الصفحة السابقة الصفحة التالية

الإمامة والسياسة (ج1)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 121

جوابه قال: وذكروا أن محمد بن مسلمة كتب إليه: أما بعد، فقد اعتزل هذا الأمر من ليس في يده من رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الذي في يدي، وقد أخبرت بالذي هو كائن قبل أن يكون، فلما كان كسرت سيفي، ولزمت بيتي (1)، واتهمت الرأي على الدين، إذ لم يصح لي معروف آمر به، ولا منكر أنهى عنه، ولعمري يا معاوية ما طلبت إلا الدنيا، ولا اتبعت إلا الهوى، ولئن كنت نصرت عثمان ميتا، لقد خذلته حيا، ونحن ومن قبلنا من المهاجرين والأنصار أولى بالصواب. قال: فلما أجاب القوم بما أجابوه، من الخلاف إلى ما دعاهم إليه قال له عمرو: كيف رأيت يا معاوية رأيي ورأيك، أخبرتك بالأمر قبل أن يقع، قال معاوية: رجوت ما خفت.

 كتاب معاوية إلى علي رضي الله عنه

 قال: وذكروا أن معاوية كتب إلى علي. أما بعد، فلعمري لو بايعك القوم الذين بايعوك وأنت برئ من دم عثمان، كنت كأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، ولكنك أغريت بعثمان المهاجرين، وخذلت عنه الأنصار، فأطاعك الجاهل، وقوي بك الضعيف، وقد أبي أهل الشام إلا قتالك، حتى تدفع إليهم قتلة عثمان، فإذا دفعتهم كانت شورى بين المسلمين، وقد كان أهل الحجاز الحكام على الناس وفي أيديهم الحق، فلما تركوه صار الحق في أيدي أهل الشام، ولعمري ما حجتك على أهل الشام كحجتك على أهل البصرة، ولا حجتك على طلحة والزبير، لأن أهل البصرة بايعوك (2)، ولم يبايعك أحد من أهل الشام، وإن طلحة والزبير بايعاك ولم أبايعك. وأما فضلك في الإسلام، وقرابتك من النبي عليه الصلاة والسلام، فلعمري ما أدفعه ولا أنكره (3).

(هامش)

(1) يروى أن محمد بن مسلمة قال: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفا فقال: قاتل به المشركين ما قوتلوا، فإذا رأيت أمتي يضرب بعضهم بعضا فأئت به أحدا فاضرب به حتى ينكسر، ثم اجلس في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة أو منية خاطئة (الإصابة رقم 7800). (2) في الكامل للمبرد 1 / 424: أطاعوك، ولم يطعك.. (3) قارن مع: العقد الفريد 4 / 333 وقعة صفين ص 56 وابن الأعثم 2 / 430 والكامل للمبرد 1 / 423 - 424. (*)

ص 122

جواب علي إلى معاوية قالوا: فكتب إليه علي: أما بعد، فقد جاءني منك كتاب امرئ ليس له بصر يهديه (1)، ولا قائد يرشده، دعاه الهوى فأجابه، وقاده فاستقاده. زعمت أنك إنما أفسد عليك بيعتي خطيئتي في عثمان، ولعمري ما كنت إلا رجلا من المهاجرين، أوردت كما أوردوا وأصدرت كما أصدروا، وما كان الله ليجمعهم على الضلال، ولا ليضربهم بالعمى، وما أمرت فيلزمني خطيئة عثمان، ولا قتلت فيلزمني قصاص القاتل. أما قولك إن أهل الشام هم الحكام على الناس، فهات رجلا من قريش الشام يقبل في شورى، أو تحل له الخلافة، فإن سميت كذبك المهاجرون والأنصار، وإلا أتيتك به من قريش الحجاز. وأما قولك ندفع إليك قتلة عثمان فما أنت وعثمان؟ (2) إنما أنت رجل من بني أمية، وبنو عثمان أولى بعثمان منك، فإن زعمت أنك أقوى على ذلك، فادخل في الطاعة، ثم حاكم القوم إلي. وأما تمييزك بين الشام والبصرة وذكرك طلحة والزبير، فلعمري ما الأمر إلا واحد، إنها بيعة عامة، لا ينثني عنها البصير، ولا يستأنف فيها الخيار، وأما ولوعك بي في أمر عثمان، فوالله ما قلت ذلك عن حق العيان ولا عن يقين الخبر، وأما فضلي في الإسلام، وقرابتي من رسول الله عليه الصلاة والسلام، وشرفي في قريش، فلعمري لو استطعت دفعه لدفعته (3).

 قدوم عبيد الله بن عمر على معاوية

 قال: وذكروا أن عبيد الله بن عمر قدم على معاوية الشام، فسر به سرورا شديدا وسر به أهل الشام، وكان أشد قريش سرورا به عمرو بن العاص فقال معاوية لعمرو: ما منع عبد الله أن يكون كعبيد الله؟ فضحك عمرو، وقال: شبهت غير شبيه، إنما أتاك عبيد الله مخافة أن يقتله علي بقتله الهرمزان (4)، ورأى عبد الله

(هامش)

(1) قال المبرد: قوله ليس له بصر يهديه فمعناه يقوده، والهادي وهو الذي يتقدم فيدل. (2) معناه لست منه في شيء. (3) الكتاب في: وقعة صفين ص 57 - 58 العقد الفريد 4 / 333 - 334 ابن الأعثم 2 / 431 - 432 الكامل للمبرد 1 / 428. باختلاف وزيادة. (4) وكان عبيد الله بن عمر بن الخطاب وبعد طعن عمر ووفاته قتل الهرمزان، وإذا بويع عثمان بن عفان قال لجماعة من المهاجرين والأنصار: أشيروا علي في هذا الذي فتق في الإسلام ما فتق، فقال علي: أرى أن تقتله (الطبري 5 / 41 - 42 وانظر تاريخ اليعقوبي 2 / 161). (*)

ص 123

ألا يكون عليك ولا لك، ولو كان معك لنفعك أو عليك لضرك.  معاوية أهل الشام لقتال علي قال: وذكروا أن معاوية بعث إلى رؤساء أهل الشام، فجمعهم ثم قال: أنتم أهل الفضل، فليقم كل رجل منكم يتكلم، فقام رجل فقال: أما والله لو شهدنا أمر عثمان، فعرفنا قتلته بأعيانهم لاستغنينا عن إخبار الناس، ولكنا نصدقك على ما غاب عنا، وإن أبغض الناس إلينا من يقاتل علي بن أبي طالب لقدمه في الإسلام، وعلمه بالحرب. ثم قام حوشب فقال: والله ما إياك ننصر، ولا لك نغضب، ولا عنك نحامي، ما ننصر إلا الله، ولا نغضب إلا للخليفة، ولا نحامي إلا عن الشام، فلف الخيل بالخيل، والرجال بالرجال، وقد دعونا قومنا إلى ما دعوتنا إليه أمس، وأمرناهم بما أمرتنا به، فجعلوك بيننا وبين الله، ونحن بينك وبينهم، فمرنا بما تحب، وانهنا عما تكره. قال: فلما عزم معاوية على المسير إلى صفين عبأ أهل الشام، فجعل على مقدمته أبا الأعور السلمي، وعلى ساقته بسر بن أرطأة، وعلى الخيل عبيد الله بن عمر، ودفع اللواء إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وعلى الميمنة يزيد العبسي، وعلى الميسرة عبد الله بن عمرو بن العاص (1)، ثم قال: يا أهل الشام، إنكم قد سرتم لتمنعوا الشام، وتأخذوا العراق، ولعمري ما للشام رجال العراق وأموالها، ولا لأهل العراق بصر أهل الشام ولا بصائرهم، مع أن القوم بعدهم غيرهم مثلهم، وليس بعدكم غيركم، فإن غلبتموهم فلم تغلبوا إلا من قد أتاكم، وإن غلبوكم عاقبوا من بعدكم، والقوم لاقوكم ببصائر أهل الحجاز، ورقة أهل اليمن، وقسوة أهل مصر، وكيد أهل العراق، وإنما يبصر غدا من أبصر اليوم، فاستعينوا بالصبر والصلاة، إن الله مع الصابرين. ثم سار معاوية في ثلاثة آلاف وثمانين ألفا (2)، حتى نزل بصفين، وذلك

(هامش)

(1) أنظر فيمن استعمله معاوية على الألوية وقعة صفين ص 206 وفتوح ابن الأعثم 2 / 437. والأخبار الطوال ص 167. باختلاف. (2) في مروج الذهب 2 / 416: 85 ألفا. قال ابن الأعثم واجتمعت إليه العساكر من أطراف البلاد فصار في 120 ألف. وفي العقد الفريد: في بضع وثمانين ألفا. (*)

ص 124

في نصف محرم، وسبق إلى سهولة الأرض، وسعة المناخ، وقرب الفرات، وكتب إلى علي يخبره بمسيره.

 تعبئة أهل العراق للقتال

 قال: وذكروا أن عليا لما بلغه تأهب معاوية قال: أيها الناس، إنما بايع معاوية أهل الشام، وليس له غيرهم ولي ولا نصير، وإنكم أهل الحجاز، وأهل العراق، وأهل اليمن، وأهل مصر، وقد جعل القوم معاوية بينهم وبين الله، وليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة، وقد وادع القوم الروم، فإن غلبتموهم استعانوا بهم، ولحقوا بأرضهم، وإن غلبوكم فالغاية الموت، والمفر إلى الله العزيز الحكيم. وقد زعم معاوية أن أهل الشام أهل صبر ونصر، ولعمري لأنتم أولى بذلك منهم، لأنكم المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان، وإنما الصبر اليوم، والنصر غدا. قال: فجد الناس ونشطوا وتأهبوا، فسار علي بالناس من الكوفة في مئة ألف وتسعين ألفا (1)، فجعل على المقدمة الأشتر النخعي، وعلى ساقته شريح بن هانئ، وعلى المهاجرين والأنصار محمد بن أبي بكر، وعلى أهل البصرة عبد الله بن عباس، وعلى الكوفة عبد الله بن جعفر، وعلى جماعة الخيل عمار بن ياسر، وعلى القلب الحسن بن علي (2)، وسار علي حتى نزل صفين، وقد سبقه معاوية إلى سهولة الأرض. وسعة المناخ، وقرب الفرات.

