ص 151
فلما سمى أهل العراق رجال أهل الشام، وسمى أهل الشام رجال أهل العراق، قال معاوية:
أين يكون هذان الرجلان؟ فرضي الناس أن يكونا بدومة الجندل. ما قال الأحنف بن قيس
لعلي
قال: فلما لم يبق إلا الكتاب، قال الأحنف بن قيس لعلي: يا أمير المؤمنين إن
أبا موسى رجل يماني، وقومه مع معاوية، فابعثني معه، فوالله لا يحل لك عقدة إلا عقدت
لك أشد منها، فإن قلت: إني لست من أصحاب رسول الله صلى عليه وسلم، فابعث (1) ابن
عباس وابعثني معه (2). ما قال علي كرم الله وجهه
فقال علي: إن الأنصار والقراء
أتوني بأبي موسى، فقالوا: ابعث هذا، فقد رضيناه، ولا نريد سواه، والله بالغ أمره. الاختلاف في كتابة صحيفة الصلح
قال: فوضع الناس السلاح، والتقوا بين العسكرين، فلما
جئ بالكتاب قال علي: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي
طالب أمير المؤمنين، ومعاوية بن أبي سفيان، فقال معاوية: علام قاتلناك إذا كنت أمير
المؤمنين؟ اكتب: علي بن أبي طالب. فقال الأشعث: اطرح هذا الاسم فإنه لا يضرك، فضحك
علي، ثم قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية (3)، حين صده
المشركون عن مكة، فقال: يا علي اكتب: هذا ما تقاضى عليه محمد رسول الله ومشركو
قريش، فقال سهيل بن عمرو: لقد ظلمناك إذا يا محمد إن قاتلناك وأنت رسول الله، ولكن
اكتب اسمك واسم أبيك، فقال صلى الله عليه وسلم: اكتب محمد بن عبد الله، وإني
(هامش)
(1) في وقعة صفين ص 502 فابعث غير عبد الله بن قيس . (2) أنظر وقعة صفين ص 501
وابن الأعثم 3 / 5 في كلام كثير. والأخبار الطوال ص 193. (3) راجع بشأن صلح
الحديبية سيرة ابن هشام 2 / 180 الطبري 3 / 79 الكامل للمبرد ص 540 وقعة صفين لابن
مزاحم ص 275. (*)
ص 152
رسول الله. وكنت إذا أمرني بشيء رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرعت، وإذا قال
مشركو قريش أبطأت به، وإذا كتبت شيئا قال نبي الله، امحها، فتعاظمني ذلك. فدعا
بمقراض فقرضه، وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب،
ومعاوية بن أبي سفيان، فقال أبو الأعور: أو معاوية وعلي، فقال الأشعث: لا لعمر
الله، ولكن نبدأ بأولهما إيمانا وهجرة، وأدناهما من الغلبة. فقال معاوية: قدموا أو
أخروا، تقاضوا على أن عليا ومن معه من شيعته من أهل العراق (1)، ومعاوية ومن معه من
أهل الشام، أنا ننزل عند حكم الله وكتابه، من فاتحته إلى خاتمته، ما أحيا القرآن
أحييناه، وما أمات القرآن أمتناه، وما لم يجد عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص في
القرآن حكما بما يجدان في السنة العادلة (2)، غير المفرقة، وعلى علي ومعاوية،
وتبيعتهما وضع السلاح إلى انقضاء هذه المدة، وهي من رمضان إلى رمضان، وعلى أن عبد
الله بن قيس وعمرا آمنان على دمائهما وأموالهما وحريمهما والأمة على ذلك أنصار،
وعليهما مثل الذي أخذا أن يقضيا بما في كتاب الله تعالى، وما لم يجدا في كتاب الله
قضيا بما يجدان في السنة، وعليهما، أن لا يؤخرا أمرهما عن هذه المدة، فإن أحبا أن
(3) أن يقولا قبل انقضائها، فلهما أن يقولا عن تراض منهما، على أن يرجع أهل العراق
إلى العراق، وأهل الشام إلى الشام، فيكون الاجتماع إلى دومة الجندل (4)، فإن رضيا
أن يجتمعا بغيرهما فلهما ذلك، ولهما ألا يحضرهما إلا من أحبا، ولا يشهدا إلا من
أرادا، وهؤلاء النفر
(هامش)
(1) زيد في فتوح ابن الأعثم: وأهل الحجاز. (2) في الطبري: السنة العادلة الجامعة.
(3) في الطبري: أن أحبا أن يؤخرا ذلك عن تراض بينهما. (4) ذكر بعض الرواة إلى أن
التحكيم جرى بأذرح، ومنهم من قال أنها كانت بدومة الجندل، وقد أكثر الشعراء في ذكر
أذرح وأن التحكيم كان بها وفي معجم البلدان: وبأذرح إلى الجرباء كان أمر الحكمين
بين عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري، وقيل بدومة الجندل والصحيح أذرح والجرباء
ويشهد بذلك قول ذي الرمة يمدح بلال بن أبي بردة بن أبي موسى: فشد إصار الدين أيام
أذرح * ورد حروبا قد لقحن إلى عقر وكان الأصمعي يلعن كعب بن جعيل لقوله في عمرو بن
العاص: كأن أبا موسى عشية أذرح * يطيف بلقمان الحكيم يوار به وقال الأسود بن
الهيثم: لما تداركت الوفود بأذرح * وفي أشعري لا يحل له غدر (*)
ص 153
من أهل العراق وأهل الشام ضامنون بالوفاء إلى هذه المدة، فكتب أهل العراق بهذا
كتابا لأهل الشام (1)، وكتب أهل الشام كتابا بهذا لأهل العراق، بخط عمرو ابن عبادة
(2) كاتب معاوية، وشهد شهود أهل الشام على أهل العراق، وشهد شهود أهل العراق على
أهل الشام (3). فلما كتب الكتابان أقبل رجل من بني يشكر، على فرس له أبلق، حتى وقف
بين الصفين على علي، فقال: يا علي، أكفر بعد إسلام، ونقض بعد توكيد، وردة بعد
معرفة؟ أنا من صحيفتيكما برئ، وممن أقر بها برئ، ثم حمل على أصحاب معاوية، فطعن
منهم، حتى إذا عطش أتى عسكر علي، فاستسقى فسقي، ثم حمل على عسكر علي، فطعن فيهم،
حتى إذا عطش أتى عسكر معاوية، فاستسقى فسقي. ما وصى به شريح بن هانئ أبا موسى (4)
قال: وذكروا أن شريح بن هانئ أخذ بيد أبي موسى فقال: يا أبا موسى إنك قد نصبت لأمر
عظيم لا يجبر صدعه، ولا تستقال فلتته (5)، ومهما تقل من شيء لك أو عليك يثبت حقه،
ويزيل باطله، إنه لا بقاء لأهل العراق إن ملكها معاوية، ولا بأس بأهل الشام إن
ملكها علي، فانظر في ذلك من يعرف هذا الأمر حقا.
(هامش)
(1) بخط عبيد الله بن أبي رافع كاتب علي. (2) في ابن الأعثم عمار بن عباد الكلبي.
وفي كتاب صفين ص 507: وكتب عمر.. وفي ص 511 وكتب عميرة. وقد ذكر الجهشياري في كتاب
الوزراء والكتاب من كتب لمعاوية ص 24 - 27: عبيد الله بن أوس الغساني، وسرجون بن
منصور الرومي، عبد الرحمن بن دراج، سليمان بن سعيد، عبيد الله بن نصر بن الحجاج بن
علاء السلمي، حبيب بن عبد الملك بن مروان، ابن أوثال النصراني. ولم يذكر الطبري في
كتاب معاوية من اسمه عمار أو عمر بن عباد أو عبادة. (3) أنظر في شهود أهل العراق
وأهل الشام ذيل وثيقة التحكيم في وقعة صفين ص 506 - 507 الطبري 6 / 29 الأخبار
الطوال 194 معجم البلدان 4 / 109. (4) كان أبو موسى قد أقبل إلى علي وقال له: يا
أمير المؤمنين إني لست آمن الغوائل فابعث معي قوما من أصحابك إلى دومة الجندل، فبعث
معه علي رضي الله عنه شريح بن هانئ في خمسمئة رجل. (5) في ابن الأعثم: ولا يستقال
عثرته وفي وقعة صفين لابن مزاحم: ولا يستقال فتقه وفي نسخة: ولا تستقال
فتنته. (*)
ص 154
ما وصى به الأحنف بن قيس أبا موسى
قال: ثم جاء الأحنف بن قيس، فأخذ بيده، ثم قال:
يا أبا موسى، اعرف خطب هذا الأمر، واعلم أن له ما بعده، وإنك إن ضيعت العراق، فلا
عراق لك، فاتق الله، فإنك تجمع بذلك دنيا وأخرى، وإذا لقيت عمرا غدا فلا تبادره
بالسلام (1)، فليس من أهله، ولا تعطه يدك، فإنها أمانة، وإياك أن يقعدك على صدر
الفراش، فإنها خدعة، ولا تلقه إلا وحده، وإياك أن يكلمك في بيت فيه مخدع يخبأ لك
فيه رجالا (2)، وإن لم يستقم لك عمرو على الرضا بعلي، فخيره أن يختار أهل العراق من
قريش أهل الشام من شاؤوا، فإنهم إن يولوا الخيار يختاروا من يريدون، فإن أبى فلتختر
أهل الشام من قريش أهل العراق من شاؤوا، فإن فعلوا كان الأمر بيننا.
ما قال معاوية
لعمرو 
قال: وذكروا أن معاوية قال لعمرو: إن أهل العراق أكرهوا عليا على أبي موسى،
وأنا وأهل الشام راضون بك، وأرجو في دفع هذه الحرب خصالا: قوة لأهل الشام، وفرقة
لأهل العراق، وإمدادا لأهل اليمن، وقد ضم إليك رجل طويل اللسان، قصير الرأي، وله
على ذلك دين وفضل، فدعه يقل، فإذا هو قال فاصمت، واعلم أن حسن الرأي زيادة في
العقل، إن خوفك العراق فخوفه بالشام، وإن خوفك مصر فخوفه باليمن، وإن خوفك عليا
فخوفه بمعاوية، وإن أتاك بالجميل، فأته بالجميل. قال عمرو: يا أمير المؤمنين، أقلل
الاهتمام بما قبلي، وارج الله تعالى فيما وجهتني له، إنك من أمرك على مثل حد السيف،
لم تنل في حربك ما رجوت، ولم تأمن ما خفت، ونحن نرجو أن يصنع الله تعالى لك خيرا،
وقد ذكرت لأبي موسى دينا، وإن الدين منصور، أرأيت إن ذكر عليا وجاءنا بالإسلام
والهجرة واجتماع الناس عليه، ما أقول؟ فقال معاوية: قل ما تريد وترى. قال: فانصرف
عمرو إلى منزله، فقال لأصحابه: هل ترون ما أراد معاوية من تصغير أبي موسى؟ قالوا:
لا، قال: عرف أني خادعه غدا.
(هامش)
(1) في وقعة صفين ص 536: فإنها وإن كانت سنة إلا أنه ليس من أهلها. (2) يريد رجالا
شهود، يسمعون كلام أبي موسى ويشهدون عليه دون أن يعلم. (*)
ص 155
ما قال شرحبيل لعمرو
قال: وأتى شرحبيل بن السمط إلى عمرو، فقال: يا عمرو، إنك رجل
قريش، وإن معاوية لم يبعثك إلا لثقته بك، واعلم أنك لا تؤتى من عجز (1)، وقد علمت
أن وطأة هذا الأمر لصاحبك ولك، فكن عند ظننا بك. اجتماع أبي موسى وعمرو
قال: وذكروا
أن أبا موسى وعمرا لما اجتمعا بدومة الجندل، وحضرهما من يليهما من العرب، ليستمعوا
قول الرجلين، فلما التقيا استقبل عمرو أبا موسى، فأعطاه يده وضم عمرو أبا موسى إلى
صدره، فقال: يا أخي قبح الله أمرا فرق بيننا، ثم أقعد أبا موسى على صدر الفراش،
وأقبل عليه بوجهه، والناس مجتمعون، فلم يزالا حتى تفرقا، ومكثا أياما يلتقيان في
أمرهما سرا وجهرا، وأقبل الأشعث بن قيس، وكان من أحرص الناس على إتمام الصلح،
والراحة من الحرب، فقال: يا هذان، إنا قد كرهنا هذه الحرب، فلا ترداها إلينا، فإنها
مرة الرضاع والفطام، فكفاها بما شئتما. ما قال سعيد بن قيس للحكمين
قال: فأقبل سعيد
بن قيس، وكان من النصحاء لعلي كرم الله وجهه، فقال: أيها الرجلان، إني أراكما قد
أبطأتما بهذا الأمر حتى أيس القوم منكما، فإن كنتما اجتمعتما على خير فأظهراه،
نسمعه ونشهد عليه، وإن كنتما لم تجتمعا رجعنا إلى الحرب. ما قال عدي بن حاتم لعمرو
قال: وذكروا أن عديا قال لعمرو: أما والله يا عمرو إنك لغير مأمون الغناء، وإنك يا
أبا موسى لغير مأمون الضعف، وما ننتظر بالقول منكما إلا أن تقولا (2)،
(هامش)
(1) زيد في وقعة صفين ص 536: ومكيدة. (2) كذا بالأصل، وفي فتوح ابن الأعثم 3 / 25
نسب هذا القول إلى عمرو بن العاص. وزيد فيه: فأمسك عنك يا هذا. (*)
ص 156
والله ما لكما مع كتاب الله إيراد ولا صدر. فقال أبو موسى: كفوا عنا فإنا إنما نقول
فيما بقي، ولسنا نقول فيما مضى. ما قال عمرو لأبي موسى
قال: وذكروا أن عمرا غدا على
أبي موسى، فقال: يا أبا موسى، قد عرفت حال معاوية في قريش، وشرفه في بني عبد مناف،
وأنه ابن هند، وابن أبي سفيان، فما ترى؟ فقال أبو موسى: أما معاوية فليس بأشرف في
قريش من علي، ولو كان هذا الأمر على شرف الجاهلية، كان أخوال ذي أصبح (1)، ولكنني
أرى وترى، وباعده أبو موسى، ثم غدا عليه عمرو، فقال: يا أبا موسى إن قال قائل: إن
معاوية من الطلقاء، وأبوه رأس الأحزاب، لم يبايعه المهاجرون والأنصار فقد صدق، وإذا
قال إن عليا آوى قتلة عثمان، وقتل أنصاره يوم الجمل، وبرز على أهل الشام بصفين فقد
صدق، وفينا وفيكم بقية، وإن عادت الحرب ذهب ما بقي، فهل لك إن تخلعهما جميعا، وتجعل
الأمر لعبد الله بن عمر، فقد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبسط في هذه
الحرب يدا ولا لسانا، وقد علمت من هو مع فضله وزهده وورعه وعلمه، فقال أبو موسى:
جزاك الله بنصيحتك خيرا، وكان أبو موسى لا يعدل بعبد الله بن عمر أحدا، لمكانه من
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومكانه من أبيه، لفضل عبد الله في نفسه، وافترقا على
هذا الأمر، واجتمع رأيهما على ذلك (2). ثم إن عمرا غدا على أبي موسى بالغد، وجماعة
الشهود، فقال: يا أبا موسى، ناشدتك الله تعالى، من أحق بهذا الأمر؟ من أوفى، أو من
غدر؟ قال أبو موسى: من أوفى. قال عمرو: يا أبا موسى، نشدتك الله تعالى، ما تقول في
عثمان؟ قال أبو موسى: قتل مظلوما. قال عمرو: فما الحكم فيمن قتل؟ قال أبو موسى:
يقتل بكتاب الله تعالى. قال: فمن يقتله؟ قال: أولياء عثمان. قال: فإن الله يقول في
(هامش)
(1) في وقعة صفين ص 541: ولو كان على الشرف كان أحق الناس بهذا الأمر أبرهة بن
الصباح. (2) اختلفوا في ذلك، فقيل إن أبا موسى هو الذي أشار على ابن العاص بخلع
الرجلين (علي ومعاوية) وتولية عبد الله بن عمر وقد أشار ابن العاص إلى تولية ابنه
عبد الله فقال له أبو موسى: إن ابنك رجل صدق ولكنك غمسته في هذه الفتنة. فرفض عمرو
بن العاص رأي أبي موسى، واتفقا على خلع الرجلين وجعل الأمر شورى بين المسلمين
يختارون لأنفسهم من شاؤوا ومن أحبوا (أنظر وقعة صفين ص 544 و545 الطبري 5 / 68 - 69
الأخبار الطوال ص 200). (*)
ص 157
كتابه العزيز: (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) [الإسراء: 33]. قال: فهل
تعلم أن معاوية من أولياء عثمان؟ قال: نعم (1). قال عمرو للقوم: اشهدوا. قال أبو
موسى للقوم: اشهدوا على ما يقول عمرو. ثم قال أبو موسى لعمرو: قم يا عمرو، فقل وصرح
بما اجتمع عليه رأيي ورأيك، وما اتفقنا عليه، فقال عمرو: سبحان الله! أقوم قبلك (2)
وقد قدمك الله قبلي في الإيمان والهجرة، وأنت وافد أهل اليمن إلى رسول الله، ووافد
رسول الله إليهم، وبك هداهم الله، وعرفهم شرائع دينه، وسنة نبيه، وصاحب مغانم أبي
بكر وعمر! ولكن قم أنت فقل، ثم أقوم فأقول. فقام أبو موسى (3)، فحمد الله وأثنى
عليه، ثم قال: أيها الناس. إن خير الناس للناس خيرهم لنفسه، وإني لا أهلك ديني
بصلاح غيري، إن هذه الفتنة قد أكلت العرب، وإني رأيت وعمرا أن نخلع عليا ومعاوية،
ونجعلها لعبد الله بن عمر (4)، فإنه لم يبسط في هذه الحرب يدا ولا لسانا، ثم قام
عمرو فقال: أيها الناس، هذا أبو موسى شيخ المسلمين، وحكم أهل العراق ومن لا يبيع
الدين بالدنيا، وقد خلع عليا وأنا أثبت معاوية. فقال أبو موسى: ما لك؟ عليك لعنة
الله! ما أنت إلا كمثل الكلب تلهث! فقال عمرو: لكنك مثل الحمار يحمل أسفارا، واختلط
الناس، فقالوا: والله لو اجتمعنا على هذا ما حولتمانا عما نحن عليه، وما صلحكما
بلازمنا، وإنا اليوم على ما كنا عليه أمس، ولقد كنا ننظر إلى هذا قبل أن يقع، وما
أمات قولكما حقا، ولا أحيا باطلا. ثم تشاتم أبو موسى وعمرو، ثم انصرف عمرو إلى
معاوية، ولحق أبو موسى بمكة، وانصرف القوم إلى علي، فقال عدي: أما والله
(هامش)
(1) في الأخبار الطوال ص 199: أن أولى منه ابنه عمرو بن عثمان. (2) كان عمرو بن
العاص ومنذ اللقاء الأول بأبي موسى قد قدمه إن في الكلام أو الجلوس وكرمه كثيرا،
وقد عوده أن يقدمه في كل شيء وقد اغتره بذلك ليقدمه فيبدأ بخلع علي، وكان عمرو قد
حاك خدعته بدقة وأحاط بأبي موسى من كل جانب، والرجل غافل لا يدري كيف تجري الأمور،
وما يخطط عمرو وما يرسم في ذهنه حتى أن معاوية نفسه شكك بنية عمرو واسترابه. (3)
عندما قام أبو موسى ليتكلم، قال له ابن عباس يحذره، ويحك إني لأظنه قد خدعك إن
كنتما اتفقتما على أمر فقدمه قبلك فيتكلم بذلك الأمر قبلك ثم تتكلم أنت بعده، فإن
عمرا رجل غدار، ولا آمن أن يكون قد أعطاك الرضا فيما بينك وبينه، فإذا قمت به في
الناس خالفك. فقال له أبو موسى: إنا قد اتفقنا (وقعة صفين لابن مزاحم ص 545 -
الطبري 5 / 70). (4) في بعض الروايات: شورى بين المسلمين (أنظر الحاشية رقم: 2 في
الصفحة السابقة). (*)
ص 158
يا أمير المؤمنين، لقد قدمت القرآن، وأخرت الرجال، وجعلت الحكم لله. فقال علي: أما
إني قد أخبرتكم أن هذا يكون بالأمس، وجهدت أن تبعثوا غير أبي موسى، فأبيتم علي، ولا
سبيل إلى حرب القوم حتى تنقضي المدة، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
قم يا حسن فتكلم في أمر هذين الرجلين: أبي موسى وعمرو. فقام الحسن، فتكلم، فقال:
أيها الناس، قد أكثرتم في أمر أبي موسى وعمرو، وإنما بعثا ليحكما بالقرآن دون
الهوى، فحكما بالهوى دون القرآن، فمن كان هكذا لم يكن حكما، ولكنه محكوم عليه، وقد
كان من خطأ أبي موسى أن جعلها لعبد الله بن عمر، فأخطأ في ثلاث خصال: خالف (يعني
أبا موسى) أباه عمر، إذ لم يرضه لها (1)، ولم يره أهلا لها، وكان أبوه أعلم به من
غيره، ولا أدخله في الشورى إلا على أنه لا شيء له فيها، شرطا مشروطا من عمر على أهل
الشورى، فهذه واحدة، وثانية: لم تجمع عليه المهاجرون والأنصار، الذين يعقدون
الإمامة، ويحكمون على الناس، وثالثة: لم يستأمر الرجل في نفسه، ولا علم ما عنده من
رد أو قبول (2). ثم جلس. ثم قال علي لعبد الله بن عباس، قم فتكلم. فقام عبد الله بن
عباس، وقال: أيها الناس، إن للحق أناسا أصابوه بالتوفيق والرضا والناس بين راض به،
وراغب عنه، وإنما سار أبو موسى بهدى إلى ضلال (3)، وسار عمرو بضلالة إلى هدى، فلما
التقيا رجع أبو موسى عن هداه، ومضى عمرو على ضلاله، فوالله لو كانا حكما عليه
بالقرآن لقد حكما عليه، ولئن كان حكما بهواهما على القرآن، ولئن مسكا بما سارا به
لقد سار أبو موسى وعلي إمامه، وسار عمرو ومعاوية إمامه. ثم جلس فقال علي لعبد الله
بن جعفر: قم فتكلم. فقام وقال: أيها الناس هذا أمر كان النظر فيه لعلي، والرضا فيه
إلى غيره، جئتم بأبي موسى، فقلتم قد رضينا هذا، فارض به (4)، وأيم الله ما أصلحا
بما فعلا الشام، ولا أفسدا العراق
(هامش)
(1) تقدم أن عمر بن الخطاب لما جعل الأمر شورى بين الستة على أن يختاروا واحدا منهم
جعل ابنه عبد الله مستشارا وليس له من الأمر شيئا. (2) زيد في العقد الفريد 4 /
350: وأما الحكومة فقد حكم النبي عليه الصلاة والسلام سعد بن معاذ في بني قريظة
فحكم بما يرضي الله به ولا شك، ولو خالف لم يرضه رسول الله صلى الله عليه وسلم. (3)
في العقد الفريد: ضلالة. (4) زيد في العقد الفريد: وأيم الله ما استفدنا به علما،
ولا انتظرنا منه غائبا، وما نعرفه صاحبا. (*)
ص 159
ولا أماتا حق علي، ولا أحييا باطل معاوية، ولا يذهب الحق قلة رأي، ولا نفخة شيطان،
وإنا لعلي اليوم كما كنا أمس عليه. ثم جلس. كتاب ابن عمر إلى أبي موسى
قال: وذكروا
أن عبد الله بن عمر لما بلغه ما كان من رأي أبو موسى، كتب إليه: أما بعد يا أبا
موسى، فإنك تقربت إلي بأمر لم تعلم هواي فيه، أكنت تظن أني أبسط يدا إلى أمر نهاني
عنه عمر؟ أو كنت تراني أتقدم على علي وهو خير مني؟ لقد خبت إذا وخسرت، وما أنا من
المهتدين، فأغضبت بقولك وفعلك علي عليا ومعاوية، ثم أعظم من ذلك خديعة عمرو إياك،
وأنت حامل القرآن، ووافد أهل اليمن إلى نبي الله، وصاحب مغانم أبي بكر وعمر، فقدمك
عمرو للقول مخادعا، حتى خلعت عليا قبل أن تخلع معاوية، ولعمري ما يجوز لك على علي
ما جاز لعمرو على معاوية، ولا ما جاز لنا عليه، ولقد كرهنا ما رضيت وأردت، إن
الحاكم هو من يحكم بما حكم الله بين الناس، ولم تبلغ من خطيئتك عنده ما غير أمرك في
خلاف هواه. فلما أتى أبا موسى كتاب ابن عمر كتب إليه: أما بعد، فإني والله ما أردت
بتوليتي إياك وبيعتي لك القربة إليك، ما أردت بذلك إلا الله عز وجل، وما تقلدي أمر
هذه الأمة غير مستكره، فإنهم كانوا على مثل حد السيف، فقلت: إلى سنة محيا وممات، إن
يصطلحوا فهو الذي أردت، وإلا لم يرجعوا إلى أعظم مما كانوا عليه، وأما إغضابي عليك
عليا ومعاوية، فقد غضبا عليك قبل ذلك، وأما خديعة عمرو إياي، فوالله ما ضر بخديعته
عليا، ولا نفع معاوية، وقد كان الشرط ما اجتمعنا عليه، لا ما اختلفنا فيه، وأما نهي
أبيك، فوالله لو تم الأمر لأكرهت عليه. كتاب معاوية إلى أبي موسى
قال: وذكروا أن
معاوية كتب إلى أبي موسى بعد الحكومة وهو بمكة: أما بعد، فأكره من أهل العراق ما
كرهوا منك، وأقبل إلى الشام، فإني خير لك من علي، والسلام (1).
(هامش)
(1) نص الكتاب في العقد الفريد 4 / 348 باختلاف وزيادة. (*)
ص 160
جوابه فكتب إليه أبو موسى: أما بعد، فإنه لم يكن مني في علي إلا ما كان من عمرو
فيك، غير أني أردت بما صنعت وجه الله، وأراد عمرو بما صنع ما عندك، وقد كان بيني
وبينه شروط (1) عن تراض، فلما رجع عمرو رجعت، وأما قولك: إن الحكمين إذا حكما على
أمر فليس للمحكوم عليه أن يكون بالخيار، إنما ذاك في الشاة والبعير (2)، وأما في
أمر هذه الأمة فليست تساق إلى ما تكره، ولن تذهب بين عجز عاجز، ولا كيد كائد، ولا
خديعة فاجر، وأما دعاؤك إياي إلى الشام، فليس لي بدل ولا إيثار عن قبر ابن إبراهيم
أبي الأنبياء. كتاب علي إلى أبي موسى
قال: وذكروا أنه لما بلغ عليا كتاب أبي موسى
رق له، وأحب أن يضمه إليه، فكتب إليه: أما بعد، فإنك امرؤ ضللك الهوى (3)، واستدرجك
الغرور، فاستقل الله يقلك عثرتك، فإنه من استقال الله أقاله، إن الله يغفر ولا يغير
(4)، وأحب عباده إليه المتقون (5)، والسلام. فلما انتهى كتاب علي إلى أبي موسى هم
أن يرجع، ثم قال لأصحابه: إني امرؤ غلب علي الحياء، ولا يستطيع هذا الأمر رجل فيه
حياء. جوابه فكتب أبو موسى إلى علي: أما بعد، فلولا أني خشيت أن يؤول منع الجواب
إلى أعظم مما في نفسك لم أجبك، لأنه ليس عذر ينفعني، ولا عذر (6) يمنعني منك، وأما
التزامي مكة، فإني امتنسرت إلى أهل الشام، وانقطعت من
(هامش)
(1) في العقد فريد: شروط وشورى. (2) زيد في العقد: والدينار والدرهم. (3) في العقد
الفريد 4 / 349 ظلمك الهوى. (4) في العقد: ولا يغفل. (5) في العقد: التوابون. (6)
في العقد: ولا قوة. (*)
ص 161
أهل العراق، وأصبت أقواما صغروا من ذنبي ما عظمتم، وعظموا من حقي ما صغرتم، فأقمت
بين أظهرهم، إذ لم يكن لي منكم ولي ولا نصير. ذكر الخوارج على علي بن أبي طالب كرم
الله وجهه
قال: وذكروا أنه لما كان من الحكمين ما كان، لقيت الخوارج بعضها بعضا،
فاجتمعوا في منزل عبد الله بن وهب الراسبي، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها
الناس، ما ينبغي لقوم يؤمنون بالرحمن، وينيبون إلى حكم القرآن أن تكون هذه الدنيا
(1) آثر عندهم من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والقول بالحق، وإن (2) ضر ومر
فإنه إن يضر ويمر (3) في هذه الدنيا، فإن ثوابه يوم القيامة رضوان الله، وخلود
الجنة، فاخرجوا بنا من هذه القرية الظالم أهلها، إلى بعض هذه المدائن، منكرين لهذه
البدعة المضلة، والأحكام الجائرة. فقال حرقوص بن زهير: إن المتاع بهذه الدنيا قليل،
وإن الفراق لها وشيك، فلا تدعوكم زينتها وبهجتها إلى المقام بها، ولا تلونكم عن طلب
الحق، وإنكار الظلم، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون (4)، يا قوم إن
الرأي ما قد رأيتم، والحق ما ذكرتم، فولوا أمركم رجلا منكم، فإنه لا بد لكم من عماد
وسناد، ومن راية تحفون حولها، وترجعون إليها. ثم اجتمعوا في منزل زفر (5) بن حصين
الطائي، فقالوا (6): إن الله أخذ عهودنا ومواثيقنا على الأمر بالمعروف، والنهي عن
المنكر، والقول بالحق، والجهاد في تقويم السبيل، وقد قال عز وجل لنبيه عليه الصلاة
والسلام: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض، فاحكم بين الناس بالحق، ولا تتبع
الهوى فيضلك عن سبيل الله، إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد) [ص: 26].
وقال: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)
(هامش)
(1) في الطبري 5 / 74: التي الرضا بها والركون بها والإيثار إياها عناء وتبار .
(2) عند الطبري: وإن من وضر. (3) عند الطبري: ويمن. (4) في الطبري من هنا هذا القول
نسب إلى حمزة بن سنان الأسدي. (5) عند الطبري 5 / 75 وابن الأثير 2 / 399 زيد
وفي الأخبار الطوال ص 204 يزيد . (6) في الأخبار الطوالص 202 نسب هذا القول إلى
عبد الله بن وهب الراسبي بعد تأميره عليهم. (*)
ص 162
[المائدة: 44]. فاشهدوا على أهل دعوتنا أن قد اتبعوا الهوى، ونبذوا حكم القرآن (1)،
وجاروا في الحكم والعمل، وأن جهادهم على المؤمنين فرض، وأقسم بالذي تعنو له الوجوه،
وتخشع دونه الأبصار، لو لم يكن أحد على تغيير المنكر، وقتال القاسطين مساعدا،
لقاتلتهم وحدي فردا، حتى ألقى الله ربي، فيرى أني قد غيرت إرادة رضوانه بلساني (2)،
يا إخواننا، اضربوا جباههم ووجوههم بالسيف، حتى يطاع الرحمن عز وجل، فإن يطع الله
كما أردتم أثابكم ثواب المطيعين له، الآمرين بأمره، وإن قتلتم فأي شيء أعظم من
المسير إلى رضوان الله وجنته. واعلموا أن هؤلاء القوم خرجوا لإقصاء حكم الضلالة
(3)، فاخرجوا بنا إلى بلد نتعد فيه الاجتماع من مكاننا هذا، فإنكم قد أصبحتم بنعمة
ربكم، وأنتم أهل الحق بين الخلق، إذ قلتم بالحق، وصمتم لقول الصدق، (4) فاخرجوا بنا
إلى المدائن نسكنها فنأخذ بأبواها، ونخرج منها سكانها، ونبعث إلى أخواننا من أهل
البصرة، فيقدمون علينا. فقال زيد بن حصين الطائي: إن المدائن بها قوم يمنعونكم
منها، ويمنعونها منكم، ولكن اكتبوا إلى إخوانكم من أهل البصرة، فأعلموهم بخروجكم،
وسيروا أنتم على المدائن، فانزلوا بجسر النهروان (5) قالوا: هذا هو الرأي فاجتمعوا
على ذلك،
وكتبوا إلى إخوانهم من أهل البصرة:
أما بعد، فإن أهل دعوتنا حكموا الرجال
في أمر الله، ورضوا بحكم القاسطين على عباده، فخالفناهم ونابذناهم، نريد بذلك
الوسيلة إلى الله، وقد قعدنا بجسر النهروان وأحببنا إعلامكم لتأخذوا بنصيبكم من
الأجر، والسلام. الجواب فكتبوا إليهم: أما بعد، فقد بلغنا كتابكم، وفهمنا ما ذكرتم.
