؟ فقال عمرو: يا بن أخي، إنه لأمر الله دون معاوية وعلي. يا بن أخي لو كنت مع علي وسعني بيتي، ولكني مع معاوية. فقال الفتى: إنك لم ترد معاوية، ولكنك تريد دنياه، ويريد دينك. فبلغ معاوية قول الفتى فطلبه فهرب، فلحق بعلي، وحدث عليا بأمر معاوية وعمرو، وما قاله، فسر علي بذلك، وقربه.

 مشورة معاوية عمرا رضي الله عنهما

 قال: وذكروا أن معاوية قال لعمرو: يا أبا عبد الله، طرقتني في ليلتي (1) هذه ثلاثة أخبار، ليس فيها ورد ولا صدر، منها أن ابن أبي حذيفة كسر سجن

(هامش)

(1) في الأخبار الطوال: في هذه الأيام. (*)

ص 118

مصر (1)، ومنها أن قيصر زحف بجماعة الروم ليغلب على الشام، ومنها (2) أن عليا قد تهيأ للمجيء إلينا، فما عندك؟ قال عمرو: كل هذا عظيم، أما ابن أبي حذيفة فخرج في أشباهه من الناس، فإن تبعث إليه رجلا يقتله، وإن يقتل فلا يضرك، وأما قيصر فأهد له من وصائف الروم ومن الذهب والفضة، واطلب إليه الموادعة، تجده إليها سريعا، وأما علي فوالله إن له في الحرب لحظا ما هو لأحد من الناس، وإنه لصاحب الأمر. قال معاوية: صدقت، ولكني أقاتله على ما بأيدينا، ونلزمه دم عثمان. فقال عمرو: واسوأتاه إن أحق الناس ألا يذكر عثمان لأنا ولأنت، قال معاوية: ولم؟ فقال عمرو: أما أنت فخذلته ومعك أهل الشام، واستغاثك فأبطأت عليه، وأما أنا فتركته عيانا، وهربت إلى فلسطين. قال معاوية: دعني من هذا، هلم فبايعني. فقال عمرو: لا والله ولا أعطيك من ديني حتى آخذ من دنياك، قال معاوية: صدقت، سل تعط، قال عمرو: مصر طعمة. فغضب مروان بن الحكم، وقال: ما بالي لا أشترى، فقال معاوية: اسكت يا بن عم، فإنما يشترى لك الرجال. فكتب معاوية لعمرو: مصر طعمة. كتاب معاوية إلى أهل مكة والمدينة وجوابهما قال: وذكروا أن معاوية قال لعمرو: إني أريد أن أكتب إلى أهل مكة والمدينة كتابا أذكر فيه قتل عثمان، فإما أن ندرك به حاجتنا، أو نكفهم عن المسير. فقال له عمرو: إلى من تكتب؟ قال إلى ثلاثة نفر: رجل لعلي لا يريد غيره، ولا يزيده كتابنا فيه إلا بصيرة، أو رجل يهوى عثمان، فلا يزيده على ما هو عليه، أو رجل معتزل لا يريد القتال (3). قال عمرو: على ذلك؟ قال: نعم. قال: اكتب، فكتب إلى أهل مكة والمدينة: أما بعد، فإنه مهما غاب عنا فإنه لم يفت علينا أن عليا قتل عثمان، والدليل على ذلك أن قتلته عنده، وإنما نطلب بدمه حتى يدفع إلينا قتلته، فنقتلهم بكتاب الله تعالى، فإن دفعهم إلينا كففنا عنه،

(هامش)

(1) في الأخبار الطوال: كسر السجن وهرب نحو مصر فيمن كان معه من أصحابه، وهو من أعدى الناس لنا. (2) في الأخبار الطوال: والثالثة فإن جريرا قدم رسولا لعلي بن أبي طالب يدعونا إلى البيعة له أو إيذان بحرب. (3) زيد في ابن الأعثم 2 / 415: لا يلتفت إلى كتابك. (*)

ص 119

وجعلناها شورى بين المسلمين، على ما جعلها عمر بن الخطاب، فأما الخلافة فلسنا نطلبها، فأعينونا (1) يرحمكم الله، وانهضوا من ناحيتكم. جوابهما قال: وذكروا أنه لما قرأ عليهم كتابه اجتمع رأيهم على أن يسندوا أمرهم إلى المسور بن مخرمة، فجاوب عنهم، فكتب إليه: أما بعد، فإنك أخطأت خطأ عظيما، وأخطأت مواضع النصرة، وتناولتها من مكان بعيد، وما أنت والخلافة يا معاوية، وأنت طليق، وأبوك من الأحزاب. فكف عنا، فليس لك قبلنا ولي ولا نصير (2)