 منع معاوية الماء من أصحاب علي

قال: وذكروا أنه لما نزل معاوية بصفين، بعث أبا الأعور بمن معه، ليحولوا بينهم وبين الفرات (3)، وأن أهل العراق لما نزلوا بعثوا غلمانهم ليستقوا لهم من الفرات، فحالت خيل معاوية بينهم وبين الماء، فانصرفوا، فساروا إلى

(هامش)

(1) في مروج الذهب: تسعين ألفا. وفي العقد الفريد: في خمسة وتسعين ألفا. (2) أنظر فيمن استعمله علي على الألوية وقعة صفين ص 204 - 205. (3) وكان معاوية قد انتهى إلى جانب شريعة على الفرات وليس في ذلك الصقع شريعة غيرها وجعلها في حيزه وحماها ومنعها عن أصحاب علي، وما عداها أخراق عالية، ومواضع إلى الماء وعرة. (الطبري 5 / 240 ومروج الذهب 2 / 416 الأخبار الطوال ص 168). (*)

ص 125

علي، فأخبروه فقال علي للأشعث (1): اذهب إلى معاوية، فقل له: إن الذي جئنا له غير الماء، ولو سبقناك إليه لم نحل بينك وبينه، فإن شئت خليت عن الماء، وإن شئت تناجزنا عليه وتركنا ما جئنا له. فانطلق الأشعث إلى معاوية، فقال له: إنك تمنعنا الماء وأيم الله لنشربنه، فمرهم يكفوا عنه قبل أن نغلب عليه، والله لا نموت عطشا وسيوفنا على رقابنا. فقال معاوية لأصحابه: ما ترون؟ فقال رجل منهم (2): نرى أن نقتلهم عطشا، كما قتلوا عثمان ظلما. فقال عمرو بن العاص: لا تظن يا معاوية أن عليا يظمأ وأعنة الخيل بيده، وهو ينظر إلى الفرات، حتى يشرب أو يموت دونه، خل عن القوم يشربوا. فقال معاوية: هذا والله أول الظفر، لا سقاني الله من حوض الرسول إن شربوا منه، حتى يغلبوني عليه. فقال عمرو: وهذا أول الجور، أما تعلم أن فيهم العبد والأجير والضعيف ومن لا ذنب له؟ لقد شجعت الجبان، وحملت من لا يريد قتالك على قتالك. غلبة أصحاب علي على الماء قال: وذكروا أن معاوية لما غلب على الماء اغتم علي لما فيه الناس من العطش، فخرج ليلا والناس يشكون بعضهم إلى بعض، مخافة أن يغلب أهل الشام على الماء، فقال الأشعث: يا أمير المؤمنين، أيمنعنا القوم الماء وأنت فينا ومعنا السيوف؟ خل عنا وعن القوم، فوالله لا أرجع إليك حتى أرده، أو أموت دونه، وأمر الأشتر أن يعلو الفرات في الخيل، حتى آمره بأمري. فقال علي: ذلك لك. فانصرف الأشعث، فنادى في الناس: من كان يريد الماء فميعاده الصبح، فإني ناهض إلى الماء، فأجابه بشر كثير (3)، فتقدم الأشعث في الرجالة، والأشتر في الخيل، حتى وقفا على الفرات، فلم يزل الأشعث في الرجالة يمضي، حتى خالط القوم، ثم حسر عن رأسه، فنادى: أنا الأشعث بن قيس،

(هامش)

(1) في الأخبار الطوال وفتوح ابن الأعثم 3 / 1 أن عليا بعث شبث بن ربعي وصعصعة بن صوحان العبدي لمناقشة معاوية بشأن الوصول إلى الماء. (2) عند ابن الأثير 2 / 364 أن الوليد بن عقبة وعبد الله بن سعد بن أبي سرح هما من أشارا على معاوية بمنع الماء. وفي آخر الخبر يقول: وقد قيل إن الوليد وابن أبي سرح لم يشهدا صفين. (الطبري 5 / 242 والأخبار الطوال ص 168 والإصابة). (3) أجابه نيف عن عشرة آلاف. (*)

ص 126

خلوا عن الماء. فقال أبو الأعور: أما والله قبل أن تأخذنا وإياكم السيوف فلا. فقال الأشعث: أظنها والله قد دنت منا ومنكم. قال: وبعث الأشعث إلى الأشتر أن أقحم الخيل، فأقحمها الأشتر، حتى وضع سنابكها في الفرات، وحمل الأشتر في الرجالة، فأخذت القوم السيوف فانكشف أبو الأعور وأصحابه، وبعث الأشتر إلى علي: هلم يا أمير المؤمنين، قد غلب الله لك على الماء، فلما غلب أهل العراق على الماء، شمت عمرو بن العاص بمعاوية، وقال: يا معاوية، ما ظنك إن منعك علي الماء اليوم كما منعته أمس؟ أتراك ضاربهم كما ضربوك؟ فقال: دع ما مضى عنك فإن عليا لا يستحل منك ما استحللت منه، وإن الذي جاء له غير الماء (1).

 دعاء علي معاوية إلى البراز

 قال: وذكروا أن الناس مكثوا بصفين أربعين ليلة: يغدون إلى القتال ويروحون، فأما القتال الذي كان فيه الفناء فثلاثة أيام (2). فلما رأى علي كثرة القتال والقتل في الناس، برز يوما من الأيام ومعاوية فوق التل، فنادى بأعلى صوته: يا معاوية فأجابه فقال: ما تشاء يا أبا الحسن؟ قال علي: علام يقتتل الناس ويذهبون؟ على ملك إن نلته كان لك دونهم؟ وإن نلته أنا كان لي دونهم؟ أبرز إلي ودع الناس، فيكون الأمر لمن غلب. قال عمرو بن العاص: أنصفك الرجل يا معاوية. فضحك معاوية وقال: طمعت فيها يا عمرو (3)، فقال عمرو: والله ما أراه يجمل بك إلا أن تبارزه. فقال معاوية: ما أراك إلا مازحا، نلقاه بجمعنا.

(هامش)

(1) وفي ذلك يقول النجاشي: كشف الأشعث عنا * كربة الموت عيانا ويقول عمرو بن العاص شامتا بمعاوية: أمرتك أمرا ففسخته * لرأي رأى ابن أبي سرحة وقد شرب القوم ماء الفرات * وقلدك الأشعث الفضحة (2) وهي: الوقعة المعروفة بوقعة الخميس (وقعة صفين ص 362) وليلة الهرير (وقعة صفين ص 475). ويوم الهرير وهو اليوم الأعظم في معركة صفين (وقعة صفين ص 479). (3) والله يا عمرو إن تريد إلا أن أقتل فتصيب الخلافة بعدي، اذهب إليك، فليس مثلي يخدع. (وقعة صفين ص 316 و388). (*)

ص 127

براز عمرو بن العاص لعلي قال: وذكروا أن عمرا قال لمعاوية: أتجبن عن علي، وتتهمني في نصيحتي إليك؟ والله لأبارزن عليا ولو مت ألف موتة في أول لقائه. فبارزه عمرو (1)، فطعنه علي فصرعه، فاتقاه بعورته فانصرف عنه علي، وولى بوجهه دونه. وكان علي رضي الله عنه لم ينظر قط إلى عورة أحد، حياء وتكرما، وتنزها عما لا يحل ولا يجمل بمثله، كرم الله وجهه.

 قطع الميرة عن أهل الشام

 قال: وذكروا أن عليا دعا زجر بن قيس، فقال له: سر في بعض هذه الخيل إلى القطقطانة (2)، فاقطع الميرة عن معاوية، ولا تقتل إلا من يحل لك قتله، وضع السيف موضعه، فبلغ ذلك معاوية، فدعا الضحاك بن قيس، فأمره أن يلقى زحر بن قيس فيقاتله، فسار الضحاك فلقيه زحر فهزمه، وقتل من أصحابه، وقطع الميرة عن أهل الشام، ورجع الضحاك إلى معاوية منهزما، فجمع معاوية الناس، فقال: أتاني خبر من ناحية من نواحي، أمر شديد، فقالوا: يا أمير المؤمنين، لسنا في شيء مما أتاك، إنما علينا السمع والطاعة، وبلغ عليا قول معاوية وقول أهل الشام، فأراد أن يعلم ما رأي أهل العراق، فجمعهم، فقال: أيها الناس إنه أتاني خبر من ناحية من نواحي. فقال ابن الكواء وأصحابه: إن لنا في كل أمر رأيا، فما أتاك فأطلعنا عليه، حتى نشير عليك. فبكى علي، ثم قال: ظفر والله ابن هند باجتماع أهل الشام له، واختلافكم علي، والله ليغلبن باطله حقكم، إنما أتاني أن زحر بن قيس ظفر بالضحاك، وقطع الميرة، وأتى معاوية هزيمة صاحبه، فقال: يا أهل الشام، إنه أتاني أمر شديد، فقلدوه أمرهم، واختلفتم علي. فقام قيس بن سعد، فقال: أما والله لنحن كنا أولى بالتسليم من أهل الشام.

(هامش)

(1) في وقعة صفين أن عمرو بن العاص صارع عليا ولم يعرفه حيث قال لمعاوية ص 407: أما والله أن لو عرفته ما أقحمت عليه. (2) القطقطانة: موضع بالكوفة. (*)

ص 128

قدوم أبي هريرة وأبي الدرداء (1) على معاوية وعلي

 قال: وذكروا أن أبا هريرة وأبا الدرداء قدما على معاوية من حمص، وهو بصفين، فوعظاه وقالا له: يا معاوية، علام تقاتل عليا وهو أحق بهذا الأمر منك في الفضل والسابقة؟ لأنه رجل من المهاجرين الأولين، السابقين بإحسان، وأنت طليق، وأبوك من الأحزاب. أما والله ما نقول لك أن تكون العراق أحب إلينا من الشام، ولكن البقاء أحب إلينا من الفناء، والصلاح أحب إلينا من الفساد. فقال معاوية: لست أزعم أني أولى بهذا الأمر من علي، ولكني أقاتله حتى يدفع إلي قتلة عثمان. فقالا: إذا دفعهم إليك ماذا يكون؟ قال: أكون رجلا من المسلمين، فأتيا عليا فإن دفع إليكما قتلة عثمان جعلتها شورى. فقدما على عسكر علي، فأتاهما الأشتر، فقال: يا هذان إنه لم ينزلكما الشام حب معاوية، وقد زعمتما أنه يطلب قتلة عثمان، فعمن أخذتما ذلك فقبلتماه؟ أعمن قتله فصدقتموهم على الذنب، كما صدقتموهم على القتل؟ أم عمن نصره، فلا شهادة لمن جر إلى نفسه، أم عمن اعتزلوا، إذ علموا ذنب عثمان وقد علموا ما الحكم في قتله؟ أم عن معاوية وقد زعم أن عليا قتله؟ اتقيا الله، فإننا شهدنا وغبتما، ونحن الحكام على من غاب. فانصرفا ذلك اليوم، فلما أصبحا أتيا عليا، فقالا له: إن لك فضلا لا يدفع (2)، وقد سرت مسير فتى إلى سفيه من السفهاء، ومعاوية يسألك أن تدفع إليه قتلة عثمان، فإن فعلت ثم قاتلك كنا معك. قال علي: أتعرفانهم؟ قالا: نعم. قالا: فخذ أهم، فأتيا محمد بن أبي بكر، وعمار بن ياسر، والأشتر (3)، فقالا: أنتم من قتلة عثمان وقد أمرنا بأخذكم، فخرج إليهما أكثر من عشرة آلاف رجل، فقالوا: نحن قتلنا عثمان، فقالا: نرى أمرا شديدا ألبس علينا الرجل. وإن أبا هريرة وأبا الدرداء انصرفا إلى منزلهما بحمص، فلما قدما حمص لقيهما عبد الرحمن بن عثمان (4)، فسألهما عن مسيرهما، فقص عليه

(هامش)

(1) في الأخبار الطوال ص 170 أبو أمامة الباهلي وأبو الدرداء. والمشهور أن أبا الدرداء مات في خلافة عثمان. (أنظر الإصابة 5 / 46 وتهذيب التهذيب 8 / 176). والخبر في فتوح ابن الأعثم 3 / 94. (2) زيد عند ابن الأعثم: وشرفا لا ينكر. (3) زيد عند ابن الأعثم: وعدي بن حاتم وعمرو بن الحمق وفلان وفلان وفلان. (4) عند ابن الأعثم: عبد الرحمن بن غنم الأشعري صاحب معاذ بن جبل. (*)

ص 129

القصة، فقال العجب منكما أنكما من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما والله لئن كففتما أيديكما ما كففتما ألسنتكما، أتأتيان عليا وتطلبان إليه قتلة عثمان وقد علمتما أن المهاجرين والأنصار لو حرموا دم عثمان نصروه، وبايعوا عليا على قتلته، فهل فعلوا؟ وأعجب من ذلك رغبتكما عما صنعوا، وقولكما لعلي: اجعلها شورى، واخلعها من عنقك، وإنكما لتعلمان أن من رضي بعلي خير ممن كرهه، وأن من بايعه خير ممن لم يبايعه، ثم صرتما رسولي رجل من الطلقاء، لا تحل له الخلافة، ففشا قوله وقولهما، فهم معاوية بقتله، ثم راقب فيه عشيرته.

 وقوع عمرو بن العاص في علي

وذكروا أن رجلا من همذان يقال له برد قدم على معاوية، فسمع عمرا يقع في علي، فقال له: يا عمرو، إن أشياخنا سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه، فحق ذلك أم باطل؟ فقال عمرو: حق، وأنا أزيدك أنه ليس أحد من صحابة رسول الله له مناقب مثل مناقب علي، ففزع الفتى، فقال عمرو: إنه أفسدها بأمره في عثمان، فقال برد: هل أمر أو قتل؟ قال: لا، ولكنه آوى ومنع. قال: فهل بايعه الناس عليها؟ قال: نعم. قال: فما أخرجك من بيعته؟ قال: اتهامي إياه في عثمان. قال له: وأنت أيضا قد اتهمت؟ قال: صدقت فيها خرجت إلى فلسطين، فرجع الفتى إلى قومه فقال: إنا أتينا قوما أخذنا الحجة عليهم من أفواههم. علي على الحق فاتبعوه. كتاب معاوية إلى أبي أيوب الأنصاري (1) قال: وذكروا أن معاوية كتب إلى أبي أيوب الأنصاري، وكان أشد الأنصار على معاوية: أما بعد، فإني ناسيتك ما لا تنسى الشيباء. فلما قرأ كتابه أتى به عليا، فأقرأه إياه. قال علي: يعني بالشيباء المرأة الشمطاء (2) لا تنسى ثكل ابنها،

(هامش)

(1) هو خالد بن زيد بن كليب الأنصاري، كان سيدا معظما من سادات الأنصار، نزل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة فأقام عنده حتى بنى بيوته ومسجده مات بالقسطنطينية سنة 52. (2) في وقعة صفين ص 366: الشيباء المرأة البكر ليلة افتضاضها لا تنسى بعلها الذي افترعها أبدا. (*)

ص 130

فأنا لا أنسى قتل عثمان. فكتب إليه أبو أيوب: إنه لا تنسى الشيباء ثكل ولدها، وضربتها مثلا لقتل عثمان، فما نحن وقتلة عثمان؟ إن الذي تربص بعثمان، وثبط أهل الشام عن نصرته لأنت، وإن الذين قتلوه غير الأنصار، والسلام.

 ما خاطب به النعمان بن بشير قيس بن سعد

 قال: وذكروا أن النعمان بن بشير الأنصاري وقف بين الصفين (1)، فقال: يا قيس بن سعد، أما أنصفكم من دعاكم إلى ما رضي لنفسه، إنكم يا معشر الأنصار أخطأتم في خذل عثمان يوم الدار، وقتلكم أنصاره يوم الجمل، وإقحامكم على أهل الشام بصفين، فلو كنتم إذ خذلتم عثمان خذلتم عليا، كان هذا بهذا، ولكنكم خذلتم حقا، ونصرتم باطلا، ثم لم ترضوا أن تكونوا كالناس، حتى أشعلتم الحرب، ودعوتم إلى البراز، فقد والله وجدتم رجال الحرب من أهل الشام سراعا إلى برازكم، غير أنكاس عن حربكم، ثم لم ينزل بعلي أمر قط إلا هونتم عليه المصيبة، ووعدتموه الظفر، وقد والله أخلفتموه، وهان عليكم بأسكم، وما كنتم لتخلوا به أنفسكم، من شدتكم في الحرب، وقدرتكم على عدوكم، وقد أصبحتم أذلاء على أهل الشام، لا يرون حربكم شيئا، وأنتم أكثر منهم عددا ومددا، وقد والله كاثروكم بالقلة، فكيف لو كانوا مثلكم في الكثرة؟ والله لا تزالون أذلاء في الحرب بعدها أبدا، إلا أن يكون معكم أهل الشام، وقد أخذت الحرب منا ومنكم ما قد رأيتم، ونحن أحسن بقية، وأقرب إلى الظفر، فاتقوا الله في البقية. فضحك قيس وقال: والله ما كنت أراك يا نعمان تجترئ على هذا المقام (2)، أما المنصف المحق فلا ينصح أخاه من غش نفسه، وأنت والله الغاش لنفسه، المبطل فيم انتصح غيره، أما ذكرك عثمان فإن كان الإيجاز يكفيك فخذه، قتل عثمان من لست خيرا منه، وخذله من هو خير منك، وأما أصحاب الجمل فقاتلناهم على النكث، وأما معاوية فلو اجتمعت العرب على بيعته

(هامش)

(1) لم يكن مع معاوية من الأنصار غيره ومسلمة بن مخلد وكان معاوية قد أغضبهما وهما أن ينصرفا إلى قومهما ثم استرضاهما، وزجا معاوية النعمان أن يكلم قيس بن عبادة ويسأله السلم (أنظر وقعة صفين ص 448 وقد ذكر الخبر فيها باختلاف وزيادة). (2) في وقعة صفين: على هذه المقالة (*)

ص 131

لقاتلتهم الأنصار، وأما قولك: إنا لسنا كالناس، فنحن في هذه الحرب كما كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نتقي السيوف بوجوهنا، والرماح بنحورنا، حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون. ولكن أنظر يا نعمان: هل ترى مع معاوية إلا طليقا أعرابيا، أو يمانيا مستدرجا؟ وانظر أين المهاجرون والأنصار، والتابعون بإحسان، الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه؟ ثم انظر هل ترى مع معاوية غيرك وغير صويحبك (1)، ولستما والله بدريين، ولا عقبيين [ولا أحديين]، ولا لكما سابقة في الإسلام، ولا آية في القرآن (2).

 كتاب عمرو إلى ابن عباس

 قال: وذكروا أن معاوية قال لعمرو بن العاص: إن رأس أهل العراق (3) مع علي عبد الله بن عباس، فلو ألقيت إليه كتابا ترفق فيه، فإن قال شيئا لم يخرج منه علي، وقد أكلتنا هذه الحرب، ولا أرانا نطيق العراق إلا بهلاك الشام. فقال له عمرو: إن ابن عباس لا يخدع، ولو طمعت فيه طمعت في علي. قال معاوية: على ذلك. فكتب عمرو إلى ابن عباس: أما بعد، فإن الذي نحن وأنت فيه ليس أول أمر قاده البلاء، وساقته العافية، وإنك رأس هذا الجمع بعد علي، فانظر فيما بقي بغير ما مضى، فوالله ما أبقت هذه الحرب لنا ولا لكم حياة ولا صبرا. واعلم أن الشام لا تهلك إلا بهلاك العراق، وأن العراق لا تهلك (4) إلا بهلاك الشام، فما خيرنا بعد أعدادنا منكم؟ وما خيركم بعد أعدادكم منا؟ ولسنا نقول: ليت الحرب عادت (5)، ولكنا نقول: ليتها لم تكن. وإن فينا لمن يكره البقاء كما فيكم، وإنما هما ثلاثة: أمير مطاع، أو مأمور مطيع، أو مشاور مأمون. فأما العاصي السفيه (6) فليس بأهل أن يدعى في ثقات أهل الشورى، ولا خواص أهل النجوى.

(هامش)

(1) يريد مسلمة بن مخلد. (2) زيد في وقعة صفين: ولعمري لئن شغبت علينا لقد شغب علينا أبوك إشارة إلى بشير بن سعد لما بايع أبا بكر يوم سقيفة بني ساعدة. (3) في وقعة صفين ص 410: بعد. (4) في وقعة صفين في الموضعين: لا تملك. (5) في وقعة صفين: غارت. (6) في وقعة صفين: وأما الأشتر الغليظ الطبع القاسي القلب. (*)

ص 132

جواب عبد الله بن عباس إلى عمرو بن العاص

 قال: وذكروا أنه لما انتهى كتاب عمرو إلى ابن عباس، أتى به إلى علي، فأقرأه إياه، فقال علي: قاتل الله ابن العاص، أجبه. فكتب إليه: أما بعد، فإني لا أعلم رجلا أقل حياء منك في العرب، إنك مال بك الهوى إلى معاوية، وبعته دينك بالثمن الأوكس، ثم خبطت الناس في عشواء، طمعا في هذا الملك، فلما ترامينا، أعظمت الحرب والرماء إعظام أهل الدين، وأظهرت فيها كراهية أهل الورع، لا تريد بذلك إلا تمهيد الحرب، وكسر أهل الدين، فإن كنت تريد الله فدع مصر، وارجع إلى بيتك، فإن هذه حرب ليس فيها معاوية كعلي، بدأها علي بالحق، وانتهى فيها إلى العذر، وبدأها معاوية بالبغي، وانتهى فيها إلى السرف، وليس أهل الشام فيها كأهل العراق، بايع أهل العراق عليا وهو خير منهم، وبايع أهل الشام معاوية وهم خير منه، ولست أنا وأنت فيها سواء، أردت الله، وأنت أردت مصر، وقد عرفت الشيء الذي باعدك مني، ولا أعرف الشيء الذي قربك من معاوية فإن ترد شرا لا تفتنا به، وإن ترد خيرا لا تسبقنا إليه. أمر معاوية مروان بحرب الأشتر قال: وذكروا أن معاوية دعا مروان بن الحكم، فقال: يا مروان، إن الأشتر قد غمني، فاخرج بهذه الخيل، فقاتله بها غدا. فقال مروان: ادع لها عمرا، فإنه شعارك دون دثارك. قال معاوية: وأنت نفسي دون وزيري. قال مروان: لو كنت كذلك ألحقتني به في العطاء، وألحقته بي في الحرمان، ولكنك أعطيته ما في يدك، ومنيتني ما في يدي غيرك، فإن غلبت طاب المقام، وإن غلبت خف عليك المهرب. قال معاوية: يغني الله عنك، قال: أما اليوم فلا. فدعا معاوية عمرا، فأمره بأمره، فقال: أما والله لئن فعلت لقد قدمتني كافيا، وأدخلتني ناصحا، وقد غمك القوم في مصر، فإن كان لا يرضيهم إلا أخذها فخذها، عليها لعنة الله، أما والله يا أمير المؤمنين إن مروان يباعدك منا ويباعدنا منك، ويأبى الله إلا أن يقربنا إليك.

ص 133

كتاب معاوية إلى ابن عباس (1)

قال: وذكروا أن معاوية كتب إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أما بعد، فإنكم معشر بني هاشم لستم إلى أحد أسرع منكم بالمساءة إلى أنصار عثمان، فإن يك ذلك لسلطان بني أمية، فقد ورثها عدي وتيم، وقد وقع من الأمر ما قد ترى، وأدالت هذه الحرب بعضنا من بعض، حتى استوينا فيها، فما أطمعكم فينا، وما أيأسكم منا أيأسنا منكم، وقد رجونا غير الذي كان، وخشينا دون ما وقع، ولستم ملاقينا اليوم بأحد من حدكم أمس، وقد منعنا بما كان منا الشام، وقد منعتم بما كان منكم العراق، فاتقوا الله في قريش، فما بقي من رجالها إلا ستة: رجلان بالشام، ورجلان بالعراق، ورجلان بالحجاز، فأما اللذان بالحجاز: فسعد، وعبد الله بن عمر، وأما اللذان بالشام: فأنا، وعمرو، وأما اللذان بالعراق، فعلي وأنت. ومن الستة رجلان ناصبان لك، وآخران واقفان عليك، وأنت رأس هذا الجمع اليوم وغدا، ولو بايع الناس لك بعد عثمان كنا أسرع إليك منا إلى علي. جوابه قال: وذكروا أنه لما أتى كتاب معاوية إلى ابن عباس ضحك، ثم قال، حتى متى يخطب إلي معاوية عقلي؟ وحتى متى أجمجم له عما في نفسي؟ فكتب إليه: أما بعد، فقد جاءني كتابك فأما ما ذكرت من سرعتنا بالمساءة إلى أنصار عثمان لسلطان بني أمية، فلعمري لقد أدركت في عثمان حاجتك، لقد استنصرك فلم تنصره، حتى صرت إلى ما صرت إليه، وبيني وبينك في ذلك ابن عمك، وأخو عثمان الوليد بن عقبة (2)، وأما قولك: إنه لم يبق من رجال قريش غير ستة، فما أكثر رجالها، وأحسن بقيتها، وقد قاتلك من خيارها من قاتلك، ولم يخذلنا إلا من خذلك، وأما إغراؤك إيانا بعدي وتيم، فأبو بكر وعمر كانا

(هامش)

(1) وقد جاء كتاب معاوية إلى ابن عباس بعدما رد على كتاب عمرو بن العاص، وقد رمى معاوية - كما قال - من كتابته إشغال علي وابن عباس بالكتابة، وكان معاوية قد تخوف من هجوم كبير قد يشنه على أصحابه علي وأصحابه (انظر وقعة صفين ص 414 وفتوح ابن الأعثم 3 / 254 والكتاب فيهما باختلاف وزيادة). (2) الوليد بن عقبة بن أبي معيط أخو عثمان من الرضاع. (*)

ص 134

خيرا منك ومن عثمان، كما أن عليا خير منك، وأما قولك: إنا لن نلقاك إلا بما لقيناك به، فقد بقي لك منا يوم ينسيك ما قبله، وتخاف له ما بعده، وأما قولك: إنه لو بايعني الناس استقمت فقد بايعوا عليا وهو خير مني، فلم تستقم له، وإن الخلافة لا تصلح إلا لمن كان في الشورى، فما أنت والخلافة؟ وأنت طليق الإسلام، وابن رأس الأحزاب، وابن آكلة الأكباد من قتلى بدر.

خطبة علي كرم الله وجهه

قال: وذكروا أن عليا قام خطيبا فقال: أيها الناس، ألا إن هذا القدر (1) ينزل من السماء كقطر المطر، على كل نفس بما كسبت من زيادة أو نقصان، في أهل أو مال، فمن أصابه نقصان في أهل أو مال فلا يغش نفسه، ألا وإنما المال حرث الدنيا، والعمل الصالح حرث الآخرة، وقد يجمعهما الله لأقوام، وقد دخل في هذا العسكر طمع من معاوية، فضعوا عنكم هم الدنيا بفراقها، وشدة ما اشتد منها، برجاء ما بعدها، فإن نازعتكم أنفسكم إلى غير ذلك فردوها إلى الصبر، ووطنوها على العزاء، فوالله إن أرجى ما أرجوه الرزق من الله، حيث لا نحتسب، وقد فارقكم مصقلة بن هبيرة، فآثر الدنيا على الآخرة، وفارقكم بشر بن أرطأة فأصبح ثقيل الظهر من الدماء، مفتضح البطن من المال، وفارقكم زيد بن عدي بن حاتم، فأصبح يسأل الرجعة. وأيم الله لوددت رجال مع معاوية أنهم معي، فباعوا الدنيا بالآخرة، ولوددت رجال معي أنهم مع معاوية، فباعوا الآخرة بالدنيا. قدوم ابن أبي محجن على معاوية قال: وذكروا أن عبد الله بن أبي محجن الثقفي قدم على معاوية. فقال: يا أمير المؤمنين، إني أتيتك من عند الغبي الجبان البخيل ابن أبي طالب. فقال معاوية: لله أنت! أتدري ما قلت؟ أما قولك الغبي، فوالله لو أن ألسن الناس جمعت فجعلت لسانا واحدا لكفاها لسان علي، وأما قولك إنه جبان، فثكلتك أمك، هل رأيت أحدا قط بارزه إلا قتله؟ وأما قولك إنه بخيل، فوالله لو كان له بيتان أحدهما من تبر والآخر من تبن، لأنفد تبره قبل تبنه. فقال الثقفي: فعلام

(هامش)

(1) في النهج: الأمر. (*)

ص 135

تقاتله إذا؟ قال: على دم عثمان، وعلى هذا الخاتم، الذي من جعله في يده جادت طينته، وأطعم عياله، وادخر لأهله. فضحك الثقفي ثم لحق بعلي، فقال: يا أمير المؤمنين، هب لي يدي بجرمي، لا دنيا أصبت ولا آخرة. فضحك علي، ثم قال: أنت منها على رأس أمرك، وإنما يأخذ الله العباد بأحد الأمرين. رفع أهل الشام المصاحف قال: وذكروا أن أهل العسكرين باتوا بشدة من الألم (1)، ونادى علي أصحابه، فأصبحوا على راياتهم ومصافهم، فلما رآهم معاوية وقد برزوا للقتال، قال لعمرو بن العاص: يا عمرو، ألم تزعم أنك ما وقعت في أمر قط إلا خرجت منه؟ قال: بلى، قال: أفلا تخرج مما ترى؟ قال: والله لأدعونهم إن شئت إلى أمر أفرق به جمعهم، ويزداد جمعك إليك اجتماعا، إن أعطوكه اختلفوا، وإن منعوكه اختلفوا. قال معاوية: وما ذلك؟ قال عمرو: تأمر بالمصاحف فترفع ثم تدعوهم إلى ما فيها، فوالله لئن قبله لتفترقن عنه جماعته، ولئن رده ليكفرنه أصحابه. فدعا معاوية بالمصحف، ثم دعا رجلا من أصحابه يقال له ابن هند (2)، فنشره بين الصفين، ثم نادى: الله الله في دمائنا ودمائكم الباقية، بينا وبينكم كتاب الله. فلما سمع الناس ذلك ثاروا إلى علي، فقالوا: قد أعطاك معاوية الحق، ودعاك إلى كتاب الله، فأقبل منه. ورفع صاحب معاوية المصحف وهو يقول: بيننا وبينكم هذا المصحف، ثم تلا: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم، ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون) [آل عمران: 23]، ثم نادى من لفارس من الروم؟ فقال الأشعث: والله لا نأتي هذه أبدا، ونرضى معك، أو نقاتل معك وتابعه أشراف أهل اليمن، وركنوا إلى الصلح، وكرهوا القتال.