وقد وهبنا لكم
(هامش)
(1) في الأخبار الطوال: الكتاب. (2) من هنا نسب الكلام في الأخبار الطوال ص 203
إلى عبد الله بن السخبر وكان من المبرنسين. (3) هذا الكلام نسب في الطبري وابن
الأثير إلى عبد الله بن وهب. (4) هذا الكلام نسب في الطبري وابن الأثير إلى شريح بن
أوفى العبسي. (5) النهروان: ثلاث قرى بين واسط وبغداد. وانظر كتابهم إلى أهل البصرة
في الأخبار الطوال ص 204. (*)
ص 163
الرأي الذي جمعكم الله عليه من الطاعة، وإخلاص الحكم لله، وأعمالكم أنفسكم فيما
يجمع الله به كلمتكم، وقد أجمعنا على المسير إليكم عاجلا. وكان بدء خروجهم أنهم
اجتمعوا في منزل حرقوص بن زهير ليلة الخميس، فقالوا: متى أنتم خارجون؟ قالوا:
الليلة القابلة من يوم الجمعة، فقال لهم حرقوص: بل أقيموا ليلة الجمعة تتعبدوا
لربكم، وأوصوا فيها بوصايكم، ثم اخرجوا ليلة السبت مثنى ووحدانا لا يشعر بكم. خطبة
علي كرم الله وجهه قالوا (1):
فلما خرج جميع الخوارج، وتوافروا إلى النهروان، قام
علي بالكوفة على المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن معصية العالم
الناصح تورث الحسرة، وتعقب الندامة، وقد كنت أمرتكم في هذين الرجلين، وفي هذه
الحكومة بأمري (2)، فأبيتم إلا ما أردتم (2)، فأحييا ما أمات القرآن، وأماتا ما
أحيا القرآن، واتبع كل واحد منهما هواه، يحكم بغير حجة، ولا سنة ظاهرة، واختلفا في
أمرهما وحكمهما، فكلاهما لم يرشد الله، فبرئ الله منهما ورسوله وصالحو المؤمنين،
فاستعدوا للجهاد، وتأهبوا للمسير، ثم أصبحوا في معسكركم يوم الاثنين بالنخيلة (3)،
وإنما حكمنا من حكمنا، ليحكما بالكتاب، فقد علمتم أنهما حكما بغير الكتاب، وبغير
السنة، ووالله لأغزونهم ولو لم يبق أحد غيري لجاهدتهم، وأعطى الناس العطاء وهم
بالجهاد (4). كتاب علي كرم الله وجهه للخوارج قالوا:
فأجمع رأي علي والناس على
المسير إلى معاوية بصفين، فتجهز معاوية وخرج حتى نزل بصفين، وأصبح علي قد تجهز
وعسكر، فقيل له: يا
(هامش)
(1) قال في الأخبار الطوال ص 204: ثم إن القوم خرجوا من الكوفة عباد يد الرجل
والرجلين والثلاثة.. ووافاهم من كان على رأيهم من أهل البصرة وكانوا 500 رجل حتى
وافوا نهروان. (2) زيد في النهج: ونخلت لكم مخزون رأيي لو كان يطاع لقصير أمر. (3)
النخيلة: موضع بالعراق. (4) قارن مع الطبري 5 / 77 وابن الأثير 2 / 400 - 401.
الأخبار الطوال ص 207 - 208 مروج الذهب 2 / 447. (*)
ص 164
أمير المؤمنين إنه قد افترقت منا فرقة، فذهبت، قال: فكتب إليهم علي (1): أما بعد،
فإن هذين الرجلين الخاطئين الحاكمين، اللذين ارتضيتم حكمين، قد خالفا كتاب الله،
واتبعا هواهما بغير هدى من الله، فلم يعملا بالسنة، ولم ينفذا للقرآن حكما، فبرئ
الله منهما ورسوله وصالحو المؤمنين، إذا بلغكم كتابنا هذا فأقبلوا إلينا فإنا
سائرون إلى عدونا وعدوكم، ونحن على الأمر الذي كنا عليه، والسلام. قال: فكتبوا
إليه: أما بعد فإنك لم تغضب لله، إنما غضبت لنفسك، والله لا يهدي كيد الخائنين.
قال: فلما رأى علي كتابهم أيس منهم، ورأى أن يدعهم، ويمضي بالناس إلى معاوية وأهل
الشام فيناجزهم فقام علي خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن من ترك
الجهاد وداهن في أمر الله كان على شفا هلكة، إلا أن يتداركه الله برحمته، فاتقوا
الله عباد الله، قاتلوا من حاد الله، وحاول أن يطفئ نور الله، قاتلوا الخاطئين،
القاتلين لأولياء الله، المحرفين لدين الله، الذين ليسوا بقراء الكتاب ولا فقهاء في
الدين، ولا علماء بالتأويل، ولا لهذا الأمر بأهل في دين، ولا سابقة في الإسلام،
ووالله لو ولوا عليكم لعملوا فيكم بعمل كسرى وقيصر. فسيروا وتأهبوا للقتال، وقد
بعثت لإخوانكم من أهل البصرة، ليقدموا عليكم فإذا قدموا واجتمعتم شخصنا إن شاء الله
(2).
كتاب علي إلى ابن عباس
قالوا: وكان علي قد كتب إلى ابن عباس وإلى أهل البصرة:
أما بعد، فإنا أجمعنا على المسير إلى عدونا من أهل الشام (3)، فأشخص إلي من قبلك من
الناس، وأقم حتى آتيك، والسلام. ما قال ابن عباس إلى أهل البصرة 
فلما قدم كتاب علي
على ابن عباس، قرأه على الناس، ثم أمرهم
(هامش)
(1) قارن مع نسخة الكتاب في الطبري 5 / 77 والأخبار الطوال ص 208 والكامل لابن
الأثير ص 2 / 401 فتوح ابن الأعثم 4 / 106 باختلاف في الألفاظ وزيادة ونقصان في
التعابير. (2) قارن خطبته مع الطبري 5 / 78 وابن الأثير 2 / 401 مروج الذهب 2 /
449. (3) في الطبري وابن الأثير: من أهل المغرب. (*)
ص 165
بالشخوص مع الأحنف بن قيس، فشخص معه منهم ألف وخمس مئة رجل، فاستقبلهم ابن عباس،
فقام خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أهل البصرة، قد جاءني كتاب أمير
المؤمنين يأمرني بإشخاصكم، فأمرتكم بالمسير إليه مع الأحنف بن قيس، فلم يشخص إليه
منكم إلا ألف وخمس مئة، وأنتم في الديوان ستون ألفا سوى أبنائكم وعبدانكم ومواليكم.
ألا فانفروا (1)، ولا يجعل امرؤ على نفسه سبيلا، فإني موقع بكل من وجدته تخلف عن
دعوته، عاصيا لإمامه، حزنا يعقب ندما، وقد أمرت أبا الأسود بحشدكم، فلا يلم امرؤ
جعل السبيل على نفسه إلا نفسه. ما قال علي كرم الله وجهه لأهل الكوفة
قال: فحشد أبو
الأسود الناس بالبصرة، فاجتمع عليه ألف وسبع مئة فأقبل هو والأحنف بن قيس، حتى
وافيا عليا بالنخيلة، فلما رأى علي أنه إنما قدم عليه من أهل البصرة ثلاثة آلاف
ومئتا رجل (2)، جمع إليه رؤساء الناس وأمراء الأجناد ووجوه القبائل، فحمد الله
وأثنى عليه، ثم قال: يا أهل الكوفة أنتم إخواني وأنصاري وأعواني على الحق، ومجيبي
إلى جهاد المحلين، بكم أضرب المدبر، وأرجو إتمام طاعة المقبل، وقد بعثت إلى أهل
البصرة، فاستنفرتهم، فلم يأتني منهم غير ثلاثة آلاف ومئتين، فأعينوني بمناصحة سمحة،
خلية من الغش، وإني آمركم أن يكتب إلي رئيس كل قوم منكم ما في عشيرته من المقاتلة،
وأبنائهم الذين أدركوا القتال والعبدان والموالي، وارفعوا ذلك إلي ننظر فيه إن شاء
الله. فقام سعد بن قيس الهمداني، فقال: يا أمير المؤمنين سمعا وطاعة، وودا ونصيحة،
أنا أول الناس، وأول من أجابك بما سألت وطلبت. ثم قام عدي بن حاتم وحجر بن عدي
وأشراف القبائل، فقالوا: نحن كذلك، ثم كتبوا ورفعوا إلى علي، فكان جميع ما رفعوا
إليه أربعين ألف مقاتل،
(هامش)
(1) زيد في الطبري: مع جارية بن قدامة السعدي. (2) في الأخبار الطوال: زهاء سبعة
آلاف رجل، وقد قدم بهم ابن عباس. وفي مروج الذهب: عشرة آلاف. (*)
ص 166
وسبعة عشر ألفا من الأبناء، وثمانية آلاف من عبيدهم ومواليهم، وكانت العرب يومئذ
سبعة وخمسين ألفا من أهل الكوفة، ومن مماليكهم ومواليهم ثمانية آلاف، ومن أهل
البصرة ثلاثة آلاف ومئتا رجل، فقام علي فيهم خطيبا، فقال: أما بعد، فقد بلغني
قولكم: لو أن أمير المؤمنين سار بنا إلى هذه الخارجة التي خرجت علينا، فبدأنا بهم،
إلا أن غير هذه الخارجة أهم على أمير المؤمنين، سيروا إلى قوم يقاتلونكم كيما
يكونوا في الأرض جبارين ملوكا، ويتخذهم المؤمنون أربابا، ويتخذون عباد الله خولا،
ودعوا ذكر الخوارج. قال (1): فنادى الناس من كل جانب: سر بنا يا أمير المؤمنين حيث
أحببت، فنحن حزبك وأنصارك، نعادي من عاداك (2)، ونشايع من أناب إليك وإلى طاعتك،
فسر بنا إلى عدوك، كائنا من كان، فإنك لن تؤتى من قلة ولا ضعف (3)، فإن (4) قلوب
شيعتك كقلب رجل واحد في الاجتماع على نصرتك، والجد في جهاد عدوك، فابشر يا أمير
المؤمنين بالنصر، واشخص إلى أي الفريقين أحببت، فإنا شيعتك التي ترجو في طاعتك
وجهاد من خالفك صالح الثواب من الله، تخاف من الله في خذلانك، والتخلف عنك شديد
الوبال. ما قال علي كرم الله وجهه في الخثعمي
فبايعوه على التسليم والرضا، وشرط
عليهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه، وسلم، فجاءه رجل من خثعم، فقال له
الإمام علي تبايع على كتاب الله وسنة نبيه؟ قال: لا، ولكن أبايعك على كتاب الله
وسنة نبيه وسنة أبي بكر وعمر. فقال علي: وما يدخل سنة أبي بكر وعمر مع كتاب الله
وسنة نبيه؟ إنما كانا عاملين بالحق حيث عملا، فأبى الخثعمي إلا سنة أبي بكر وعمر،
وأبى علي أن يبايعه إلا على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال له حيث
ألح عليه: تبايع؟ قال: لا، إلا على ما ذكرت لك، فقال له علي: أما والله لكأني بك قد
نفرت في هذه الفتنة، وكأني بحوافر خيلي قد شدخت وجهك،
(هامش)
(1) في الطبري 5 / 80 هذا قول صيفي بن فسيل، وفي ابن الأثير: قسيل. (2) في الطبري:
عاديت. (3) في الطبري: من قلة عدد، ولا ضعف نية أتباع. (4) من هنا ذكر هذا الكلام
في الطبري إلى محرز بن شهاب التميمي من بني سعد. (*)
ص 167
فلحق بالخوارج، فقتل يوم النهروان. قال قبيصة: فرأيته يوم النهروان قتيلا، قد وطأت
الخيل وجهه، وشدخت رأسه، ومثلث به، فذكرت قول علي: وقلت لله در أبي الحسن! ما حرك
شفتيه قط بشيء إلا كان كذلك. إجماع على الذهاب إلى صفين
فأجمع علي والناس على
المسير إلى صفين، وتجهز معاوية حتى نزل صفين، فلما خرج علي بالناس عبر الجسر، ثم
مضى حتى نزل دير أبي موسى، على شاطئ الفرات، ثم أخذ على الأنبار. وإن الخارجة التي
خرجت على علي بينما هم يسيرون، فإذا هم برجل يسوق امرأته على حمار له، فعبروا إليه
الفرات، فقالوا له: من أنت؟ قال: أنا رجل مؤمن، قالوا: فما تقول في علي بن أبي
طالب؟ قال: أقول: إنه أمير المؤمنين، وأول المسلمين إيمانا بالله ورسوله. قالوا:
فما اسمك؟ قال: أنا عبد الله بن خباب بن الأرت، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقالوا له: أفزعناك؟ قال: نعم، قالوا: لا روع عليك، حدثنا عن أبيك بحديث سمعه من
رسول الله، لعل الله أن ينفعنا به، قال: نعم، حدثني عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم، أنه قال: ستكون فتنة بعدي، يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه، يمسي مؤمنا،
ويصبح كافرا. فقالوا: لهذا الحديث سألناك، والله لنقتلنك قتلة ما قتلناها أحدا،
فأخذوه وكتفوه، ثم أقبلوا به وبامرأته وهي حبلى متم (1)، حتى نزلوا تحت نخل، فسقطت
رطبة منها، فأخذها بعضهم فقذفها في فيه، فقال له أحدهم بغير حل، أو بغير ثمن
أكلتها، فألقاها من فيه، ثم اخترط بعضهم سيفه فضرب به خنزيرا لأهل الذمة، فقتله،
قال له بعض أصحابه: إن هذا من الفساد في الأرض، فلقي الرجل صاحب الخنزير فأرضاه من
خنزيره، فلما رأى منهم عبد الله بن خباب ذلك، قال: لئن كنتم صادقين فيما أرى، ما
علي منكم بأس، ووالله ما أحدثت حدثا في الإسلام، وإني لمؤمن، وقد أمنتموني، وقلتم
لا روع عليك فجاؤوا به وبامرأته، فأضجعوه على شفير النهر، على ذلك الخنزير، فذبحوه
فسال دمه في الماء (2)، ثم أقبلوا إلى امرأته، فقالت: إنما أنا امرأة، أما تتقون
الله؟ قال: فبقروا
(هامش)
(1) المرأة المتم: التي أتمت أشهرها وقاربت الولادة. (2) قيل ضربه مسعر بن فدكى على
أم رأسه فقتله (ابن الأعثم 4 / 198). (*)
ص 168
بطنها، وقتلوا ثلاثة نسوة، فيهم أم سنان قد صحبت النبي عليه الصلاة والسلام. فبلغ
عليا خبرهم، فبعث إليهم الحارث بن مرة، لينظر فيما بلغه من قتل عبد الله بن خباب
والنسوة، ويكتب إليه بالأمر، فلما انتهى إليهم ليسائلهم، خرجوا إليه فقتلوه، فقال
الناس: يا أمير المؤمنين، تدع هؤلاء القوم وراءنا يخلفوننا في عيالنا وأموالنا، سر
بنا إليهم، فإذا فرغنا منهم نهضنا إلى عدونا من أهل الشام. مسير علي إلى الخوارج
وما قال لهم
قال: فسار علي ومن معه حتى نزلوا المدائن، ثم خرج حتى أتى النهروان
فبعث إليهم: أن ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم نقتلهم بهم، ثم أنا أفارقكم، وأكف
عنكم، حتى ألقى أهل الشام، فبعثوا إليه: إنا كلنا قتلناهم، وكلنا مستحل لدمائكم
ودمائهم. ثم أتاهم علي، فوقف عليهم، فقال (1): أيتها العصابة، إني نذير لكم أن
تصبحوا تلعنكم الأمة غدا، وأنتم صرعى بإزاء هذا النهر، بغير برهان، ولا سنة، ألم
تعلموا أني نهيتكم عن الحكومة، وأخبرتكم أن طلب القوم لها مكيدة، وأنبأتكم أن القوم
ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، وإني أعرف بهم منكم، قد عرفتهم أطفالا، وعرفتهم رجالا،
فهم شر رجال، وشر أطفال، وهم أهل المكر والغدر، وإنكم إن فارقتموني ورأيي، جانبتم
الخير والحزم، فعصيتموني وأكرهتموني، حتى حكمت، فلما أن فعلت شرطت واستوثقت، وأخذت
على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن، وأن يميتا ما أمات القرآن، فاختلفا، وخالفا
حكم الكتاب والسنة، وعملا بالهوى، فنبذا أمرهم، ونحن على أمرنا الأول، فما نبؤكم
ومن أين أتيتم؟ قالوا له: إنا حيث حكمنا الرجلين أخطأنا بذلك، وكنا كافرين، وقد
تبنا من ذلك، فإن شهدت على نفسك بالكفر، وتبت كما تبنا وأشهدنا، فنحن معك ومنك،
وإلا فاعتزلنا، وإن أبيت فنحن منابذوك على سواء. فقال علي: أبعد إيماني بالله،
وهجرتي وجهادي مع رسول الله، أبوء وأشهد على نفسي بالكفر؟ لقد ضللت إذا وما أنا من
المهتدين. ويحكم! بم استحللتم قتالنا، والخروج من جماعتنا؟ أأن اختار الناس رجلين،
فقالوا لهما: انظرا بالحق فيما يصلح العامة ليعزل رجل، ويوضع آخر مكانه.
(هامش)
(1) قارن مع الطبري 5 / 84 وابن الأثير 2 / 404 وقسم منها في نهج البلاغة ص 140.
(*)
ص 169
أحل لكم أن تضعوا سيوفكم على عواتقكم، تضربون بها هامات الناس، وتسفكون دماءهم؟! إن
هذا لهو الخسران المبين. قال: فتنادوا لا تخاطبوهم ولا تكلموهم، تهيئوا للقاء الحرب
(1)، الرواح الرواح إلى الجنة . قتل الخوارج
قال: فرجع علي، فعبأ أصحابه فجعل على
الميمنة حجر بن عدي، وعلى الميسرة شبث بن ربعي، وعلى الخيل أبا أيوب الأنصاري، وعلى
الرجالة أبا قتادة، وعلى أهل المدينة وهم ثمان مئة (2) رجل من الصحابة قيس بن سعد
بن عبادة، ووقف علي في القلب في مضر. قال: ثم رفع لهم راية أمان مع أبي أيوب
الأنصاري، فناداهم أبو أيوب: من جاء منكم إلى هذه الراية فهو آمن، ومن دخل المصر
فهو آمن، ومن انصرف إلى العراق، وخرج من هذه الجماعة فهو آمن، فإنه لا حاجة لنا في
سفك دمائكم (3)، قال: وقدم الخيل دون الرجالة، وصف الناس صفين وراء الخيل، وصف
الرماة صفا أمام صف، وقال لأصحابه: كفوا عنهم حتى يبدأوكم. قال: وأقبلت الخوارج حتى
إذا دنوا من الناس نادوا: لا حكم إلا لله، ثم نادوا: الرواح الرواح إلى الجنة. قال:
وشدوا على أصحاب علي شدة رجل واحدة، والخيل أمام الرجال، فاستقبلت الرماة وجوههم
بالنبل، فخمدوا. قال الثعلبي: لقد رأيت الخوارج حين استقبلتهم الرماح والنبل كأنهم
معز اتقت المطر بقرونها، ثم عطفت الخيل عليهم من الميمنة والميسرة، ونهض علي في
القلب بالسيوف والرماح، فلا والله ما لبثوا فواقا (4) حتى صرعهم الله، كأنما قيل
لهم موتوا فماتوا (5). قال: وأخذ علي ما كان في عسكرهم من كل
(هامش)
(1) في الطبري: للقاء الرب. (2) في الطبري: سبعمئة أو ثمانمئة رجل. (3) بعد نداء
أبي أيوب انصرفت طائفة منهم إلى الدسكرة وطائفة إلى الكوفة وجماعة إلى علي، وكانوا
أربعة آلاف. وبقي مع عبد الله بن وهب منهم ألفان وثمنمئة رجل. (الطبري 5 / 86 ابن
الأثير 2 / 406 فتوح ابن الأعثم 4 / 125). (4) الفواق مقدار حلب الناقة أو البقرة
أو نحوهما. (5) لم يفلت منهم إلا تسعة نفر: هرب منهم رجلان إلى خراسان ورجلان إلى
اليمن ورجلان إلى بلاد الجزيرة وصار رجل إلى تل موزن. (شرح نهج البلاغة - ابن
الأعثم). (*)
ص 170
شيء، فأما السلاح والدواب فقسمه علي بيننا، وأما المتاع والعبيد والإماء فإنه حين
قدم الكوفة رده على أهلها. قال: ولما أراد علي الانصراف من النهروان، قام خطيبا،
فحمد الله ثم قال: أما بعد، فإن الله قد أحسن بلاءكم، وأعز نصركم، فتوجهوا من فوركم
هذا إلى معاوية وأشياعه القاسطين، الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم واشتروا به
ثمنا قليلا، فبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون. فقالوا: يا أمير المؤمنين
نفدت نبالنا، وكلت أذرعنا، وتقطعت سيوفنا، ونصلت أسنة رماحنا، فارجع بنا نحسن
عدتنا، ولعل أمير المؤمنين يزيد في عدتنا عدة، فإن ذلك أقوى (1) لنا على عدونا.
فأقبل علي بالناس حتى نزل بالنخيلة، فعسكر بها، وأمر الناس أن يلزموا معه عسكرهم،
ويوطنوا أنفسهم على الجهاد، وأن يقلوا من زيارة أبنائهم ونسائهم، حتى يسيروا إلى
عدوهم من أهل الشام، فأقاموا معه أياما، ثم رجعوا يتسللون ويدخلون الكوفة، ويتلذذون
بنسائهم وأبنائهم ولذاتهم، حتى تركوا عليا وما معه إلا نفر من وجوه الناس يسير،
وترك العسكر خاليا. [فلما رأى ذلك دخل الكوفة، وانكسر عليه رأيه في المسير] (2). خطبة علي كرم الله وجهه
قال: فقام علي على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
أيها الناس، استعدوا للمسير إلى عدو في جهاده القربة إلى الله، ودرك الوسيلة عنده،
فأعدوا له ما استطعتم من قوة، ومن رباط الخيل، وتوكلوا على الله، وكفى به وكيلا، ثم
تركهم أياما، ودعا رؤساءهم ووجوههم، فسألهم عن رأيهم، وما الذي ثبطهم؟ (3) فمنهم
المعتل، ومنهم المتكره، وأقلهم من نشط، فقال لهم علي: عباد الله، ما لكم إذا أمرتكم
أن تنفروا في سبيل الله (اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة بدلا)
[التوبة: 38]، ورضيتم بالذل والهوان من العز خلفا، كلما ناديتكم إلى الجهاد دارت
أعينكم، كأنكم من الموت في سكرة، وكانت
(هامش)
(1) في الطبري: أوفى. (2) ما بين معكوفتين زيادة عن الطبري. (3) في الطبري: وما
الذي ينظرهم. وفي ابن الأثير: يبطئ بهم. (*)
ص 171
قلوبكم قاسية (1)، فأنتم لا تعقلون، وكأن أبصاركم كمه، فأنتم لا تبصرون، لله أنتم،
ما أنتم إلا أسود رواعة (2)، وثعالب رواغة عند الناس (3)، تكادون ولا تكيدون،
وتنتقص أطرافكم فلا تحاشون، وأنتم في غفلة ساهون، إن أخا الحرب اليقظان. أما بعد:
فإن لي عليكم حقا، ولكم علي حق، أما حقكم علي: فالنصيحة في ذات الله، وتوفير فيئكم
عليكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتأديبكم كيما تعلموا، وأما حقي عليكم: فالوفاء
بالبيعة، والنصح لي في الإجابة حين أدعوكم، والطاعة حين آمركم، فإن يرد الله بكم
خيرا تنزعوا عما أكره، وترجعوا إلى ما أحب، تنالوا بذلك ما تحبون، وتدركوا ما
تأملون. أيها الناس المجتمعة أبدانهم، المختلفة أهواؤهم (4)، ما عزت دعوة من دعاكم،
ولا استراح قلب من قاساكم، كلامكم يوهي الصم (5)، وفعلكم يطمع فيكم عدوكم، إذا
أمرتكم بالمسير قلتم كيت وكيت، أعاليل بأضاليل، هيهات، لا يدرك الحق إلا بالجد
والصبر، أي دار بعد داركم تمنعون؟ ومع أي إمام بعدي تقاتلون؟ المغرور والله من
غررتموه، ومن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب (6)، أصبحت لا أطمع في نصرتكم، ولا أصدق
قولكم، فرق الله بيني وبينكم، وأعقبني بكم من هو خير لي، وأعقبكم بعدي من هو شر لكم
مني، أما إنكم ستلقون بعدي ذلا شاملا. وسيفا قاتلا. وأثرة يتخذها الظالمون بعدي
عليكم سنة. تفرق جماعتكم. وتبكي عيونكم. وتدخل الفقر بيوتكم. تمنون والله عندها أن
لو رأيتموني ونصرتموني. وستعرفون ما أقول لكم عما قليل. استنفرتكم فلم تنفروا.
ونصحت لكم فلم تقبلوا، وأسمعتكم فلم تعوا، فأنتم شهود كأغياب، وصم ذوو أسماع، أتلو
عليكم الحكمة، وأعظكم بالموعظة النافعة، وأحثكم على جهاد المحلين، الظلمة الباغين،
فما آتي على آخر قولي حتى أراكم متفرقين، إذا تركتكم عدتم إلى مجالسكم حلقا عزين،
تضربون الأمثال،
(هامش)
(1) في الطبري وابن الأثير: وكان قلوبكم مألوسة. (2) في الطبري: أسود الشرى في
الدعة. (3) في الطبري وابن الأثير: ثعالب رواغة حين تدعون إلى البأس. (4) أهواؤهم
آراؤهم وما تميل إليه قلوبهم (النهج - شرح محمد عبده). (5) الصم الشديدة الصلبة.
(6) السهم الأخيب: أي من فاز وظفر بكم وكنتم نصيبه فقد ظفر بالسهم الأخيب وهو من
سهام البسر الذي لا حظ له. (*)
ص 172
وتناشدون الأشعار، تربت أيديكم، وقد نسيتم الحرب واستعدادها، وأصبحت قلوبكم فارغة
عن ذكرها، وشغلتموها بالأباطيل والأضاليل، ويحكم! اغزوا عدوكم قبل أن يغزوكم،
فوالله ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا، وأيم الله ما أظنكم تفعلون حتى يفعل
بكم! وأيم الله لوددت أني قد رأيتهم فلقيت الله على نيتي وبصيرتي، فاسترحت من
مقاساتكم ومداراتكم، ويحكم! ما أنتم إلا كإبل جامحة ضل عنها رعاؤها، فكلما ضمت (2)
من جانب، انتشرت من جانب، والله لكأني أنظر إليكم وقد حمي الوطيس، لقد انفرجتم عن
علي، انفراج الرأس، وانفراج المرأة عن قبلها. فقام إليه الأشعث بن قيس الكندي،
فقال: يا أمير المؤمنين فهلا فعلت كما فعل عثمان؟ قال له علي: ويلك وما فعل عثمان،
رأيتني عائذا بالله من شر ما تقول، والله إن الذي فعل عثمان لمخزاة على من لا دين
له، ولا حجة معه، فكيف وأنا على بينة من ربي، والحق معي، والله إن امرأ أمكن عدوه
من نفسه، فنهش عظمه، وسفك دمه، لعظيم عجزه، ضعيف قلبه. أنت يا بن قيس فكن ذلك، فأما
أنا فوالله دون أن أعطي ذلك ضرب بالمشرفي (3)، يطير له فراش الرأس (2)، وتطيح منه
الأكف والمعاصم (5)، وتجد به الغلاصم ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء. والله يا أهل
العراق، ما أظن هؤلاء القوم من أهل الشام إلا ظاهرين عليكم، فقالوا: أبعلم تقول ذلك
يا أمير المؤمنين؟ فقال: نعم، والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إني أرى أمورهم قد
علت، وأرى أموركم قد خبت، وأراهم جادين في باطلهم، وأراكم وانين في حقكم، وأراهم
مجتمعين، وأراكم متفرقين، وأراهم لصاحبهم معاوية مطيعين، وأراكم لي عاصين. أما
والله لئن ظهروا عليكم بعدي لتجدنهم أرباب سوء، كأنهم والله عن قريب قد شاركوكم في
بلادكم، وحملوا إلى بلادهم منكم، وكأني أنظر إليكم تكشون كشيش
(هامش)
(1) عزين جمع عزة وهي الجماعة. (2) في النهج: جمعت. (3) المشرفي نسبة إلى مشارف بلد
بالشام، وفيها تصنع السيوف المشرفية. (4) فراش الهام في النهج. يعني العظام الرقيقة
التي تلي القحف. (5) في النهج: وتطيح السواعد والأقدام. (*)
ص 173
الضباب (1)، لا تأخذون لله حقا، ولا تمنعون له حرمة (2)، وكأني أنظر إليهم يقتلون
صلحاءكم، ويخيفون علماءكم، وكأني أنظر إليكم يحرمونكم ويحجبونكم، ويدينون الناس
دونكم، فلو قد رأيتم الحرمان، ولقيتم الذل والهوان، ووقع السيف ونزل الخوف، لندمتم
وتحسرتم على تفريطكم في جهاد عدوكم، وتذكرتم ما أنتم فيه من الخفض والعافية، حين لا
ينفعكم التذكار. فقال الناس: قد علمنا يا أمير المؤمنين أن قولك كله وجميع لفظك
يكون حقا، أترى معاوية يكون علينا أميرا؟ فقال: لا تكرهون إمرة معاوية، فإن إمرته
سلم وعافية، فلو قد مات رأيتم الرؤوس تندر عن كهولها كأنها الحنظل، وعدا كان
مفعولا، فأما إمرة معاوية فلست أخاف عليكم شرها، ما بعدها أدهى وأمر.
كلام أبي أيوب
الأنصاري
ثم قام أبو أيوب الأنصاري، فقال: إن أمير المؤمنين أكرمه الله قد أسمع من
كانت له أذن واعية، وقلب حفيظ، إن الله قد أكرمكم به كرامة ما قبلتموها حق قبولها،
حيث نزل بين أظهركم ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخير المسلمين وأفضلهم
وسيدهم بعده، يفقهكم في الدين، ويدعوكم إلى جهاد المحلين، فوالله لكأنكم صم لا
تسمعون، وقلوبكم غلف مطبوع عليها فلا تستجيبون. عباد الله، أليس إنما عهدكم بالجور
والعدوان أمس، وقد شمل العباد، وشاع في الإسلام، فذو حق محروم، ومشتوم عرضه، ومضروب
ظهره، وملطوم وجهه، وموطوء بطنة، وملقى بالعراء، فلما جاءكم أمير المؤمنين صدع
بالحق، ونشر بالعدل، وعمل بالكتاب، فاشكروا نعمة الله عليكم، ولا تتولوا مجرمين،
ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون. اشحذوا السيوف، وجددوا آلة الحرب،
واستعدوا للجهاد، فإذا دعيتم فأجيبوا، وإذا أمرتم فأطيعوا تكونوا بذلك من الصادقين.
قال: ثم قام رجال من أصحاب علي فقالوا: يا أمير المؤمنين، اعط هؤلاء هذه الأموال،
وفضل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش من الموالي، ممن
(هامش)
(1) كشيش الضباب صوت احتكاك جلودها عند ازدحامها، والمراد حكاية حالهم عند هزيمتهم.
(2) في النهج: ضيما. (*)
ص 174
يتخوف خلافه على الناس وفراقه. وإنما قالوا له: هذا الذي كان معاوية يصنعه بمن
أتاه، وإنما عامة الناس همهم الدنيا، ولها يسعون، وفيها يكدحون. فاعط هؤلاء
الأشراف، فإذا استقام لك ما تريد عدت إلى أحسن ما كنت عليه من القسم، فقال علي:
أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه من الإسلام؟ فوالله لا أفعل ذلك ما
لاح في السماء نجم، والله لو كان لهم مال لسويت بينهم، فكيف وإنما هي أموالكم. فقال
رجل: يا أمير المؤمنين إن الموت نازل لا بد منه، فإن حل فمن صاحبنا؟ فقال علي:
أحدثك عن خاصة نفسي، أما الحسن فصاحب خوان (1)، وفتى من الفتيان، ولو قد التقت
حلقتا البطان لم يغن عنكم في الحرب حثالة عصفور. وأما ابن أخي عبد الله بن جعفر
فصاحب لهو. وأما الحسين ومحمد ابناي فأنا منهما وهما مني، والله لقد أحببت أن يدال
هؤلاء القوم عليكم، بإصلاحهم في أرضهم، وفسادكم في أرضكم، وأدائهم الأمانة لمعاوية،
وخيانتكم، وبطاعتهم له، ومعصيتكم لي، واجتماعهم على باطلهم، تفرقكم عن حقكم، وأيم
الله لا يدعون بعدي محرما إلا استحلوه، ولا يبقى بيت وبر ولا مدر إلا أدخلوه ظلمهم،
حتى يقوم الباكيان منكم، باك لدينه، وباك لدنياه، وحتى تكون نصرة أحدكم كنصرة العبد
لسيده، إذا شهد أطاعه، وإذا غاب سبه. فقال رجل: يا أمير المؤمنين، أتظن ذلك كائنا؟
قال: ما هو بالظن ولكنه اليقين. ما كتب علي لأهل العراق
قال: فقام حجر بن عدي،
وعمرو بن الحمق، وعبد الله بن وهب الراسبي، فدخلوا على علي، فسألوه عن أبي بكر
وعمر: ما تقول فيهما؟ وقالوا: بين لنا قولك فيهما وفي عثمان. قال علي كرم الله
وجهه: وقد تفرغتم لهذا؟ وهذه مصر قد افتتحت، وشيعتي فيها قد قتلت؟ إني مخرج إليكم
كتابا أنبئكم فيه ما سألتموني عنه، فاقرأوه على شيعتي، فأخرج إليهم كتابا فيه: أما
بعد، فإن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم نذيرا للعالمين، وأمينا على التنزيل،
وشهيدا على هذه الأمة، وأنتم يا معشر العرب على غير دين، وفي شر
(هامش)
(1) صاحب خوان: رجل كرم وإطعام. (*)
ص 175
دار، تسفكون دماءكم، وتقتلون أولادكم، وتقطعون أرحامكم، وتأكلون أموالكم بينكم
بالباطل، فمن الله عليكم، فبعث محمدا إليكم بلسانكم، فكنتم أنتم المؤمنين، وكان
الرسول فيكم ومنكم، تعرفون وجهه ونسبه، فعلمكم الكتاب والحكمة والسنة والفرائض،
وأمركم بصلة الأرحام، وحقن الدماء، وإصلاح ذات بينكم، وأن تؤدوا الأمانات إلى
أهلها، وأن توفوا بالعقود، وأن تعاطفوا وتباروا وتراحموا، نهاكم عن التظالم
والتحاسد والتقاذف والتباغي، وعن شرب الحرام، وعن بخس المكيال والميزان، وتقدم
إليكم فيما أنزل عليكم أن لا تزنوا ولا تأكلوا أموال اليتامى ظلما، فكل خير يبعدكم
عن النار قد حضكم عليه، وكل شر يبعدكم عن الجنة قد نهاكم عنه، فلما استكمل رسول
الله صلى الله عليه وسلم مدته من الدنيا توفاه الله وهو مشكور سعيه مرضي عمله،
مغفور له ذنبه، شريف عند الله نزله، فيا لموته مصيبة خصت الأقربين، وعمت المؤمنين،
فلما مضى تنازع المسلمون الأمر بعده، فوالله ما كان يلقى في روعي (1)، ولا يخطر على
بالي أن العرب تعدل هذا الأمر عني، فما راعني إلا إقبال الناس على أبي بكر،
وإجفالهم عليه، فأمسكت يدي، ورأيت أني أحق بمقام محمد في الناس ممن تولى الأمور
علي، فلبثت بذلك ما شاء الله، حتى رأيت راجعة من الناس رجعت عن الإسلام، يدعون إلى
محو دين محمد. وملة إبراهيم عليهما السلام. فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله. إن أرى
في الإسلام ثلما (2) وهدما. تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولاية أمركم. التي
إنما هي متاع أيام قلائل. ثم يزول ما كان منها، كما يزول السراب، فمشيت عند ذلك إلى
أبي بكر فبايعته، ونهضت معه في تلك الأحداث، حتى زهق الباطل، وكانت كلمة الله هي
العليا، وأن يرغم الكافرون، فتولى أبو بكر رضي الله عنه تلك الأمور فيسر، وسدد،
وقارب، واقتصد، فصحبته مناصحا، وأطعته فيما أطاع الله فيه جاهدا، فلما احتضر بعث
إلى عمر، فولاه، فسمعنا وأطعنا، وبايعنا وناصحنا، فتولى تلك الأمور، فكان مرضي
السيرة، ميمون النقيبة أيام حياته، فلما احتضر قلت في نفسي: ليس يصرف هذا الأمر
عني. فجعلها عمر شورى وجعلني سادس ستة، فما كانوا لولاية أحد منهم بأكره منهم
لولايتي، لأنهم كانوا
(هامش)
(1) روعي: بالضم القلب أو موضع الروع منه، وبفتح الراء: الفزع. (2) ثلما أي خرقا.
(*)
ص 176
يسمعونني وأنا أحاج أبا بكر فأقول: يا معشر قريش، أنا أحق بهذا الأمر منكم ما كان
منا من يقرأ القرآن، ويعرف السنة، فخشوا إن وليت عليهم أن لا يكون لهم في هذا الأمر
نصيب، فبايعوا إجماع رجل واحد، حتى صرفوا الأمر عني لعثمان، فأخرجوني منها، رجاء أن
يتداولوها. حين يئسوا أن ينالوها، ثم قالوا لي: هلم فبايع عثمان. وإلا جاهدناك.
فبايعت مستكرها. صبرت محتسبا، وقال قائلهم: إنك يا بن أبي طالب على الأمر لحريص،
قلت لهم: أنتم أحرص. أما أنا إذا طلبت ميراث ابن أبي وحقه، وأنتم إذ دخلتم بيني
وبينه، وتضربون وجهي دونه، اللهم إني استعين بك على قريش، فإنهم قطعوا رحمي، وصغروا
عظيم منزلتي وفضلي، واجتمعوا على منازعتي حقا كنت أولى به منهم فسلبونيه، ثم قالوا:
اصبر كمدا، وعش متأسفا، فنظرت فإذا ليس معي رفاق ولا مساعد إلا أهل بيتي، فظننت بهم
على الهلاك، فأغضيت عيني على القذى، وتجرعت رفيق على الشجا. وصبرت من كظم الغيظ على
أمر من العلقم طعما، وآلم للقلب من حز الحديد، حتى إذا نقمتم على عثمان أتيتموه
فقتلتموه، ثم جئتموني تبايعونني، فأبيت عليكم، وأبيتم علي، فنازعتموني ودافعتموني،
ولم أمد يدي، تمنعا عنكم، ثم ازدحمتم علي، حتى ظننت أن بعضكم قاتل بعض، وأنكم
قاتلي، وقلتم: لا نجد غيرك، ولا نرضى إلا بك، فبايعنا لا نفترق ولا نختلف، فبايعتكم
ودعوتم الناس إلى بيعتي، فمن بايع طائعا قبلت منه، ومن أبى تركته، فأول من بايعني
طلحة والزبير، ولو أبيا ما أكرهتهما، كما لم أكره غيرهما، فما لبثا إلا يسيرا حتى
قيل لي: قد خرجا متوجهين إلى البصرة في جيش، ما منهم رجل إلا وقد أعطاني الطاعة،
وسمح لي بالبيعة، فقاموا على عمالي بالبصرة وخزائن بيوت أموالي، وعلى أهل مصري،
وكلهم في طاعتي، وعلى شيعتي، فشتتوا كلمتهم، وأفسدوا على جماعتهم، ثم وثبوا على
شيعتي، فقتلوا طائفة منهم غدرا، وطائفة صبرا، وطائفة عصرا بأسيافهم، فضاربوهم حتى
لقوا الله صابرين محتسبين، فوالله لو لم يصيبوا منهم إلا رجلا واحدا متعمدين لقتله،
لحل لي بذلك قتل الجيش كله، مع أنهم قد قتلوا من المسلمين أكثر من العدة التي دخلوا
عليهم بها، فقد أدال الله منهم، فبعدا للقوم الظالمين. ثم إني نظرت بعد ذلك في أهل
الشام، فإذا هم أعراب وأحزاب وأهل طمع، جفاة طغام، تجمعوا من كل أوب، ممن ينبغي أن
يؤدب، ويولى عليه، ويؤخذ على
ص 177
يديه، ليسوا من المهاجرين والأنصار، ولا من التابعين بإحسان، فسرت إليهم ودعوتهم
إلى الجماعة والطاعة، فأبوا إلا شقاقا ونفاقا، ونهضوا في وجوه المهاجرين والأنصار
والتابعين بإحسان، ينضحونهم بالنبل، ويشجونهم بالرماح، فهنالك نهضت إليهم فقاتلتهم،
فلما عضهم السلاح، ووجدوا ألم الجراح، رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها، فنبأتكم
أنهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، وإنما رفعوها إليكم خديعة ومكيدة، فامضوا على
قتالهم، فاتهمتوني، وقلتم: اقبل منهم، فإنهم إن أجابوا إلى ما في الكتاب والسنة
جامعونا على ما نحن عليه من الحق، وإن أبوا كان أعظم لحجتنا عليهم، فقبلت منهم،
وخففت عنهم، وكان صلحا بينكم وبينهم على رجلين حكمين، يحييان ما أحيا القرآن،
ويميتان ما أمات القرآن، فاختلف رأيهما، وتفرق حكمهما، ونبذا حكم القرآن، وخالف ما
في الكتاب، واتبعا هواهما بغير هدى من الله، فجنبهما الله السداد وأهوى بهما في
غمرة الضلال، وكانا أهل ذلك، فانخذلت عنا فرقة منهم، فتركناهم ما تركونا، حتى إذا
عاثوا في الأرض مفسدين، وقتلوا المؤمنين، أتيناهم فقلنا لهم: ادفعوا إلينا قتلة
إخواننا، فقالوا: كلنا قتلهم، وكلنا استحللنا دماءهم ودماءكم، وشدت علينا خيلهم
ورجالهم، فصرعهم الله مصارع القوم الظالمين. ثم أمرتكم أن تمضوا من فوركم ذلك إلى
عدوكم، فإنه أفزع لقلوبهم، وأنهك لمكرهم، وأهتك لكيدهم، فقلتم: كلت أذرعنا وسيوفنا،
ونفرت نبالنا، ونصلت أسنة رماحنا، فأذن لنا، فلنرجع حتى نستعد بأحسن عدتنا، وإذا
رجعت زدت في مقاتلتنا عدة من هلك منا، ومن قد فارقنا، فإن ذلك قوة منا على عدونا،
فأقبلتم حتى إذا أطللتم على الكوفة، أمرتكم أن تلزموا معسكركم وتضموا قواصيكم،
وتتوطنوا على الجهاد، ولا تكثروا زيارة أولادكم ونسائكم فإن ذلك يرق قلوبكم
ويلويكم، وإن أصحاب الحرب لا يتوجدون، ولا يتوجعون، ولا يسأمون من سهر ليلهم، ولا
من ظمأ نهارهم، ولا من خمص بطونهم، حتى يدركوا بثأرهم، وينالوا بغيتهم ومطلبهم،
فنزلت طائفة منكم معي معذرة، ودخلت طائفة منكم المصر عاصية فلا من نزل معي صبر
فثبت، ولا من دخل المصر عاد إلي، ولقد نظرت إلى عسكري وما فيه معي منكم إلا خمسون
رجلا، فلما رأيت ما أتيتم دخلت إليكم، فما قدرتم أن تخرجوا معي إلى يومكم
ص 178
هذا، لله آباؤكم! فما تنتظرون؟ أما ترون إلى أطرافكم قد انتقصت (1)، وإلى مصركم قد
افتتح؟ فما بالكم تؤفكون! ألا إن القوم قد اجتمعوا وجدوا وتناصحوا، وإنكم تفرقتم
واختلفتم وتغاششتم، فأنتم إن اجتمعتم تسعدوا، فأيقظوا رحمكم الله نائمكم، وتحرزوا
لحرب عدوكم، إنما تقاتلون الطلقاء وأبناء الطلقاء ممن أسلم كرها، وكان لرسول الله
صلى الله عليه وسلم حربا، أعداء السنة والقرآن، وأهل الأحزاب والبدع والأحداث، ومن
كانت بوائقه تتقى، وكان عن الدين منحرفا، وأكلة الرشا، وعبيد الدنيا، لقد نمى إلي
أن ابن الباغية (2) لم يبايع معاوية حتى شرط عليه أن يؤتيه أتاوة هي أعظم ما في
يديه من سلطانه، فصفرت يد هذا البائع دينه بالدنيا! وتربت يد هذا المشتري نصرة غادر
فاسق بأموال الناس! وإن منهم لمن شرب فيكم الحرام، وجلد حدا في الإسلام (3)، فهؤلاء
قادة القوم، ومن تركت ذكر مساويه منهم شر وأضر، وهؤلاء الذين لو ولوا عليكم لأظهروا
فيكم الغضب والفخر. والتسلط بالجبروت، والتطاول بالغضب، والفساد في الأرض، ولا
تبعوا الهوى، وحكموا بالرشا، وأنتم على ما فيكم من تخاذل وتواكل خير منهم وأهدى
سبيلا، فيكم الحكماء، والعلماء والفقهاء، وحملة القرآن، والمتهجدون بالأسحار،
والعباد، والزهاد في الدنيا، وعمار المساجد، وأهل تلاوة القرآن، أفلا تسخطون
وتنقمون أن ينازعكم الولاية عليكم سفهاؤكم، والأراذل والأشرار منكم! اسمعوا قولي
إذا قلت، وأطيعوا أمري إذا أمرت، واعرفوا نصيحتي إذا نصحت، واعتقدوا جزمي إذا جزمت،
والتزموا عزمي إذا عزمت، وانهضوا لنهوضي، وقارعوا من قارعت، ولئن عصيتموني لا
ترشدوا ولا تجتمعوا، خذوا للحرب أهبتها، وأعدوا لها التهيؤ، فإنها قد وقدت نارها،
وعلا سناها، وتجرد لكم فيها الظالمون، كيما يطفئوا نور الله ويقهروكم، عباد الله،
ألا إنه ليس أولياء الشيطان من أهل الطمع والجفاء، بأولى في الجد في غيهم وضلالهم
وباطلهم، من أهل النزاهة والحق والإخبات بالجد في حقهم، وطاعة ربهم، ومناصحة
إمامهم، إني والله لو لقيتهم
(هامش)
(1) أطراف البلاد: جوانبها، قد حصل فيها النقص باستيلاء العدو عليها. (2) كذا
بالأصل، يريد ابن النابغة يعني عمرو بن العاص. (3) يريد الوليد بن عقبة بن أبي
معيط. وقد تقدم خبره. وقيل يريد عتبة بن أبي سفيان، وقد حده خالد بن عبد الله
بالطائف. (*)
ص 179
وحيدا منفردا، وهم في أهل الأرض إن (1) باليت بهم أو استوحشت منهم، إني في ضلالهم
الذي هم فيه، والهدى الذي أنا عليه، لعلى بصيرة ويقين وبينة من ربي، وإني للقاء ربي
لمشتاق ولحسن ثوابه لمنتظر راج، ولكن أسفا يعتريني، وجزعا يريبني من أن يلي هذه
الأمة سفهاؤها وفجارها، فيتخذون مال الله دولا (2)، وعباد الله خولا (3)، والصالحين
حربا، والقاسطين (4) حزبا، وأيم الله لولا ذلك ما أكثرت تأليبكم (5) وجمعكم،
وتحريضكم، ولتركتكم، فوالله إني لعلى الحق، وإني للشهادة لمحب، أنا نافر بكم إن شاء
الله، فانفروا خفافا وثقالا، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله، إن الله مع
الصابرين. مقتل علي عليه السلام
قال المدائني: حج ناس من الخوارج سنة تسع وثلاثين،
وقد اختلف عامل علي وعامل معاوية، فاصطلح الناس على شبيب بن عثمان (6)، فلما انقضى
الموسم أقام النفر من الخوارج مجاورين بمكة، فقالوا: كان هذا البيت معظما في
الجاهلية، جليل الشأن في الإسلام، وقد انتهك هؤلاء حرمته، فلو أن قوما شروا أنفسهم
فقتلوا هذين الرجلين اللذين قد أفسدا في الأرض، واستحلا حرمة هذا البيت، استراحت
الأمة، واختار الناس لهم إماما. فقال عبد الرحمن بن ملجم المرادي لعنه الله: أنا
أكفيكم أمر علي. وقال الحجاج (7) بن عبد الله الصريمي، وهو البرك: أنا أقتل معاوية.
فقال أذويه (8) مولى بني العنبر، واسمه
(هامش)
(1) في النهج: وهم طلاع الأرض كلها، ما باليت... أي لو كنت وحيدا وهم يملأون الأرض
لقيتهم غير مبال بهم. (2) الدول بضم ففتح جمع دولة بالضم أي الشيء يتداولونه بينهم
يتصرفون فيه بغير حق الله. (3) خول: عبيد (بالتحريك). (4) في النهج: والفاسقين. (5)
تأليبكم تحريضكم وتحويل قلوبكم عنهم. (6) في الطبري شيبة بن عثمان. قال وبعث علي
عبيد الله بن عباس وقيل عبد الله بن عباس وقيل قثم بن عباس. وبعث معاوية على الموسم
يزيد بن شجرة الرهاوي فاختلفوا فيمن يحج بالناس وأبى كل من الاثنين أن يسلم لصاحبه
فاصطلحا على شيبة بن عثمان بن أبي طلحة (الطبري 5 / 136 حوادث سنة 39). (7) في
الأخبار الطوال: النزال بن عامر. (8) في مروج الذهب والكامل للمبرد: زادويه، وفي
الأخبار الطوال: اسمه عبد الله بن مالك الصيداوي. (*)
ص 180
عمرو بن بكر والله ما عمرو بن العاص بدونهما، فأنا به. فتعاقدوا على ذلك ثم اعتمروا
عمرة رجب. واتفقوا على يوم واحد يكون فيه وقوع القتل منهم في علي ومعاوية وعمرو، ثم
سار كل منهم في طريقه فقدم ابن ملجم الكوفة وكتم أمره، وتزوج امرأة يقال لها: قطام
(1) بنت علقمة، كانت خارجية، وكان علي قد قتل أخاها (2) في حرب الخوارج. وتزوجها
على أن يقتل عليا (3). فأقام عندها مدة، فقالت له في بعض الأيام وهو مختف: لطالما
أحببت المكث عند أهلك، وأضربت عن الأمر الذي جئت بسببه، فقال: إن لي وقتا واعدت فيه
أصحابي، ولن أجاوزه فلما كان اليوم الذي تواعدوا فيه، خرج عدو الله، فقعد لعلي حين
خرج علي لصلاة الصبح، صبيحة نهار الجمعة، ليلة عشر (4) بقيت من رمضان سنة أربعين،
فلما خرج للصلاة وثب عليه، وقال: الحكم لله لا لك يا علي، وضربه على قرنه بالسيف،
فقال علي: فزت ورب الكعبة، ثم قال: لا يفوتنكم الرجل، فشد الناس عليه، فأخذوه. وكان
علي رضي الله عنه شديد الأدمة ثقيل العينين، ضخم البطن، أصلع، ذا عضلات، في أذنيه
شعر يخرج منهما، وكان إلى القصر أقرب (5). وكان ابن ملجم يعرض سيفه، فإذا أخبر أن
فيه عيبا أصلحه، فلما قتل عليا قال: لقد أحددت سيفي بكذا وكذا، وسممته بكذا وضربت
به عليا ضربة لو كانت بأهل المصر لأتت عليهم. وروي عن الحسن أنه قال: أتيت أبي فقال
لي: أرقت الليلة، ثم ملكتني عيني. فسنح لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له:
يا رسول الله،
(هامش)
(1) في الطبري 6 / 83 والطبقات الكبير ج 3 / 1 / 23 قطام ابنة الشجنة وفي الكامل
للمبرد 3 / 1116 فكالأصل. وفي شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2 / 170 قطام بنت
سخينة بن عوف بن تيم اللات وفي فتوح ابن الأعثم 4 / 134 قطام بنت الأضبع التميمي.
وفي مروج الذهب 2 / 457 قطام. أما في الأخبار الطوال فقال: خطب إلي قطام ابنتها
الرباب. (2) في الطبري: قتل أباها وأخاها. (أنظر مروج الذهب). (3) وكانت قطام لما
عرض عليها الزواج فاشترطت عليه مهرها: ثلاث آلاف وعبد وقينة وقتل علي بن أبي طالب
فوافق. (4) في شرح نهج البلاغة: ليلة تسع عشرة. وفي مروج الذهب: لثلاث عشرة مضت من
شهر رمضان. (5) قارن مع الطبري 5 / 153 وابن سعد 3 / 27. (*)
|