ص 181
ماذا لقيت من أمتك من الأود واللدد؟ (1) فقال: ادع عليهم، فقلت: اللهم أبدلني بهم
خيرا لي منهم، وأبدلهم بي شرا لهم مني، وخرج إلى الصلاة فاعترضه ابن ملجم، وأدخل
ابن ملجم على علي بعد ضربه إياه، فقال: أطيبوا طعامه، وألينوا فراشه، فإن أعش فأنا
ولي دمي، إما عفوت، وإما اقتصصت، وإن أمت فألحقوه بي، ولا تعتدوا، إن الله لا يحب
المعتدين. قالوا: وبكت أم كلثوم، وقالت لا بن ملجم: يا عدو الله، قتلت أمير
المؤمنين، قال: ما قتلت أمير المؤمنين، ولكني قتلت أباك. قالت: والله إني لأرجو ألا
يكون عليه بأس، قال (2): ولم تبكين إذا؟ والله لقد أرهفت السيف، ونفيت الخوف، وجبت
الأجل، وقطعت الأمل وضربت ضربة لو كانت بأهل المشرق لأتت عليهم ومكث علي يوم الجمعة
ويوم السبت، وتوفي ليلة الأحد، وغسله الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية وعبد الله بن
جعفر، وكفن في ثلاثة أثواب، ليس فيها قميص، وصلى عليه الحسن ابنه، ودفن في قصر
الإمارة بالكوفة، وغمي قبره مخافة أن ينبشه الخوارج، وقيل إنه نقل بعد صلح معاوية
والحسن إلى المدينة وأخذ ابن ملجم، فقطعت يداه ورجلاه وأذناه وأنفه، وأتوا يقطعون
لسانه فصرخ، فقيل له: قد قطعت منك أعضاء ولم تنطق، فلما أتوا يقطعون لسانك صرخت؟
قال إني أذكر الله به، فلم يسهل علي قطعه، ثم قتلوه بعد هذه المثلة (3). كانت خلافة
علي أربع سنين وتسعة أشهر، وكان عمره ثلاثا وستين سنة (4). وأما البرك: فإنه انطلق
ليلة ميعادهم، فقعد لمعاوية، فلما خرج لصلاة
(هامش)
(1) الأود: العوج. واللدد: شدة الخصومة وعدم الرجوع إلى الحق. (2) قارن مع عبارة
الكامل للمبرد 3 / 1119 والطبري 5 / 146 والأخبار الطوال ص 214. (3) وقيل في قتله
غير ذلك انظر مروج الذهب 2 / 461 والكامل للمبرد 3 / 1120. (4) في مدة خلافته
ومقدار عمره اختلاف في مصادر ترجمته انظر في ذلك الطبري 5 / 151 - 152 مروج الذهب 2
/ 385 تاريخ ابن الأثير 2 / 439 - 440 طبقات ابن سعد 3 / 37 المعارف ص 209 المحبر ص
17 نهاية الإرب 20 / 218. (*)
ص 182
الصبح شد عليه سيفه، فأدبر معاوية، فضرب رانفة (1) إليته ففلقها، ووقع السيف في لحم
كثير (2)، وأخذ، فقال لمعاوية: إن لك عندي لخبرا سارا، قد قتل الليلة علي، وحدثه
الحديث، وعولج معاوية فبرئ، وأمر بقتل البرك، (3) وقيل: ضرب البرك معاوية وهو ساجد،
فمذ ذاك جعل الحرس على رؤوس الخلفاء، واتخذ معاوية المقصورة. وأما الثالث: فقصد
عمرو بن العاص ليلة الميعاد، فلم يخرج تلك الليلة، لعلة وجدها في بطنه، وصلى بالناس
خارجة بن حذافة العدوي (4)، فشد عليه الخارجي، وهو يظن أنه ابن العاص، فقتله، وأخذ،
فأتي به عمرو بن العاص، فلما رآه قال: ومن المقتول؟ قالوا: خارجة. فقال: أردت عمرا
وأراد الله خارجة، ثم قال لعمرو بن العاص الحديث، وما كان من اتفاقه مع صاحبيه،
فأمر بقتله. فلما قتل علي تداعى أهل الشام إلى بيعة معاوية، وقال له عبد الرحمن بن
خالد بن الوليد: نحن المؤمنون، وأنت أميرنا، فبايعوه وهو بإيلياء لخمس ليال خلون من
شوال سنة أربعين. فصل
روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: يا علي، أتدري
من أشقى الأولين والآخرين؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: أشقى الأولين: عاقر
الناقة (5)، وأشقى الآخرين: الذي يطعنك. وأشار إلى حيث طعن (6). قال: وخرج علي في
ليلة قتله وهو يقول:
(هامش)
(1) أي أسفلها. وفي الكامل للمبرد 3 / 1121: أصاب مأكمتيه. والمأكمتان الواحدة
مأكمة وهما اللحمتان اللتان على رؤوس الوركين. (2) قيل إن معاوية كان عظيم الأوراك.
فقطع منه عرقا يقال إنه عرق النكاح فلم يولد لمعاوية بعد ذلك (الكامل للمبرد 3 /
1122). (3) وقيل إن معاوية لم يقتله بل قطع يده ورجله وأقام بعد ذلك بالبصرة وقد
ولد له، ثم قتله زياد لما بلغه خبره (الكامل للمبرد 3 / 1122 وانظر مروج الذهب 2 /
464). (4) وهو من بني سهم بن عمرو بن هصيص، رهط عمرو بن العاص، وكان صاحب شرطته،
وقيل قاضي مصر (راجع الكامل للمبرد 3 / 1122 الطبري 5 / 149 مروج الذهب 2 / 464)
وفي البداية والنهاية 7 / 365: خارجة بن أبي حبيبة من بني عامر بن لؤي. (5) عاقر
الناقة: الذي عقر ناقة صالح عليه السلام التي أخرجها الله لثمود من الحجر، وكانت
معجزة صالح عليه السلام لقومه حتى يؤمنوا بالله العظيم. (6) رواه ابن كثير في
البداية والنهاية 7 / 358. (*)
ص 183
اشدد حيازيمك للموت * فإن الموت لاقيكا (1) ولا تجزع من الموت * إذا حل بواديكا
وقال الشاعر في قتل ابن ملجم عليا (2): - تضمن للآثام لا در دره * ولاقى عقابا غير
ما متصرم فلا مهر أغلى من علي وإن غلا * ولا فتك إلا دون فتك ابن ملجم ثلاثة آلاف
وعبد وقينة * وضرب علي بالحسام المسمم قال هبيرة بن شريم: سمعت الحسن رضي الله عنه
يخطب، فذكر أباه وفضله وسابقته، ثم قال: والله ما ترك صفراء ولا بيضاء إلا سبع مائة
درهم فضلت من عطائه، أراد أن يشتري بها خادما (3). وجاء رجل من مراد إلى علي، فقال
له: يا أمير المؤمنين، احترس، فإن هنا قوما يريدون قتلك. فقال: إن لكل إنسان ملكين
يحفظانه، فإذا جاء القدر خلياه. قيل: ولما ضرب علي دعا أولاده، وقال لهم: عليكم
بتقوى الله وطاعته وألا تأسوا على ما صرف عنكم منها، وانهضوا إلى عبادة ربكم،
وشمروا عن ساق الجد، ولا تثاقلوا إلى الأرض، وتقروا بالخسف، وتبوءوا بالذل، اللهم
اجمعنا وإياهم على الهدى، وزهدنا وإياهم في الدنيا، واجعل الآخرة خيرا لنا ولهم من
الأولى، والسلام. بيعة الحسن بن علي رضي الله عنه لمعاوية
قال: وذكروا أنه لما قتل
علي بن أبي طالب، ثار الناس إلى الحسن بن علي بالبيعة، فلما بايعوه قال لهم:
تبايعون لي على السمع والطاعة، وتحاربون
(هامش)
(1) حيازيمك واحدها حيزوم قال المهلبي: هو ما اشتمل عليه الصدر ويقال للرجل: اشدد
حيازيمك لهذا الأمر أي وطن نفسك عليه. (2) اختلفوا في نسبة هذه الأبيات، ففي الطبري
5 / 150 نسبها إلى ابن أبي مياس المرادي. وفي سمط النجوم العوالي 2 / 468 للفرزدق
وفي شرح النهج 2 / 171 والكامل للمبرد 3 / 1116 ومروج الذهب 2 / 458 هذه الأبيات
منسوبة لابن ملجم. وفي الأخبار الطوال ص 214 قال الشاعر. وفي فتوح ابن الأعثم 4 /
147 يقول العبدي وزاد على الأبيات ثلاثة أبيات أخرى. وفي هذه المصادر اختلاف في بعض
الألفاظ والتعابير. (3) وقيل: ترك لأهله مائتين وخمسين درهما ومصحفه وسيفه (مروج
الذهب 2 / 461). وفي الطبري 5 / 157 ثمانمئة أو سبعمئة. (*)
ص 184
من حاربت، وتسالمون من سالمت، فلما سمعوا ذلك ارتابوا وأمسكوا أيديهم وقبض هو يده،
فأتوا الحسين، فقالوا له: ابسط يدك نبايعك على ما بايعنا عليه أباك، وعلى حرب
المحلين الضالين أهل الشام، فقال الحسين: معاذ الله أن أبايعكم ما كان الحسن حيا.
قال: فانصرفوا إلى الحسن، فلم يجدوا بدا من بيعته، على ما شرط عليهم، فلما تمت
البيعة له، وأخذ عهودهم ومواثيقهم على ذلك، كاتب معاوية، فأتاه فخلا به، فاصطلح معه
على أن لمعاوية الإمامة ما كان حيا، فإذا مات فالأمر للحسن (1)، فلما تم صلحهما صعد
الحسن إلى
(هامش)
(1) أقام الحسن بالكوفة بعد مقتل أبيه شهرين كاملين لا ينفذ إلى معاوية أحد، ولا
ذكر المسير إلى الشام فورد عليه كتاب من ابن عباس ومما جاء فيه: يا بن رسول الله
فإن المسلمين ولوك أمرهم بعد أبيك (رض) وقد أنكروا قعودك عن معاوية وطلبك لحقك فشمر
للحرب وجاهد عدوك. فبعث الحسن (رض) بكتاب إلى معاوية - بعد بيعته - يدعوه إلى طاعته
وبيعته، فكتب إليه معاوية برفض ما طلبه منه ثم جمع الناس وخرج في ستين ألفا يريد
العراق. عندئذ سار الحسن من الكوفة إلى مسكن وتجهز وعبأ الجيش، وجرت في عسكره
مشاحنات حتى أنهم نفروا بسرادقه ونهبوا متاعه، وتفرق الأمر عنه كتب إلى معاوية في
الصلح وفق شروط. وكان ذلك بعد أن رأى الحسن نفسه أمام ظروف دقيقة - حتمت عليه - بعد
موقف الحيرة الذي وجد نفسه فيه - اتخاذ الموقف الجرئ الواضح والذي لم يرض أن يهرق
في أمره محجمة دم، فكانت خطة حقن الدماء التي أقرها وقررها أما الظروف التي أملت
عليه اتخاذ هذا الموقف فهي: 1 - خطة الحرب النفسية والدعائية التي شنها معاوية
والتي قضى من ورائها تدمير مقاومة الجيش في مسكن. 2 - نشر الشائعات في جيش الحسن،
وكانوا من أغرار الناس المتأرجحين بين الطاعة والعصيان والمتأهبين للفتنة
والاضطرابات في كل حين. 3 - تهديم معنويات جيش الحسن. هذا ما أدى إلى نهب سرادق
الحسن ومتاعه وعامة أثقاله وتفرق أصحابه. ومما أدى إلى تطاول سنان بن الجراح الأسدي
إلى مهاجمة الحسن وجرحه جراحة كادت تأتي عليه، وما هم به المختار بن أبي عبيدة في
إقناع عمه باستيثاق الحسن وأن يستأمن به من معاوية، وانخزال القبائل، قبيلة بعد
قبيلة إلى معاوية. أمام هذا كله وقف الحسن غير عابئ بما يدور حوله، ووضع خطته فيما
يريده الله وما يؤثره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يجب لصيانة المبدأ أما
ما يقوله الناس، فلم يكن ذلك مما يعنيه كثيرا (انظر الطبري - اليعقوبي - ابن كثير).
ومما اشترطه الحسن على معاوية: 1 - أن يعمل معاوية بالمؤمنين بكتاب الله وسنة نبيه
صلى الله عليه وسلم وسيرة الخلفاء الصالحين من بعده. 2 - ليس لمعاوية أن يعهد لأحد
من بعده عهدا بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين. 3 - الناس آمنون حيث كانوا
من أرض الله شامهم وعراقهم وتهامهم وحجازهم. (*)
ص 185
المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إن الله هدى أولكم بأولنا، وحقن
دماءكم بآخرنا، وكانت لي في رقابكم بيعة، تحاربون من حاربت، وتسالمون من سالمت، وقد
سالمت معاوية، وبايعته فبايعوه وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين، وأشار إلى
معاوية. إنكار سليمان بن صرد
قال: وذكروا أنه لما تمت البيعة لمعاوية بالعراق،
وانصرف راجعا إلى الشام، أتاه سليمان بن صرد، وكان غائبا عن الكوفة، وكان سيد أهل
العراق ورأسهم. فدخل على الحسن، فقال: السلام عليك يا مذل المؤمنين (1)، فقال
الحسن: وعليك السلام، اجلس. لله أبوك، قال: فجلس سليمان، فقال: أما بعد، فإن تعجبنا
لا ينقضي من بيعتك معاوية ومعك مئة ألف مقاتل من أهل
(هامش)
4 - أصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم ودمائهم، وعلى معاوية بذلك
عهد الله وميثاقه. وذكر أنه اتفق بينهما على معاهدة صلح وقعها الفريقان. وصورتها
لما أخذناها من مصادرها حرفيا: - المادة الأولى: تسليم الأمر إلى معاوية على أن
يعمل بكتاب الله وسنة رسوله [المدائني فيما رواه عنه ابن أبي الحديد في شرح النهج 4
/ 8] وبسيرة الخلفاء الصالحين [فتح الباري فيما رواه ابن عقيل في النصائح الكافية ص
156]. - المادة الثانية: أن يكون الأمر للحسن من بعده [تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 194
والإصابة 2 / 12 و13 دائرة معارف وجدي 3 / 443] وليس لمعاوية أن يعهد به إلى أحد
[المدائني فيما يرويه عنه ابن أبي الحديد 4 / 8 والفصول المهمة لابن الصباغ
وغيرهما]. - المادة الثالثة: أن يترك سب أمير المؤمنين والقنوت عليه بالصلاة وأن لا
يذكر عليا إلا بخير [الأصفهاني: مقاتل الطالبيين ص 26 شرح النهج 4 / 15 وقال آخرون
أنه أجابه على أنه لا يشتم عليا وهو يسمع وقال ابن الأثير: ثم لم يف به أيضا]. -
المادة الرابعة: يسلم ما في بيت مال الكوفة خمسة آلاف ألف للحسن وله خراج دار أبجرد
[الطبري 6 / 92 وفي الأخبار الطوال ص 218: أن يحمل لأخيه الحسين في كل عام ألفي
ألف، ويفضل بني هاشم في العطاء والصلات على بني عبد شمس]. - المادة الخامسة: أن لا
يأخذ أحدا من أهل العراق بإحنة، وأن يؤمن الأسود والأحمر ويحتمل ما يكون من هفواتهم
[الأخبار الطوال ص 218] وعلى أن الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله في شامهم
وعراقهم وتهامهم وحجازهم [فتوح ابن الأعثم 4 / 160]. (1) في الأخبار الطوال ص 220
أن الذي دخل على الحسن وقال له ذلك هو سفيان بن ليلى. وفي فتوح ابن الأعثم 4 / 166
سفيان بن الليل البهمي. وفي البداية والنهاية 8 / 20 أبو عامر سعيد بن النتل. (*)
ص 186
العراق، وكلهم يأخذ العطاء مع مثلهم من أبنائهم ومواليهم، سوى شيعتك من أهل البصرة
وأهل الحجاز، ثم لم تأخذ لنفسك ثقة في العهد، ولا حظا من القضية، فلو كنت إذ فعلت،
ما فعلت، وأعطاك ما أعطاك بينك وبينه من العهد والميثاق، كنت كتبت عليك بذلك كتابا،
وأشهدت عليه شهودا من أهل المشرق والمغرب إن هذا الأمر لك من بعده، كان الأمر علينا
أيسر، ولكنه أعطاك هذا فرضيت به من قوله، ثم قال: وزعم على رؤوس الناس ما قد سمعت،
إني كنت شرطت لقوم شروطا، ووعدتهم عدات، ومنيتهم أماني، إرادة إطفاء نار الحرب،
ومداراة لهذه الفتنة، إذ جمع الله لنا كلمتنا وألفتنا، فإن كل ما هنالك تحت قدمي
هاتين، ووالله ما عنى بذلك إلا نقض ما بينك وبينه، فأعد للحرب خدعة، وأذن لي أشخص
إلى الكوفة، فأخرج عامله منها، وأظهر فيها خلعه، وأنبذ إليه على سواء إن الله لا
يهدي كيد الخائنين. ثم سكت. فتكلم كل من حضر مجلسه بمثل مقالته، وكلهم يقول: ابعث
سليمان بن صرد، وابعثنا معه، ثم الحقنا إذا علمت أنا قد أشخصنا عامله، وأظهرنا
خلعه. فتكلم الحسن، فحمد الله، ثم قال: أما بعد، فإنكم شيعتنا وأهل مودتنا، ومن
نعرفه بالنصيحة والصحبة والاستقامة لنا، وقد فهمت ما ذكرتم ولو كنت بالحزم في أمر
الدنيا وللدنيا أعمل وأنصب، ما كان معاوية بأبأس مني بأسا، وأشد شكيمة، ولكان رأيي
غير ما رأيتم، ولكني أشهد الله وإياكم أني لم أرد بما رأيتم إلا حقن دمائكم، وإصلاح
ذات بينكم، فاتقوا الله وارضوا بقضاء الله، وسلموا لأمر الله، والزموا بيوتكم،
وكفوا أيديكم، حتى يستريح بر، أو يستراح من فاجر، مع أن أبي كان يحدثني أن معاوية
سيلي الأمر، فوالله لو سرنا إليه بالجبال والشجر، ما شككت أنه سيظهر، إن الله لا
معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، وأما قولك: يا مذل المؤمنين، فوالله لأن تذلوا وتعافوا
أحب إلي من أن تعزوا وتقتلوا، فإن رد الله علينا حقنا في عافية قبلنا، وسألنا الله
العون على أمره، وإن صرفه عنا رضينا، وسألنا الله أن يبارك في صرفه عنا، فليكن كل
رجل منكم حلسا من (1) أحلاس بيته، ما دام معاوية حيا، فإن يهلك ونحن وأنتم أحياء،
سألنا الله العزيمة على
(هامش)
(1) الحلس: هو ما يلي ظهر الدابة تحت البرذعة، والمعنى: أن يلزم كل منكم بيته ولا
يبارحه. والرجل الحلوس: هو الرجل الحريص الملازم. (*)
ص 187
رشدنا، والمعونة على أمرنا، وأنه لا يكلنا إلى أنفسنا، فإن الله مع الذين اتقوا
والذين هم محسنون. كراهية الحسين رضي الله عنه للبيعة
قال: ثم خرج سليمان بن صرد من
عنده، فدخل على الحسين، فعرض عليه ما عرض على الحسن، وأخبره بما رد عليه الحسن،
فقال الحسين: ليكن كل رجل منكم حلسا من أحلاس بيته، ما دام معاوية حيا، فإنها بيعة
كنت والله لها كارها، فإن هلك معاوية نظرنا ونظرتم، ورأينا ورأيتم. ما أشار به
المغيرة بن شعبة على معاوية من البيعة ليزيد
قال: وذكروا أنه لما استقامت الأمور
لمعاوية، استعمل على الكوفة المغيرة بن شعبة، ثم هم أن يعزله ويولي سعيد بن العاص،
فلما بلغ ذلك المغيرة قدم الشام على معاوية (1)، فقال: يا أمير المؤمنين، قد علمت
ما لقيت هذه الأمة من الفتنة والاختلاف، وفي عنقك الموت، وأنا أخاف إن حدث بك حدث
أن يقع الناس في مثل ما وقعوا فيه بعد قتل عثمان، فاجعل للناس بعدك علما يفزعون
إليه، واجعل ذلك يزيد ابنك (2). قال: فدخل معاوية على امرأته فاختة بنت قرطة بن
حبيب بن عبد شمس وكان ابنها منه عبد الله بن معاوية، وقد كان بلغها ما قال المغيرة،
وما أشار به عليه من البيعة ليزيد وكان يزيد ابن الكلبية، ميسون ابنة عبد الرحمن بن
بحدل الكلبي. فقالت فاختة، وكانت معادية الكلبية، ما أشار به عليك المغيرة؟ أراد أن
يجعل لك عدوا من نفسك، يتمنى هلاكك
(هامش)
(1) قال ابن الأثير في الكامل 2 / 508 أنه لما بلغ المغيرة عزله قال: الرأي أن أشخص
إلى معاوية فأستعفيه ليظهر للناس كراهيتي للولاية. فسار إلى معاوية وقال لأصحابه
حين وصل إليه: إن لم أكسبكم الآن ولاية وإمارة لا أفعل ذلك أبدا (وانظر الطبري 5 /
301 - 302). (2) في الطبري وابن الأثير أن المغيرة بن شعبة دخل على يزيد وتسأل معه
لماذا لا يعقد لك أمير المؤمنين البيعة وقد ذهب أعيان أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم وكبراء قريش وذوو أسنانهم.. فدخل يزيد على أبيه ونقل إليه ما ذكره المغيرة
فأدخله عليه يسأله ذلك... فذكرا قوله كما في الأصل، فأعاده إلى عمله وكلفه العمل
والتحدث مع من يثق إليه بهذا الشأن فغادر المغيرة إلى الكوفة يعمل في بيعة يزيد
وكانت باكورة ذلك أن أرسل وفدا إلى معاوية يزينون له بيعة يزيد ودعوه إلى عقدها.
(*)
ص 188
كل يوم، فشق ذلك على معاوية، ثم بدا له أن يأخذ بما أشار عليه المغيرة بن شعبة. ما
حاول معاوية في بيعة يزيد
قال: فلما اجتمعت عند معاوية وفود الأمصار بدمشق، وفيهم الأحنف بن قيس، دعا معاوية الضحاك بن قيس الفهري، فقال له: إذا جلست على المنبر،
وفرغت من بعض موعظتي وكلامي، فاستأذني للقيام، فإذا أذنت لك، فأحمد الله تعالى،
واذكر يزيد، قل فيه الذي يحق له عليك، من حسن الثناء عليه، ثم ادعني إلى توليته من
بعدي فإني قد رأيت وأجمعت على توليته، فأسأل الله في ذلك، وفي غيره الخيرة وحسن
القضاء. ثم دعا عبد الرحمن بن عثمان الثقفي وعبد الله بن مسعدة الفزاري، وثور بن
معن السلمي، وعبد الله بن عصام (1) الأشعري، فأمرهم أن يقوموا إذا فرغ الضحاك وأن
يصدقوا قوله، ويدعوه إلى بيعة يزيد (2). ما تكلم به الضحاك بن قيس
قال: فلما جلس
معاوية على المنبر، وفرغ من بعض موعظته، وهؤلاء النفر في المجلس قد قعدوا للكلام،
قام الضحاك بن قيس، فاستأذن في الكلام، فأذن له، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
أصلح الله أمير المؤمنين، وأمتع به، إنا قد بلونا الجماعة والألفة، والاختلاف
والفرقة فوجدناها ألم لشعثنا، وأمنة لسبلنا، وحاقنة لدمائنا، وعائدة علينا في عاجل
ما نرجو وآجل ما نؤمل. مع ما ترجو به الجماعة من الألفة، ولا خير لنا أن نترك سدى،
والأيام عوج رواجع، والله يقول: (كل يوم هو في شأن) [الرحمن: 29]، ولسنا ندري ما
يختلف به العصران (3)، وأنت يا أمير المؤمنين ميت كما مات من كان قبلك من أنبياء
الله وخلفائه، نسأل الله تعالى بك المتاع، وقد رأينا من دعة يزيد ابن أمير
المؤمنين،
(هامش)
(1) في مروج الذهب 3 / 34 عبد الله بن عصاة الأشعري. (2) كان ذلك سنة 59 على ما
قاله في مروج الذهب وعند ابن الأثير 2 / 511 سنة 56 وفي العقد الفريد 4 / 369 سنة
55. (3) العصران: الغداة والعشي والليل والنهار. (*)
ص 189
وحسن مذهبه، وقصد سيرته (1)، ويمن نقيبته، مع ما قسم الله له من المحبة في
المسلمين، والشبه بأمير المؤمنين، في عقله وسياسته وشيمته المرضية، ما دعانا إلى
الرضا به في أمورنا، والقنوع به في الولاية علينا، فليوله أمير المؤمنين - أكرمه
الله - عهده، وليجعله لنا ملجأ ومفزعا بعده، نأوي إليه إن كان كون فإنه ليس أحد أحق
بها منه، فاعزم على ذلك، عزم الله لك في رشدك، ووفقك في أمورنا (2). ما قال عبد
الرحمن بن عثمان
قال: ثم قام عبد الرحمن بن عثمان الثقفي، فحمد الله وأثنى عليه، ثم
قال: أصلح الله أمير المؤمنين، إنا قد أصبحنا في زمان مختلفة أهواؤه، قد أحدودبت
علينا سيساؤه (3)، واقطوطبت (4) علينا أدواؤه، وأناخت علينا أبناؤه، ونحن نشير عليك
بالرشاد، وندعوك إلى السداد، وأنت - يا أمير المؤمنين - أحسننا نظرا وأثبتنا بصرا،
ويزيد ابن أمير المؤمنين قد عرفنا سيرته، وبلونا علانيته، ورضينا ولايته، وزادنا
بذلك انبساطا، وبه اغتباطا، ما منحه الله من الشبه بأمير المؤمنين والمحبة في
المسلمين، فاعزم على ذلك، ولا تضق به ذرعا، فالله تعالى يقيم به الأود، ويردع به
الألد، وتأمن به السبل، ويجمع به الشمل، ويعظم به الأجر، ويحسن به الذخر. ثم جلس. ما قال ثور بن معن
قال: ثم قام ثور بن معن السلمي، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
أصلح الله أمير المؤمنين، إنا قد أصبحنا في زمان صاحبه شاغب، وظله ذاهب مكتوب علينا
فيه الشقاء والسعادة، وأنت يا أمير المؤمنين ميت نسأل الله بك المتاع ويزيد ابن
أمير المؤمنين أقدمنا شرفا، وأبذلنا عرفا وقد دعانا إلى الرضا به،
(هامش)
(1) قصد سيرته أي استقامتها. (2) قارن مع العقد الفريد 4 / 369 وابن الأثير 2 / 510
مروج الذهب 3 / 34 فتوح ابن الأعثم 4 / 230. (3) السيساء: الظهر. المراد أن الزمان
غير مستقيم يحدودب كما يحدودب ظهر الدابة فلا يمكن ركوبها. (4) اقطوطب: اجتمع.
الأدواء جمع داء. (*)
ص 190
والقنوع بولايته، والحرص عليه، والاختيار له، ما قد عرفنا من صدق لسانه ووفائه،
وحسن بلائه، فاجعله لنا بعدك خلفا، فإنه أوسعنا كنفا، وأقدمنا سلفا، وهو رتق لما
فتق، وزمام لما شعب (1)، ونكال لمن فارق ونافق، وسلم لمن واظب، وحافظ للحق، أسأل
الله لأمير المؤمنين أفضل البقاء والسعادة، والخيرة فيما أراد، والتوطن في البلاد،
وصلاح أمر جميع العباد. ثم جلس. ما تكلم به عبد الله بن عصام
قال: ثم قام عبد الله
بن عصام، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أصلح الله أمير المؤمنين، وأمتع به، إنا قد
أصبحنا في دنيا منقضية، وأهواء منجذمة (2) نخاف هدها، وننتظر جدها، شديد منحدرها،
كثير وعرها، شامخة مراقيها، ثابتة مراتبها، صعبة مراكبها، فالموت يا أمير المؤمنين
وراءك ووراء العباد، لا يخلد في الدنيا أحد، ولا يبقى لنا أمد، وأنت يا أمير
المؤمنين مسؤول عن رعيتك، ومأخوذ بولايتك، وأنت أنظر للجماعة وأعلى عينا بحسن الرأي
لأهل الطاعة، وقد هديت ليزيد في أكمل الأمور وأفضلها رأيا، وأجمعها رضا، فاقطع
بيزيد قالة الكلام، ونخوة المبطل، وشغب المنافق، واكبت به الباذخ (3) المعادي، فإن
ذلك ألم للشمل وأسهل للوعث، فاعزم على ذلك، ولا تترامى بك الظنون. ما تكلم به عبد
الله بن مسعدة
ثم قام عبد الله بن مسعدة الفزاري، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
أصلح الله أمير المؤمنين، وأمتع به. إن الله قد آثرك بخلافته، واختصك بكرامته،
وجعلك عصمة لأوليائه، وذا نكاية لأعدائه، فأصبحت بأنعمه جذلا، ولما حملك محتملا،
يكشف الله تعالى بك العمى، ويهدي بك العدى، ويزيد ابن أمير المؤمنين أحسن الناس
برعيتك رأفة، وأحقهم بالخلافة بعدك، قد ساس الأمور، وأحكمته الدهور، ليس بالصغير
الفهيه (4)، ولا بالكبير السفيه، قد احتجن (5)
(هامش)
(1) شعب: كسر وتفرق. (2) منجذمة: متقطعة. (3) الباذخ: المستعلي المتكبر. (4)
الفهيه: العيي الذي لا يحسن الكلام. (5) احتجن المكارم: جمعها وحواها. (*)
ص 191
المكارم، وارتجى لحمل العظائم، وأشد الناس في العدو نكاية، وأحسنهم صنعا في
الولاية، وأنت أغنى بأمرك، وأحفظ لوصيتك، وأحرز لنفسك. أسأل الله لأمير المؤمنين
العافية في غير جهد، والنعمة في غير تغيير. ما قال الأحنف بن قيس
قال: فقال معاوية:
أو كلكم قد أجمع رأيه على ما ذكرنا؟ فقالوا: كلنا قد أجمع رأيه على ما ذكرنا. قال:
فأين الأحنف؟ فأجابه، قال: ألا تتكلم؟ فقام الأحنف فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
أصلح الله أمير المؤمنين، إن الناس قد أمسكوا في منكر زمان قد سلف، ومعروف زمان
مؤتنف (1)، ويزيد ابن أمير المؤمنين نعم الخلف، وقد حلبت الدهر أشطره (2) يا أمير
المؤمنين، فاعرف من تسند إليه الأمر من بعدك، ثم اعص أمر من يأمرك، لا يغررك من
يشير عليك، ولا ينظر لك، وأنت أنظر للجماعة، وأعلم باستقامة الطاعة، مع أن أهل
الحجاز وأهل العراق لا يرضون بهذا، ولا يبايعون ليزيد ما كان الحسن حيا (3) و(4).
ما رد الضحاك بن قيس عليه
قال: فغضب الضحاك بن قيس، فقام الثانية، فحمد الله وأثنى
عليه، ثم قال: أصلح الله أمير المؤمنين. إن أهل النفاق من أهل العراق، مروءتهم في
أنفسهم الشقاق، وألفتهم في دينهم الفراق، يرون الحق على أهوائهم، كأنما ينظرون بأقفائهم، اختالوا جهلا وبطرا، لا يرقبون من الله راقبة، ولا يخافون وبال عاقبة،
اتخذوا إبليس لهم ربا، واتخذهم إبليس حزبا، فمن يقاربوه لا يسروه، ومن يفارقوه لا
يضروه، فادفع رأيهم يا أمير المؤمنين في نحورهم، وكلامهم في صدورهم، ما للحسن وذوي
الحسن في سلطان الله الذي استخلف
(هامش)
(1) مؤتنف: مستقبل. (2) حلب الدهر أشطره. مثل يقال للرجل المجرب الأمور الذي قاسى
الشدة والرخاء وتصرف في الفقر والغنى (أنظر جمهرة الأمثال 1 / 346 المستقصى 2 / 64
مجمع الأمثال 1 / 195). (3) قارن كلام الأحنف مع ما ذكره العقد الفريد 4 / 370 ابن
الأعثم 4 / 232 ابن الأثير 2 / 511 مروج الذهب 3 / 34. (4) يفهم من كلام الأحنف أن
ذلك حصل قبل وفاة الحسن بن علي أي قبل سنة 50 والمشهور أن وفاة الحسن كانت سنة 49.
(أنظر ما لاحظناه ص 188 حاشية رقم 2). (*)
ص 192
به معاوية في أرضه؟ هيهات لا تورث الخلافة من كلالة، ويحجب غير الذكر العصبة،
فوطنوا أنفسكم يا أهل العراق على المناصحة لإمامكم، وكاتب نبيكم وصهره، يسلم لكم
العاجل، وتربحوا من الآجل. ما أجاب به الأحنف بن قيس
قال: ثم قام الأحنف بن قيس،
فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أمير المؤمنين، إنا قد فررنا عنك قريشا، فوجدناك
أكرمها زندا، وأشدها عقدا، وأوفاها عهدا، وقد علمت أنك لم تفتح العراق عنوة، ولم
تظهر عليها قعصا (1)، ولكنك أعطيت الحسن بن علي من عهود الله ما قد علمت (2)، ليكون
له الأمر من بعدك، فإن تف فأنت أهل الوفاء، وإن تغدر تعلم والله إن وراء الحسن
خيولا جيادا، وأذرعا شدادا، وسيوفا حدادا، إن تدن له شبرا من غدر، تجد وراءه باعا
من نصر، وإنك تعلم أن أهل العراق ما أحبوك منذ أبغضوك، ولا أبغضوا عليا وحسنا منذ
أحبوهما، وما نزل عليهم في ذلك غير من السماء، وإن السيوف التي شهروها عليك مع علي
يوم صفين لعلى عواتقهم، والقلوب التي أبغضوك بها لبين جوانحهم، وأيم الله إن الحسن
لأحب إلى أهل العراق من علي. ما قال عبد الرحمن بن عثمان
قال: ثم قام عبد الرحمن بن
عثمان الثقفي، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أصلح الله أمير المؤمنين، إن رأي
الناس مختلف، وكثير منهم منحرف، لا يدعون أحدا إلى رشاد، ولا يجيبون داعيا إلى
سداد، مجانبون لرأي الخلفاء، مخالفون لهم في السنة والقضاء، وقد وقفت ليزيد في أحسن
القضية، وأرضاها لحمل الرعية، فإذا خار الله لك، فاعزم، ثم اقطع قالة الكلام، فإن
يزيد أعظمنا حلما وعلما، وأوسعنا كنفا، وخيرنا سلفا، قد أحكمته التجارب، وقصدت به
سبل المذاهب، فلا يصرفنك عن بيعته صارف، ولا يقفن بك دونها واقف، ممن هو شاسع عاص،
ينوص (3) للفتنة كل مناص، لسانه ملتو، وفي صدره داء دوي،
(هامش)
(1) القعص: القتل. يريد أنه لم يدخل العراق بالحرب وإنما جاء دخوله إليها بعد صلحه
مع الحسن ومبايعة الحسن له. (2) راجع ما لاحظناه بشأن معاهدة الصلح بين الحسن بن
علي ومعاوية. (3) ينوص للفتنة: يتحرك لها. (*)
ص 193
إن قال فشر قائل، وإن سكت فذود غائل، قد عرفت من هم أولئك وما هم عليه لك، من
المجانبة للتوفيق، والكلف للتفريق، فأجل ببيعته عنا الغمة، واجمع به شمل الأمة، فلا
تحد عنه إذ هديت له، ولا تنش (1) عنه إذ وقفت له، فإن ذلك الرأي لنا ولك، والحق
علينا وعليك، أسأل الله العون وحسن العاقبة لنا ولك بمنه. ما قال معاوية بن أبي
سفيان
قال: فقام معاوية فقال: أيها الناس، إن لإبليس من الناس إخوانا وخلانا بهم
يستعد، وإياهم يستعين، وعلى ألسنتهم ينطق، إن رجوا طمعا أوجفوا (2)، وإن استغنى
عنهم أرجفوا (3) ثم يلحقون الفتن بالفجور، ويشققون لها حطب النفاق، عيابون مرتابون،
إن ولوا عروة أمر حنقوا، وإن دعوا إلى غي أسرفوا، وليسوا أولئك بمنتهين ولا بمقلعين
ولا متعظين، حتى تصيبهم صواعق خزي وبيل، وتحل بهم قوارع أمر جليل، تجتث أصولهم
كاجتثات أصول الفقع (4)، فأولى لأولئك ثم أولى، فإنا قد قدمنا وأنذرنا إن أغنى
التقديم شيئا أو نفع النذير. قال: فدعا معاوية الضحاك فولاه الكوفة، ودعا عبد
الرحمن فولاه الجزيرة، ثم قام أبو خنيف (5) فقال: يا أمير المؤمنين، إنا لا نطيق
ألسنة مضر وخطبها، أنت يا أمير المؤمنين، فإن هلكت فيزيد بعدك، فمن أبي فهذا، وسل
سيفه، فقال معاوية: أنت أخطب القوم وأكرمهم. ثم قام الأحنف بن قيس، فقال: يا أمير
المؤمنين، أنت أعلمنا بليله ونهاره، وبسره وعلانيته فإن كنت تعلم أنه خير لك فوله
واستخلفه، وإن كنت تعلم أنه شر لك، فلا تزوده الدنيا وأنت صائر إلى الآخرة، فإنه
ليس لك من الآخرة إلا ما طاب، واعلم أنه لا حجة لك عند الله إن قدمت يزيد على الحسن
(هامش)
(1) لا تنش عنه أي لا تبعد عنه ولا تتحرك من ناحيته. (2) أوجف بالشئ: أسرع بإتمامه.
(3) أرجفوا: أثاروا الشائعات. (4) الفقع: نبات الكمأة، وأصوله سهلة الاستئصال. (5)
في ابن الأثير 2 / 511 اسمه يزيد بن المقنع العذري. وفي مروج الذهب: رجل من الأزد.
(*)
ص 194
والحسين، أنت تعلم من هما، وإلى ما هما، وإنما علينا أن نقول: (سمعنا وأطعنا غفرانك
ربنا وإليك المصير) [البقرة: 285]. قدوم معاوية المدينة وما خاوض فيه العبادلة
قال:
قالوا: فاستخار الله معاوية، وأعرض عن ذكر البيعة، حتى قدم المدينة سنة خمسين (1)،
فتلقاه الناس، فلما استقر في منزله أرسل إلى عبد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر
بن أبي طالب وإلى عبد الله بن عمر، وإلى عبد الله بن الزبير، وأمر حاجبه أن لا يأذن
لأحد من الناس حتى يخرج هؤلاء النفر، فلما جلسوا تكلم معاوية، فقال: الحمد لله الذي
أمرنا بحمده، ووعدنا عليه ثوابه، نحمده كثيرا، كما أنعم علينا كثيرا، وأشهد أن لا
إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله. أما بعد، فإني قد كبر سني،
ووهن عظمي، وقرب أجلي، وأوشكت أن أدعى فأجيب، وقد رأيت أن أستخلف عليكم بعدي يزيد،
ورأيته لكم رضا، وأنتم عبادلة قريش وخيارها، وأبناء خيارها، ولم يمنعني أن أحضر
حسنا وحسينا إلا أنهما أولاد أبيهما علي على حسن رأيي فيهما، وشديد محبتي لهما،
فردوا على أمير المؤمنين خيرا رحمكم الله. ما تكلم به عبد الله بن عباس
قال: فتكلم
عبد الله بن عباس، فقال: الحمد لله الذي ألهمنا أن نحمده، واستوجب علينا الشكر على
آلائه، وحسن بلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده
ورسوله، وصلى الله على محمد وآل محمد. أما بعد، فإنك قد تكلمت فأنصتنا، وقلت
فسمعنا، وإن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه، اختار محمدا صلى الله عليه وسلم لرسالته،
واختاره لوحيه، وشرفه على خلقه، فأشرف الناس من تشرف به، وأولاهم بالأمر أخصهم به،
وإنما على الأمة التسليم لنبيها، إذ اختاره الله لها، فإنه إنما اختار محمدا بعلمه،
وهو العليم الخبير، وأستغفر الله لي ولكم.
(هامش)
(1) كذا، وفي آخر ما يشير إلى أن ذهابه إلى المدينة كان قبل وفاة الحسن. (*)
ص 195
ما تكلم به عبد الله بن جعفر
قال: فقام عبد الله بن جعفر، فقال: الحمد لله أهل
الحمد ومنتهاه، نحمده على إلهامنا حمده، ونرغب إليه في تأدية حقه وأشهد أن لا إله
إلا الله واحدا صمدا، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأن محمدا عبده ورسوله، صلى الله
عليه وسلم: أما بعد، فإن هذه الخلافة إن أخذ فيها بالقرآن، فأولو الأرحام بعضهم
أولى ببعض في كتاب الله، وإن أخذ فيها بسنة رسول الله، فأولو رسول الله، وإن أخذ
فيها بسنة الشيخين أبي بكر وعمر فأي الناس أفضل وأكمل وأحق بهذا الأمر من آل
الرسول؟ وأيم الله لو ولوه بعد نبيهم لوضعوا الأمر موضعه، لحقه وصدقه، ولأطيع
الرحمن، وعصي الشيطان، وما اختلف في الأمة سيفان، فاتق الله يا معاوية، فإنك قد صرت
راعيا، ونحن رعية، فانظر لرعيتك فإنك مسؤول عنها غدا، وأما ما ذكرت من ابني عمي،
وتركك أن تحضرهما، فوالله ما أصبت الحق، ولا يجوز لك ذلك إلا بهما، وإنك لتعلم
أنهما معدن العلم والكرم، فقل أو دع. وأستغفر لي الله ولكم. ما تكلم به عبد الله بن
الزبير 
قال: فتكلم عبد الله بن الزبير، فقال: الحمد لله الذي عرفنا دينه، وأكرمنا
برسوله، أحمده على ما أبلى وأولى، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده
ورسوله. أما بعد: فإن هذه الخلافة لقريش خاصة، تتناولها بمآثرها السنية، وأفعالها
المرضية، مع شرف الآباء، وكرم الأبناء، فاتق الله يا معاوية وأنصف من نفسك، فإن هذا
عبد الله بن عباس ابن عم رسول الله، وهذا عبد الله بن جعفر ذو الجناحين ابن عم رسول
الله، وأنا عبد الله بن الزبير ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي خلف
حسنا وحسينا، وأنت تعلم من هما، وما هما، فاتق الله يا معاوية، وأنت الحاكم بيننا
وبين نفسك، ثم سكت.
ما تكلم به عبد الله بن عمر

فتكلم عبد الله بن عمر، فقال: الحمد
لله الذي أكرمنا بدينه، وشرفنا بنبيه صلى الله عليه وسلم أما بعد: فإن هذه الخلافة
ليست بهرقلية (1) ولا
(هامش)
(1) يريد أنها لا تورث كما يورث ملوك الروم أبناءهم الملك. والهرقلية نسبة إلى
هرقل. (*)
ص 196
قيصرية ولا كسروية يتوارثها الأبناء عن الآباء ولو كان كذلك كنت القائم بها بعد
أبي، فوالله ما أدخلني مع الستة من أصحاب الشورى إلا على أن الخلافة ليست شرطا
مشروطا، وإنما هي في قريش خاصة، لمن كان لها أهلا ممن أرتضاه المسلمون لأنفسهم، من
كان أتقى وأرضى، فإن كنت تريد الفتيان من قريش، فلعمري إن يزيد من فتيانها، واعلم
أنه لا يغني عنك من الله شيئا. ما تكلم به معاوية فتكلم معاوية
فقال: قد قلت وقلتم،
وإنه ذهبت الآباء، وبقيت الأبناء، فابني أحب إلي من أبنائهم، مع أن ابني إن
قاولتموه وجد مقالا، وإنما كان هذا الأمر لبني عبد مناف، لأنهم أهل رسول الله، فلما
مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولي الناس أبا بكر وعمر من غير معدن الملك ولا
الخلافة، غير أنهما سارا بسيرة جميلة، ثم رجع الملك إلى بني عبد مناف، فلا يزال
فيهم إلى يوم القيامة، وقد أخرجك الله يا بن الزبير، وأنت يا بن عمر منها، فأما
ابنا عمي هذان (1) فليسا بخارجين من الرأي إن شاء الله. ثم أمر بالرحلة، وأعرض عن
ذكر البيعة ليزيد، ولم يقطع عنهم شيئا من صلاتهم وأعطياتهم. ثم انصرف راجعا إلى
الشام، وسكت عن البيعة، فلم يعرض لها إلى سنة إحدى وخمسين. موت الحسن بن علي رضي
الله عنهما 
قال: فلما كانت سنة إحدى وخمسين (2)، مرض الحسن بن علي مرضه الذي مات
فيه (3)، فكتب عامل المدينة إلى معاوية يخبره بشكاية الحسن، فكتب إليه معاوية: إن
استطعت ألا يمضي يوم يمر بي إلا يأتيني فيه خبره فافعل، فلم يزل يكتب إليه بحاله
حتى توفي. فكتب إليه بذلك، فلما أتاه الخبر أظهر فرحا وسرورا، حتى سجد وسجد من كان
معه، فبلغ ذلك عبد الله بن عباس، وكان
(هامش)
(1) يريد عبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب. (2) في الطبري وابن
الأثير وابن كثير والعقد الفريد مات سنة 49 بالمدينة. وقال آخرون: مات سنة 50 وقيل
سنة 58. (3) قال ابن الأثير في الكامل: سمته زوجته جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندي.
(وانظر البداية والنهاية 8 / 46 - 47). (*)
ص 197
بالشام يومئذ، فدخل على معاوية، فلما جلس قال معاوية: يا بن عباس هلك الحسن بن علي،
فقال ابن عباس: نعم هلك (إنا لله وإنا إليه راجعون) ترجيعا مكررا، وقد بلغني الذي
أظهرت من الفرح والسرور لوفاته. أما والله ما سد جسده حفرتك، ولا زاد نقصان أجله في
عمرك، ولقد مات وهو خير منك، ولئن أصبنا به لقد أصبنا بمن كان خيرا منه، جده رسول
الله صلى عليه وسلم، فجبر الله مصيبته، وخلف علينا من بعده أحسن الخلافة. ثم شهق
ابن عباس وبكى، وبكى من حضر في المجلس، وبكى معاوية، فما رأيت يوما أكثر باكيا من
ذلك اليوم، فقال معاوية: بلغني أنه ترك بنين صغارا. فقال ابن عباس: كلنا كان صغيرا
فكبر (1). قال معاوية: كم أتى له من العمر؟ فقال ابن عباس: أمر الحسن أعظم من أن
يجهل أحد مولده. قال: فسكت معاوية يسيرا، ثم قال: يا بن العباس: أصبحت سيد قومك من
بعده، فقال ابن عباس: أما ما أبقى الله أبا عبد الله الحسين فلا. قال معاوية: لله
أبوك يا بن عباس، ما استنبأتك إلا وجدتك معدا. بيعة معاوية ليزيد بالشام وأخذه أهل
المدينة
قالوا: ثم لم يلبث معاوية بعد وفاة الحسن رحمه الله إلا يسيرا حتى بايع
ليزيد بالشام، وكتب بيعته إلى الآفاق، وكان عامله على المدينة مروان بن الحكم، فكتب
إليه يذكر الذي قضى الله به على لسانه من بيعة يزيد، ويأمره أن يجمع من قبله من
قريش وغيرهم من أهل المدينة، ثم يبايعوا ليزيد (2).
عزل مروان عن المدينة
قال: فلما
قرأ مروان كتاب معاوية أبى من ذلك. وأبته قريش. فكتب لمعاوية: إن قومك قد أبوا
إجابتك إلى بيعتك ابنك، فالرأي رأيك. فلما بلغ
(هامش)
(1) زيد في العقد الفريد 4 / 362 وإن طفلنا لكهل، وإن صغيرنا لكبير. (2) اختلفوا في
موقف مروان بن الحكم من بيعة يزيد، فالمسعودي ذكر في مروج الذهب غضب مروان وانزعاجه
ورفضه للبيعة (3 / 35) أما الطبري فقد ذكر عزل مروان عن المدينة دون ذكر السبب في
ذلك. أما في العقد الفريد 4 / 371 وابن الأعثم في الفتوح 4 / 231 - 232 فقد ذكرا أن
مروان جمع وجوه أهل المدينة - لما وصله كتاب معاوية - ودعاهم إلى بيعة يزيد وحذرهم
الفتنة. (*)
ص 198
معاوية كتاب مروان عرف أن ذلك من قبله. فكتب إليه يأمره أن يعتزل عمله، ويخبره أنه
قد ولى المدينة سعيد بن العاص (1)، فلما بلغ مروان كتاب معاوية، أقبل مغضبا في أهل
بيته، وناس كثير من قومه، حتى نزل بأخواله بني كنانة، فشكا إليهم، وأخبرهم بالذي
كان من رأيه في أمر معاوية، وفي عزله واستخلافه يزيد ابنه عن غير مشورة مبادرة له،
فقالوا: نحن نبلك في يدك، وسيفك في قرابك فمن رميته بنا أصبناه، ومن ضربته بنا
قطعناه، الرأي رأيك، ونحن طوع يمينك. ثم أقبل مروان في وفد منهم كثير، ممن كان معه
من قومه وأهل بيته حتى نزل دمشق، فخرج فيهم حتى أتى سدة معاوية، وقد أذن للناس.
فلما نظر الحاجب إلى كثرة من معه من قومه وأهل بيته، منعه من الدخول، فوثبوا إليه،
فضربوا وجهه، حتى خلى عن الباب، ثم دخل مروان، ودخلوا معه، حتى إذا كان من معاوية
بحيث تناله يده. خطبة مروان بن الحكم بين يدي معاوية
قال بعد التسليم عليه
بالخلافة: إن الله عظيم خطره، لا يقدر قادر قدره، خلق من خلقه عبادا، جعلهم لدعائم
دينه أوتادا، هم رقباؤه على البلاد، وخلفاؤه على العباد، أسفر بهم الظلم، وألف بهم
الدين، وشدد بهم اليقين ومنح بهم الظفر، ووضع بهم من استكبر، فكان من قبلك من
خلفائنا يعرفون ذلك في سالف زمامنا، وكنا نكون لهم على الطاعة إخوانا، وعلى من خالف
عنها أعوانا، يشد بنا العضد، ويقام بنا الأود (2)، ونستشار في القضية، ونستأمر في
أمر الرعية، وقد أصبحنا اليوم في أمور مستحيرة ذات وجوه مستديرة، تفتح بأزمة الضلال
وتجلس بأهواء الرجال، يؤكل جزورها، وتمق أحلابها (3) فما لنا لا نستأمر في رضاعها،
ونحن فطامها وأولات فطامها؟ (4) وأيم الله لولا عهود مؤكدة، ومواثيق معقدة لأقمت
أود وليها، فأقم الأمر يا بن سفيان واهدئ (5) من
(هامش)
(1) في الطبري وابن الأثير: تولى المدينة بعد عزل مروان الوليد بن عتبة بن أبي
سفيان. (2) الأود: العوج. (3) وتمق أحلابها: يشرب لبنها جميعا. (4) يريد أن معاوية
يستأثر بالخلافة وحده ولا يترك للآخرين مع أنهم يؤثرون سلبا في اتجاه الأوضاع،
ويستطيعون أن يلعبوا دورا في كل القضايا المطروحة، والخطيرة منها. (5) في مروج
الذهب 3 / 35 وأعدل وكلاهما بمعنى امتنع أو ترو ولا تتسرع. (*)
ص 199
تأميرك الصبيان، واعلم أن لك في قومك نظرا، وأن لهم على مناوأتك وزرا. فغضب معاوية
من كلامه غضبا شديدا، ثم كظم غيظه بحلمه، وأخذ بيد مروان، ثم قال: إن الله قد جعل
لكل شيء أصلا، وجعل لكل خير أهلا ثم جعلك في الكرم مني محتدا، والعزيز مني والدا،
اخترت من قروم قادة، ثم استللت سيد سادة، فأنت ابن ينابيع الكرم، فمرحبا بك وأهلا
من ابن عم ذكرت خلفا مفقودين، شهداء صديقين، كانوا كما نعت، وكنت لهم كما ذكرت، وقد
أصبحنا في أمور مستحيرة، ذات وجوه مستديرة، وبك والله يا بن العم نرجو استقامة
أودها، وذلولة صعوبتها، وسفور ظلمتها، حتى يتطأطأ جسيمها، ويركب بك عظيمها، فأنت
نظير أمير المؤمنين بعده، وفي كل شدة عضده، وإليك عهد عهده، فقد وليتك قومك،
وأعظمنا في الخراج سهمك، وأنا مجيز وفدك، ومحسن رفدك، وعلى أمير المؤمنين غناك،
والنزول عند رضاك (1). فكان أول ما رزق ألف دينار في كل هلال، وفرض له في أهل بيته
مئة مئة. كراهية أهل المدينة البيعة وردهم لها
قال وذكروا أن معاوية كتب إلى سعيد
بن العاص وهو على المدينة، يأمره أن يدعو أهل المدينة إلى البيعة، ويكتب إليه بمن
سارع ممن لم يسارع. فلما أتى سعيد بن العاص الكتاب، دعا الناس إلى البيعة ليزيد،
وأظهر الغلظة وأخذهم بالعزم والشدة، وسطا (2) بكل من أبطأ عن ذلك، فأبطأ الناس
عنها، إلا اليسير، لا سيما بني هاشم، فإنه لم يجبه منهم أحد، وكان ابن الزبير من
أشد الناس إنكارا لذلك، وردا له. فكتب سعيد بن العاص إلى معاوية: أما بعد، فإنك
أمرتني أن أدعو الناس لبيعة يزيد ابن أمير المؤمنين، وأن أكتب إليك بمن سارع ممن
أبطأ، وإني أخبرك أن الناس عن ذلك بطاء، لا سيما أهل البيت من بني هاشم، فإنه لم
يجبني منهم أحد، وبلغني عنهم ما أكره وأما الذي جاهر بعداوته، وإبائه لهذا الأمر،
(هامش)
(1) أنظر مروج الذهب وزيد عنده بعد أن جعله ولي عهد يزيد: رده إلى المدينة ثم إنه
عزله عنها وولاها الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ولم يف لمروان بما جعل له من ولاية
عهد يزيد بن معاوية. (2) سطا بهم: نكل بهم وعاقبهم. (*)
ص 200
فعبد الله بن الزبير، ولست أقوى عليهم إلا بالخيل والرجال أو تقدم بنفسك، فترى رأيك
في ذلك، والسلام. فكتب معاوية إلى عبد الله بن عباس، وإلى عبد الله بن الزبير، وإلى
عبد الله بن جعفر، وإلى الحسين بن علي، رضي الله عنهم كتبا، وأمر سعيد بن العاص أن
يوصلها إليهم، ويبعث بجواباتها. كتاب معاوية إلى سعيد بن العاص
كتب إلى سعيد بن
العاص، أما بعد، فقد أتاني كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه من إبطاء الناس عن البيعة. ولا سيما بني هاشم، وما ذكر ابن الزبير وقد كتبت إلى رؤسائهم كتبا، فسلمها إليهم، وتنجز
جواباتها، وابعث بها إلي، حتى أرى في ذلك رأيي، ولتشتد عزيمتك، ولتصلب شكيمتك،
وتحسن نيتك. وعليك بالرفق، وإياك والخرق، فإن الرفق رشد، والخرق نكد، وانظر حسينا
خاصة، فلا يناله منك مكروه، فإن له قرابة وحقا عظيما لا ينكره مسلم ولا مسلمة، وهو
ليث عرين، ولست آمنك إن شاورته أن لا نقوى عليه، فأما من يرد مع السباع إذا وردت
(1)، ويكنس إذا كنست (2)، فذلك عبد الله بن الزبير، فاحذره أشد الحذر، ولا قوة إلا
بالله، وأنا قادم عليك إن شاء الله، والسلام. ما كتب به إلى ابن عباس
وكتب إلى ابن
عباس: أما بعد، فقد بلغني إبطاؤك عن البيعة ليزيد ابن أمير المؤمنين، وإني لو قتلتك
بعثمان لكان ذلك إلي، لأنك ممن ألب عليه وأجلب، وما معك من أمان فتطمئن به، ولا عهد
فتسكن إليه، فإذا أتاك كتابي هذا، فاخرج إلى المسجد، والعن قتلة عثمان، وبايع
عاملي، فقد أعذر من أنذر وأنت بنفسك أبصر، والسلام.
(هامش)
(1) وردت السباع الماء: إذا أشرفت عليه، دخلته أو لم تدخله وقيل: الورود بالإجماع:
عدم الدخول. والوراد هم الذين يردون الماء. (اللسان). (2) أي يأوي إلى كناسه، يعني
مأواه. (*)
ص 201
ما كتب به إلى عبد الله بن جعفر
وكتب إلى عبد الله بن جعفر: أما بعد، فقد عرفت
أثرتي (1) أياك على من سواك، وحسن رأيي فيك وفي أهل بيتك، وقد أتاني عنك ما أكره،
فإن بايعت تشكر وإن تأب تجبر، والسلام. ما كتب به إلى الحسين
وكتب إلى الحسين: أما
بعد، فقد انتهت إلي منك أمور، لم أكن أظنك بها رغبة عنها، وإن أحق الناس بالوفاء
لمن أعطى بيعة من كان مثلك، في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك الله بها، فلا تنازع
إلى قطيعتك، واتق الله ولا تردن هذه الأمة في فتنة، وانظر لنفسك ودينك وأمة محمد،
ولا يستخفنك الذين لا يوقنون. ما كتبه إلى ابن الزبير وكتب إلى عبد الله بن الزبير:
رأيت كرام الناس إن كف عنهم * بحلم رأوا فضلا لمن قد تحلما ولا سيما إن كان عفوا
بقدرة * فذلك أحرى أن يجل ويعظما ولست بذي لوم فتعذر بالذي * أتاه من الأخلاق من
كان ألوما ولكن غشا لست تعرف غيره * وقد غش قبل اليوم إبليس آدما فما غش إلا نفسه
في فعاله * فأصبح ملعونا وقد كان مكرما وإني لأخشى أن أنالك بالذي * أردت فيجزي
الله من كان أظلما ما أجابه القوم به رضي الله عنهم
فكان أول ما أجابه عبد الله بن
عباس، فكتب إليه: أما بعد، فقد جاءني كتابك، وفهمت ما ذكرت، وأن ليس معي منك أمان،
وإنه والله ما منك يطلب الأمان يا معاوية، وإنما يطلب الأمان من الله رب العالمين.
وأما قولك في قتلي،
(هامش)
(1) الأثرة: بفتح الثاء وضمها: المكرمة. وفي المحكم: المكرمة المتوارثة. آثره:
أكرمه. آثره عليه: فضله (اللسان). (*)
ص 202
فوالله لو فعلت للقيت الله، ومحمد صلى الله عليه وسلم خصمك، فما إخاله أفلح ولا
أنجح من كان رسول الله خصمه. وأما ما ذكرت من أني ممن ألب في عثمان وأجلب، فذلك أمر
غبت عنه، ولو حضرته ما نسبت إلي شيئا من التأليب عليه، وأيم الله ما أرى أحدا غضب
لعثمان غضبي، ولا أعظم أحد قتله إعظامي، ولو شهدته لنصرته (1)، أو أموت دونه، ولقد
قلت وتمنيت يوم قتل عثمان: ليت الذي قتل عثمان لقيني فقتلني معه، ولا أبقى بعده
وأما قولك لي: العن قتلة عثمان، فلعثمان ولد وخاصة وقرابة، هم أحق بلعنهم مني، فإن
شاؤوا أن يلعنوا فليلعنوا، وإن شاؤوا أن يمسكوا فليمسكوا، والسلام. وكتب إليه عبد
الله بن جعفر: أما بعد، فقد جاءني كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه من أثرتك إياي على من
سواي، فإن تفعل فبحظك أصبت، وإن تأب فبنفسك قصرت. وأما ما ذكرت من جبرك إياي على
البيعة ليزيد، فلعمري لئن أجبرتني عليها لقد أجبرناك وأباك على الإسلام، حتى
أدخلناكما كارهين غير طائعين، والسلام. وكتب إليه عبد الله بن الزبير رضي الله
عنهما: ألا سمع الله الذي أنا عبده * فأخزى إله الناس من كان أظلما وأجرا على الله
العظيم بحلمه * وأسرعهم في الموبقات تقحما أغرك أن قالوا حليم بغرة * وليس بذي حلم
ولكن تحلما ولو رمت ما إن قد زعمت وجدتني * هزبر عرين يترك القرن أكتما (2) وأقسم
لولا بيعة لك لم أكن * لأنقضها لم تنج مني مسلما وكتب إليه الحسين رضي الله عنه:
أما بعد، فقد جاءني كتابك تذكر فيه أنه انتهت إليك عني أمور، لم تكن تظنني بها،
رغبة بي عنها، وإن الحسنات لا يهدي لها، ولا يسدد إليها إلا الله تعالى، وأما ما
ذكرت أنه رقي إليك عني، فإنما رقاه الملاقون، المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين
الجمع، وكذب الغاوون المارقون، ما أردت حربا ولا خلافا، وإني لأخشى لله في ترك ذلك،
منك ومن
(هامش)
(1) كان عثمان بن عفان قد ولى ابن عباس على الموسم وهو محاصر، حيث استمر الحصار من
أواخر ذي القعدة إلى الثامن عشر من ذي الحجة ولما رجع الحج وجدوا عثمان قد قتل. (2)
هزبر: الأسد. القرن: بالكسر: الكف ء والنظير في الشجاعة والحرب ويجمع على أقران.
(*)
ص 203
حزبك، القاسطين المحلين، حزب الظالم، وأعوان الشيطان الرجيم. ألست قاتل حجر (1)،
وأصحابه العابدين المخبتين، الذين كانوا يستفظعون البدع، ويأمرون بالمعروف، وينهون
عن المنكر، فقتلتهم ظلما وعدوانا، من بعدما أعطيتهم المواثيق الغليظة، والعهود
المؤكدة، جراءة على الله واستخفافا بعهده، أو لست بقاتل عمرو بن الحمق، الذي أخلقت
وأبلت وجهه العبادة، فقتلته من بعدما أعطيته من العهود ما لو فهمته العصم (2) نزلت
من شعف الجبال، أو لست المدعي زيادا في الإسلام (3)، فزعمت أنه ابن أبي سفيان، وقد
قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الولد للفراش وللعاهر الحجر، ثم سلطته على
أهل الإسلام، يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ويصلبهم على جذوع النخل، سبحان
الله يا معاوية! لكأنك لست من هذه الأمة، وليسوا منك. أو لست قاتل الحضرمي الذي كتب
إليك فيه زياد أنه على دين علي كرم الله وجهه، ودين علي هو دين ابن عمه صلى الله
عليه وسلم، الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه، ولولا ذلك كان أفضل شرفك وشرف آبائك
تجشم الرحلتين: رحلة الشتاء والصيف، فوضعها الله عنكم بنا، منة عليكم، وقلت فيما
قلت: لا ترد هذه الأمة في فتنة، وإني لا أعلم لها فتنة أعظم من إمارتك عليها، وقلت
فيما قلت: انظر لنفسك ولدينك ولأمة محمد، وإني والله ما أعرف أفضل من جهادك، فإن
أفعل فإنه قربة إلى ربي، وإن لم أفعله فأستغفر الله لديني، وأسأله التوفيق لما يحب
ويرضى، وقلت فيما قلت: متى تكدني أكدك، فكدني يا معاوية فيما بدا لك، فلعمري لقديما
يكاد الصالحون، وإني لأرجو أن لا تضر إلا نفسك، ولا تمحق إلا عملك، فكدني ما بدا
لك، واتق الله يا معاوية، واعلم أن لله كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
واعلم أن الله ليس
(هامش)
(1) يريد حجر بن عدي الكندي وقد قتله معاوية صبرا، ويقال إنه أول من قتل صبرا في
الإسلام. قتل مع ستة من أصحابه وهم شريك بن شداد الحضرمي، وصيفي بن فسيل الشيباني،
وقبيصة بن ضبيعة العبسي، ومحرز بن شهاب السعدي، وكدام بن حيان العنزي، وعبد الرحمن
بن حسان العنزي (أنظر في مقتلهم مروج الذهب 3 / 3 - 4 والطبري 5 / 277). (2) العصم
جمع أعصم وهي الوعول. (3) يريد زياد بن أبيه حيث استلحقه معاوية وجعله أخيه وسماه
زياد بن أبي سفيان، وكان أبو سفيان قد أنكر أنه ابنه من سمية. (أنظر ما ذكره
المسعودي في مروج الذهب 3 / 7) بشأن قضية إلحاق زياد بأبي سفيان. (*)
ص 204
بناس لك قتلك بالظنة، وأخذك بالتهمة، وإمارتك صبيا يشرب الشراب، ويلعب بالكلاب، ما
أراك إلا وقد أوبقت نفسك، وأهلكت دينك، وأضعت الرعية والسلام. قدوم معاوية المدينة
على هؤلاء القوم وما كان بينهم من المنازعة
قال: وذكروا أنه لما جاوب القوم معاوية
بما جاوبوه، من الخلاف لأمره، والكراهية لبيعته ليزيد، كتب إلى سعيد بن العاص (1)،
يأمره أن يأخذ أهل المدينة بالبيعة ليزيد، أخذا بغلظة وشدة، ولا يدع أحدا من
المهاجرين والأنصار وأبنائهم حتى يبايعوا، وأمره أن لا يحرك هؤلاء النفر، ولا
يهيجهم. فلما قدم عليه كتاب معاوية أخذهم بالبيعة أعنف ما يكون من الأخذ وأغلظه،
فلم يبايعه أحد منهم. فكتب إلى معاوية: إنه لم يبايعني أحد، وإنما الناس تبع لهؤلاء
النفر، فلو بايعوك بايعك الناس جميعا، ولم يتخلف عنك أحد. فكتب إليه معاوية يأمره
أن لا يحركهم إلى أن يقدم، فقدم معاوية المدينة حاجا، فلما أن دنا من المدينة خرج
إليه الناس يتلقونه، ما بين راكب وماش، وخرج النساء والصبيان، فلقيه الناس على حال
طاقتهم وما تسارعوا به في الفوت والقرب، فلان لمن كافحه، وفاوض العامة بمحادثته
وتألفهم جهده، مقاربة ومصانعة، ليستميلهم إلى ما دخل فيه الناس، حتى قال في بعض ما
يجتلبهم به: يا أهل المدينة ما زلت أطوي الحزن من وعثاء السفر بالحب لمطالعتكم، حتى
انطوى البعيد، ولان الخشن، وحق لجار رسول الله أن يتاق إليه. فرد عليه القوم: بنفسك
ودارك ومهاجرك، أما إن لك منهم كإشفاق الحميم البر، والحفي المتعاهد (2). قال: حتى
إذا كان بالجرف (3) لقيه الحسين بن علي، وعبد الله بن عباس،
(هامش)
(1) في العقد الفريد 4 / 371 وفتوح ابن الأعثم 4 / 232: كتب إلى مروان بن الحكم.
(2) الحفي: القريب الذي يحترم صاحبه ويحتفل به. المتعاهد: أي الذي يداوم الحفاوة.
(3) الجرف: بالضم فسكون، موضع على ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام (معجم
البلدان). (*)
ص 205
فقال معاوية: مرحبا يا بن بنت رسول الله وابن صنو أبيه (1)، ثم انحرف إلى الناس،
فقال: هذان شيخا بني عبد مناف، وأقبل عليهما بوجهه وحديثه، فرحب وقرب، وجعل يواجه
هذا مرة، ويضاحك هذا أخرى، حتى ورد المدينة، فلما خالطها لقيته المشاة والنساء
والصبيان، يسلمون عليه ويسايرونه إلى أن نزل، فانصرفا عنه فمال الحسين إلى منزله،
ومضى عبد الله بن عباس إلى المسجد فدخله. وأقبل معاوية ومعه خلق كثير من أهل الشام،
حتى أتى عائشة أم المؤمنين فاستأذن عليها فأذنت له وحده، ولم يدخل عليها معه أحد،
وعندها مولاها ذكوان. فقالت عائشة: يا معاوية، أكنت تأمن أن أقعد لك رجلا فأقتلك
كما قتلت أخي محمد بن أبي بكر؟ (2) فقال معاوية: ما كنت لتفعلي ذلك، قالت: لم؟ قال:
لأني في بيت آمن، بيت رسول الله. ثم إن عائشة حمدت الله وأثنت عليه، وذكرت رسول
الله صلى الله عليه وسلم وذكرت أبا بكر وعمر، وحضته على الاقتداء بهما، والاتباع
لأثرهما، ثم صمتت. قال: فلم يخطب معاوية، وخاف أن لا يبلغ ما بلغت، فارتجل الحديث
ارتجالا، ثم قال: أنت - والله يا أم المؤمنين - العالمة بالله وبرسوله، دللتنا على
الحق، وحضضتنا على حظ أنفسنا، وأنت أهل لأن يطاع أمرك، ويسمع قولك، وإن أمر يزيد
قضاء من القضاء، وليس للعباد الخيرة من أمرهم، وقد أكد الناس بيعتهم في أعناقهم،
وأعطوا عهودهم على ذلك ومواثيقهم، أفترين أن ينقضوا عهودهم ومواثيقهم؟ فلما سمعت
ذلك عائشة علمت أنه سيمضي على أمره، فقالت: أما ما ذكرت من عهود ومواثيق، فاتق الله
في هؤلاء الرهط، ولا تعجل فيهم، فلعلهم لا
(هامش)
(1) في العقد الفريد: مرحبا بسيد شباب المسلمين. وفي ابن الأثير 2 / 511: لقيه
الحسين أول الناس، فلما نظر إليه قال: لا مرحبا ولا أهلا، بدنة يترقرق دمها والله
مهريقه. فقال: مهلا فإني والله لست بأهل لهذه المقالة. وقيل إن الحسين لاقاه لما
دنا من المدينة فكان لقاء معاوية له شيئا ثم أنه ندم على ما كان منه فعندما لقيه
ببطن مر، بعد خروجه من المدينة، رحب به وأمر له بدابة وساير فالتبس على بعض
المؤرخين خبر اللقاءين. ولم يذكر فيمن استقبله عبد الله بن عباس (وانظر فتوح ابن
الأعثم 3 / 234). (2) وكان معاوية قد قتله سنة 38 وكان محمد عاملا على مصر لعلي بن
أبي طالب وقد قتله معاوية بن حديج (أنظر تفاصيل مقتله في الطبري 5 / 94 وما بعدها).
(*)
ص 206
يصنعون إلا ما أحببت، ثم قام معاوية، فلما قام قالت عائشة: يا معاوية، قتلت حجرا
وأصحابه العابدين المجتهدين (1). فقال معاوية، دعي هذا، كيف أنا في الذي بيني وبينك
في حوائجك؟ قالت: صالح، قال: فدعينا وإياهم حتى نلقى ربنا، ثم خرج ومعه ذكوان،
فاتكأ على يد ذكوان، وهو يمشي ويقول: تالله إن رأيت كاليوم قط خطيبا أبلغ من عائشة
بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مضى حتى أتى منزله. فأرسل إلى الحسين بن علي،
فخلا به، فقال له: يا بن أخي، قد استوثق الناس لهذا الأمر، غير خمسة نفر من قريش،
أنت تقودهم يا بن أخي، فما أربك إلى الخلاف؟ قال الحسين: أرسل إليهم، فإن بايعوك
كنت رجلا منهم، وإلا لم تكن عجلت علي بأمر. قال: وتفعل؟ قال: نعم، قال: فأخذ عليه
أن لا يخبر بحديثهما أحدا، فخرج، وقد أقعد له ابن الزبير رجلا بالطريق، فقال: يقول
لك أخوك ابن الزبير: ما كان؟ فلم يزل به حتى استخرج منه شيئا. قال: ثم أرسل معاوية
بعده إلى ابن الزبير، فخلا به. فقال له: قد استوثق الناس لهذا الأمر، غير خمسة نفر
من قريش أنت تقودهم، يا بن أخي، فما أربك إلى الخلاف؟ (2) قال: فأرسل إليهم، فإن
بايعوك كنت رجلا منهم، وإلا لم تكن عجلت علي بأمر. قال: وتفعل؟ قال: نعم. فأخذ عليه
أن لا يخبر بحديثهما (3) أحدا (4). قال: فأرسل بعده إلى ابن عمر، فأتاه وخلا به،
فكلمه بكلام هو ألين من صاحبيه وقال: إني كرهت أن أدع أمة محمد بعدي كالضأن لا راعي
لها، وقد استوثق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر أنت تقودهم، فما أربك إلى الخلاف؟
قال ابن عمر: هل لك في أمر تحقن به الدماء وتدرك به حاجتك؟ فقال معاوية: وددت ذلك،
فقال ابن عمر: تبرز سريرك، ثم أجئ فأبايعك، على أني بعدك أدخل فيما اجتمعت عليه
الأمة، فوالله لو أن الأمة اجتمعت بعدك على عبد حبشي لدخلت فيما تدخل فيه الأمة.
قال: وتفعل؟ قال: نعم. ثم خرج وأرسل إلى عبد الرحمن بن أبي بكر، فخلا به. قال: بأي
يد أو رجل تقدم على معصيتي؟ فقال عبد الرحمن: أرجو أن يكون ذلك خيرا
(هامش)
(1) تقدمت الإشارة قريبا إلى ذلك. (2) زيد في الطبري 5 / 304 قال: أنا أقودهم! قال:
نعم، أنت تقودهم. (3) في الطبري: بحديثهم. (4) زيد في الطبري: قال: يا أمير
المؤمنين، نحن في حرم الله عز وجل، وعهد الله سبحانه ثقيل فأبى عليه وخرج. (*)
ص 207
لي، فقال معاوية: والله لقد هممت أن أقتلك، فقال: لو فعلت لأتبعك الله في الدنيا،
ولأدخلك به في الآخرة النار، قال: ثم خرج عبد الرحمن بن أبي بكر، وبقي معاوية يومه
ذلك يعطي الخواص، ويعصى مذمة الناس (1). فلما كان صبيحة اليوم الثاني، أمر بفراش
فوضع له، وسويت مقاعد الخاصة حوله وتلقاءه من أهله، ثم خرج وعليه حلة يمانية،
وعمامة دكناء، وقد أسبل طرفها بين كتفيه، وقد تغلى (2) وتعطر، فقعد على سريره،
وأجلس كتابه منه بحيث يسمعون ما يأمر به، وأمر حاجبه أن لا يأذن لأحد من الناس وإن
قرب، ثم أرسل إلى الحسين بن علي، وعبد الله بن عباس، فسبق ابن عباس فلما دخل وسلم
أقعده في الفراش عن يساره، فحادثه مليا، ثم قال: يا بن عباس لقد وفر الله حظكم من
مجاورة هذا القبر الشريف، ودار الرسول عليه الصلاة والسلام. فقال ابن عباس، نعم
أصلح الله أمير المؤمنين، وحظنا من القناعة بالبعض، والتجافي عن الكل أوفر، فجعل
معاوية يحدثه ويحيد به عن طريق المجاوبة، ويعدل إلى ذكر الأعمال على اختلاف الغرائز
والطبائع، حتى أقبل الحسين بن علي، فلما رآه معاوية جمع له وسادة كانت على يمينه،
فدخل الحسين وسلم، فأشار إليه، فأجلسه عن يمينه مكان الوسادة فسأله معاوية عن حال
بني أخيه الحسن وأسنانهم، فأخبره، ثم سكت. قال: ثم ابتدأ معاوية فقال: أما بعد،
فالحمد لله ولي النعم، ومنزل النقم، وأشهد أن إله إلا الله المتعالي عما يقول
الملحدون علوا كبيرا، وأن محمدا عبده المختص المبعوث إلى الجن والإنس كافة، لينذرهم
بقرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد. فأدى عن الله،
وصدع (3) بأمره، وصبر على الأذى في جنبه، حتى وضح دين الله، وعز أولياؤه، وقمع
المشركون، وظهر أمر الله وهم كارهون، فمضى صلوات الله عليه، وقد ترك من الدنيا ما
بذل له، واختار منها الترك لما سخر له، زهادة واختيارا لله، وأنفة واقتدارا على
الصبر، بغيا لما يدوم ويبقى، فهذه صفة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم خلفه رجلان
(هامش)
(1) لم يذكر عبد الله بن عباس فكما لا حظنا فقد ذكر أنه استدعى عبد الرحمن بن أبي
بكر حيث لم يرد أنه كاتبه في جملة من كاتب من النفر المتقدمين. (2) تغلى أي تضمخ
بالغالية، من أنواع المسك. (3) صدع بأمره: أظهره وبينه. (*)
ص 208
محفوظان، وثالث مشكور، وبين ذلك خوض طال ما عالجناه مشاهدة ومكافحة ومعاينة وسماعا،
وما أعلم منه فوق ما تعلمان، وقد كان من أمر يزيد ما سبقتم إليه وإلى تجويزه، وقد
علم الله ما أحاول به في أمر الرعية، من سد الخلل، ولم الصدع بولاية يزيد بما أيقظ
العين، وأحمد الفعل، هذا معناي في يزيد، وفيكما فضل القرابة، وحظوة العلم، وكمال
المروءة، وقد أصبت من ذلك عند يزيد على المناظرة والمقابلة، ما أعياني مثله عندكما،
وعند غيركما، مع علمه بالسنة، وقراءة القرآن، والحلم الذي يرجح بالصم الصلاب، وقد
علمتما أن الرسول المحفوظ بعصمة الرسالة، قدم على الصديق والفاروق، ومن دونهما من
أكابر الصحابة، وأوائل المهاجرين يوم غزوة السلاسل (1)، من لم يقارب القوم ولم
يعاندهم برتبة في قرابة موصولة. ولا سنة مذكورة، فقادهم الرجل بأمره، وجمع بهم
صلاتهم، وحفظ عليهم فيئهم، وقال فلم يقل معه، وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم
أسوة حسنة، فمهلا بني عبد المطلب، فأنا وأنتم شعبا نفع وجد، وما زلت أرجو الإنصاف
في اجتماعكما، فما يقول القائل إلا بفضل قولكما، فردا على ذي رحم مستعتب ما يحمد به
البصيرة في عتابكما، وأستغفر الله لي ولكما. قال: فتيسر ابن عباس للكلام، ونصب يده
للمخاطبة، فأشار إليه الحسين وقال: على رسلك، فأنا المراد، ونصيبي في التهمة أوفر،
فأمسك ابن عباس، فقام الحسين، فحمد الله، وصلى على الرسول ثم قال: أما بعد يا
معاوية، فلن يؤدي القائل، وإن أطنب في صفة الرسول صلى الله عليه وسلم من جميع جزءا،
وقد فهمت ما لبست به الخلف بعد رسول الله من إيجاز الصفة والتنكب عن استبلاغ النعت،
وهيهات هيهات يا معاوية: فضح الصبح فحمة الدجى، وبهرت الشمس أنوار السرج، ولقد فضلت
حتى أفرطت، واستأثرت حتى أجحفت، ومنعت حتى محلت، وجزت حتى جاوزت ما بذلت لذي حق من
اسم حقه بنصيب، حتى أخذ الشيطان حظه الأوفر، ونصيبه الأكمل، وفهمت ما ذكرته عن يزيد
من اكتماله، وسياسته لأمة محمد، تريد أن توهم الناس في
(هامش)
(1) إشارة إلى تولية عمرو بن العاص غزوة ذات السلاسل من أرض بني عذرة حيث أرسله صلى
الله عليه وسلم يستنفر العرب إلى الشام. ثم أرسل إليه مددا أبا بكر وعمر وأبا عبيدة
(سيرة ابن هشام 4 / 272). (*)
ص 209
يزيد، كأنك تصف محجوبا، أو تنعت غائبا، أو تخبر عما كان مما احتويته بعلم خاص، وقد
دل يزيد من نفسه على موقع رأيه فخذ ليزيد فيما أخذ فيه، من استقرائه الكلاب
المهارشة عند التهارش، والحمام السبق لأترابهن، والقيان ذوات المعازف وضرب الملاهي
تجده باصرا، ودع عنك ما تحاول، فما أغناك أن تلقى الله من وزر هذا الخلق بأكثر مما
أنت لاقيه، فوالله ما برحت تقدح باطلا في جور، وحنقا في ظلم حتى ملأت الأسقية (1)
وما بينك وبين الموت إلا غمضة، فتقدم على عمل محفوظ، في يوم مشهود، ولات حين مناص،
ورأيتك عرضت بنا بعد هذا الأمر، ومنعتنا عن آبائنا تراثا، ولقد - لعمر الله -
أورثنا الرسول عليه الصلاة والسلام ولادة وجئت لنا بها، أما حججتم به القائم عند
موت الرسول، فأذعن للحجة بذلك، ورده الإيمان إلى النصف، فركبتم الأعاليل، وفعلتم
الأفاعيل، وقلتم كان ويكون، حتى أتاك الأمر يا معاوية من طريق كان قصدها لغيرك،
فهناك فاعتبروا يا أولي الأبصار، وذكرت قيادة الرجل القوم بعهد رسول الله صلى عليه
وسلم وتأميره له، وقد كان ذلك، ولعمرو بن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرسول، وبيعته
له، وما صار - لعمر الله - يومئذ مبعثهم حتى أنف القوم إمرته، وكرهوا تقديمه، وعدوا
عليه أفعاله، فقال صلى الله عليه وسلم: لا جرم معشر المهاجرين، لا يعمل عليكم بعد
اليوم غيري. فكيف تحتج بالمنسوخ من فعل الرسول، في أوكد الأحكام، وأولاها بالمجمع
عليه من الصواب؟ أم كيف صاحبت بصاحب تابعا، وحولك من لا يؤمن في صحبته، ولا يعتمد
في دينه وقرابته، وتتخطاهم إلى مسرف مفتون، تريد أن تلبس الناس شبهة يسعد بها
الباقي في دنياه، وتشقى بها في آخرتك. إن هذا لهو الخسران المبين. وأستغفر الله لي
ولكم. قال: فنظر معاوية إلى ابن عباس فقال: ما هذا يا بن عباس؟ ولما عندك أدهى
وأمر. فقال ابن عباس: لعمر الله إنها لذرية الرسول، وأحد أصحاب الكساء (2)، وفي
البيت المطهر، فاله عما تريد، فإن لك في الناس مقنعا، حتى
(هامش)
(1) الأسقية جمع سقاء وهو القربة. (2) إشارة إلى حديث رواه ابن كثير في البداية
والنهاية 7 / 376 قال لما نزلت آية (فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم...) دعا رسول
الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا ثم قال: اللهم هؤلاء أهلي. (*)
ص 210
يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين. فقال معاوية: أعود الحلم التحلم، قال: وخيره
التحلم عن الأهل. انصرفا في حفظ الله، ثم أرسل معاوية إلى عبد الرحمن بن أبي بكر
(1)، وإلى عبد الله بن عمر، وإلى عبد الله بن الزبير، فجلسوا، فحمد الله وأثنى عليه
معاوية ثم قال: يا عبد الله بن عمر قد كنت تحدثنا أنك لا تحب أن تبيت ليلة وليس في
عنقك بيعة جماعة وأن لك الدنيا وما فيها، وإني أحذرك أن تشق عصا المسلمين، وتسعى في
تفريق ملئهم، وأن تسفك دماءهم، وإن أمر يزيد قد كان قضاء من القضاء، وليس للعباد
خيرة من أمرهم، وقد وكد الناس بيعتهم في أعناقهم، وأعطوا على ذلك عهودهم ومواثيقهم،
ثم سكت. فتكلم عبد الله بن عمر، فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال: أما بعد يا معاوية،
لقد كانت قبلك خلفاء، وكان لهم بنون، ليس ابنك بخير من أبنائهم، فلم يروا في
أبنائهم ما رأيت في ابنك. فلم يحابوا في هذا الأمر أحدا، ولكن اختاروا لهذه الأمة
حيث علموهم، وإنك تحذرني أن أشق عصا المسلمين، وأفرق ملأهم. وأسفك دماءهم، ولم أكن
لا فعل ذلك إن شاء الله، ولكن إن استقام الناس فسأدخل في صالح ما تدخل فيه أمة
محمد. فقال معاوية: يرحمك الله ليس عندك خلاف. ثم قال معاوية لعبد الرحمن بن أبي
بكر نحو ما قاله لعبد الله بن عمر. فقال له عبد الرحمن: إنك والله لوددت أنا نكلك
إلى الله فيما جسرت عليه من أمر يزيد، والذي نفسي بيده لنجعلنها شورى، أو لأعيدنها
جذعة، ثم قام ليخرج، فتعلق معاوية بطرف ردائه. ثم قال: على رسلك، اللهم اكفنيه بما
شئت، ثم قال له: لا تظهرن لأهل الشام، فإني أخشى عليك منهم. ثم قال لابن الزبير،
نحو ما قاله لابن عمر. ثم قال له: أنت ثعلب رواغ، كلما خرجت من جحر انجحرت في آخر،
أنت ألبت هذين الرجلين (2)، وأخرجتهما
(هامش)
= ورواه أحمد في مسنده 1 / 173، 175، 182 و3 / 338 والترمذي في المناقب 5 / 638
ومسلم في فضائل الصحابة (باب 4) حديث 32. (1) كذا بالأصل وبعض كتب التاريخ. قال ابن
الأثير في تاريخه 2 / 513: ذكر عبد الرحمن بن أبي بكر لا يستقيم على قول من يجعل
وفاته سنة 53، وإنما يصح على قول من يجعلها بعد ذلك الوقت. (2) عند ابن الأعثم:
هؤلاء الثلاثة يريد الحسين بن علي وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن عمر. (*)
|