(هامش)

(1) كان ذلك بعدما اشتدت الحرب، وبقي الناس يقتتلون ليلتهم حتى أصبحوا وقد قتل من القوم تلك الليلة أكثر من ستة وثلاثين ألفا من حجا حجة العرب، وبعدما طلعت الشمس وتعالى النهار كانت السيوف تأخذ هام الرجال، وكان مشايخ أهل الشام ينادون: الله الله في البقية، الله الله في الحرم والذرية. (2) في وقعة صفين ص 481: أبو الأعور السلمي. (وانظر الأخبار الطول ص 189). (*)

ص 136

ما تكلم به عبد الله بن عمرو وأهل العراق

 قال: وذكروا أن معاوية دعا عبد الله بن عمرو بن العاص، فأمره أن يكلم أهل العراق، فأقبل عبد الله بن عمرو، حتى إذا كان بين الصفين نادى: يا أهل العراق، أنا عبد الله بن عمرو بن العاص، إنه قد كانت بيننا وبينكم أمور للدين والدنيا، فإن تك للدين، فقد والله أسرفنا وأسرفتم (1)، وإن تك للدنيا فقد والله أعذرنا وأعذرتم (1)، وقد دعوناكم لأمر لو دعوتمونا إليه أجبناكم، فإن يجمعنا وإياكم الرضا، فذلك من الله، وإلا فاغتنموا هذه الفرجة، لعل الله أن ينعش بها الحي (2)، وينسى بها القتيل، فإن بقاء المقلد بعد الهالك قليل. فقال علي لسعد (3) بن قيس: أجب الرجل، وقد كان عبد الله بن عمرو قاتل يوم صفين بسيفين، وكان من حجته أن قال: أمرني رسول الله أن أطيع أبي. فتقدم سعد بن قيس، حتى إذا كان بين الصفين نادى: يا أهل الشام إنه كانت بيننا وبينكم أمور حامينا فيها على الدين والدنيا، وقد دعوتمونا إلى ما قاتلناكم عليه أمس، ولم يكن ليرجع أهل العراق إلى عراقهم، ولا أهل الشام إلى شامهم بأمر أجمل منه، فإن يحكم فيه بما أنزل الله فالأمر في أيدينا، وإلا فنحن نحن، وأنتم أنتم، وإن الناس ثاروا إلى علي عند كلام عبد الله بن عمرو، فقالوا: أجب القوم إلى ما دعوك إليه، فإنا دعونا عثمان إلى ما دعاك القوم إليه، فأبى فقاتلناه. فبعث علي الأشعث إلى أهل الرايات، يأمرهم أن ينقضوها ويرجعوا إلى رحالهم، حتى يبرموا رأيهم. ما خاطب به عتبة بن أبي سفيان الأشعث بن قيس قال: وذكروا أن معاوية دعا عتبة، فقال له: ألن إلى الأشعث كلاما، فإنه إن رضي بالصلح رضيت به العامة، فخرج عتبة حتى إذا وقف بين الصفين نادى الأشعث، فأتاه. فقال عتبة: أيها الرجل، إن معاوية لو كان لاقيا أحدا غيرك وغير علي لقيك، إنك رأس أهل العراق، وسيد أهل اليمن، ومن قد سلف إليه من

(هامش)

(1) في وقعة صفين ص 483: أعذرنا وأعذرتم... أسرفنا وأسرفتم. (2) في وقعة صفين: المحترف. (3) في وقعة صفين: سعيد. (*)

ص 137

عثمان ما قد سلف من الصهر والعمل، ولست كأصحابك. أما الأشتر فقتل عثمان، وأما عدي فخصص، وأما سعد بن قيس فقلد عليا دينه، وأما شريح بن هانئ وزحر بن قيس فلا يعرفان غير الهوى، وأما أنت فحاميت عن أهل العراق تكرما، وحاربت أهل الشام حمية وقد والله بلغنا منك ما أردنا، وبلغت منا ما أردت، وإنا لا ندعوك إلى ما لا يكون منك من تركك عليا، ولا نصرة معاوية ولكنا ندعوك إلى البقية، التي فيها صلاحك وصلاحنا. فتكلم الأشعث فقال: يا عتبة، أما قولك إن معاوية لا يلقى إلا عليا، فلو لقيني ما زاد ولا عظم في عيني، ولا صغرت عنه، ولئن أحب أن أجمع بينه وبين علي لأفعلن، وأما قولك: إني رأس أهل العراق وسيد أهل اليمن، فالرأس الأمير، والسيد المطاع، وهاتان لعلي، وأما ما سلف إلي من عثمان فوالله ما زادني صهره شرفا، ولا عمله غنى، وأما عيبك أصحابك، فإن هذا الأمر لا يقربك مني، وأما محاماتي عن العراق، فمن نزل بيننا حميناه، وأما البقية فلسنا بأحوج منها إليكم.

 كتاب معاوية إلى علي رضي الله عنهما

 قال: وذكروا أن عليا أظهر أنه مصبح معاوية للقتال، فبلغ ذلك معاوية ففزع أهل الشام، فانكسروا لذلك، فقال معاوية لعمرو: إني قد رأيت رأيا، أن أعيد (1) إلى علي كتابا أسأله فيه الشام. فضحك عمرو، ثم قال: أين أنت يا معاوية من خدعة علي؟ فقال معاوية: ألسنا بني عبد مناف؟ فقال: بلى ولكن لهم النبوة دونكم، فإن شئت أن تكتب فاكتب معاوية إلى علي: أما بعد، فإني أظنك أن لو علمت أن الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت لم يجنها بعضنا على بعض، وإن كنا قد غلبنا على عقولنا، فلنا منها ما نذم به ما مضى، ونصلح ما بقي، وقد كنت سألتك (2) ألا يلزمني لك طاعة ولا بيعة، فأبيت ذلك علي، فأعطاني الله ما منعت، وإني أدعوك إلى ما دعوتك إليه أمس، فإنك لا ترجو من البقاء إلا ما أرجو، ولا تخاف من الفناء إلا ما أخاف. وقد والله رقت

(هامش)

(1) وكان معاوية كان قد كتب سابقا إلى علي يطلب منه الشام فرده عنه. (2) في وقعة صفين ص 470: سألتك الشام على ألا يلزمني. (*)

ص 138

الأجناد، وذهبت الرجال، ونحن بنو عبد مناف، ليس لبعضنا على بعض فضل، إلا فضل لا يستذل به عزيز، ولا يسترق به حر. جوابه فلما انتهى كتابه إلى علي، دعا كاتبه عبيد الله بن رافع (1)، فقال: اكتب: أما بعد، فقد جاءني كتابك، تذكر أنك لو علمت وعلمنا أن الحرب تبلغ ما بلغت لم يجنها بعضنا على بعض، وأنا وإياك في غاية لم نبلغها بعد (2)، وأما طلبك إلي الشام، فإني لم أكن أعطيك اليوم ما منعتك أمس، وأما استواؤنا في الخوف والرجاء، فإنك لست أمضى على الشك مني على اليقين، وليس أهل الشام بأحرص من أهل العراق على الآخرة، وأما قولك: إنا بنو عبد مناف فكذلك، ولكن ليس أمية كهاشم، ولا حرب كعبد المطلب، ولا أبو سفيان كأبي طالب ولا المهاجر كالطليق، ولا المحق كالمبطل، وفي أيدينا فضل النبوة (3) التي قتلنا بها العزيز، وبعنا بها الحر، والسلام. فلما أتى معاوية الكتاب أقرأه عمرا، فشمت به عمرو، ولم يكن أحد أشد تعظيما لعلي من عمرو بن العاص بعد يوم مبارزته، فقال معاوية لعمرو: قد علمت أن إعظامك لعلي لما فضحك، قال عمرو: لم يفتضح امرؤ بارز عليا، وإنما افتضح من دعاه إلى البراز فلم يجبه.

 اختلاف أهل العراق في الموادعة

 قال: وذكروا أنه لما عظم الأمر، واستحر القتال، قال له رأس من أهل العراق إن هذه الحرب قد أكلتنا، وأذهبت الرجال، والرأي الموادعة. وقال بعضهم: لا بل نقاتلهم اليوم على ما قاتلناهم عليه أمس، وكانت الجماعة قد رضيت الموادعة، وجنحت إلى الصلح والمسالمة. فقام علي خطيبا فقال: أيها

(هامش)

(1) في وقعة صفين: بن أبي رافع. (2) زيد: في وقعة صفين: وإني لو قتلت في ذات الله، وحييت، ثم قتلت ثم حييت سبعين مرة، لم أرجع عن الشدة في ذات الله، والجهاد لأعداء الله، وأما قولك إنه قد بقي من عقولنا ما عدم به على ما مضى، فإني ما نقصت عقلي، ولا ندمت على فعلي. (3) في وقعة صفين: التي أذللنا بها العزيز، وأعززنا بها الذليل. (*)

ص 139

الناس، إني لم أزل من أمري على ما أحب حتى قدحتكم الحرب، وقد والله أخذت منكم وتركت، وهي لعدوكم أنهك. وقد كنت بالأمس أميرا، فأصبحت اليوم مأمورا، وكنت ناهيا فأصبحت اليوم منهيا، فليس لي أن أحملكم على ما تكرهون (1). ما رد كردوس بن هانئ على علي قال وذكروا أن كردوس بن هانئ قام فقال: أيها الناس، إنه والله ما تولينا معاوية منذ تبرأنا منه، ولا تبرأنا من علي منذ توليناه، وإن قتيلنا (2) لشهيد، وإن حينا لفائز، وإن عليا على بينة من ربه، وما أجاب القوم إلا إنصافا، وكل محق منصف فمن سلم له نجا، ومن خالفه هوى.

 ما قال سفيان (3) بن ثور

 قال: وذكروا أن سفيان (3) بن ثور قال: أيها الناس إنا دعونا أهل الشام إلى كتاب الله، فردوه علينا، فقاتلناهم، وإنهم دعونا إلى كتاب الله، فإن رددناه عليهم، حل لهم منا ما حل لنا منهم، ولسنا نخاف أن يحيف الله علينا ورسوله، وإن عليا ليس بالراجع الناكص، وهو اليوم على ما كان عليه أمس، وقد أكلتنا هذه الحرب، ولا نرى البقاء إلا في الموادعة.

ما قال حريث بن جابر [البكري]

 ثم قام حريث بن جابر، فقال: أيها الناس، إن عليا لو كان خلوا (4) من هذا الأمر لكان المرجع (5) إليه، فكيف وهو قائده وسابقه؟ وإنه والله ما قبل من القوم اليوم إلا الأمر الذي دعاهم إليه أمس، ولو رده عليهم كنتم له أعيب ولا

(هامش)

(1) قارن مع وقعة صفين ص 484 وابن الأعثم 2 / 308. (2) في وقعة صفين وابن الأعثم: وإن قتلانا لشهداء، وأحياءنا لأبرار. (3) كذا بالأصل، وفي الأخبار الطوال ص 189 ووقعة صفين ص 485 وابن الأعثم 2 / 309 شقيق. (وهو شقيق بن ثور البكري). (4) في وقعة صفين ص 485: خلفا. (5) في وقعة صفين: المفزع إليه. (*)

ص 140

يلحد في هذا الأمر إلا راجع على عقبيه، أو مستدرج مغرور، وما بيننا وبين من طعن علينا إلا السيف. ما قال خالد بن معمر [السدوسي] ثم قام خالد بن معمر، فقال: يا أمير المؤمنين، إنا والله ما أخرنا (1) هذا المقام أن يكون أحد أولى به منا، ولكن قلنا: أحب الأمور إلينا ما كفينا مؤونته، فأما إذا استغنينا فإنا لا نرى البقاء إلا فيما دعاك القوم إليه اليوم، إن رأيت ذلك، وإن لم تره فرأيك أفضل. ما قال الحصين بن المنذر (2) ثم قام الحصن بن المنذر، وكان أحدث القوم سنا، فقال: أيها الناس، إنما بني هذا الدين على التسليم، فلا تدفعوه بالقياس، ولا تهدموه بالشبهة (3)، وإنا والله لو أنا لا نقبل من الأمور إلا ما نعرف، لأصبح الحق في الدنيا قليلا، ولو تركنا وما نهوى لأصبح الباطل في أيدينا كثيرا، وإن لنا راعيا (4) قد حمدنا ورده وصدره، وهو المأمون على ما قال وفعل، فإن قال: لا، قلنا: لا، وإن قال: نعم، قلنا: نعم.

 ما قال عثمان بن حنيف

 ثم قام عثمان بن حنيف، وكان من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عاملا لعلي على البصرة، وكان له فضل، فقال: أيها الناس، اتهموا رأيكم، فقد والله كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالحديبية يوم أبي جندل وإنا لنريد القتال، إنكارا للصلح، حتى ردنا عنه رسول الله، وإن أهل الشام دعوا إلى كتاب الله اضطرارا، فأجبناهم إليه إعذارا، فلسنا والقوم سواء إنا والله ما عدلنا الحي بالحي، ولا القتيل بالقتيل، ولا الشامي بالعراقي،

(هامش)

(1) في وقعة صفين ص 485: اخترنا. (2) في الأخبار الطوال ص 189: الحضين وفي وقعة صفين ص 485 الحضين الربعي. (3) في وقعة صفين: بالشفقة. (4) في الأخبار الطوال ووقعة صفين: داعيا. (*)

ص 141

ولا معاوية بعلي، وإنه لأمر منعه غير نافع، وإعطاؤه غير ضائر، وقد كلت البصائر التي كنا نقاتل بها، وقد حمل الشك اليقين الذي كنا نؤول إليه، وذهب الحياء الذي كنا نماري به، فاستظلوا في هذا الفئ، واسكنوا في هذه العافية، فإن قلتم: نقاتل على ما كنا نقاتل عليه أمس، هيهات هيهات، ذهب والله قياس أمس، وجاء غد. فأعجب عليا قوله، وافتخرت به الأنصار، ولم يقل أحد بأحسن من مقالته.

 ما قال عدي بن حاتم

 ثم قام عدي بن حاتم، فقال: أيها الناس، إنه والله لو غير علي دعانا إلى قتال أهل الصلاة ما أجبناه، ولا وقع بأمر قط إلا ومعه من الله برهان، وفي يديه من الله سبب، وإنه وقف عن عثمان بشبهة، وقاتل أهل الجمل على النكث، وأهل الشام على البغي، فانظروا في أموركم وأمره، فإن كان له عليكم فضل، فليس لكم مثله، فسلموا له، وإلا فنازعوا عليه، والله لئن كان إلى العلم بالكتاب والسنة إنه لأعلم الناس بهما، ولئن كان إلى الإسلام إنه لأخو نبي الله، والرأس في الإسلام، ولئن كان إلى الزهد والعبادة، إنه لأظهر الناس زهدا، وأنهكهم عبادة، ولئن كان إلى العقول والنحائز (1)، إنه لأشد الناس عقلا، وأكرمهم نحيزة، ولئن كان إلى الشرف والنجدة إنه لأعظم الناس شرفا ونجدة، ولئن كان إلى الرضا، لقد رضي به المهاجرون والأنصار في شورى عمر رضي الله عنهم، وبايعوه بعد عثمان، ونصروه على أصحاب الجمل وأهل الشام، فما الفضل الذي قربكم إلى الهدى، وما النقص الذي قربه إلى الضلال، والله لو اجتمعتم جميعا على أمر واحد لأتاح الله له من يقاتل لأمر ماض، وكتاب سابق. فاعترف أهل صفين لعدي بن حاتم بعد هذا المقام، ورجع كل من تشعب على علي رضي الله عنه. ما قال عبد الله بن حجل ثم قام عبد الله بن حجل فقال: يا أمير المؤمنين، إنك أمرتنا يوم الجمل

(هامش)

(1) النحائز جمع نحيزة وهي الطبيعة. (*)

ص 142

بأمور مختلفة، كانت عندنا أمرا واحدا، فقبلناها بالتسليم، وهذه مثل تلك الأمور، نحن أولئك أصحابك، وقد أكثر الناس في هذه القضية، وأيم الله ما المكثر المنكر بأعلم بها من المقل المعترف، وقد أخذت الحرب بأنفاسنا، فلم يبق إلا رجاء ضعيف، فإن تجب القوم إلى ما دعوك إليه، فأنت أولنا إيمانا، وآخرنا بنبي الله عهدا، وهذه سيوفنا على أعناقنا، وقلوبنا بين جوانحنا، وقد أعطيناك بقيتنا، وشرحت بالطاعة صدورنا، ونفذت في جهاد عدوك بصيرتنا، فأنت الوالي المطاع، ونحن الرعية الأتباع، أنت أعلمنا بربنا وأقربنا بنبينا، وخيرنا في ديننا، وأعظمنا حقا فينا، فسدد رأيك نتبعك، واستخر الله تعالى في أمرك، وأعزم عليه برأيك، فأنت الوالي المطاع، قال: فسر علي كرم الله وجهه بقوله، وأثنى خيرا. [ما قال صعصعة بن صوحان] ثم قام صعصعة بن صوحان فقال: يا أمير المؤمنين، إنا سبقنا الناس إليك يوم قدوم طلحة والزبير عليك، فدعانا حكيم إلى نصرة عاملك عثمان بن حنيف فأجبناه، فقاتل عدوك، حتى أصيب في قوم من بني عبد قيس، عبدوا الله حتى كانت أكفهم مثل أكف الإبل، وجباههم مثل ركب المعز، فأسر الحي وسلب القتيل، فكنا أول قتيل وأسير (1)، ثم رأيت بلاءنا بصفين، وقد كلت البصائر، وذهب الصبر، وبقي الحق موفورا، وأنت بالغ بهذا حاجتك، والأمر إليك، ما أراك الله فمرنا به.

 ما قال المنذر بن الجارود

 ثم قام المنذر بن الجارود، فقال: يا أمير المؤمنين، إني أرى أمرا لا يدين له الشام إلا بهلاك العراق، ولا يدين له العراق إلا بهلاك الشام، ولقد كنا نرى أن ما زادنا نقصهم، وما نقصنا أضرهم فإذا في ذلك أمران، فإن رأيت غيره ففينا والله ما يفل به الحد، ويرد به الكلب، وليس لنا معك إيراد ولا صدر.

(هامش)

(1) إشارة إلى مقتل أخيه زيد بن صوحان العبدي يوم الجمل. وقد جرح صعصعة أيضا يوم الجمل. (*)

ص 143

ما قال الأحنف بن قيس ثم قام الأحنف بن قيس، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الناس بين ماض وواقف، وقائل وساكت، وكل في موضعه حسن، وإنه لو نكل الآخر عن الأول لم يقل شيئا، إلا أن يقول اليوم ما قد قيل أمس، ولكنه حق يقضى، ولم نقاتل القوم لنا ولا لك، إنما قاتلناهم لله، فإن حال أمر الله دوننا ودونك فاقبله، فإنك أولى بالحق، وأحقنا بالتوفيق، ولا أرى إلا القتال.