. كتاب معاوية إلى ابن عمر قال:

 وذكروا أن معاوية كتب إلى ابن عمر كتابا خاصا، دون كتابه إلى أهل المدينة (3): أما بعد، فإنه لم يكن أحد من قريش أحب إلي أن يجتمع الناس عليه منك بعد عثمان، فذكرت خذلك إياه، وطعنك على أنصاره، فتغيرت لك، وقد هون ذلك علي خلافك على علي، وطعنك عليه، وردني إليك بعض ما كان منك، فأعنا يرحمك الله على حق هذا الخليفة المظلوم، فإني لست أريد الإمارة عليك، ولكني أريدها لك، فإن أبيت كانت شورى بين المسلمين. جوابه فكتب إليه عبد الله بن عمر: أما بعد، فإن الرأي الذي أطمعك في هذا هو الذي صيرك إلى ما صيرك. تركت عليا من المهاجرين والأنصار، وتركت طلحة والزبير وعائشة، وأتبعك فيمن اتبعك؟! وأما قولك إني طعنت على علي فلعمري ما أنا كعلي في الإسلام والهجرة، ومكانه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أحدث أمرا لم يكن إلينا فيه من رسول الله صلى عليه

(هامش)

(1) في ابن الأعثم 2 / 416 فأجيبوا. (2) نسب ابن أبي الحديد في شرح النهج ص 258 هذا الرد إلى عبد الله بن عمر. (3) قيل إن معاوية كتب إلى عبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة بعد ما جاءه رد أهل المدينة. (*)

ص 120

وسلم عهد، ففزعت إلى الوقوف، وقلت: إن كان هذا فضلا تركته، وإن كان ضلالة فشر منه نجوت، فأغن عن نفسك.

كتاب معاوية إلى سعد بن أبي وقاص

 قال: وذكروا أن معاوية كتب إلى سعد بن أبي وقاص: أما بعد، فإن أحق الناس بنصرة عثمان أهل الشورى، والذين أثبتوا حقه، واختاروه على غيره، وقد نصره طلحة والزبير، وهما شريكاك في الأمر والشورى، ونظيراك في الإسلام، وخفت لذلك أم المؤمنين، فلا تكرهن ما رضوا، ولا تردن ما قبلوا، فإنما نردها شورى بين المسلمين. جواب سعد بن أبي وقاص لمعاوية قال: وذكروا أن سعدا كتب إليه: أما بعد، فإن أهل الشورى ليس منهم أحق بها من صاحبه، غير أن عليا كان من السابقة، ولم يكن فينا ما فيه، فشاركنا في محاسننا، ولم نشاركه في محاسنه، وكان أحقنا كلنا بالخلافة، ولكن مقادير الله تعالى التي صرفتها عنه، حيث شاء لعلمه وقدره. وقد علمنا أنه أحق بها منا، ولكن لم يكن بد من الكلام في ذلك والتشاجر، فدع ذا. وأما أمرك يا معاوية، فإنه أمر كرهنا أوله وآخره (1). وأما طلحة والزبير فلو لزما بيوتهما لكان خيرا لهما. والله تعالى يغفر لعائشة أم المؤمنين.

 كتب معاوية إلى محمد بن مسلمة الأنصاري

 وكان فارس الأنصار رضي الله عنهم، وذا النجدة فيهم: أما بعد، فإني لم أكتب إليك وأنا أرجو مبايعتك، ولكني أذكرك النعمة التي خرجت منها، إنك كنت فارس الأنصار، وعدة المهاجرين، فادعيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرا لم تستطع فيه الامضاء، فهذا أعني، وعن قتال أهل الصلاة (2). فهلا نهيت أهل الصلاة عن قتل بعضهم بعضا؟ أو ترى أن عثمان وأهل الدار ليسوا بمسلمين؟ وأما قومك الأنصار فقد عصوا الله تعالى، وخذلوا عثمان، وسائلهم وسائلك الله تعالى عن الذي كان يوم القيامة.

(هامش)

(1) في فتوح ابن الأعثم 2 / 421 وكذلك نكره آخره. (2) في شرح النهج لابن أبي الحديد 1 / 580: وهو أنه نهاك عن قتال أهل القبلة. (*)

 

الصفحة السابقة الصفحة التالية

الإمامة والسياسة (ج1)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب