ص 211
إلى ما خرجا إليه. فقال ابن الزبير. أتريد أن تبايع ليزيد؟ أرأيت إن بايعناه أيكما
نطيع، أنطيعك أم نطيعه؟ إن كنت مللت الخلافة فاخرج منها وبايع ليزيد، فنحن نبايعه،
فكثر كلامه وكلام ابن الزبير، حتى قال له معاوية في بعض كلامه: والله ما أرك إلا
قاتلا نفسك، ولكأني بك قد تخبطت في الحبالة. ثم أمرهم بالانصراف، واحتجب عن الناس
ثلاثة أيام لا يخرج. ثم خرج، فأمر المنادي أن ينادي في الناس، أن يجتمعوا لأمر جامع
فاجتمع الناس في المسجد، وقعد هؤلاء حول المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه. ثم ذكر
يزيد وفضله، وقراءته القرآن، ثم قال: يا أهل المدينة، لقد هممت ببيعة يزيد، وما
تركت قرية ولا مدرة (1) إلا بعثت إليها في بيعته، فبايع الناس جميعا، وسلموا، وأخرت
المدينة بيعته، وقلت بيضته وأصله (2)، ومن لا أخافهم عليه وكان الذين أبوا البيعة
منهم من كانوا أجدر أن يصله، ووالله لو علمت مكان أحد هو خير للمسلمين من يزيد
لبايعت له، فقام الحسين فقال: والله لقد تركت من هو خير منه أبا وأما ونفسا، فقال
معاوية: كأنك تريد نفسك؟ فقال الحسين: نعم، أصلحك الله. فقال معاوية: إذا أخبرك،
أما قولك: خير منه أما، فلعمري: أمك خير من أمه، ولو لم تكن إلا أنها امرأة من قريش
لكان لنساء قريش فضلهن، فكيف وهي ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ثم فاطمة في
دينها وسابقتها، فأمك لعمر الله خير من أمه، وأما أبوك فقد حاكم أباه إلى الله،
فقضى لأبيه على أبيك. فقال الحسين: حسبك جهلك، آثرت العاجل على الآجل. فقال معاوية:
أما ما ذكرت من أنك خير من يزيد نفسا فيزيد والله خير لأمة محمد منك. فقال الحسين:
هذا هو الإفك والزور، يزيد شارب الخمر، ومشتري اللهو خير مني؟ فقال معاوية: مهلا عن
شتم ابن عمك، فإنك لو ذكرت عنده بسوء لم يشتمك (3). ثم التفت معاوية إلى الناس
وقال: أيها الناس، قد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض، ولم يستخلف أحدا،
فرأى المسلمون أن يستخلفوا أبا بكر، وكانت بيعة هدى، فعمل بكتاب الله وسنة نبيه،
فلما حضرته الوفاة، رأى أن يستخلف عمر، فعمل عمر
(هامش)
(1) مدرة: القربة المبنية بالطين واللبن. (2) في ابن الأعثم قلت هم أصله وقومه
وعشيرته. (3) زيد في فتوح ابن الأعثم: إن علم مني ما أعلمه منه فليقل فيما أقول
فيه. (*)
ص 212
بكتاب الله، وسنة نبيه، فلما حضرته الوفاة رأى أن يجعلها شورى بين ستة نفر، اختارهم
من المسلمين، فصنع أبو بكر ما لم يصنعه رسول الله، وصنع عمر ما لم يصنعه أبو بكر،
كل ذلك يصنعونه نظرا للمسلمين، فلذلك رأيت أن أبايع ليزيد لما وقع الناس فيه من
الاختلاف، ونظرا لهم بعين الإنصاف. ما قال عبد الله بن الزبير لمعاوية
قال: وذكروا
أن عبد الله بن الزبير قام إلى معاوية فقال (1): إن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قبض، فترك الناس إلى كتاب الله، فرأى المسلمون أن يستخلفوا أبا بكر، ثم رأى أبو بكر
أن يستخلف عمر، وهو أقصى قريش منه نسبا، ورأى عمر أن يجعلها شورى بين ستة نفر
اختارهم من المسلمين، وفي المسلمين ابنه عبد الله، وهو خير من ابنك، فإن شئت أن تدع
الناس على ما تركهم رسول الله، فيختارون لأنفسهم، وإن شئت أن تستخلف من قريش كما
استخلف أبو بكر خير من يعلم، وإن شئت أن تصنع مثل ما صنع عمر، تختار رهطا من
المسلمين، وتزويها عن ابنك، فافعل (2). فنزل معاوية عن المنبر، وانصرف ذاهبا إلى
منزله، وأمر من حرسه وشرطته قوما أن يحضروا هؤلاء النفر الذين أبوا البيعة، وهم
الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عباس، وعبد
الرحمن بن أبي بكر، وأوصاهم معاوية فقال: إني خارج العشية إلى أهل الشام، فأخبرهم
أن هؤلاء النفر قد بايعوا وسلموا، فإن تكلم أحد منهم بكلام يصدقني أو يكذبني فيه،
فلا ينقضي كلامه حتى يطير رأسه، فحذر القوم ذلك، فلما كان العشي، خرج معاوية، وخرج
معه هؤلاء النفر، وهو يضاحكهم، ويحدثهم، وقد ألبسهم الحلل، فألبس ابن عمر حلة
حمراء، وألبس الحسين حلة صفراء، وألبس عبد الله بن عباس حلة خضراء، وألبس ابن
الزبير حلة يمانية. ثم خرج بينهم،
(هامش)
(1) في العقد الفريد وفتوح ابن الأعثم: نخيرك بين خصال ثلاث فاختر منها أيتهن شئت.
(وانظر تاريخ خليفة ص 216 وابن الأثير 2 / 512). (2) زيد في العقد الفريد وابن
الأثير: قال معاوية: هل عندك غير هذا؟ قال: لا. ثم قال: فأنتم؟ قالوا: قولنا قوله.
قال: فأني قد أحببت أن أتقدم إليكم، فإنه أعذر من أنذر. (*)
ص 213
وأظهر لأهل الشام الرضا عنهم: أي القوم، وأنهم بايعوا، فقال: يا أهل الشام (1) إن
هؤلاء النفر دعاهم أمير المؤمنين، فوجدهم واصلين مطيعين، وقد بايعوا وسلموا، قال
ذلك والقوم سكوت ولم يتكلموا شيئا حذر القتل، فوثب أناس من أهل الشام فقالوا: يا
أمير المؤمنين إن كان رابك منهم ريب، فخل بيننا وبينهم، حتى نضرب أعناقهم. فقال
معاوية: سبحان الله! ما أحل دماء قريش عندكم يا أهل الشام. لا أسمع لهم ذاكرا بسوء،
فإنهم قد بايعوا وسلموا، وارتضوني فرضيت عنهم، رضي الله عنهم (2). ثم ارتحل معاوية
راجعا إلى مكة، وقد أعطى الناس أعطياتهم، وأجزل العطاء، وأخرج إلى كل قبيلة جوائزها
وأعطياتها، ولم يخرج لبني هاشم جائزة ولا عطاء. فخرج عبد الله بن عباس في أثره حتى
لحقه بالروحاء (3)، فجلس ببابه، فجعل معاوية يقول: من بالباب؟ فيقال: عبد الله بن
عباس؟ فلم يأذن لأحد. فلما استيقظ قال: من بالباب؟ فقيل: عبد الله بن عباس، فدعا
بدابته، فأدخلت إليه، ثم خرج راكبا، فوثب إليه عبد الله بن عباس، فأخذ بلجام
البغلة، ثم قال: أين تذهب؟ قال: إلى مكة، قال: فأين جوائزنا كما أجزت غيرنا، فأومأ
إليه معاوية، فقال: والله ما لكم عندي جائزة ولا عطاء حتى يبايع صاحبكم (4). قال
ابن عباس: فقد أبى ابن الزبير فأخرجت جائزة بني أسد، وأبى عبد الله بن عمر، فأخرجت
جائزة بني عدي، فما لمنا إن أبى صاحبنا، وقد أبى صاحب غيرنا؟ فقال معاوية: لستم
كغيركم، لا والله لا أعطيكم درهما حتى يبايع صاحبكم. فقال ابن عباس: أما والله لئن
لم تفعل لألحقن بساحل من سواحل الشام، ثم لأقولن ما تعلم، والله لأتركنهم عليك
خوارج. فقال معاوية: لا، بل أعطيكم جوائزكم، فبعث بها من الروحاء ومضى راجعا إلى
الشام، فلم يلبث إلا قليلا، حتى توفي عبد الرحمن بن أبي بكر في نومة نامها رحمه
الله. ما قال سعيد بن عثمان بن عفان لمعاوية
قال: فلما قدم معاوية إلى الشام، أتاه
سعيد بن عثمان بن عفان، وكان شيطان
(هامش)
(1) أنظر مقالته في ابن الأثير 2 / 513 العقد الفريد 4 / 372 ابن الأعثم 4 / 248
باختلاف عما هنا. (2) فبايع الناس، وكانوا يتربصون بيعة هؤلاء النفر، وتفرقوا وهم
يظنون أنهم. (3) الروحاء: على طريق مكة من المدينة. (4) يريد الحسين بن علي. (*)
ص 214
قريش ولسانها. قال: يا أمير المؤمنين علام تبايع ليزيد وتتركني؟ فوالله لتعلم أن
أبي خير من أبيه، وأمي خير من أمه، وأنا خير منه، وأنك إنما نلت ما أنت فيه بأبي،
فضحك معاوية وقال: يا بن أخي أما قولك: إن أباك خير من أبيه، فيوم من عثمان خير من
معاوية، وأما قولك: إن أمك خير من أمه، ففضل قرشية على كلبية فضل بين، وأما أن أكون
نلت ما أنا فيه بأبيك، فإنما هو الملك يؤتيه الله من يشاء، قتل أبوك رحمه الله،
فتواكلته بنو العاصي، وقامت فيه بنو حرب، فنحن أعظم بذلك منة عليك، وأما أن تكون
خيرا من يزيد، فوالله (1) ما أحب أن داري مملوءة رجالا مثلك بيزيد، لكن دعني من هذا
القول، وسلني أعطك. فقال سعيد بن عثمان: يا أمير المؤمنين، لا يعدم يزيد مركبا ما
دمت له، وما كنت لأرضى ببعض حقي دون بعض، فإذا أبيت فأعطني مما أعطاك الله. فقال
معاوية: لك خراسان. قال سعيد: وما خراسان؟ قال: إنها لك طعمة وصلة رحم، فخرج راضيا،
وهو يقول: ذكرت أمير المؤمنين وفضله * فقلت جزاه الله خيرا بما وصل وقد سبقت مني
إليه بوادر * من القول فيه آفة العقل والزلل فعاد أمير المؤمنين بفضله * وقد كان
فيه قبل عودته ميل وقال خراسان لك اليوم طعمة * فجوزي أمير المؤمنين بما فعل فلو
كان عثمان الغداة مكانه * لما نالني من ملكه فوق ما بذل فلما انتهى قوله إلى
معاوية، أمر يزيد أن يزوده، وأمر إليه بخلعة، وشيعه فرسخا. قدوم أبي الطفيل على
معاوية
قال: وذكروا أنه لم يكن أحد أحب إلى معاوية أن يلقاه من أبي الطفيل الكناني،
وهو عامر بن واثلة، وكان فارس أهل صفين، وشاعرهم، وكان من أخص الناس بعلي كرم الله
وجهه، فقدم أبو الطفيل الشام يزور ابن أخ له من رجال معاوية، فأخبر معاوية بقدومه،
فأرسل إليه، فأتاه وهو شيخ كبير، فلما دخل عليه، قال له معاوية: أنت أبو الطفيل
عامر بن واثلة؟ قال: نعم. قال
(هامش)
(1) العبارة في الطبري (حوادث سنة 56) فوالله ما أحب أن الغوطة دحست (أي ملئت)
ليزيد رجالا مثلك. (*)
ص 215
معاوية: أكنت ممن قتل عثمان أمير المؤمنين، قال: لا، ولكن ممن شهده فلم ينصره، قال:
ولم؟ قال: لم ينصره المهاجرون والأنصار، فقال معاوية: أما والله إن نصرته كانت
عليهم وعليك حقا واجبا، وفرضا لازما، فإذ ضيعتموه فقد فعل الله بكم ما أنتم أهله،
وأصاركم إلى ما رأيتم، فقال أبو الطفيل: فما منعك يا أمير المؤمنين، إذ تربصت به
ريب المنون أن تنصره ومعك أهل الشام؟ قال معاوية: أو ما ترى طلبي لدمه، فضحك أبو
الطفيل وقال: بلى، ولكني وإياك كما قال عبيد بن الأبرص (1): لا أعرفنك (2) بعد
الموت تندبني * وفي حياتي ما زودتني زادي فدخل مروان بن الحكم، وسعيد بن العاص،
وعبد الرحمن بن الحكم، فلما جلسوا نظر إليهم معاوية، ثم قال: أتعرفون هذا الشيخ؟
قالوا: لا، فقال معاوية: هذا خليل علي بن أبي طالب وفارس صفين، وشاعر أهل العراق،
هذا أبو الطفيل. قال سعيد بن العاص: قد عرفناه يا أمير المؤمنين، فما يمنعك منه؟
وشتمه القوم، فزجرهم معاوية وقال: مهلا، فرب يوم ارتفع عن الأسباب قد ضقتم به ذرعا،
ثم قال: أتعرف هؤلاء يا أبا الطفيل؟ قال: ما أنكرهم من سوء، ولا أعرفهم بخير،
وأنشد: فإن تكن العداوة قد أكنت * فشر عداوة المرء السباب فقال معاوية: يا أبا
الطفيل، ما أبقى لك الدهر من حب علي؟ قال: حب أم موسى، وأشكو إلى الله التقصير،
فضحك معاوية، قال: ولكن والله هؤلاء الذين حولك لو سئلوا عني ما قالوا هذا. فقال
مروان: أجل، والله لا نقول الباطل. قال: ثم جهزه معاوية، وألحقه بالكوفة (3).
ما
حاول معاوية من تزويج يزيد
قال: وذكروا أن يزيد بن معاوية سهر ليلة من الليالي،
وعنده وصيف لمعاوية يقال له رفيق، فقال يزيد: أستديم الله بقاء أمير المؤمنين،
وعافيته إياه،
(هامش)
(1) في مروج الذهب 3 / 20 كما قال الجعدي (يريد النابغة). (2) في مروج الذهب:
ألفينك. (3) الخبر في مروج الذهب باختلاف واختصار 3 / 19 - 20. (*)
ص 216
وأرغب إليه في تولية أمره وكفاية همه، فقد كنت أعرف من جميل رأي أمير المؤمنين في،
وحسن نظره في جميع الأشياء ما يؤكد الثقة ذلك والتوكل عليه؟ منعني من البوح بما
جمجمت في صدري له، وتطلابه إليه، فأضاع من أمري وترك من النظر في شأني، وقد كان في
حلمه، وعلمه، ورضائه، ومعرفته، بما يحق لمثله النظر فيه، غير غافل عنه، ولا تارك
له، مع ما يعلم من هيبتي له وخشيتي منه، فالله يجزيه عني بإحسانه، ويغفر له ما
اجترح من عهده ونسيانه، فقال الوصيف: وما ذلك جعلت فداك؟ لا تلم على تضييعه إياك،
فإنك تعرف تفضيله لك، وحرصه عليك، وما يخامره من حبك، وأن ليس شيء أحب إليه، ولا
آثر عنده منك لديه، فاذكر بلاءه، واشكر حباءه فإنك لا تبلغ من شكره إلا بعون من
الله. قال: فأطرق يزيد إطراقا عرف الوصيف منه ندامته على ما بدا منه، وباح به، فلما
آب من عنده توجه نحو سدة معاوية ليلا وكان غير محجوب عنه، ولا محبوس دونه، فعلم
معاوية أنه ما جاء به إلا خبر أراد إعلامه به. فقال له معاوية: ما وراءك؟ وما جاء
بك؟ فقال: أصلح الله أمير المؤمنين، كنت عند يزيد ابنك، فقال فيما استجر من الكلام
كذا وكذا، فوثب معاوية وقال: ويحك ما أضعنا منه؟ رحمة له، وكراهية لما شجاه وخالف
هواه؟ وكان معاوية لا يعدل بما يرضيه شيئا. فقال: علي به، وكان معاوية إذا أتت
الأمور المشكلة المعضلة، بعث إلى يزيد يستعين به على استيضاح شباتها واستسهال
معضلاتها، فلما جاءه الرسول قال: أجب أمير المؤمنين، فحسب يزيد إنما دعاه إلى تلك
الأمور التي يفزع إليه منها، ويستعين برأيه عليها، فأقبل حتى دخل عليه، فسلم ثم
جلس، فقال معاوية: يا يزيد ما الذي أضعنا من أمرك، وتركنا من الحيطة عليك، وحسن
النظر لك، حيث قلت ما قلت؟، وقد تعرف رحمتي بك، ونظري في الأشياء التي تصلحك، قبل
أن تخطر على وهمك، فكنت أظنك على تلك النعماء شاكرا، فأصبحت بها كافرا، إذ فرط من
قولك ما ألزمتني فيه إضاعتي إياك، وأوجبت علي منه التقصير، لم يزجرك عن ذلك تخوف
سخطي، ولم يحجزك دون ذكره سالف نعمتي، ولم يردعك عنه حق أبوتي، فأي ولد أعق منك
وأكيد، وقد علمت أني تخطأت الناس كلهم في تقديمك، ونزلتهم لتوليتي إياك، ونصبتك
إماما على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم من
ص 217
عرفت، وحاولت منهم ما علمت؟ قال: فتكلم يزيد، وقد خنقه من شدة الحياء الشرق وأخضله
من أليم الوجد العرق. قال: لا تلزمني كفر نعمتك، ولا تنزل بي عقابك، وقد عرفت نعمة
مواصلتك ببرك، وخطوي إلى كل ما يسرك، في سري وجهري فليسكن سخطك، فإن الذي أرثي له
من أعباء حمله وثقله، أكثر مما أرثي لنفسي، من أليم ما بها وشدته، وسوف أنبئك
وأعلمك أمري. كنت قد عرفت من أمير المؤمنين استكمل الله بقاءه، نظرا في خيار الأمور
لي، وحرصا على سياقها إلي، وأفضل ما عسيت أستعد له بعد إسلامي المرأة الصالحة، وقد
كان ما تحدث به من فضل جمال أرينب بنت إسحاق وكمال أدبها ما قد سطح وشاع في الناس،
فوقع مني بموقع الهوى فيها، والرغبة في نكاحها، فرجوت ألا تدع حسن النظر لي في
أمرها، فتركت ذلك حتى استنكحها بعلها، فلم يزل ما وقع في خلدي ينمو ويعظم في صدري،
حتى عيل صبري، فبحت بسري، فكان مما ذكرت تقصيرك في أمري، فالله يجزيك أفضل من سؤالي
وذكري. فقال له معاوية: مهلا يا يزيد، فقال: علام تأمرني بالمهل وقد انقطع منها
الأمل؟ فقال له معاوية: فأين حجاك ومروءتك وتقاك؟ فقال يزيد: قد يغلب الهوى على
الصبر والحجا، ولو كان أحد ينتفع فيما يبتلي به من الهوى يتقاه، أو يدفع ما أقصده
بحجاه، لكان أولى الناس بالصبر داود عليه السلام، وقد خبرك القرآن بأمره. فقال
معاوية: فما منعك قبل الفوت من ذكره؟ قال: ما كنت أعرفه، وأثق به من جميل نظرك،
قال: صدقت، ولكن اكتم يا بني أمرك بحلمك، واستعن بالله على غلبة هواك بصبرك، فإن
البوح به غير نافعك، والله بالغ أمره، ولا بد مما هو كائن. وكانت أرينب بنت إسحاق
مثلا في أهل زمانها في جمالها، وتمام كمالها وشرفها، وكثرة مالها، فتزوجها رجل من
بني عمها يقال له عبد الله بن سلام من قريش، وكان من معاوية بالمنزلة الرفيعة في
الفضل. ووقع أمر يزيد من معاوية موقعا ملأه هما، وأوسعه غما، فأخذ في الحيلة والنظر
أن يصل إليها، وكيف يجمع بينه وبينها حتى يبلغ رضا يزيد فيها. فكتب معاوية إلى عبد
الله بن سلام: وكان قد استعمله على العراق، أن أقبل حين تنظر في كتابي هذا لأمر حظك
فيه كامل، ولا تتأخر عنه، فأعد المصير والإقبال. وكان عند معاوية بالشام أبو هريرة
وأبو الدرداء، صاحبا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قدم عبد الله بن
ص 218
سلام الشام، أمر معاوية أن ينزل منزلا قد هيئ له، وأعد له فيه نزله، ثم قال لأبي
هريرة وصاحبه: إن الله قسم بين عباده قسما، وواهبهم نعما أوجب عليهم شكرها، وحتم
عليهم حفظها، وأمرهم برعاية حقها، وسلطان طريقها، بجميل النظر، وحسن التفقد لمن
طوقهم الله أمره، كما فوضه إليهم، حتى تؤدوا إلى الله الحق فيهم كما أوجبه عليهم،
فحياني منها عز وجل بأعز الشرف، وسمو السلف، وأفضل الذكر، وأغدق اليسر، وأوسع علي
في رزقه، وجعلني راعي خلقه، وأمينه في بلاده، والحاكم في أمر عباده، ليبلوني أأشكر
آلاءه أم أكفرها، فإياه أسأله أداء شكره، وبلوغ ما أرجو بلوغه، من عظيم أجره، وأول
ما ينبغي للمرء أن يتفقده وينظر فيه، فيمن استرعاه الله أمره من أهله ومن لا غنى به
عنه. وقد بلغت لي ابنة أردت أنكاحها، والنظر فيمن يريد أن يباعلها. لعل من يكون
بعدي يهتدي منه، بهديي، ويتبع فيه أثري، فإني قد تخوفت أن يدعو من يلي هذا الأمر من
بعدي زهوة السلطان وسرفه إلى عضل نسائهم، ولا يرون لهن فيمن ملكوا أمره كفؤا ولا
نظيرا، وقد رضيت لها عبد الله بن سلام لدينه وفضله ومروءته وأدبه. فقال أبو هريرة
وأبو الدرداء: إن أولى الناس برعاية أنعم الله وشكرها، وطلب مرضاته فيها فيما خصه
به منها، أنت صاحب رسول الله وكاتبه. فقال معاوية اذكروا له ذلك عني، وقد كنت جعلت
لها في نفسها شورى، غير أني أرجو أنها لا تخرج من رأيي إن شاء الله، فلما خرجا من
عنده متوجهين إلى منزل عبد الله بن سلام بالذي قال لهما، قال: ودخل معاوية إلى
ابنته، فقال لها: إذا دخل عليك أبو هريرة وأبو الدرداء، فعرضا عليك أمر عبد الله بن
سلام، وإنكاحي إياك منه، ودعواك إلى مباعلته، وحضاك على ملاءمة رأيي، والمسارعة إلى
هواي. فقولي لهما: عبد الله بن سلام كفؤ كريم، وقريب حميم، غير أنه تحته أرينب بنت
إسحاق، وأنا خائفة أن يعرض لي من الغيرة ما يعرض للنساء، فأتولى منه ما أسخط الله
فيه، فيعذبني عليه، فأفارق الرجاء، وأستشعر الأذى، ولست بفاعلة حتى يفارقها، فذكر
ذلك أبو هريرة وأبو الدرداء لعبد الله بن سلام، وأعلماه بالذي أمرهما معاوية، فلما
أخبراه سر به وفرح، وحمد الله عليه، ثم قال: نستمتع الله بأمير المؤمنين، لقد والى
علي من نعمه، وأسدى إلي من مننه، فأطول ما أقوله فيه قصير، وأعظم الوصف لها يسير.
ثم أراد إخلاطي بنفسه، وإلحاقي بأهله، إتماما لنعمته، وإكمالا لإحسانه، فالله
ص 219
أستعين على شكره، وبه أعوذ من كيده ومكره. ثم بعثهما إليه خاطبين عليه، فلما قدما،
قال لهما معاوية: قد تعلمان رضائي به وتنخلي إياه، وحرصي عليه، وقد كنت أعلنتكما
بالذي جعلت لها في نفسها من الشورى، فادخلا إليها، وأعرضا عليها الذي رأيت لها،
فدخلا عليها وأعلماها بالذي ارتضاه لها أبوها، لما رجا من ثواب الله عليه. فقالت
لهما كالذي قال لها أبوها، فأعلماه بذلك، فلما ظن أنه لا يمنعها منه إلا أمرها،
فارق زوجته، وأشهدهما على طلاقها، وبعثهما خاطبين إليه أيضا، فخطبا، وأعلما معاوية
بالذي كان من فراق عبد الله بن سلام امرأته، طلابا لما يرضيها، وخروجا عما يشجيها،
فأظهر معاوية كراهية لفعله، وقال: ما أستحسن له طلاق امرأته، ولا أحببته، ولو صبر
ولم يعجل لكان أمره إلى مصيره، فإن كون ما هو كائن لا بد منه، ولا محيص عنه، ولا
خيرة فيه للعباد، والأقدار غالبة، وما سبق في علم الله لا بد جار فيه، فانصرفا في
عافية، ثم تعودان إلينا فيه، وتأخذان إن شاء الله رضانا. ثم كتب إلى يزيد ابنه
يعلمه بما كان من طلاق أرينب بنت إسحاق عبد الله بن سلام، فلما عاد أبو هريرة وأبو
الدرداء إلى معاوية أمرهما بالدخول عليها، وسؤالها عن رضاها تبريا من الأمر، ونظرا
في القول والعذر، فيقول: لم يكن لي أن أكرهها، وقد جعلت لها الشورى في نفسها، فدخلا
عليها، وأعلماها بالذي رضيه إن رضيت هي، وبطلاق عبد الله بن سلام امرأته أرينب،
طلابا لمسرتها، وذكرا من فضله، وكمال مروءته، وكريم محتده، ما القول يقصر عن ذكره.
فقالت لهما: جف القلم بما هو كائن، وإنه في قريش لرفيع، غير أن الله عز وجل يتولى
تدبير الأمور في خلقه، وتقسيمها بين عباده، حتى ينزلها منازلها فيهم، ويضعها على ما
سبق في أقدارها. وليست تجري لأحد على ما يهوى، ولو كان لبلغ منها غاية ما شاء. وقد
تعرفان أن التزويج هزله جد، وجده ندم، الندم عليه يدوم، والمعثور فيه لا يكاد يقوم،
والأناة في الأمور أوفق لما يخاف فيها من المحذور، فإن الأمور إذا جاءت خلاف الهوى
بعد التأني فيها، كان المرء بحسن العزاء خليقا، وبالصبر عليها حقيقا، وعلمت أن الله
ولي التدابير. فلم تلم النفس على التقصير، وإني بالله أستعين، سائلة عنه، حتى أعرف
دخيلة خبره، ويصح لي الذي أريد علمه من أمره ومستخيرة، وإن كنت أعلم أنه لا خيرة
لأحد فيما هو كائن، ومعلمتكما بالذي يرينيه الله في أمره، ولا قوة إلا بالله.
ص 220
فقالا: وفقك الله وخار لك. ثم انصرفا عنها، فلما أعلماه بقولها تمثل وقال: فإن يك
صدر هذا اليوم ولى * فإن غدا لناظره قريب وتحدث الناس بالذي كان من طلاق عبد الله
امرأته قبل أن يفرغ من طلبته، وقبل أن يوجب له الذي كان من بغيته، ولم يشكوا في غدر
معاوية إياه. فاستحث عبد الله بن سلام أبا هريرة وأبا الدرداء، وسألهما الفراغ من
أمره، فأتياها. فقالا لها: قد أتيناك لما أنت صانعة في أمرك، وإن تستخيري الله يخر
لك فيما تختارين فإنه يهدي من استهداه، ويعطي من اجتداه، وهو أقدر القادرين. قالت:
الحمد الله أرجو أن يكون الله قد خار لي، فإنه لا يكل إلى غيره من توكل عليه، وقد
استبرأت أمره، وسألت عنه فوجدته غير ملائم ولا موافق لما أريد لنفسي، مع اختلاف من
استشرته فيه، فمنهم الناهي عنه، ومنهم الآمر به، واختلافهم أول ما كرهت من الله.
فعلم عبد الله أنه خدع، فهلع ساعة واشتد عليه الهم. ثم انتبه فحمد الله تعالى وأثنى
عليه، وقال متعزيا: ليس لأمر الله راد، ولا لما لا بد أن يكون منه صاد، أمور في علم
الله سبقت، فجرت بها أسبابها، حتى امتلأت منها أقرابها، وإن امرؤ انثال له حلمه
واجتمع له عقله، واستذله رأيه، ليس بدافع عن نفسه قدرا ولا كيدا، ولا انحرافا عنه
ولا جيدا، ولآل ما سروا به واستجذلوا له لا يدوم لهم سروره، ولا يصرف عنهم محذوره.
قال: وذاع أمره في الناس وشاع، ونقلوه إلى الأمصار، وتحدثوا به في الأسمار، وفي
الليل والنهار، وشاع في ذلك قولهم، وعظم لمعاوية عليه لومهم، وقالوا: خدعه معاوية
حتى طلق امرأته، وإنما أرادها لابنه، فبئس من استرعاه الله أمر عباده، ومكنه في
بلاده، وأشركه في سلطانه، يطلب أمرا بخدعة من جعل الله إليه أمره، ويحيره ويصرعه
جرأة على الله. فلما بلغ معاوية ذلك من قول الناس. قال: لعمري ما خدعته. قال: فلما
انقضت أقراؤها، وجه معاوية أبا الدرداء إلى العراق خاطبا لها على ابنه يزيد، فخرج
حتى قدمها، وبها يومئذ الحسين بن عليه وهو سيد أهل العراق فقها ومالا وجودا وبذلا.
فقال أبو الدرداء إذ قدم العراق: مما ينبغي لذي الحجا والمعرفة والتقى أن يبدأ به
ويؤثره على مهم أمره، لما يلزمه حقه، ويجب عليه حفظه، وهذا ابن بنت رسول الله صلى
الله عليه وسلم وسيد شباب أهل الجنة يوم القيامة، فلست بناظر في شيء قبل
ص 221
الالمام به والدخول عليه، والنظر إلى وجهه الكريم وأداء حقه، والتسليم عليه، ثم
أستقبل بعد إن شاء الله ما جئت له، وبعثت إليه، فقصد حتى أتى الحسين، فلما رآه
الحسين قام إليه فصافحه إجلالا له، ومعرفته لمكانه من رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وموضعه من الإسلام. ثم قال الحسين: مرحبا بصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم
وجليسه، يا أبا الدرداء، أحدثت لي رؤيتك شوقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وأوقدت مطلقات أحزاني عليه، فإني لم أر منذ فارقته أحدا كان له جليسا، وإليه حبيبا،
إلا هملت عيناي، وأحرقت كبدي أسى عليه، وصبابة إليه. ففاضت عينا أبي الدرداء لذكر
رسول الله، وقال: جزى الله لبانة أقدمتنا عليك، وجمعتنا بك خيرا. فقال الحسين:
والله إني لذو حرص عليك، ولقد كنت بالاشتياق إليك. فقال أبو الدرداء: وجهني معاوية
خاطبا على ابنه يزيد أرينب بنت إسحاق، فرأيت أن لا أبدأ بشيء قبل إحداث العهد بك،
والتسليم عليك. فشكر له الحسين ذلك، وأثنى عليه وقال: لقد كنت ذكرت نكاحها، وأردت
الارسال إليها بعد انقضاء أقرائها، فلم يمنعني من ذلك إلا تخيير مثلك، فقد أتى الله
بك، فاخطب رحمك الله علي وعليه، فلتختر من اختاره الله لها وإنها أمانة في عنقك حتى
تؤديها إليها، وأعطها من المهر مثل ما بذل لها معاوية عن ابنه. فقال أبو الدرداء:
أفعل إن شاء الله، فلما دخل عليها قال لها: أيتها المرأة إن الله خلق الأمور
بقدرته، وكونها بعزته، فجعل لكل أمر قدرا، ولكل قدر سببا، فليس لأحد عن قدر الله
مستحاص، ولا عن الخروج عن علمه مستناص، فكان مما سبق لك وقدر عليك، الذي كان من
فراق عبد الله بن سلام إياك، ولعل ذلك لا يضرك، وأن يجعل الله لك فيه خيرا كثيرا.
وقد خطبك أمير هذه الأمة، وابن الملك، وولي عهده، والخليفة من بعده، يزيد بن
معاوية. وابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن أول من آمن به من أمته، سيد
شباب أهل الجنة يوم القيامة، وقد بلغك سناهما وفضلهما، وجئتك خاطبا عليهما، فاختاري
أيهما شئت؟ فسكتت طويلا. ثم قالت: يا أبا الدرداء لو أن هذا الأمر جاءني وأنت غائب
عني أشخصت فيه الرسل إليك، واتبعت فيه رأيك، ولم أقطعه دونك على بعد مكانك، ونأي
دارك، فأما إذ كنت المرسل فيه فقد فوضت أمري بعد الله إليك، وبرئت منه إليك، وجعلته
في يديك، فاختر لي أرضاهما لديك،
ص 222
والله شهيد عليك، واقض فيه قضاء ذي التحري المتقي، ولا يصدنك عن ذلك اتباع هوى،
فليس أمرهما عليك خفيا وما أنت عما طوقتك عميا. فقال أبو الدرداء: أيتها المرأة
إنما علي إعلامك وعليك الاختيار لنفسك. قالت: عفا الله عنك، إنما أنا بنت أخيك، ومن
لا غنى بها عنك فلا يمنعك رهبة أحد من قول الحق فيما طوقتك، فقد وجب عليك أداء
الأمانة فيما حملتك، والله خير من روعي وخيف، إنه بنا خبير لطيف. فلما لم يجد بدا
من القول والإشارة عليها. قال: بنية، ابن بنت رسول الله أحب إلي وأرضاهما عندي،
والله أعلم بخيرهما لك، وقد كنت رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعا شفتيه على
شفتي الحسين فضعي شفيتك حيث وضعهما رسول الله، قالت: قد اخترته ورضيته، فاستنكحها
الحسين بن علي، وساق إليها مهرا عظيما، وقال الناس وبلغ معاوية الذي كان من فعل أبي
الدرداء في ذكره حاجة أحد مع حاجته، وما بعثه هو له، ونكاح الحسين إياها، فتعاظمه
ذلك جدا، ولامه لوما شديدا، وقال: من يرسل ذا بلاهة وعمى، يركب في أمره خلاف ما
يهوى، ورأيي كان من رأيه أسوأ، ولقد كنا بالملامة منه أولى حين بعثناه، ولحاجتنا
انتخلناه، وكان عبد الله بن سلام قد استودعها قبل فراقه إياها بدرات مملوءة درا،
كان ذلك الدر أعظم ماله وأحبه إليه، وكان معاوية قد أطرحه، وقطع جميع روافده عنه،
لسوء قوله فيه، وتهمته إياه على الخديعة، فلم يزل يجفوه ويغضبه، ويكدي عنه، ما كان
يجديه، حتى عيل صبره، وطال أمره، وقل ما في يديه، ولام نفسه على المقام لديه، فخرج
من عنده راجعا إلى العراق، وهو يذكر ماله الذي كان استودعها، ولا يدري كيف يصنع
فيه، وأنى يصل إليه، ويتوقع جحودها عليه، لسوء فعله بها، وطلاقه إياها على غير شيء
أنكره منها، ولا نقمة عليها. فلما قدم العراق لقي الحسين، فسلم عليه. ثم قال: قد
علمت جعلت فداك الذي كان من قضاء الله في طلاق أرينب بنت إسحاق، وكنت قبل فراقي
إياها قد استودعتها مالا عظيما درا وكان الذي كان ولم أقبضه، ووالله ما أنكرت منها
في طول ما صحبتها فتيلا، ولا أظن بها إلا جميلا، فذكرها أمري، واحضضها على الرد
علي، فإن الله يحسن عليك ذكرك، ويجزل به أجرك. فسكت عنه. فلما انصرف الحسين إلى
أهله، قال لها: قدم عبد الله بن سلام وهو يحسن الثناء عليك، ويحمل النشر عنك، في
حسن صحبتك، وما أنسه قديما من أمانتك
ص 223
فسرني ذلك وأعجبني، وذكر أنه كان استودعك مالا قبل فراقه إياك، فأدي إليه أمانته،
وردي عليه ماله، فإنه لم يقل إلا صدقا، ولم يطلب إلا حقا. قالت: صدق، قد والله
استودعني مالا لا أدري ما هو، وإنه لمطبوع عليه بطابعه ما أخذ منه شيء إلى يومه
هذا، فأثنى عليها الحسين خيرا، وقال: بل أدخله عليك حتى تبرئي إليه منه كما دفعه
إليك. ثم لقي عبد الله بن سلام، فقال له: ما أنكرت مالك، وزعمت أنه لكما دفعته
إليها بطابعك، فادخل يا هذا عليها، وتوف مالك منها. فقال عبد الله بن سلام: أو تأمر
بدفعه إلي جعلت فداك. قال: لا، حتى تقبضه منها كما دفعته إليها، تبرئها منه إذا
أدته. فلما دخلا عليها قال لها الحسين: هذا عبد الله بن سلام، قد جاء يطلب وديعته،
فأديها إليه كما قبضتها منه، فأخرجت البدرات فوضعتها بين يديه، وقالت له: هذا مالك،
فشكر لها، وأثنى عليها، وخرج الحسين، ففض عبد الله خاتم بدره، فحثا لها من ذلك الدر
حثوات، وقال: خذي، فهذا قليل مني لك، واستعبرا جميعا، حتى تعالت أصواتهما بالبكاء،
أسفا على ما ابتليا به، فدخل الحسين عليهما وقد رق لهما، للذي سمع منهما. فقال:
أشهد الله أنها طالق ثلاثا، اللهم إنك تعلم أني لم أستنكحها (1) رغبة في مالها ولا
جمالها، ولكني أردت إحلالها لبعلها، وثوابك على ما عالجته في أمرها، فأوجب لي بذلك
الأجر، وأجزل لي عليه الذخر إنك على كل شيء قدير، ولم يأخذ مما ساق إليها في مهرها
قليلا ولا كثيرا. وقد كان عبد الله بن سلام سأل ذلك أرينب، أي التعويض على الحسين،
فأجابته إلى رد ماله عليه شكرا لما صنعه بهما، فلم يقبله، وقال: الذي أرجو عليه من
الثواب خير لي منه فتزوجها عبد الله بن سلام، وعاشا متحابين متصافيين حتى قبضهما
الله، وحرمها الله على يزيد. والحمد لله رب العالمين. وفاة معاوية
قال:
وذكروا أن عتبة بن مسعود قال: مر بنا نعي معاوية بن أبي سفيان (2)
(هامش)
(1) استنكحها: أي أني لم أتزوجها إلا... (2) أجمعوا على وفاته سنة 60. واختلفوا في
وقت وفاته، وفي مدة خلافته ومقدار عمره: أنظر في ذلك الطبري 5 / 323 - 324 مروج
الذهب 3 / 3 تاريخ خليفة ص 226 فتوح ابن الأعثم 4 / 265 الأخبار الطوال وتاريخ
اليعقوبي والإستيعاب تر 4977 وأسد الغابة تر 4977 والإصابة تر 8074 ومآثر الإنافة 1
/ 109 ابن الأثير التاريخ 2 / 524. = (*)
ص 224
ونحن بالمسجد الحرام. قال: فقمنا فأتينا ابن عباس، فوجدناه جالسا قد وضع له الخوان،
وعنده نفر. فقلنا: أما علمت بهذا الخبر يا بن عباس؟ قال: وما هو؟ قلنا: هلك معاوية.
فقال: ارفع الخوان يا غلام، وسكت ساعة، ثم قال: جبل تزعزع ثم مال بكلكلة، أما والله
ما كان كمن كان قبله، ولما يكن بعده مثله. اللهم أنت أوسع لمعاوية فينا وفي بني
عمنا هؤلاء لذي لب معتبر، اشتجرنا بيننا، فقتل صاحبهم غيرنا، وقتل صاحبنا غيرهم،
وما أغراهم بنا إلا أنهم لا يجدون مثلنا، وما أغرانا بهم إلا أنا لا نجد مثلهم، كما
قال القائل: ما لك تظلمني؟ قال: لا أجد من أظلم غيرك. ووالله إن ابنه لخير أهله،
أعد طعامك يا غلام. قال: فما رفع الخوان حتى جاء رسول خالد بن الحكم إلى ابن عباس،
أن انطلق فبايع. فقال للرسول: اقرئ الأمير السلام، وقل له: والله ما بقي في ما
تخافون، فاقض من أمرك ما أنت قاض، فإذا سهل الممشى وذهبت حطمة الناس (1)، جئتك
ففعلت ما أحببت. قال: ثم أقبل علينا فقال: مهلا معشر قريش، أن تقولوا عند موت
معاوية: ذهب جد بني معاوية، وانقطع ملكهم، ذهب لعمر الله جدهم، وبقي ملكهم وشرها
بقية هي أطول مما مضى، إلزموا مجالسكم وأعطوا بيعتكم. قال: فما برحنا حتى جاء رسول
خالد فقال: يقول لك الأمير: لا بد لك أن تأتينا. قال: فإن كان لا بد، فلا بد مما لا
بد منه، يا نوار هلمي ثيابي، ثم قال: وما ينفعكم إتيان رجل إن جلس لم يضركم؟ قال:
فقلت له: أتبايع ليزيد، وهو يشرب الخمر، ويلهو بالقيان، ويستهتر بالفواحش؟ قال: مه:
فأين ما قلت لكم؟ وكم بعده من آت ممن يشرب الخمر، أو هو شر من شاربها، أنتم إلى
بيعته سراع؟ أما والله إني لأنهاكم، وأنا أعلم أنكم فاعلون ما أنتم فاعلون، حتى
يصلب مصلوب قريش بمكة، يعني عبد الله بن الزبير. كتاب يزيد بالبيعة إلى أهل المدينة
قال: وذكروا أن نافع بن جبير قال: إني بالشام يوم موت معاوية، وكان
(هامش)
= وفي العلة التي أصابته قال: الطبري النفاثات وفي ابن الأثير: التفاتات وفي ابن
الأعثم: أصابته اللقوة في وجهه. قلت لعل ذلك نتج عن ارتجاج قوي في الدماغ أودى
بحياته (قيل مات من يومه). (1) يريد ازدحام الناس. (*)
ص 225
يزيد غائبا، واستخلف معاوية الضحاك بن قيس بعده، حتى يقدم يزيد، فلما مات معاوية
خرج الضحاك على الناس، فقال: لا يحملن اليوم نعش أمير المؤمنين إلا قرشي. قال:
فحملته قريش ساعة. ثم قال أهل الشام: أصلح الله الأمير. اجعل لنا من أمير المؤمنين
نصيبا في موته، كما كان لنا في حياته. قال: فاحملوه، فحملوه وازدحموا عليه، حتى
شقوا البرد الذي كان عليه صدعين. قال: فلما قدم يزيد دمشق بعد موت أبيه إلى عشرة
أيام (1)، كتب إلى خالد بن الحكم (2)، وهو عامل المدينة (3): أما بعد، فإن معاوية
بن أبي سفيان، كان عبدا استخلفه الله على العباد، ومكن له في البلاد وكان من حادث
قضاء الله جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه فيه، ما سبق في الأولين والآخرين لم يدفع عنه
ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فعاش حميدا، ومات سعيدا، وقد قلدنا الله عز وجل ما كان
إليه، فيا لها مصيبة ما أجلها، ونعمة ما أعظمها، نقل الخلافة، وفقد الخليفة،
فنستوزعه الشكر، ونستلهمه الحمد، ونسأله الخيرة في الدارين معا، ومحمود العقبى في
الآخرة والأولى، إنه ولي ذلك، وكل شيء بيده لا شريك له، وإن أهل المدينة قومنا
ورجالنا، ومن لم نزل على حسن الرأي فيهم، والاستعداد بهم، واتباع أثر الخليفة فيهم،
والاحتذاء على مثاله لديهم، من الإقبال عليهم، والتقبل من محسنهم، والتجاوز عن
مسيئهم، فبايع لنا قومنا، ومن قبلك من رجالنا، بيعة منشرحة بها صدوركم، طيبة عليها
أنفسكم، وليكن أول من يبايعك من قومنا وأهلنا (4): الحسين، وعبد الله بن عمر، وعبد
الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن جعفر، ويحلفون على ذلك بجميع
الإيمان اللازمة، ويحلفون بصدقة أموالهم غير عشرها، وجزية رقيقهم، وطلاق
(هامش)
(1) في فتوح ابن الأعثم 5 / 2 بعد ثلاثة أيام ، ولعله يريد هنا أي بعد انقضاء
عشرة أيام على قدومه إلى دمشق، وهو مناسب. (2) تقدمت الإشارة إلى أنه الوليد بن
عتبة بن أبي سفيان. (3) قارن مع الطبري 5 / 338 فتوح ابن الأعثم 5 / 10. (4) ذكر أن
يزيد أرسل إلى الوليد بن عتبة كتابا آخر غير كتاب التعزية بمعاوية في صحيفة كأنها
أذن فارة قال فيها: أما بعد فخذ حسينا وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير
بالبيعة أخذا شديدا ليست فيه رخصة حتى يبايعوا، والسلام (نص الطبري 5 / 338 وانظر
ابن الأثير 2 / 529 والأخبار الطوال ص 227 وفتوح ابن الأعثم 5 / 10) وفيه زيادة:
فمن أبى عليك منهم فاضرب عنقه وابعث إلي برأسه. وزيد فيه أيضا اسم عبد الرحمن بن
أبي بكر وهو خطأ فقد مات عبد الرحمن قبل وفاة معاوية. (*)
ص 226
نسائهم، بالثبات على الوفاء، بما يعطون من بيعتهم، ولا قوة إلا بالله، والسلام. إباية القوم الممتنعين عن البيعة
قال: وذكروا أن خالد بن الحكم (1)، لما أتاه
الكتاب من يزيد فظع به، فدعا مروان بن الحكم، وكان على المدينة قبله، فلما دخل عليه
مروان، وذلك في أول الليل. قال له خالد (1): احتسب صاحبك يا مروان، فقال له مروان:
اكتم ما بلغك، إنا لله وإنا إليه راجعون. ثم أقرأه الكتاب، وقال له: ما الرأي؟
فقال: أرسل الساعة إلى هؤلاء النفر، فخذ بيعتهم، فإنهم إن بايعوا لم يختلف على يزيد
أحد من أهل الإسلام، فعجل عليهم قبل أن يفشى الخبر فيمتنعوا، فأرسل إلى الحسين بن
علي، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر (2)، فلما أتاهم الرسول قال عبد الله
بن الزبير للحسين: ظن يا أبا عبد الله فيما أرسل إلينا؟ (3) فقال الحسين: لم يرسل
إلينا إلا للبيعة، فما ترى؟ قال: آتيه، فإن أراد تلك امتنعت عليه، فدعا الحسين
مواليه وأهل بيته، وأقعدهم على الباب، وقال لهم: إن ارتفع صوتي فاقتحموا الدار علي،
وإلا فمكانكم حتى أخرج إليكم. ثم دخل على خالد (1)، فأقرأه الكتاب، فقال الحسين:
رحم الله معاوية. فقالا له: بايع، فقال الحسين (4): لا خير في بيعة سر، والظاهرة
خير، فإذا حضر الناس كان أمرا واحدا، ثم وثب أهله، فقال مروان لخالد (1): أشدد يدك
بالرجل، فلا يخرج حتى يبايعك، فإن أبى فاضرب عنقه. فقال له ابن الزبير: قد علمت أنا
كنا أبينا البيعة إذ دعانا إليها معاوية، وفي نفسه علينا من ذلك ما لا تجهله، ومتى
ما نبايعك ليلا على هذه الحال، تر أنك أغضبتنا على أنفسنا، دعنا حتى نصبح، وتدعو
الناس
(هامش)
(1) كذا، وقد مرت الملاحظة أنه الوليد بن عتبة وليس خالد بن الحكم. (2) في الطبري
وابن الأثير لم يرسل إليه بل أرسل فقط إلى الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير
يدعوهما، وقد أقنعه مروان بعدم الإتيان به لأنه كما قال مروان: فإني لا أراه يرى
القتال، ولا يحب أن يولى على الناس إلا أن يدفع إليه هذا الأمر عفوا. (3) وكان
الوليد قد أرسل إليهما في وقت لم يكن يجلس فيه إلى الناس ولا يأتيه في مثله أحد إلا
لأمر هام مستعجل (الطبري). (4) في الطبري: فإن مثلي لا يعطي بيعته سرا، ولا أراك
تجتزئ بها مني سرا دون أن نظهرها على رؤوس الناس علانية. (5) يشير ابن الأثير
والطبري إلى أن ابن الزبير لم يأته بل أرسل إليه أخاه جعفر ووعده أن يأتيه مع الناس
غدا، وقد خرج ابن الزبير من ليلته إلى مكة. (*)
ص 227
إلى البيعة، فنأتيك فنبايعك بيعة سليمة صحيحة، فلم يزالا به حتى خلى عنهما وخرجا.
فقال مروان لخالد (1): تركتهما، والله لا تظفر بمثلها منهما أبدا، فقال خالد (1):
ويحك أتشير علي أن أقتل الحسين، فوالله (2) ما يسرني أن لي الدنيا وما فيها، وما
أحسب أن قاتله يلقى الله بدمه إلا خفيف الميزان يوم القيامة. فقال له مروان
مستهزئا: إن كنت إنما تركت ذلك لذلك فقد أصبت. خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية
قال:
وذكروا أن يزيد بن معاوية عزل خالد بن الحكم (1) عن المدينة، وولاها عثمان (3) بن
محمد بن أبي سفيان الثقفي، وخرج الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير إلى مكة وأقبل
عثمان بن محمد (3) من الشام واليا على المدينة ومكة وعلى الموسم في رمضان، فلما
استوى على منبر بمكة رعف، فقال رجل مستقبله: جئت والله بالدم، فتلقاه رجل آخر
بعمامته. فقال: مه، والله عم الناس. ثم قام يخطب، فتناول عصا لها شعبتان، فقال: مه،
شعب (4) والله أمر الناس، ثم نزل. فقال الناس للحسين: يا أبا عبد الله، لو تقدمت
فصليت بالناس؟ فإنه ليهم بذلك إذ جاء المؤذن، فأقام الصلاة، فتقدم عثمان فكبر، فقال
للحسين يا أبا عبد الله، إذا أبيت أن تتقدم فاخرج. فقال: الصلاة في الجماعة أفضل.
قال: فصلى، ثم خرج، فلما انصرف عثمان بن محمد من الصلاة، بلغه أن الحسين خرج. قال:
اركبوا كل بعير بين السماء والأرض فاطلبوه، فطلب، فلم يدرك. قال: ثم قدم المدينة،
فأقبل ابن ميثاء بسراح له من الحرة، يريد الأموال التي كانت لمعاوية، فمنع منها،
وأزاحه أهل المدينة عنها، وكانت أموالا اكتسبها معاوية، ونخيلا يجد منها مئة ألف
وسق (5) وستين ألفا، ودخل نفر من قريش والأنصار على
(هامش)
(1) الوليد بن عتبة بن أبي سفيان. (2) العبارة في الطبري: والله ما أحب أن لي ما
طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وأني قتلت حسينا، سبحان الله! أقتل
حسينا أن قال: لا أبايع! (وانظر ابن الأثير - ابن الأعثم - الأخبار الطوال). (3) في
الطبري وابن الأثير: عمرو بن سعيد الأشدق. وبقي إلى سنة 61 حيث عزله وولى مكانه
الوليد بن عتبة ثم عزله سنة 62 وولى مكانه عثمان بن محمد بن أبي سفيان وكان فتى غر
حدث غمر لم يجرب الأمور ولم يحنكه السن ولم تضرسه التجارب. (4) شعب: تفرق. (5)
الوسق: من المكاييل، وهو ستون صاعا أو حمل بعير (القاموس). (*)
ص 228
عثمان، فكلموه فيها فقالوا: قد علمت أن هذه الأموال كلها لنا، وأن معاوية آثر علينا
في عطائنا، ولم يعطنا قط درهما فما فوقه، حتى مضنا الزمان، ونالتنا المجاعة،
فاشتراها منا بجزء من مئة من ثمنها، فأغلظ لهم عثمان في القول، واغلظوا له. فقال
لهم: لأكتبن إلى أمير المؤمنين بسوء رأيكم، وما أنتم عليه من كمون الأضغان القديمة،
والأحقاد التي لم تزل في صدوركم، فافترقوا على موجدة، ثم اجتمع رأيهم على منع ابن
ميثاء القيم عليها، فكف عثمان بن محمد عنهم، وكتب بأمرهم إلى يزيد بن معاوية. قال
عبد الله بن جعفر: جاء كتاب عثمان بن محمد بعد هدأة من الليل، وقد كنت انصرفت من
عند يزيد، فلم ألبث أن جاءني رسوله، فدخلت عليه، والشمعة بين يديه، وهو مغضب قد حسر
عن ذراعيه، والكتاب بين يديه، فقال: دونك يا أبا جعفر هذا الكتاب، فاقرأه، فرأيت
كتابا قبيحا، فيه تعريض بأهل المدينة وتحريش. ثم قال: والله لأطأنهم وطأة آتي منها
على أنفسهم. قال ابن جعفر: فقلت له: إن الله لم يزل يعرف أباك في الرفق خيرا، فإن
رأيت أن ترفق بهم وتتجاوز عنهم فعلت، فإنما هم أهلك وعشيرتك، وإنما تقتل بهم نفسك
إذا قتلتهم. قال: أقتل وأشفي نفسي، فلم أزل ألح عليه فيهم، وأرفقه عليهم، وكان لي
سامعا ومطيعا، فقال لي: إن ابن الزبير حيث علمت من مكة، وهو زعم أنه قد نصب الحرب،
فأنا أبعث إليه الجيوش، وآمر صاحب أول جيش أبعثه أن يتخذ المدينة طريقا، وأن لا
يقاتل، فإن أقروا بالطاعة، ونزعوا عن غيهم وضلالهم، فلهم علي عهد الله وميثاقه، أن
لهم عطاءين في كل عام، ما لا أفعله بأحد من الناس طول حياتي، عطاء في الشتاء، وعطاء
في الصيف، ولهم علي عهد أن أجعل الحنطة عندهم كسعر الحنطة عندنا، والحنطة عندهم
سبعة آصع (1) بدرهم، والعطاء الذي يذكرون أنه احتبس عنهم في زمان معاوية فهو علي أن
أخرجه لهم وافرا كاملا، فإن أنابوا وقبلوا ذلك، جاوز إلى ابن الزبير، وإن أبوا
قاتلهم، ثم إن ظفر بها أنهبها ثلاثا، هذا عهدي إلى صاحب جيشي لمكانك ولطلبتك فيهم،
ولما زعمت أنهم قومي وعشيرتي. قال عبد الله بن جعفر: فرأيت هذا لهم فرجا، فرجعت إلى
منزلي فكتبت إليهم من ليلتي كتابا
(هامش)
(1) آصع جمع صاع، وصاع أهل المدينة يأخذ أربعة أمداد. والمد: هو رطل وثلث بالعراقي
وقيل هو رطلان (اللسان) (*)
ص 229
إلى أهل المدينة، أعلمهم فيه قول يزيد، وأحضهم على الطاعة والتسليم، والرضا والقبول
لما بذل لهم، وأنهاهم أن يتعرضوا لجيوشه، وقلت لرسولي: اجهد السير، فدخلها في عشر،
فوالله ما أرادوا ذلك ولا قبلوه، وقالوا: والله لا يدخلها عنوة أبدا. كتاب يزيد إلى
أهل المدينة
قال: وكتب يزيد إلى أهل المدينة كتابا، وأمر عثمان بن محمد يقرأه
عليهم، فقدم الكتاب المدينة، وعثمان خائف، فقرأه عليهم، فإذا فيه: بسم الله الرحمن
الرحيم: أما بعد، فإني قد نفستكم حتى أخلفتكم، ورفعتكم حتى أخرقتكم (1)، ورفعتكم
على رأسي ثم وضعتكم، وأيم الله لئن آثرت أن أضعكم تحت قدمي لأطأنكم وطأة أقل منها
عددكم وأترككم أحاديث تتناسخ كأحاديث عاد وثمود، وأيم الله لا يأتيكم مني أولى من
عقوبتي، فلا أفلح من ندم (2).
ما أجمع عليه أهل المدينة ورأوه من إخراج بني أمية
قال: وذكروا أنه لما قرئ الكتاب، تكلم عبد الله بن مطيع ورجال معه كلاما قبيحا،
فلما استبان لهم أن يزيد باعث الجيوش إليه، أجمعوا على خلافهم (3)، واختلفوا في
الرياسة أيهم يقوم بهذا الأمر. فقال قائل: ابن مطيع،
(هامش)
(1) أخرقتكم: جعلتكم خرقى أي حمقى. (2) قارن مع العقد الفريد 4 / 388. (3) لم يكن
كتاب يزيد إلى أهل المدينة السبب في خلافهم عليه، وقد يكون هو العامل الذي حرك
الأسباب الحقيقية لتحرك أهل المدينة خاصة ودفعها إلى الواجهة حيث أخذت المواجهة بين
المدنيين والحكم الأموي المتمثل بيزيد الطابع الصدامي والأكثر دموية. ولحركة
المدينة أسباب كثيرة منها سياسية ومنها اقتصادية واجتماعية وأهم هذه الأسباب: -
السياسة الأموية التي وضع معاوية بن أبي سفيان خطوطها الأولى كانت وراء الأزمة
الاقتصادية التي عصفت بالمدينة والتي دفعت بها إلى حدود الضيق والفقر (انظر تفاصيل
حول هذه السياسة أوردها د. إبراهيم بيضون في كتابه الحجاز والدولة الإسلامية 250
وما بعدها) - القهر السياسي الذي عانى منه الحجاز عامة، والمدينة ومكة خاصة حيث حظر
على زعمائها تجاوز الاهتمامات الاجتماعية والثقافية بعد انتقال الخلافة إلى الشام -
رفض الحكم الأموي، وقد جاء غياب معاوية فرصة لإظهار هذا الرفض من الخفاء إلى العلن
وقد كان غيابه مؤشرا للانفجار المرتقب، وقد كان وجوده عاملا في منعه أو تجميده. =
(*)
ص 230
وقال قائل: إبراهيم بن نعيم، ثم اجتمع رأيهم أن يقوم بأمرهم ابن حنظلة، وهرب عثمان
بن محمد منهم ليلا فلحق بالشام، ثم أخذوا مروان بن الحكم وكبراء بني أمية، فأخرجوهم
عن المدينة، فقالوا: الشقة بعيدة ولا بد لنا مما يصلحنا، ولنا عيال وصبية (1)، ونحن
نريد الشام. قال: فاستنظروا عشرة أيام، فانظروا. ثم اجتمع رأي أهل المدينة أن
يحلفوا كبراء بني أمية عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن لقوا جيش يزيد
ليردونهم عنهم إن استطاعوا، فإن لم يستطيعوا مضوا إلى الشام ولم يرجعوا معهم،
فحلفوا لهم على ذلك، وشرطوا عليهم أن يقيموا بذي خشب (2) عشرة أيام، فخرجوا من
المدينة، وتبعهم الصبيان، وسفهاء الناس يرمونهم بالحجارة، حتى انتهوا إلى ذي خشب،
ولم يتحرك أحد من آل عثمان بن محمد، ولم يخرج من المدينة، فلما رأت بنو أمية ما صنع
بهم أهل المدينة من إخراجهم منها، اجتمعوا إلى مروان، فقالوا: يا أبا عبد الملك ما
الرأي؟ قال: من قدر منكم أن يغيب حريمه فليفعل، فإنما الخوف على الحرمة، فغيبوا
حرمهم، فأتى مروان عبد الله بن عمر، فقال: يا أبا عبد الرحمن، بلغني أنك تريد
الخروج إلى مكة، وتغيب عن هذا الأمر، فأحب
(هامش)
= - فشل الخليفة يزيد أمام الأزمات الخطيرة التي واجهت حكمه وانغماسه (حسب
الروايات) بالترف والمجون واستغراقه حتى العبث في حياته الخاصة ساهم في إذكاء روح
المعارضة وتجرؤها على الاعلان عن نفسها. - ضربه الرموز الإسلامية بمنتهى العنف، حيث
رأى في أتباعه هذه السياسة مدخلا إلى إثبات حضوره السلطوي لكن هذا شجع المعارضة على
المبادرة إلى اتخاذ موقف علني ضده - ثورة الحسين التي كانت السباقة إلى رفض الأمر
الواقع والتي انتهت بمأساة دموية في العراق وأوقعت النظام الأموي في ارتباك شديد. -
حركة ابن الزبير التي استطاعت أن تستثمر النقمة المتزايدة على الحكم الأموي - وجود
الوالي عثمان بن محمد بن أبي سفيان والذي وصفه بأنه غر قليل التجربة حديث السن
وإخفاقه في التعاطي مع المستجدات الخطيرة في مكة والمدينة - محاولة أهل المدينة
(الأنصار) إعادة التوازن الذي اختل منذ السقيفة، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن دعوة
ابن الزبير للمدينة لبيعته بعد مقتل الحسين لم يرافقها في المدينة كثير من الحماسة
فقد انقسمت بين مؤيد له ومتحفظ ومتردد، لكن اللقاء مع ابن الزبير تمحور حول هدف
كبير مشترك هو الإطاحة بالخليفة الأموي. وما تولي عبد الله بن حنظلة (من الأوس)،
(وهو ما سيرد بعد أسطر) إلا الإشارة على التوجه الأنصاري لأهل المدينة. وهذا ما
سيؤدي إلى استفراد المدينة في الحملة العسكرية التي استهدفتها. (1) كانوا نحوا من
ألف رجل (رواية الطبري). (2) ذو خشب: واد بالمدينة. (*)
ص 231
أن أوجه عيالي معك. فقال ابن عمر: إني لا أقدر على مصاحبة النساء. قال: فتجعلهم في
منزلك مع حرمك. قال: لا آمن أن يدخل على حريمي من أجل مكانكم. فكلم مروان علي بن
الحسين، فقال: نعم، فضمهم علي إليه، وبعث بهم مع عياله، قال: ثم ارتحل القوم من ذي
خشب على أقبح إخراج يكون، وإسراع خوفا منهم أن يبدو للقوم في حبسهم، وجعل مروان
يقول لابنه عبد الملك: يا بني إن هؤلاء القوم لم يدروا ولم يستشيروا، فقال ابنه:
وكيف ذلك؟ قال: إذ لم يقتلونا أو يحبسونا، فإن بعثوا إلينا بعثا كنا في أيديهم، وما
أخوفني أن يفطنوا لهذا الأمر فيبعثوا في طلبنا فالوحى الوحى والنجاء النجاء (1). إرسال يزيد الجيوش إليهم
قال: فلما أجمع رأي يزيد على إرسال الجيوش، صعد المنبر،
فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد يا أهل الشام، فإن أهل المدينة أخرجوا قومنا
منها، والله لأن تقع الخضراء على الغبراء (2) أحب إلي من ذلك. وكان معاوية قد أوصى
يزيد فقال له: إن رابك منهم ريب، أو انتقض عليك منهم أحد، فعليك بأعور بني مرة مسلم
بن عقبة، فدعا به فقال: سر إلى هذه المدينة بهذه الجيوش (3)، وإن شئت أعفيتك، فإني
أراك مدنفا منهوكا. فقال: نشدتك الله، أن لا تحرمني أجرا ساقه الله إلي، أو تبعث
غيري، فإني رأيت في النوم شجرة غرقد تصيح أغصانها: يا ثارات عثمان، فأقبلت إليها،
وجعلت الشجرة تقول: إلي يا مسلم بن عقبة، فأتيت فأخذتها، فعبرت ذلك أن أكون أنا
القائم بأمر عثمان، ووالله ما صنعوا الذي صنعوا إلا أن الله أراد بهم الهلاك. فقال
يزيد: فسر على بركة الله، فأنت صاحبهم، فخرج مسلم فعسكر وعرض الأجناد، فلم يخرج معه
أصغر من ابن عشرين، ولا أكبر من ابن خمسين على خيل عراب، وسلاح شاك، وأداة كاملة،
ووجه معه عشرة آلاف بعير تحمل الزاد حتى خرج،
(هامش)
(1) قال الطبري: أن مروان بن الحكم كتب كتابا وأرسله إلى يزيد مع ابنه عبد الملك بن
مروان وكان في الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم: أما بعد، فإنه قد حصرنا في دار
مروان بن الحكم، ومنعنا العذب، ورمينا بالجبوب، فيا غوثاه يا غوثاه. (2) الغبراء:
الأرض، والخضراء: السماء. (3) في الطبري وابن الأثير: اثنا عشر ألف. وفي فتوح ابن
الأعثم: عشرون ألف فارس وسبعة آلاف راجل. (*)
ص 232
فخرج معه يزيد فودعه. قال له: إن حدث بك حدث فأمر الجيوش إلى حصين بن نمير، فانهض
بسم الله إلى ابن الزبير، واتخذ المدينة طريقا إليه، فإن صدوك أو قاتلوك فاقتل من
ظفرت به منهم، وانهبها (1) ثلاثا، فقال مسلم بن عقبة: أصلح الله الأمير، لست بآخذ
من كل ما عهدت به إلا بحرفين. قال يزيد: وما هما؟ ويحك. قال: أقبل من المقبل
الطائع، وأقتل المدبر العاصي. فقال يزيد: حسبك، ولكن البيان لا يضرك، والتأكيد
ينفعك، فإذا قدمت المدينة فمن عاقك عن دخولها، أو نصب لك الحرب، فالسيف السيف، أجهز
على جريحهم، وأقبل على مدبرهم، وإياك أن تبقي عليهم، وإن لم يتعرضوا لك، فامض إلى
ابن الزبير. فمضت الجيوش، فلما نزلوا بوادي القرى، لقيتهم بنو أمية خارجين من
المدينة، فرجعوا معهم، واستخبرهم مسلم بن عقبة عما خلفهم، وعما لقوا، وعن عددهم.
فقال مروان: عددهم كثير، أكثر مما جئت به من الجيوش، ولكن عامتهم ليس لهم نيات ولا
بصائر، وفيهم قوم قليل لهم نية وبصيرة، ولكن لا بقاء لهم مع السيف، وليس لهم كراع
ولا سلاح، وقد خندقوا عليهم وحصنوا. قال مسلم: هذه أشدها علينا، ولكنا نقطع عنهم
مشربهم، ونردم عليهم خندقهم. فقال مروان: عليه رجال لا يسلمونه، ولكن عندي فيه وجه
سأخبرك به. قال: هاته. فقال: اطوه ودعه حتى يحضر ذلك. قال: فدعه إذا. ثم قال لهم
مسلم: تريدون أن تسيروا إلى أمير المؤمنين، أو تقيموا موضعكم هذا، أو تسيروا معنا؟
فقال بعضهم: نسير إلى أمير المؤمنين، ونحدث به عهدا، فقال مروان: أما أنا فراجع.
فقال بعضهم لبعض: قد حلفنا لهم عند المنبر لئن استطعنا أن نرد الجيش عنهم لنردنه
فكيف بالرجوع إليهم. فقال مروان: أما أنا فراجع إليهم. فقال له قوم: ما نرى أن
تفعل، فإنما تقتلون بهؤلاء أنفسكم، والله لا أكثرنا عليهم لمسلم جمعا أبدا. فقال
مروان: أنا والله ماض مع مسلم إلى المدينة، فمدرك ثأري من عدوي، وممن أخرجني من
بيتي، وفرق بيني وبين أهلي، وإن قتلت بهم نفسي، فلم يرجع مع مسلم من بني أمية غير
مروان وابنه عبد الملك، وكان مجدورا فجعله بذي خشب
(هامش)
(1) في الطبري: فأبحها ثلاثا . (*)
ص 233
فلما أيقن أهل المدينة بقدوم الجيوش إليهم تشاوروا في الخندق وقالوا: قد خندق رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فخندقوا المدينة من كل نواحيها. ثم جمع عبد الله بن حنظلة
أهل المدينة عند المنبر، فقال: تبايعوني على الموت وإلا فلا حاجة في بيعتكم.
فبايعوه على الموت (1)، ثم صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس،
إنما خرجتم غضبا لدينكم، فأبلوا إلى الله بلاء حسنا ليوجب لكم به الجنة ومغفرته،
ويحل بكم رضوانه، واستعدوا بأحسن عدتكم، وتأهبوا بأكمل أهبتكم، فقد أخبرت أن القوم
قد نزلوا بذي خشب، ومعهم مروان بن الحكم، والله إن شاء مهلكه بنقضه العهد والميثاق
عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتصايح الناس، وجعلوا ينالون منه ويسبونه.
فقال لهم: إن الشتم ليس بشيء، ولكن نصدقهم اللقاء، والله ما صدق قوم قط إلا نصروا،
ثم رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إنا بك واثقون، وعليك متوكلون، وإليك ألجأنا
ظهورنا ثم نزل. وكان عبد الله بن حنظلة لا يبيت إلا في المسجد الشريف، وكان لا يزيد
على شربة من سويق يفطر عليها إلى مثلها من الغد. قدوم الجيوش إلى المدينة
قال:
وذكروا أن أهل الشام لما انتهوا إلى المدينة عسكروا بالجرف (2)، ومشوا رجالا من
رجالهم، فأحدقوا بالمدينة من كل ناحية لا يجدون مدخلا، لأنهم قد خندقوها عليهم،
والناس متلبسون السلاح، قد قاموا على أفواه الخنادق، وقد حرصوا أن لا يتكلم منهم
متكلم، وجعل أهل الشام يطوفون بها والناس يرمونهم بالحجارة والنبل من فوق الآكام
والبيوت، حتى خرجوا فيهم وفي خيلهم، فقال مسلم لمروان: أين ما قلت لي بوادي القرى؟
فخرج مروان حتى جاء بني حارثة، فكلم رجلا منهم، ورغبه في الضيعة، وقال: افتح لنا
طريقا، فأنا أكتب بذلك إلى أمير المؤمنين، ومتضمن لك عنه شطر ما كان بذل لأهل
(هامش)
(1) وقيل إن المدينة قسمت أرباعا وعلى كل ربع منها قائد. وقيل إن عبد الله بن مطيع
كان على قريش من أهل المدينة، وعبد الله بن حنظلة الغسيل على الأنصار، ومعقل بن
سنان على المهاجرين (أنظر الطبري 5 / 487 ابن الأثير 2 / 596 الأخبار الطوال ص 265،
وابن الأعثم 5 / 294). (2) الجرف: موضع قرب المدينة. (*)
ص 234
المدينة من العطاء وتضعيفه، ففتح له طريقا، ورغب فيما بذل له، وتقبل ما تضمن له عن
يزيد، فاقتحمت الخيل، فجاء الخبر إلى عبد الله بن حنظلة، فأقبل، وكان من ناحية
الطورين، وأقبل عبد الله بن مقطع، وكان من ناحية ذناب، وأقبل ابن أبي ربيعة،
فاجتمعوا جميعا بمن معهم، بحيث اقتحم عليهم أهل الشام، فاقتتلوا حتى عاينوا الموت،
ثم تفرقوا. غلبة أهل الشام على أهل المدينة
قال: وذكروا أن عبد الله بن أبي سفيان
قال: وقعت مع قوم عند مسجد بني عبد الأشهل، منهم عبد الله بن زيد صاحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم وقاتل مسيلمة الكذاب، ومعه عبد الله بن حنظلة، ومحمد بن سعد بن
أبي وقاص، وإبراهيم بن فارط، وإبراهيم بن نعيم بن النجار، فهم يقاتلون ويقولون
للناس: أين الفرار؟ والله لأن يقتل الرجل مقبلا خير له من أن يقتل مدبرا. قال:
فاقتتلوا ساعة، والنساء والصبيان يصيحون ويبكون على قتلاهم، حتى جاءهم ما لا طاقة
لهم به، وجعل مسلم يقول: من جاء برأس رجل فله كذا وكذا، وجعل يغري قوما لا دين لهم،
فقتلوا وظهروا على أكثر المدينة. قال: وكان على بشر بن حنظلة يومئذ درعان، فلما هزم
القوم طرحهما. ثم جعل يقاتلهم وهو حاسر حتى قتلوه، ضربه رجل من أهل الشام ضربة
بالسيف قطع منكبه، فوقع ميتا. فلما مات ابن حنظلة صار أهل المدينة كالنعم بلا راع،
شرود يقتلهم أهل الشام من كل وجه، فأقبل محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، وإن جراحه
لتنفث دما، وهو يقاتل ويحمل على الكردوس منهم فيفض جماعتهم، وكان فارسا، فحمل عليه
أهل الشام حملة واحدة حتى نظموه بالرماح، فمال ميتا. فلما قتل انهزم من بقي من
الناس في كل وجه، ودخل القوم المدينة، فجالت خيولهم فيها يقتلون وينهبون. قال: وخرج
يومئذ عبد الله بن زيد بن عاصم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخيل تسرع في
كل وجه قتلا ونهبا. فقيل له: لو علم القوم باسمك وصحبتك لم يهيجوك، فلو أعلمتهم
بمكانك؟ فقال: والله لا أقبل لهم أمانا، ولا أبرح حتى أقتل، لا أفلح من ندم، وكان
رجلا أبيض طويلا أصلع، فأقبل عليه رجل من أهل الشام وهو يقول: والله لا أبرح حتى
أضرب صلعته وهو
ص 235
حاسر. فقال عبد الله: شر لك خير لي، فضربه بفأس في يده، فرأيت نورا ساطعا في
السماء، فسقط ميتا. وكان يومه ذلك صائما، رحمه الله. قال: فجعل مسلم يطوف على فرس
له ومعه مروان بن الحكم على القتلى. فمر على عبد الله بن حنظلة، وهو ماد أصبعه
السبابة. فقال مروان: أما والله لئن نصبتها ميتا فطالما نصبتها حيا، داعيا إلى
الله. ومر على إبراهيم بن نعيم، ويده على فرجه، فقال: أما والله لئن حفظته في
الممات لقد حفظته في الحياة. ومر علي محمد بن عمرو بن حزم وهو على وجهه واضعا جبهته
بالأرض، فقال (1): أما والله لئن كنت على وجهك في الممات لطالما افترشته حيا ساجدا
لله. فقال مسلم: والله ما أرى هؤلاء إلا من أهل الجنة. ومر على عبد الله بن زيد
وبين عينيه أثر السجود، فلما نظر إليه مروان عرفه، وكره أن يعرفه لمسلم فيحز رأسه.
فقال له مسلم: من هذا؟ فقال بعض هذه الموالي وجاوزه، فقال له مسلم: كلا، وبيت الله
لقد نكبت عنه لشيء. فقال له مروان: هذا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله
بن زيد. فقال: ذاك أخزى ناكث بيعته حزوا رأسه. وكان قصر بني حارثة أمانا لمن أراد
أهل الشام أن يؤمنوه، وكانوا بنو حارثة آمنين ما قتل منهم أحد، وكان كل من نادى
باسم الأمان إلى أحد من قبيلة بني حارثة أمنوه رجلا كان أو امرأة ثم ذبوا عنه حتى
يبلغوه قصر بني حارثة، فأجير يومئذ رجال كثير ونساء كثيرة، فلم يزالوا في قصر بني
حارثة حتى انقضت الثلاث. قال: وأول دور انتهبت والحرب قائمة دور بني عبد الأشهل،
فما تركوا في المنازل من أثاث ولا حلي ولا فراش إلا نقض صوفه، حتى الحمام والدجاج
كانوا يذبحونها، فدخلوا دار محمد بن مسلمة، فصاح النساء، فأقبل زيد بن محمد بن
مسلمة إلى الصوت، فوجد عشرة ينهبون، فقاتلهم ومعه رجلان من أهله حتى قتل الشاميون
جميعا، وخلصوا منهم ما أخذوه، فألقوا متاعهم في بئر لا ماء فيها، وأبقى عليها
التراب، ثم أقبل نفر من أهل الشام، فقاتلوهم أيضا،
(هامش)
(1) مر عليه مروان بن الحكم وكأنه برطيل من فضة فقال: رحمك الله! فرب سارية قد
رأيتك تطيل القيام في الصلاة إلى جنبها (الطبري). (*)
ص 236
حتى قتل زيد بن محمد أربعة عشر رجلا، فضربه بالسيف منهم أربعة في وجهه. ولزم أبو
سعيد الخدري بيته (1)، فدخل عليه نفر من أهل الشام، فقالوا: أيها الشيخ، من أنت؟
فقال: أنا أبو سعيد الخدري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا ما زلنا نسمع
عنك، فبحظك أخذت في تركك قتالنا، وكفك عنا، ولزوم بيتك، ولكن أخرج إلينا ما عندك.
قال: والله ما عندي مال، فنتفوا لحيته، وضربوه ضربات، ثم أخذوا كل ما وجدوه في بيته
حتى الصواع (2) وحتى زوج حمام كان له. وكان جابر بن عبد الله يومئذ قد ذهب بصره،
فجعل يمشي في بعض أزقة المدينة، وهو يقول: تعس من أخاف الله ورسوله. فقال له رجل:
ومن أخاف الله ورسوله؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أخاف
المدينة فقد أخاف ما بين جنبي (3)، فحمل عليه رجل بالسيف ليقتله، فترامى عليه مروان
فأجاره، وأمر أن يدخله منزله، ويغلق عليه بابه، وكان سعيد بن المسيب رحمه الله لم
يبرح من المسجد، ولم يكن يخرج إلا من الليل إلى الليل، وكان يسمع إذا جاء وقت
الأذان أذانا يخرج من قبل القبر الشريف، حتى آمن الناس، فكان سعيد يقول: ما رأيت
خيرا من الجماعة (4)، ثم أمر مسلم بالأسارى، فغلوا بالحديد، ثم دعا إلى بيعة يزيد،
فكان أول من بايع مروان بن الحكم، ثم أكابر بني أمية، حتى أتى على آخرهم. ثم دعا
بني أسد، وكان عليهم حنقا، فقال: أتبايعون لعبد الله يزيد ابن أمير المؤمنين ولمن
استخلف عليكم بعده، على أن أموالكم ودماءكم وأنفسكم خول له، يقضي فيها ما شاء؟ قال
يزيد بن عبد الله بن زمعة: إنما نحن نفر من المسلمين لنا ما لهم وعلينا ما
(هامش)
(1) وفي رواية الطبري وابن الأثير أنه خرج من منزله ودخل كهفا في الجبل. فلحقه رجل
من أهل الشام، ولما عرفه انصرف عنه. (2) الصواع: الكوز الذي يشرب به. (3) في رواية
ابن كثير 8 / 244 فقد أخاف ما بين هذين - ووضع يده على جبينه قال الدارقطني:
تفرد به سعد بن عبد العزيز لفظا وإسنادا. قال ابن كثير: وقد استدل بهذا الحديث
وأمثاله من ذهب إلى الترخيص في لعنة يزيد بن معاوية.. وقد انتصر لذلك أبو الفرج ابن
الجوزي في مصنف مفرد وجوز لعنته. (4) قال ابن كثير عن المدائني: وجئ إلى مسلم بسعيد
بن المسيب فقال له: بايع! فقال: أبايع على سيرة أبي بكر وعمر، فأمر بضرب عنقه، فشهد
رجل أنه مجنون فخلى سبيله. (*)
ص 237
عليهم. فقال مسلم: والله لا أقيلك، ولا تشرب البارد بعدها أبدا، فأمر به، فضربت
عنقه. ثم أتي بمعقل بن سنان، وكان معقل حاملا لواء قومه يوم الفتح مع رسول الله،
فلما دخل عليه قال له: أعطشت يا معقل؟ قال: نعم أصلح الله الأمير، قال: حيسوا له
شربة (1) من سويق اللوز الذي زودنا به أمير المؤمنين، فلما شربها قال له: رويت؟
قال: نعم. فقال مسلم: أما والله لا تبولها من مثانتك أبدا، فقدم، فضربت عنقه، ثم
قال: ما كنت لأدعك بعد كلام سمعته منك تطعن به على إمامك، وكان معقل قد طعن بعض
الطعن على يزيد قبل ذلك، فيما بينه وبين مسلم، على الاستراحة بذلك (2)، ثم أمر
بمحمد بن أبي الجهم وجماعة من وجوه قريش والأنصار، وخيار الناس والصحابة والتابعين،
ثم أتي بعبد الله بن الحارث مغلولا. فقال مسلم: أنت القائل: اقتلوا سبعة عشر رجلا
من بني أمية، لا تروا شرا أبدا؟ قال: قد قلتها، ولكن لا يسمع من أسير أمر، أرسل
يدي، وقد برئت مني الذمة، إنما نزلت بعهد الله وميثاقه، وأيم الله لو أطاعوني
وقبلوا مني ما أشرت به عليهم ما تحكمت فيهم أنت أبدا. فقال له مسلم: والله لأقدمنك
إلى نار تلظى، ثم أمر به فضربت عنقه. فقال مروان: قد والله سقيتني من دماء هؤلاء
القوم، إلا ما كان من قريش، فإنك أثخنتها وأفنيتها. فقال مسلم: والله لا أعلم عند
أحد غشا لأمير المؤمنين إلا سألت الله أن يسقيني دمه. فقال: إن عند أمير المؤمنين
عفوا لهم، وحلما عنهم ليس عندك. وجعل مروان يعتذر إلى قريش، ويقول: والله لقد ساءني
قتل من قتل منكم. فقالت له قريش: أنت والله الذي قتلتنا، ما عذرك الله ولا الناس،
لقد خرجت من عندنا، وحلفت لنا عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم لتردنهم عنا،
فإن لم تستطع لتمضين ولا ترجع معهم، فرجعت، ودللت على العورة، وأعنت على الهلكة،
فالله لك بالجزاء. قال: فبلغ عدة قتلى الحرة يومئذ من قريش والأنصار والمهاجرين
ووجوه الناس، ألفا وسبع مئة (3)، وسائرهم من الناس عشرة آلاف،
(هامش)
(1) في الطبري وابن الأثير: العسل. (2) وكان ذلك بطبرية، وقد ذكر الخبر في الأخبار
الطوال ص 266 وابن الأعثم 5 / 297 والطبري 5 / 492 وابن الأثير 2 / 599 وفي قتل
معقل قال بعضهم: يقتل سكان المدينة عنوة * وقد أصبحوا صرعى بكل مكان أصبحت الأنصار
تبكي سراتها * وأشجع تبكي معقل بن سنان (3) في عدد من قتل في المدينة أقوال: قال
خليفة في تاريخه ص 250: فجميع من أصيب من = (*)
ص 238
سوى النساء والصبيان. قال أبو معشر: دخل رجل من أهل الشام على امرأة نفساء من نساء
الأنصار معها صبي لها، فقال لها: هل من مال؟ قالت: لا والله ما تركوا لي شيئا.
فقال: والله لتخرجن إلي شيئا أو لأقتلنك وصبيك هذا. فقالت له: ويحك إنه ولد ابن أبي
كبشة الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد بايعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم معه يوم بيعة الشجرة، على أن لا أزني، ولا أشرق، ولا أقتل ولدي، ولا آتي
ببهتان أفتريه، فما أتيت شيئا فاتق الله. ثم قالت لابنها: يا بني، والله لو كان
عندي شيء لافتديتك به. قال: فأخذ برجل الصبي، والثدي في فمه، فجذبه من حجرها، فضرب
به الحائط فانتثر دماغه في الأرض، قال: فلم يخرج من البيت حتى اسود نصف وجهه، وصار
مثلا. قال أبو معشر: قال لي رجل (1): بينا أنا في بعض أسواق الشام، إذا برجل ضخم،
فقال لي: ممن أنت؟ قلت: رجل من أهل المدينة، قال: من أهل الخبيثة؟ قال: فقلت له:
سبحان الله، رسول الله صلى الله عليه وسلم سماها طيبة وسميتها خبيثة! قال: فبكى،
فقلت له: ما يبكيك، قال: العجب والله، كنت أغزو الصائفة كل عام زمن معاوية، فأتيت
في المنام فقيل لي: إنك تغزو المدينة، وتقتل فيها رجلا يقال له: محمد بن عمرو بن
حزم، وتكون بقتله من أهل النار. قال: فقلت: ما هذا من شأن المدينة، ولا يقع في نفس
مدينة الرسول. قال: فقلت: لعلها بعض مدائن الروم، فكنت أغزو ولا أسل فيها سيفا، حتى
مات معاوية، وولي يزيد، فضرب قرعة بعث المدينة، فأصابتني القرعة. قال: فقلت: هي هذه
والله، فأردت أن يأخذوا مني بديلا، فأبوا، فقلت في نفسي: أما إذا أبوا، فإني لا أسل
فيها سيفا، قال: فحضرت الحرة، فخرج
(هامش)
= الأنصار مئة رجل وثلاثة وسبعون رجلا، وجميع من أصيب من قريش والأنصار ثلاثمئة رجل
وستة رجال. وقد ذكر خليفة ص 240 وما بعدها أسماء من قتل يوم الحرة. وانظر ما ذكر في
عدد من قتل: ابن الأثير 2 / 600 سير أعلام النبلاء للذهبي 3 / 220 العقد الفريد 4 /
390 مروج الذهب 3 / 85 النجوم الزاهرة 1 / 161 وابن الأعثم 5 / 295. (1) اسمه محمد
بن عمارة (ابن الأثير 2 / 600). (*)
ص 239
أصحابي يقاتلون، وجلست في فسطاطي، فلما فرغوا من القتال، جاءنا أصحابنا، فقالوا:
دخلنا وفرغنا من الناس، فقال بعض أصحابي لبعض: تعالوا حتى ننظر إلى القتلى، فتقلدت
سيفي وخرجت، فجعلنا ننظر إلى القتلى ونقول: هذا فلان، وذا فلان، فإذا رجل في بعض
تلك الدارات في يده سيف، وقد أزبد شدقاه، وحوله صرعى من أهل الشام، فلما أبصرني
قال: يا كلب احقن عني دمك. قال: فنسيت والله كل شيء، فحملت عليه، فقاتلته فقتلته،
فسطع نور بين عينيه وسقط في يدي، قلت: من هذا؟ فقيل لي: هذا محمد بن عمرو بن حزم،
فجعلت أدور مع أصحابي، فيقولون: هذا فلان، وهذا فلان. فمر إنسان لا يعرف، فقال: من
قتل هذا، ويحكم يريد محمد بن عمرو بن حزم! قتله الله، والله لا يرى الجنة بعينه
أبدا (1). عدة من قتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم
قال: وذكروا أنه
قتل يوم الحرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثمانون رجلا، ولم يبق بدري بعد
ذلك، ومن قريش والأنصار سبع مئة، ومن سائر الناس من الموالي والعرب والتابعين عشرة
آلاف (2)، وكانت الوقعة في ذي الحجة لثلاث (3) بقين منها سنة ثلاث وستين. قالوا:
وكان الناس يعجبون من ذلك أن ابن الزبير لم يصلوا إليه إلا بعد ستة أشهر، ولم يكن
مع ابن الزبير، إلا نفر قليل، وكان بالمدينة أكثر من عشرة آلاف رجل، والله ما
استطاعوا أن يناهضوهم يوما إلى الليل. كتاب مسلم بن عقبة إلى يزيد

قال: وذكروا أن
مسلما لما فرغ من قتال أهل المدينة ونهبها، كتب إلى يزيد بن معاوية بسم الله الرحمن
الرحيم، لعبد الله يزيد بن معاوية أمير المؤمنين من مسلم بن عقبة، سلام عليك يا
أمير المؤمنين ورحمة الله، فإني أحمد الله
(هامش)
(1) زيد عند ابن الأثير: فأتيت أهله فعرضت عليهم أن يقتلوني فلم يفعلوا وعرضت عليهم
الدية فلم يأخذوا. (2) تقدمت الإشارة إلى ذلك (أنظر صفحة 237 حاشية رقم 3). (3) عند
ابن الأثير والطبري: لليلتين بقيتا. (*)
ص 240
إليك الذي لا إله إلا هو، أما بعد: تولى الله حفظ أمير المؤمنين والكفاية له، فإني
أخبر أمير المؤمنين أبقاه الله، أني خرجت من دمشق ونحن على التعبئة التي رأى أمير
المؤمنين يوم فارقنا بالعافية، فلقينا أهل بيت أمير المؤمنين بوادي القرى، فرجع
معنا مروان بن الحكم، وكان لنا عونا على عدونا، وإنا انتهينا إلى المدينة فإذا
أهلها قد خندقوا عليها الخنادق، وأقاموا على أنقابها الرجال بالسلاح وأدخلوا
ماشيتهم، وما يحتاجون لحصارهم سنة فيما كانوا يقولون، وإنا أعذرنا إليهم، وأخبرناهم
بعهد أمير المؤمنين، وما بذل لهم، فأبوا، ففرقت أصحابي على أفواه الخنادق، فوليت
الحصين بن نمير، ناحية ذناب وما والاها، وعلى الموالي وجهت حبيش بن دلجة (1) إلى
ناحية بني سلمة، ووجهت عبد الله بن مسعدة إلى ناحية بقيع الغرقد (2)، وكنت ومن معي
من قواد أمير المؤمنين ورجاله في وجوه بني حارثة، فأدخلنا الخيل عليهم حين ارتفع
النهار، من ناحية عبد الأشهل بطريق فتحه لنا رجل منهم بما دعاه إليه مروان بن الحكم
إلى صنيع أمير المؤمنين، وما تضمن له عنه من قرب المكان، وجزيل العطاء، وإيجاب
الحق، وقضاة الذمام، وقد بعثت به إلى أمير المؤمنين، وأرجو من الله عز وجل، أن يلهم
خليفته وعبده عرفان ما أولى من الصنع وأسدى من الفضل، وكان أكرم الله أمير المؤمنين
من محمود مقام مروان بن الحكم، وجميل مشهده، وسديد بأسه، وعظيم نكايته لعدو أمير
المؤمنين، ما لا إخال ذلك ضائعا عند إمام المسلمين وخليفة رب العالمين إن شاء الله،
وسلم الله رجال أمير المؤمنين، فلم يصب منهم أحد بمكروه، ولم يقم لهم عدوهم من
ساعات نهارهم أربع ساعات، فما صليت الظهر - أصلح الله أمير المؤمنين - إلا في
مسجدهم، بعد القتل الذريع، والانتهاب العظيم، وأوقعنا بهم السيوف وقتلنا من أشرف
لنا منهم، وأتبعنا مدبرهم وأجهزنا على جريحهم، وانتهبناهم ثلاثا كما قال أمير
المؤمنين، أعز الله نصره، وجعلت دور بني الشهيد المظلوم عثمان بن عفان، في حرز
وأمان، فالحمد لله الذي شفى صدري من قتل أهل الخلاف القديم، والنفاق العظيم، فطالما
عتوا، وقديما ما طغوا. وكتبت إلى أمير المؤمنين، وأنا في منزل سعيد بن العاص مدنفا
مريضا،
(هامش)
(1) بالأصول: دجلة تحريف. (2) بقيع الغرقد: مقبرة المدينة. (*)
ص 241
ما أراني إلا لما بي، فما كنت أبالي، متى مت بعد يومي هذا، وكتب لهلال المحرم سنة
ثلاث وستين. فلما جاءه الكتاب، أرسل إلى عبد الله بن جعفر وإلى ابنه معاوية بن
يزيد، فأقرأهما الكتاب، فاسترجع عبد الله بن جعفر وأكثر، وبكى معاوية بن يزيد، حتى
كادت نفسه تخرج، وطال بكاؤه، فقال يزيد لعبد الله بن جعفر: ألم أجبك إلى ما طلبت،
وأسعفتك فيما سألت، فبذلت لهم العطاء وأجزلت لهم الإحسان، وأعطيت العهود والمواثيق
على ذلك؟ فقال عبد الله بن جعفر: فمن هنالك استرجعت، وتأسفت عليهم، إذ اختاروا
البلاء على العافية، والفاقة على النعمة، ورضوا بالحرمان دون العطاء، ثم قال يزيد
لابنه معاوية: فما بكاؤك أنت يا بني؟ قال: أبكي على قتل من قتل من قريش، وإنما
قتلنا بهم أنفسنا. فقال يزيد: هو ذاك، قتلت بهم نفسي وشفيتها قال: وسأل مسلم بن
عقبة قبل أن يرتحل عن المدينة عن علي بن الحسين، أحاضر هو؟ فقيل له: نعم. فأتاه علي
بن الحسين، ومعه ابناه، فرحب بهما، وسهل وقربهم، وقال: إن أمير المؤمنين أوصاني بك.
فقال علي بن الحسين: وصل الله أمير المؤمنين وأحسن جزاؤه ثم انصرف عنه. ولم يكن أحد
نصب للحرب من بني هاشم، ولزموا بيوتهم، فسلموا، إلا ثلاثة منهم تعرضوا للقتال،
فأصيبوا (1). موت مسلم بن عقبة ونبشه
قال: وذكروا أن مسلم بن عقبة ارتحل عن
المدينة، وهو يجود بنفسه (2)، يريد ابن الزبير بمكة، فنزل في بعض الطريق، فدعا
الحصين بن نمير فقال له: يا برذعة الحمار، إنه كان من عهد أمير المؤمنين إن حدث بي
حدث الموت أن أعهد إليك، فاسمع، فإني بك عالم، لا تمكن قريشا من أذنك إذا قدمت مكة
فتبول (أي قريش فيها)، فإنما هو الوفاق (3)، ثم النفاق ثم الانصراف ثم مات
(هامش)
(1) ذكر المسعودي في مروج الذهب 3 / 85 أن اثنين من آل أبي طالب قتلا: عبد الله بن
جعفر بن أبي طالب، وجعفر بن محمد بن علي بن أبي طالب، ومن بني هاشم غيرهما: الفضل
بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وحمزة بن عبد الله بن نوفل بن الحارث بن
عبد المطلب، والعباس بن عتبة بن أبي لهب بن عبد المطلب. (2) وكانت علته الذبحة
(الأخبار الطوال ص 267). (3) في العقد الفريد 4 / 391: الوقاف ثم الثقاف ثم
الانصراف. الوقاف يعني الوقوف في حرب أو خصومة. والثقاف: الجلاد. (*)
ص 242
فدفن في ثنية المشلل (1)، فلما تفرق القوم عنه، أتته أم ولد ليزيد بن عبد الله بن
زمعة، وكانت من وراء العسكر تترقب موته، فنبشت عنه، فلما انتهت إلى لحده، وجدت أسود
من الأساود منطويا في رقبته، فاتحا فاه، فتهيبته. ثم لم تزل به حتى تنحى لها عنه
فصلبته على المشلل. قال الضحاك: فحدثني من رآه مصلوبا يرمى كما يرمى قبر أبي رغال
(2). فضائل قتلى أهل الحرة رحمهم الله تعالى
قال: وذكروا أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم خرج في سفر من أسفاره فلما مر بحرة بني زهرة، وقف فاسترجع.. فقالوا: ما
هو يا رسول الله؟ قال: يقتل في هذه الحرة خيار أمتي بعد أصحابي (3). قال: وذكروا أن
عبد الله بن سلام وقف بالحرة زمان معاوية بن أبي سفيان، فقال: أجد في كتاب يهود
الذي لم يبدل ولم يغير، أنه يكون هاهنا مقتلة قوم يحشرون يوم القيامة واضعي سيوفهم
على رقابهم، حتى يأتوا الرحمن تبارك وتعالى، فيقفون بين يديه، فيقولون: قتلنا فيك.
قال: وذكروا عن داود بن الحصين قال: عندنا قبور قوم من قتلى الحرة، فقل ما حركت إلا
فاح منها ريح المسك. وقال بعضهم: عن عبد الله بن أبي سفيان عن أبيه قال: رأيت عبد
الله بن حنظلة في منامي بأحسن صورة، معه لؤلؤة، فقلت: يا أبا عبد الرحمن، أقتلت؟
قال: بلى، فلقيت ربي، فأدخلني الجنة، فأنا أسرح في ثمارها حيث شئت، قلت: فأصحابك ما
صنع بهم؟ قال: هم معي، وحول لوائي هذا الذي ترى لم تحل عقدته بعد. وقال ابن سيرين
رحمه الله تعالى: رأيت كثير بن أفلح رضي الله عنه في النوم، فقلت له: ألست قد
استشهدت؟ قال: ليس في الإسلام شهادة، ولكنها الندباء. وقال
(هامش)
(1) ثنية المشلل: جبل بالمدينة. وقيل مات بالأبواء.. (مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون
ميلا) وقيل بالقديد (قاله المسعودي) وقيل بثنية هرشى. (2) أبو رغال: بكسر الراء قيل
هو رجل من ثمود كان يقيم بالحرم يدافع عنه فلما خرج أصابته النفمة، وقيل كان دليلا
للأحابيش لما توجهوا إلى مكة، وقيل كان عشارا جائرا. رجم قبره لكراهة الناس له. (3)
رواه البيهقي في الدلائل 6 / 473 من طريق أيوب بن بشير المعافري رفعه قال البيهقي:
هذا مرسل. وقد روي عن ابن عباس في تأويل آية من كتاب الله عز وجل ما يؤكده
ونقله ابن كثير في البداية والنهاية عن الفسوي 6 / 233 وهو في تاريخ الفسوي 3 /
327. (*)
ص 243
الأعرج: كان الناس لا يلبسون المصبوغ (1) من الثياب قبل الحرة، فلما قتل الناس
بالحرة استحبوا أن يلبسوها وقالوا: لقد مكث النوح في الدور على أهل الحرة سنة لا
يهدأون. وقال عبد الله بن أبي بكر كان أهل المدينة أعز الناس وأهيبهم، حتى كانت
الحرة، فاجترأ الناس عليهم فهانوا. قال الزهري: بلغ القتلى يوم الحرة من قريش
والأنصار، ومهاجرة العرب ووجوه الناس سبع مئة، وسائر الناس عشرة آلاف (2). من أخلاط
الناس والموالي والعبيد، قال وأصيب نساء وصبيان وكان قدوم أهل الشام المدينة لثلاث
بقين من ذي الحجة، سنة ثلاث وستين، انتهبوها ثلاثا حتى رأوا هلال المحرم، ثم أمسكوا
بعد أن لم يبقوا أحدا به رمق، وقتل بها من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثمانون
رجلا، ولم يبق بعد ذلك بدري. وقالوا: قال عيسى بن طلحة: قلت لعبد الله بن مطيع: كيف
نجوت يوم الحرة؟ قال: رأيت ما رأيت من غلبة أهل الشام، وصنع بني حارثة الذي صنعوا
من إدخالهم علينا وولى الناس، فذكرت قول الحارث بن هشام يوم بدر (3). وعلمت أنه لا
يضر عدوي مشهدي ولا ينفع وليي، فتواريت، ثم لحقت با بن الزبير، وكنت أعجب كل العجب
أن ابن الزبير لم يصلوا إليه ستة أشهر، ولم يكن معه إلا نفر يسير، قوم من قريش من
الخوارج، وكان معنا يوم الحرة ألفا رجل، كلهم ذوو حفاظ، فما استطعنا أن نحبسهم يوما
إلى آخر الليل. تم الجزء الأول من كتاب الإمامة والسياسة ويليه الجزء الثاني
(هامش)
(1) يريد الثياب المصبوغة بالسواد. ذلك يرمز إلى الحداد على قتلى أهل الحرة. (2)
تقدمت الإشارة إلى عدد من قتل، راجع ما لاحظناه قريبا. (3) وكان الحارث بن هشام قد
فر يوم بدر من القتال، وقد هجاه حسان بن ثابت على فراره ومما قاله: ترك الأحبة أن
يقاتل دونهم * ونجا برأس طمرة ولجام ملأت به الفرجين فارمدت به * وثوى أحبته بشر
مقام وبنو أبيه ورهطه في معرك * نصر الإله به ذوي الإسلام فقال الحارث بن هشام يجيب
حسان ويعتذر من فراره يوم بدر: الله أعلم ما تركت قتالهم * حتى حبوا مهري بأشقر
مزبد وعرفت أني إن أقاتل واحدا * أقتل ولا ينكي عدوي مشهدي فصددت عنهم والأحبة فيهم
* طمعا لهم بعقاب يوم مفسد (*)
|