 ما قال عمير بن عطارد

ثم قام عمير بن عطارد فقال: يا أمير المؤمنين، إن طلحة والزبير وعائشة كانوا أحب الناس إلى معاوية، وكانت البصرة أقرب إلينا من الشام، وكان القوم الذين وثبوا عليك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، خيرا من الذين وثبوا عليك من أصحاب معاوية اليوم، فوالله ما منعنا ذلك من قتل المحارب، وعيب الواقف، فقاتل القوم إنا معك. ما قال علي رضي الله عنه بعده ثم قام علي خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنه قد بلغ بكم (1) وبعدوكم ما قد رأيتم، ولم يبق منهم إلا آخر نفس، وإن الأمور إذا أقبلت اعتبر آخرها بأولها، وقد صبر لكم القوم على غير دين، حتى بلغوا منكم ما بلغوا (2)، وأنا غاد عليهم بنفسي بالغداة فأحاكمهم بسيفي هذا إلى الله.

 نداء أهل الشام واستغاثتهم عليا رضي الله عنه

 قال: فلما بلغ معاوية قول علي دعا عمرو بن العاص، فقال له: يا عمرو إنما هي الليلة، حتى يغدو علينا علي بنفسه (3)، فما ترى؟ قال عمرو: إن رجالك لا يقومون لرجاله، ولست مثله، أنت تقاتله على أمر، ويقاتلك على غيره، وأنت

(هامش)

(1) في وقعة صفين ص 476: بلغ بكم الأمر. (2) في وقعة صفين: حتى بلغنا منهم ما بلغنا. (3) في وقعة صفين: بالفيصل. (*)

ص 144

تريد البقاء، وعلي يريد الفناء، وليس يخاف أهل الشام من علي ما يخاف منك أهل العراق وإن هلكوا، ولكن ادعهم إلى كتاب الله. فإنك تقضي منه حاجتك، قبل أن ينشب مخلبه فيك، فأمر معاوية أهل الشام أن ينادوهم، فنادوا في سواد الليل نداء معه صراخ واستغاثة، يقولون: يا أبا الحسن من لذرارينا من الروح إن قتلتنا؟ الله الله، البقيا، كتاب الله بيننا وبينكم. فأصبحوا وقد رفعوا المصاحف على الرماح، وقلدوها أعناق الخيل، والناس على راياتهم قد أصبحوا للقتال. ما أشار به عدي بن حاتم فقام عدي بن حاتم، فقال: يا أمير المؤمنين، إن أهل الباطل (1) لا تعوق أهل الحق، وقد جزع القوم حين تأهبت للقتال بنفسك، وليس بعد الجزع إلا ما تحب، ناجز القوم.

ما قال الأشتر وأشار به

ثم قام الأشتر فقال: يا أمير المؤمنين، ما أجبناك لدينا. إن معاوية لا خلف له من رجاله، ولكن بحمد الله الخلف لك، ولو كان له مثل رجالك لم يكن له مثل صبرك ولا نصرتك (2)، فافرج الحديد بالحديد، واستعن بالله. ما قال عمرو بن الحمق ثم قام عمرو بن الحمق، فقال: يا أمير المؤمنين، ما أجبناك لدنيا، ولا نصرناك على باطل، ما أجبناك إلا لله تعالى، ولا نصرناك إلا للحق، ولو دعانا غيرك إلى ما دعوتنا لكثر (3) فيه اللجاج، وطالت له النجوى، وقد بلغ الحق مقطعه، وليس لنا معك رأى.

 ما قال الأشعث بن قيس

 ثم قام الأشعث بن قيس، فقال: يا أمير المؤمنين، إنا لك اليوم على ما

(هامش)

(1) العبارة في وقعة صفين ص 482: إن كان أهل الباطل لا يقومون بأهل الحق فإنه لم يصب عصبة منا وقد أصيب مثلها منهم، وكل مقروح، ولكنا أمثل بقية منهم. (2) في وقعة صفين ص 482: بصرك، فاقرع الحديد... (3) في وقعة صفين ص 482: لاستشرى أي اشتد وقوي. (*)

ص 145

كنا عليه أمس، ولست أدري كيف يكون غدا. وما القوم الذين كلموك بأحمد لأهل العراق مني، ولا بأوتر لأهل الشام مني، فأجب القوم إلى كتاب الله، فإنك أحق به منهم، وقد أحب الله البقيا (1).

 ما قال عبد الرحمن بن الحارث

ثم قام عبد الرحمن بن الحارث، فقال: يا أمير المؤمنين، امض لأمر الله، ولا يستخفنك الذين لا يوقنون. أحكم بعد حكم؟ وأمر بعد أمر؟ مضت دماؤنا ودماؤهم، ومضى حكم الله علينا وعليهم.

 ما رآه علي كرم الله وجهه

 قال: فمال علي إلى قول الأشعث بن قيس وأهل اليمن، فأمر رجلا ينادي: إنا قد أجبنا معاوية إلى ما دعانا إليه، فأرسل معاوية إلى علي: إن كتاب الله لا ينطق، ولكن نبعث رجلا منا ورجلا منكم، فيحكمان بما فيه. فقال علي: قد قبلت ذلك.

 ما قال عمار بن ياسر

 فلما أظهر علي أنه قبل ذلك قام عمار بن ياسر فقال: يا أمير المؤمنين، أما والله لقد أخرجها إليك معاوية بيضاء، من أقر بها هلك، ومن أنكرها ملك، ما لك يا أبا الحسن؟ شككتنا في ديننا! ورددتنا على أعقابنا بعد مئة ألف قتلوا منا ومنهم؟ أفلا كان هذا قبل السيف؟ وقبل طلحة والزبير وعائشة، قد دعوك إلى ذلك فأبيت، وزعمت أنك أولى بالحق وأن من خالفنا منهم ضال حلال الدم، وقد حكم الله تعالى في هذا الحال ما قد سمعت، فإن كان القوم كفارا مشركين، فليس لنا أن نرفع السيف عنهم، حتى يفيئوا إلى أمر الله، وإن كانوا أهل فتنة فليس لنا أن نرفع السيف عنهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله، والله ما أسلموا، ولا أدوا الجزية، ولا فاءوا إلى أمر الله، ولا طفئت الفتنة، فقال علي: والله إني لهذا الأمر كاره.

(هامش)

(1) الأخبار الطوال ص 190 وقعة صفين ص 482. (*)

ص 146

قتل عمار بن ياسر

 قال: فلما رد علي على عمار أنه كاره للقضية، وأنه ليس من رأيه، نادى عمار: أيها الناس هل من رائح إلى الجنة، فخرج إليه خمس مئة رجل، منهم أبو الهيثم وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، فاستسقى عمار الماء، فأتاه غلام له بإداوة فيها لبن، فلما رآه كبر وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: آخر زادك من الدنيا لبن (1)، ثم قال عمار: اليوم ألقى الأحبة: محمدا وحزبه. ثم حمل عمار وأصحابه، فالتقى عليه رجلان فقتلاه (2)، وأقبلا برأسه إلى معاوية يتنازعان فيه، كل يقول أنا قتلته، فقال لهما عمرو بن العاص: والله إن تتنازعان إلا في النار، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقتل عمارا الفئة الباغية (3) فقال معاوية: قبحك الله من شيخ! فما تزال تتزلق في قولك، أو نحن قتلناه؟ إنما قتله الذين جاؤوا به، ثم التفت إلى أهل الشام فقال: إنما نحن الفئة الباغية؟ التي تبغي دم عثمان. فلما قتل عمار اختلط الناس، حتى ترك أهل الرايات مراكزهم، وأقحم أهل الشام، وذلك من آخر النهار، وتفرق الناس عن علي، فقال عدي بن حاتم: والله يا أمير المؤمنين ما أبقت هذه الوقعة لنا ولا لهم عميدا، فقاتل حتى يفتح الله تعالى لك، فإن فينا بقية، فقال علي: يا عدي، قتل عمار بن ياسر؟ قال: نعم، فبكى علي وقال: رحمك الله يا عمار، استوجب الحياة والرزق الكريم، كم تريدون أن يعيش عمار، وقد نيف على التسعين؟ (4). هزيمة أهل الشام ثم أقبل الأشتر جريحا، فقال: يا أمير المؤمنين، خيل كخيل، ورجال كرجال، ولنا الفضل إلى ساعتنا هذه، فعد مكانك الذي كنت فيه، فإن الناس

(هامش)

(1) رواه البيهقي في الدلائل 6 / 420 والإمام أحمد في مسنده 4 / 319 والحاكم في المستدرك 3 / 389. (2) هما أبو العادية العاملي وابن جون السكسكي (مروج الذهب) وفي وقعة صفين لابن مزاحم: ابن جون السكوني، وأبو العادية الفزاري طعنه أبو العادية واحتز رأسه ابن جون. (3) مسند الإمام أحمد 2 / 161، 3 / 5، 4 / 319، 6 / 315 و289. وبعضه أخرجه مسلم في الفتن 4 / 233 والبخاري في الصلاة فتح الباري 1 / 541. (4) في مروج الذهب: ثلاث وتسعون سنة. (*)

ص 147

إنما يطلبوك حيث تركوك. وإن عليا دعا بفرسه التي كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعا ببغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم الشهباء، ثم تعصب بعمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم السوداء، ثم نادى: من يبع نفسه اليوم يربح غدا، يوم له ما بعده، وإن عدوكم قد قدح كما قدحتم. فانتدب له ما بين عشرة آلاف إلى اثنى عشر ألفا واضعي سيوفهم على عواتقهم وتقدموا، فحمل علي والناس حملة واحدة، فلم يبق لأهل الشام صف إلا أهمد، حتى أفضى الأمر إلى معاوية، وعلي يضرب بسيفه، ولا يستقبل أحدا إلا ولى عنه. فدعا معاوية بفرسه لينجو عليه، فلما وضع رجله في الركاب نظر إلى عمرو بن العاص، فقال له: يا بن العاص، اليوم صبر، وغدا فخر، قال: صدقت، فترك الركوب، وصبر وصبر القوم معه إلى الليل، فبات الناس يتحارسون، وكرهوا القتال، وهو اليوم الذي فيه البلاء العظيم، يوم قتل عمار، وكل يظن أن الدائرة عليه، وأسرف الفريقان في القتل، ولم يكن في الإسلام بلاء ولا قتل أعظم منه في تلك الثلاثة الأيام، وإن عليا نادى بالرحيل في جوف الليل، فلما سمع معاوية رضي الله عنه رغاء الإبل، دعا عمرو بن العاص، فقال: ما ترى هاهنا؟ قال عمرو: أظن الرجل هاربا، فلما أصبحوا إذا علي وأصحابه إلى جانبهم قد خالطوهم، فقال معاوية: كلا، زعمت يا عمرو أنه هارب، فضحك وقال: من فعلاته والله، فعندها أيقن معاوية بالهلكة، ونادى أهل الشام: كتاب الله بيننا وبينكم، ويومئذ استبان ذل أهل الشام، ورفعوا المصاحف، ثم ارتحلوا فاعتصموا بحبل منيف، وصاحوا: لا ترد كتاب الله يا أبا الحسن فإنك أولى به منا، وأحق من أخذ به.

ما قال الأشعث بن قيس

 قال: فأقبل الأشعث بن قيس في أناس كثير من أهل اليمن، فقالوا لعلي: لا ترد ما دعاك القوم إليه، قد أنصفك القوم، والله لئن لم تقبل هذا منهم لا وفاء معك، ولا نرمي معك بسهم ولا حجر، ولا نقف معك موقفا. ما قال القراء قال: فلما سمع علي قول الأشعث ورأى حال الناس قبل القضية، وأجاب

ص 148

إلى الصلح، وقام إلى علي أناس، وهم القراء (1) منهم عبد الله بن وهب الراسبي في أناس كثير قد اخترطوا سوفهم، ووضعوها على عواتقهم، فقالوا لعلي: اتق الله، فإنك قد أعطيت العهد وأخذته منا، لنفنين أنفسنا أو لنفنين عدونا، أو يفئ إلى أمر الله، وإنا نراك قد ركبت إلى أمر فيه الفرقة والمعصية لله، والذل في الدنيا، فانهض بنا إلى عدونا، فلنحاكمه إلى الله بسيوفنا. حتى يحكم الله بيننا وبينهم، وهو خير الحاكمين، لا حكومة الناس.

 ما قال عثمان بن حنيف

 ثم قام عثمان بن حنيف، فقال: أيها الناس، اتهموا رأيكم، فإنا والله قد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ولو رأينا قتالا قاتلنا وذلك في الصلح الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة، فامض على القضية، واتهم هذا الصلح.

ما قال الأشتر وقيس بن سعد

قال: فأنكرها الأشتر وقيس بن سعد وكانا أشد الناس على علي فيها قولا، فكان الذين عملوا في الصلح الأشعث بن قيس، وعدي بن حاتم وشريح بن هانئ، وعمرو بن الحمق وزحر بن قيس، ومن أهل الشام زيد بن أسد، ومخارق بن الحارث، وحمزة بن مالك. فلما رأى ذلك أبو الأعور قام إلى معاوية، فقال: يا أمير المؤمنين إن القوم لم يجيبوا إلى ما دعوناهم إليه حتى لم يجدوا من ذلك بدا وإنهم إن ينصرفوا العام يعودوا في قابل في سنة يبرأ فيها الجريح، وينسى القتيل، وقد أخذت الحرب منا ومنهم، غير أنهم اختلفوا على علي، ولم يختلف عليك أحد والخلاف أشد من القتل، ناجز القوم، فقال بشر بن أرطأة: والله إن الشام خير من العراق لعلي، وما في يدك لك، وما في يد علي لأصحابه دونه، فإنه كنت إنما سألت المدة لإعداد العدة، وانتظار المدد، فنعم، وإن كنت سألتها بغض الحرب، وبقيا على أهل الشام، فلا.

(هامش)

(1) ذكر الطبري وغيره أن عصابة من القراء منهم مسعر بن فدكي التميمي وزيد بن حصين الطائي ثم السنبسي ودعوه إلى إجابة القوم إلى ما دعوه إليه من كتاب الله وإلا دفعناك إليهم برغمك أو قتلناك كما قتلنا عثمان (الطبري 6 / 27 وقعة صفين ص 489 فتوح ابن الأعثم 2 / 312). (*)

ص 149

ذكر الاتفاق على الصلح وإرسال الحكمين

 قال: وذكروا أن معاوية قال لأصحابه حين استقامت المدة، ولم يسم الحكمان: من ترون عليا يختار؟ فأما نحن فصاحبنا عمرو بن العاص. قال عتبة بن أبي سفيان: أنت أعلم بعلي منا. فقال معاوية: إن لعلي خمسة رجال من ثقاته، منهم عدي بن حاتم، وعبد الله بن عباس، وقيس بن سعد، وشريح بن هانئ، والأحنف بن قيس، وأنا أصفهم لك: أما ابن عباس فإنه لا يقوى عليه، وأما عدي بن حاتم فيرد عمرا سائلا، ويسأله مجيبا، وأما شريح بن هانئ فلا يدع لعمرو حياضا، وأما الأحنف بن قيس فبديهته كرويته، وأما قيس بن سعد فلو كان من قريش بايعته العرب. ومع هذا إن الناس قد ملوا هذه الحرب، ولم يرضوا إلا رجلا له تقية، وكل هؤلاء لا تقية لهم، ولكن انظروا أين أنتم من رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، تأمنه أهل الشام، وترضى به أهل العراق، فقال عتبة: ذلك أبو موسى الأشعري.

 اختلاف أهل العراق في الحكمين

 قال: وذكروا أن عليا لما استقام رأيه على أن يرسل عبد الله بن عباس مع عمرو بن العاص، قام إليه الأشعث بن قيس، وشريح بن هانئ، وعدي بن حاتم، وقيس بن سعد، ومعهم أبو موسى الأشعري، فقالوا: يا أمير المؤمنين هذا أبو موسى الأشعري وافد أهل اليمن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصاحب مغانم أبي بكر (1)، وعامل عمر بن الخطاب، وقد عرضنا على القوم ابن عباس فزعموا أنه قريب القرابة منك، ضنين في أمرك (2)، وأيم الله لو لقيت به عمرا لأخذ بصره، وغم صدره. ولكن الناس قد رضوا برجل يثق أهل العراق وأهل الشام بتقيته. فتكلم شبيب بن ربعي، فقال: إنا والله وإن خفنا على أبي موسى من عمرو ما لا يخافه أهل الشام على عمرو من أبي موسى، فلعل ما خفناه لا يضرنا، ولعل ما رجوا لا ينفعهم، فإن قلت في أبي موسى ضعف فضعفه وتقاه خير من قوة عمرو وفجوره، فأغلق به البلاء، وافتح به العافية. ثم

(هامش)

(1) أي الذي كان يتولى أمر قسمة المغانم والمقاسم ونحوها. (2) في وقعة صفين ص 502

ذكر هذا القول لابن الكواء. (*)

ص 150

تكلم ابن الكواء فقال: يا أمير المؤمنين، إنك أجبت الله وأجبناك، ولكنا نقول: الله بيننا وبينك، إن كنت تخشى من أبي موسى عجزا فشر من أرسلت الخائن العاجز، ولست تحتاج من عقله إلا إلى حرف واحد، أن لا يجعل حقك لغيرك، فيدرك حاجته منك. ثم قال لأبي موسى: إعلم أن معاوية طليق الإسلام، وأن أباه رأس الأحزاب، وأنه ادعى الخلافة من غير مشورة، فإن صدقك فقد حل خلعه، وإن كذبك فقد حرم عليك كلامه، وإن ادعى أن عمر وعثمان استعملاه، فلقد صدق، استعمله عمر وهو الوالي عليه بمنزلة الطبيب من المريض، يحميه ما يشتهي، ويوجره ما يكره، ثم استعمله عثمان برأي عمر وما أكثر من استعملا ممن لم يدع الخلافة، واعلم أن لعمرو مع كل شيء يسرك خبرا يسوؤك، ومهما نسيت فلا تنس أن عليا بايعه الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان، وأنها بيعة هدي، وأنه لم يقاتل إلا عاصيا أو ناكثا. فقال أبو موسى: رحمك الله، أما والله ما لي إمام غير علي، وإني لواقف عندما رأى، ولرضاء الله تعالى أحب إلي من رضاء الناس، وما أنا وأنت إلا بالله تعالى (1).

 ما قال أهل الشام لأهل العراق

 قال: وذكروا أن أهل الشام قالوا لأهل العراق: أعطونا رجالا نسميهم لكم، يكونوا شهودا على ما يقوله صاحبنا وصاحبكم، بيننا وبينكم صحيفة، فقال علي: سموا من أحببتم، فسموا ابن عباس، والأشعث بن قيس، وزياد بن كعب، وشريح بن هانئ، وعدي بن حاتم، وحجر بن عدي، وعبد الله بن الطفيل، وسفيان بن ثور، وعروة بن عامر، وعبد الله بن حجر، وخالد بن معمر، وطلب أهل العراق من أهل الشام: عتبة بن أبي سفيان، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، ويزيد بن أسيد، وأبا الأعور، والحصين بن نمير، وحمزة بن مالك، وبسر بن أرطاة، والنعمان بن بشير، ومخارق بن الحارث.

(هامش)

(1) ولما رأى علي أن القوم مصرون على أبي موسى الأشعري رغم اتهامه له قال لهم: فاصنعوا ما أردتم، وافعلوا ما بدا لكم أن تفعلوه. اللهم إني أبرأ إليك من صنيعهم. وفي ذلك يقول خريم بن فاتك الأسدي: لو كان للقوم رأي يعصمون به * عند الخطوب رموكم بابن عباس لكن رموكم بشيخ من ذوي يمن * لم يدر ما ضرب أخماس بأسداس ما الأشعري بمأمون أبا حسن * خذها إليك وليس الفخذ كالرأس (*)

 

الصفحة السابقة الصفحة التالية

الإمامة والسياسة (ج1)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب