ص 4
بسم الله الرحمن الرحيم
ص 5
ذكر اختلاف الرواة في وقعة الحرة وخبر يزيد
قال: وذكروا أنه لما بويع يزيد بن
معاوية خرج الحسين حتى قدم مكة (1)، فأقام هو وابن الزبير (2). قال: وقدم عمرو بن
سعيد بن العاص (3) في رمضان أميرا
(هامش)
(1) مر في الجزء الأول (راجع ص 226 - 227) أن يزيد بن معاوية بعد بيعته بالشام
بالخلافة أرسل إلى واليه بالمدينة أن يأخذ بيعة الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير
وعبد الله بن عمر وغيرهم. وأن والي المدينة الوليد بن عتبة (كما في الطبري) دعاهم
لإتمام البيعة فاستمهلوه ثم إن ابن الزبير لحق بمكة من ليلته. وأن الحسين بن علي
خرج بعده بليلة ببنيه وأخوته وبني أخيه وجل أهل بيته إلا محمد بن الحنفية (أنظر
الأخبار الطوال ص 228). وبعض المؤرخين (ابن الأعثم 5 / 33) يقول إن الحسين بن علي
تأخر في رحيله عن المدينة. وأنه جاهر مروان بن الحكم برفض البيعة ليزيد. عند ذلك
كتب الوليد بن عتبة إلى يزيد بن معاوية (رواية المقتل 2 / ألف): بسم الله الرحمن
الرحيم إلى عبد الله يزيد أمير المؤمنين.. أما بعد فإن الحسين بن علي ليس يرى لك
خلافة ولا بيعة، فرأيك في أمره والسلام. فعندما ورد كتابه على يزيد غضب غضبا شديدا
وكتب إلى الوليد بن عتبة: من عبد الله يزيد أمير المؤمنين إلى الوليد بن عتبة، أما
بعد، فإذا ورد عليك كتابي هذا فخذ البيعة ثانية على أهل المدينة بتوكيد منك عليهم،
وذر عبد الله بن الزبير فإنه لن يفوتنا ولن ينجو منا أبدا ما دام حيا، وليكن مع
جوابك إلي رأس الحسين بن علي، فإن فعلت ذلك فقد جعلت لك أعنة الخيل، ولك عندي
الجائزة والحظ الأوفر والنعمة واحدة والسلام (ابن الأعثم 5 / 36). ثم أن الحسين عزم
على الخروج إلى مكة، حتى إذا صار فيها استخار الله في أمره بعد ذلك. (2) بقدوم
الحسين بن علي إلى مكة اشتد الأمر على عبد الله بن الزبير لأنه كان قد طمع أن
يبايعه أهل مكة، وجعل أهل مكة يختلفون إلى الحسين بكرة وعشية، فشق ذلك على ابن
الزبير وسقط بيده وعلم أن أحدا من أهل مكة لن يبايعه ما دام الحسين بها. (3) كان
عمرو بن سعيد أميرا على مكة، وقد مر سبب عزل الوليد بن عتبة عن المدينة، وهو فشله =
(*)
ص 6
على المدينة وعلى الموسم، وعزل الوليد بن عقبة، فلما استوى على المنبر رعف فقال
أعرابي مستقبله: مه مه! جاءنا والله بالدم فتلقاه رجل بعمامته، فقال مه! عم والله
الناس، ثم قام يخطب، فناوله آخر عصا لها شعبتان. فقال: مه! شعب والله الناس. ثم خرج
إلى مكة، فقدمها يوم التروية، فصلى الحسين ثم خرج. فلما انصرف عمرو بلغه أن الحسين
خرج، فقال: اركبوا كل بعير بين السماء والأرض فاطلبوه. قال: فكان الناس يعجبون من
قوله هذا. قال: فطلبوه فلم يدركوه، فأرسل عبد الله بن جعفر ابنيه عونا ومحمدا ليردا
الحسين. فأبى أن يرجع، وخرج الحسين بابني عبد الله بن جعفر معه (1)، ورجع عمرو بن
سعيد بن العاص إلى المدينة، فأرسل إلى ابن الزبير، فأبى أن يأتيه، وامتنع برجال معه
من قريش وغيرهم. قال: فبعث عمرو بن سعيد جيشا من المدينة يقاتلون ابن الزبير. قال:
فضرب على أهل الديوان البعث إلى مكة، وهم كارهون للخروج. فقال لهم: إما أن تأتوا
ببدل، وإما أن تخرجوا. قال: فجاء الحارث بن مالك بن البرصاء برجل استأجره بخمس مئة
درهم إلى عمرو بن سعيد. فقال: قد جئت برجل بدلي. فقال الحارث للرجل الذي استأجره هل
لك أن أزيدك خمس مئة أخرى، وتنكح أمك؟ فقال له: أما تستحي؟ فقال: إنما حرمت عليك
أمك في مكان واحد، وحرمت عليك الكعبة في كذا وكذا مكان من القرآن. قال فجاء به إلى
عمرو بن سعيد، قال: قد جئتك برجل لو أمرته أن ينكح أمه لنكحها. فقال له عمرو: لعنك
الله من شيخ قال: فبعثهم إلى مكة يقاتلون ابن الزبير، فهزم عمرو ابن الزبير (2)،
وبعث يزيد بن معاوية عبد الله بن مسعدة الفزاري، يخطب الناس
(هامش)
= في أخذ البيعة من كبار القوم، وسلم الأمر في مكة والمدينة إلى عمرو بن سعيد وذلك
في رمضان عام (60) وكلف معالجة أمر البيعة ليزيد. (1) خرج الحسين من مكة يوم
الثلاثاء يوم التروية لثمان مضين من ذي الحجة ومعه اثنان وثمانون رجلا من شيعته
وأهل بيته. (أنظر الطبري 5 / 349) ابن الأثير 2 / 547 وابن الأعثم 5 / 120). (2)
كان عمرو بن الزبير - أخو عبد الله - على شرطة المدينة لعمرو بن سعيد، وقد جاء
استعماله على الجيش المتوجه لقتال عبد الله بن الزبير بأمر مباشر من الخليفة يزيد
(أنظر الطبري 5 / 345) وكان اختيار عمرو لأن بني أمية كانوا يكرمونه لأن أمه بنت
خالد بن سعيد بن العاص، فكان ابن أختهم وعلى علاقات وطيدة معهم وكان من أشد الناس
عداوة لأخيه = (*)
ص 7
بالمدينة. فقال في خطبته: أهل الشام جند الله الأعظم، وأهل الشام خير الخلق. فقال
الحارث بن مالك: ائذن لي أن أتكلم. فقال: اجلس لا أجلسك الله من شيخ. قال: فتشهد
الحارث وقال: لعمر الله لنحن خير من أهل الشام، ما نقمت من أهل المدينة إلا أنهم
قتلوا أباك وهو يسرق لقاح النبي صلى الله عليه وسلم (1). أنسيت طعنة أبي قتادة است
أبيك بالرمح، فخرج منه جمعوص مثل هذا، وأشار إلى ساعده، ثم جلس.
ولاية الوليد
المدينة وخروج الحسين بن علي
قال: وذكروا أن يزيد بن معاوية، عزل عمرو بن سعيد،
وأمر الوليد بن عتبة (2) وخرج الحسين بن علي إلى مكة، فمال الناس إليه، وكثروا عنده
واختلفوا إليه، وكان عبد الله بن الزبير فيمن يأتيه (3). قال: فأتاه كتاب أهل
الكوفة فيه (4): بسم الله الرحمن الرحيم، للحسين بن علي، من سليمان بن صرد، والمسيب
[بن نجبة]، ورفاعة بن شداد، وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة. أما بعد،
فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد، الذي اعتدى على هذه الأمة، فانتزعها
حقوقها، واغتصبها أمورها، وغلبها على فيئها، وتأمر عليها على غير رضا منها، ثم قتل
خيارها، واستبقى شرارها، فبعدا له كما بعدت ثمود، إنه ليس علينا إمام، فاقدم علينا،
لعل الله أن يجمعنا بك على
(هامش)
= عبد الله. وبعدما هزم عمرو وأسر قال له عبد الله: قبحك الله من أخ وذي رحم فإنك
لم تذكر ما كان من البلاء عندك وقيامي بحقك وأخذي بيدك. أنظر تفاصيل حرب ابن الزبير
مع أخيه عمرو الطبري 5 / 344. (1) في جمهرة النسب للكلبي ص 433 أن الذي أغار على
سرح المدينة هو عبد الله بن عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري. (2) بالأصل
عقبة تحريف. قال خليفة في تاريخه ص 229: ثم نزع في مستهل ذي الحجة وأمر الوليد
بن عتبة وكان عمرو بن سعيد قدم المدينة في شهر رمضان وأقام الحاج بالناس سنة 60
ه. (3) تقدمت الإشارة إلى تخوف ابن الزبير من قدوم الحسين بن علي إلى مكة، حيث كان
ابن لزبير الزبير يطمع في بيعة أهل مكة له. (4) قارن مع نسخة الكتاب في الطبري 5 /
352 الكامل لابن الأثير 2 / 533 الفتوح لابن الأعثم 5 / 47 - 48 تاريخ اليعقوبي 2 /
242 الأخبار الطوال ص 229. (*)
ص 8
الهدى، فإن النعمان بن بشير في قصر الإمارة، ولسنا نجتمع معه في جمعة، ولا نخرج معه
إلى عيد، ولو قد بلغنا مخرجك أخرجناه من الكوفة، وألحقناه بالشام والسلام. قال (1):
فبعث الحسين بن علي مسلم بن عقيل إلى الكوفة يبايعهم له، وكان على الكوفة النعمان
بن بشير. فقال النعمان: لابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلينا من ابن
بحدل. قال: فبلغ ذلك يزيد، فأراد أن يعزله. فقال لأهل الشام: أشيروا علي، من أستعمل
على الكوفة؟ فقالوا: أترضى برأي معاوية؟ قال: نعم، قالوا: فإن الصك بإمرة عبيد الله
بن زياد على العراقين قد كتبه في الديوان (2). قال: فاستعمله على الكوفة، فقدم
الكوفة قبل أن يقدم الحسين، وبايع له مسلم بن عقيل وأكثر من ثلاثين ألفا من أهل
الكوفة، فنهضوا معه يريدون عبيد الله بن زياد، فجعلوا كلما أشرفوا على زقاق، انسل
عنه منهم ناس، حتى بقي مسلم في شرذمة قليلة. قال: فجعل أناس يرمونه بالآجر من فوق
البيوت، فلما رأى ذلك دخل دار هانئ بن عروة المرادي، وكان له فيهم رأي. فقال لها
هانئ بن عروة: إن لي من ابن زياد مكانا، وسوف أتمارض له، فإذا جاء يعودني، فاضرب
عنقه، قال: فقيل لابن
(هامش)
(1) ثمة إجماع في المصادر على أن الرسائل والرسل تتابعت على الحسين من رؤساء أهل
الكوفة حتى وصله من الكتب منهم ما ملأ منه خرجين. وكان آخر من وصل إليه منهم هانئ
بن هانئ وسعيد بن عبد الله الحنفي. فأرسل الحسين معهما إليهم جميعا كتابا واحدا
نسخته: (عن الطبري): بسم الله الرحمن الرحيم. من حسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين
والمسلمين، أما بعد، فإن هانئا وسعيدا قدما علي بكتبكم، وكانا آخر من قدم علي من
رسلكم وقد فهمت كل الذي اقتصصتم وذكرتم، ومقالة جلكم: إنه ليس علينا إمام، فأقبل
لعل الله أن يجمعنا بك على الهدى والحق. وقد بعثت إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل
بيتي. وأمرته أن يكتب إلي بحالكم وأمركم ورأيكم، فإن كتب إلي أنه قد أجمع رأي ملئكم
وذوي الفضل والحجى منهم على مثل ما قدمت علي به رسلكم، وقرأت في كتبكم، أقدم عليكم
وشيكا إن شاء الله، فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدائن
بالحق، والحابس نفسه على ذات الله. والسلام. (2) في الطبري 5 / 356 أن يزيد لما
بلغه خبر وصول مسلم بن عقيل إلى الكوفة ومبايعة أهلها للحسين، واستضعاف أهلها
للنعمان بن بشير استشار سرجون مولى معاوية فأشار عليه بعبيد الله بن زياد، وكان
معاوية قد عهد له بالعراقين (البصرة والكوفة) لكنه مات قبل إنفاد العهد إليه. (*)
ص 9
زياد: إن هانئ بن عروة شاك يقئ الدم. قال: وشرب المغرة (1)، فجعل يقيئها. قال: فجاء
ابن زياد يعوده، وقال لهم هانئ: إذا قلت لكم اسقوني، فاخرج إليه فاضرب عنقه، فقال:
اسقوني، فأبطأوا عليه، فقال (2): ويحكم اسقوني ولو كان فيه ذهاب نفسي قال: فخرج
عبيد الله بن زياد ولم يصنع الآخر شيئا، وكان من أشجع الناس، ولكنه أخذته كبوة (3)،
فقيل لابن زياد: والله إن في البيت رجلا متسلحا. قال: فأرسل ابن زياد إلى هانئ
فدعاه. فقال: إني شاك لا أستطيع النهوض. فقال: ائتوني به وإن كان شاكيا (4)، قال:
فأخرج له دابة، فركب ومعه عصاه وكان أعرج، فجعل يسير قليلا ويقف، ويقول: ما لي أذهب
إلى ابن زياد؟ فما زال ذلك دأبه حتى دخل عليه. فقال له عبيد الله بن زياد: يا هانئ،
أما كانت يد زياد عندك بيضاء؟ قال: بلى، قال: ويدي؟ قال: بلى، فقال يا هانئ، قد
كانت لكم عندي يد بيضاء، وقد أمنتك على نفسك ومالك، فتناول العصا التي كانت بيد
هانئ، فضرب بها وجهه حتى كسرها، ثم قدمه فضرب عنقه (5). قال: وأرسل جماعة إلى مسلم
بن عقيل (6)، فخرج عليهم
(هامش)
(1) المغرة: الطين الأحمر يصبغ به. والمغرة: مسحوق أكسيد الحديد، ويوجد في الطبيعة
مختلطا بالطفال، وقد يكون أصفر أو أحمر بنيا. (2) في الطبري وابن الأثير: ما تنظرون
بسلمى لا تحيوها * اسقونيها وإن كانت بها نفسي وفي الأخبار الطوال: ما تنظرون بسلمى
عند فرصتها * فقد وفى ودها واستوسق الصرم (3) في المصادر: الطبري وابن الأثير
والأخبار الطوال وابن الأعثم على أن القائل هو شريك بن الأعور وقد مرض في بيت هانئ
بن عروة وقد اتفق مع مسلم، إن أتاه عبيد الله بن زياد يعوده، أن يخرج مسلم ويقتله
لكن هانئ بن عروة قال: لا أحب أن يقتل في داري، وبينما شريك وهانئ يناقشان الأمر إذ
دخل عبيد الله... وبعدما خرج عبيد الله من المنزل سأل شريك مسلما ما الذي منعك منه
إلا الجبن والفشل؟ فقال مسلم: منعني منه خصلتان: أما إحداهما فكراهة هانئ أن يقتل
في داره، وأما الأخرى فحديث حدثه الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن الإيمان
قيد الفتك، ولا يفتك مؤمن. (4) في الطبري. أن ابن زياد سأل عن هانئ بن عروة فقيل له
إنه شاك فقال: بلغني أنه قد برأ، وهو يجلس على باب داره، فالقوه، فمروه ألا يدع ما
عليه في ذلك من الحق، فإني لا أحب أن يفسد عندي مثله من أشراف العرب. (5) أنظر في
مقابلة عبيد الله لهانئ بن عروة وكيفية مقتله في الطبري 5 / 365 - 367. (6) الخبر
في الطبري وابن الأثير وابن الأعثم والأخبار الطوال باختلاف عما هنا وفيه أنه لما
بلغ خبر هانئ بن عروة إلى مسلم بن عقيل خرج بأصحابه ومن بايعه - وقد بلغوا حسب
رواية = (*)
ص 10
بسيفه، فما زال يقاتلهم حتى أخرج وأسر، فلما أسر بعث الرجال، فقال: اسقوني ماء.
قال: ومعه رجل من بني أبي معيط (1)، ورجل من بني سليم يقال له: شهر بن حوشب. فقال
له شهر بن حوشب: لا أسقيك إلا من البئر. فقال المعيطي: والله لا نسقيه إلا من
الفرات، قال: فأمر غلاما له، فأتاه بإبريق من ماء، وقدح قوارير ومنديل. قال: فسقاه
فتمضمض مسلم، فخرج الدم، فما زال يمسح الدم، ولا يسيغ شيئا منه حتى قال: أخروه عني.
قال: فلما أصبح دعا به عبيد الله بن زياد وهو قصير، فقدمه لتضرب عنقه، فقال: دعني
حتى أوصي، فقال: أوص. فنظر مسلم في وجوه الناس فقال لعمرو بن سعيد (2): ما أرى
هاهنا من قريش غيرك، فادن مني حتى أكلمك، فدنا منه، فقال له: هل لك أن تكون سيد
قريش ما كانت قريش؟ إن الحسين ومن معه وهم تسعون بين رجل وامرأة في الطريق فارددهم،
واكتب إليهم بما أصابني (3). قال: فضرب عنقه وألقاه عمرو لعبيد الله وقال: أتدري ما
قال؟ فقال عبيد الله: اكتم على ابن عمك. فقال عمرو: هو أعظم من ذلك، فقال ابن زياد:
فأي شيء هو؟ قال: أخبرني أن الحسين ومن معه قد أقبل. وهم تسعون إنسانا بين رجل
وامرأة. فقال: أما والله إذ دللت عليه لا يقاتلهم أحد غيرك.
قتال عمرو بن سعيد (2)
الحسين وقتله
قال: وذكروا أن عبيد الله بن زياد، بعث جيشا أمر عليهم عمر بن سعد
(2)،
(هامش)
= الطبري 18 ألفا - وأقبلوا نحو القصر. تتمة الخبر في المصادر المذكورة إلى أن أخرج
مسلم وأسر. (1) هو عمارة بن عقبة بن أبي معيط. (2) كذا بالأصل، وهو عمر بن سعد بن
أبي وقاص. (3) في الطبري 5 / 376 أن مسلم بن عقيل أوصى عمر بن سعد قال له: إن علي
بالكوفة دينا استدنته منذ قدمت الكوفة 700 درهم (في الأخبار الطوال: 1000 درهم)
فاقضها عني. وانظر جثتي فاستوهبها من ابن زياد، فوارها، وابعث إلى حسين من يرده،
فإني قد كتبت إليه أعلمه أن الناس معه. وفي رواية أخرى عند الطبري 5 / 374 أن مسلم
لما أسره محمد بن الأشعث أخبر مقدم الحسين وأن ابن الأشعث بعث إياس بن العثل الطائي
من بني مالك بن عمرو بن ثمامة بخبر أسر مسلم وما آل إليه أمره ويدعوه إلى العودة من
حيث أتى. (وانظر الأخبار الطوال ص 247). (*)
ص 11
وقد جاء الحسين الخبر (1)، فهم أن يرجع ومعه خمسة من بني عقيل فقالوا له: أترجع وقد
قتل أخونا، وقد جاءك من الكتب ما نثق به؟ فقال لبعض أصحابه: والله ما لي عن هؤلاء
من صبر، يعني بني عقيل. قال: فلقيه الجيش على خيولهم بوادي السباع، فلقوهم وليس
معهم ماء. فقالوا: يا بن بنت رسول الله اسقنا. قال: فأخرج لكل فارس صحفة من ماء،
فسقاهم بقدر ما يمسك برمقهم. ثم قالوا: سر يا بن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فما زالوا يرجونه، وأخذوا به على الجرف حتى نزلوا بكربلاء، فقال الحسين: أي أرض
هذه؟ قالوا: كربلاء، قال: هذا كرب وبلاء. قال: فنزلوا وبينهم وبين الماء ربوة،
فأراد الحسين وأصحابه الماء فحالوا بينهم وبينه. فقال له شهر بن حوشب: لا تشربوا
منه حتى تشربوا من الحميم، فقال عباس بن علي: يا أبا عبد الله، نحن على الحق
فنقاتل؟ قال: نعم. فركب فرسه، وحمل بعض أصحابه على الخيول، ثم حمل عليهم فكشفهم عن
الماء حتى شربوا وسقوا. ثم بعث عبيد الله بن زياد عمرو (2) بن سعيد يقاتلهم. قال
الحسين: يا عمرو (2)، اختر مني ثلاث خصال، إما أن تتركني أرجع كما جئت، فإن أبيت
هذه فأخرى، سيرني إلى الترك أقاتلهم حتى أموت، أو تسيرني إلى يزيد فأضع يدي في يده،
فيحكم في بما يريد (3). فأرسل عمرو (2) إلى ابن زياد بذلك فهم أن يسيره إلى يزيد.
فقال له شهر (4) بن حوشب: قد أمكنك الله من عدوك وتسيره إلى يزيد، والله لئن سار
إلى يزيد لا رأى مكروها، وليكونن من يزيد بالمكان الذي لا تناله أنت منه، ولا غيرك
من أهل الأرض، لا تسيره ولا تبلعه ريقه حتى ينزل على حكمك. قال: فأرسل إليه يقول:
لا، إلا أن تنزل على حكمي. فقال الحسين: أنزل على حكم ابن زانية؟ لا والله لا أفعل،
الموت دون ذلك وأحلى. قال: وأبطأ عمرو بن سعيد (2) عن قتاله. فأرسل عبيد الله بن
زياد إلى شهر بن حوشب (4) إن تقدم
(هامش)
(1) تلقاه رجل من بني أسد، بعد رحيله من زرود (الأخبار الطوال 247). (2) كذا بالأصل
عمرو بن سعيد خطأ، وهو عمر بن سعد وقد تقدم. وكان من أمر عمر بن سعد أن عبيد الله
بن زياد ولاه الري وثغر دستبى والديلم وكتب له عهدا عليها ثم حدث أمر الحسين، فأمره
ابن زياد أن يسير لمقاتلته، فتلكأ عمر وكره محاربة الحسين، فهدده ابن زياد برد عهد
ولايته وتغريمه ونهب أمواله وأملاكه فرضخ لأمره، وسار بعسكره أربعة آلاف فارس
لمحاربة الحسين (الطبري - الأخبار الطوال) (3) في الطبري: فيرى فيما بيني وبينه
رأيه. (4) في الطبري: شمر بن ذي الجوشن. (*)
ص 12
عمرو يقاتل، وإلا فاقتله، وكن أنت مكانه. قال: وكان مع عمرو بن سعيد (1) من قريش
ثلاثون رجلا من أهل الكوفة، فقالوا: يعرض عليكم ابن بنت رسول الله صلى الله عليه
وسلم ثلاث خصال لا تقبلون واحدة منها؟ فتحولوا مع الحسين، فقاتلوا. قال: فرأى رجل
من أهل الكوفة عبد الله بن الحسين بن علي على فرس، وكان من أجمل الناس. قال: لأقتلن
هذا الفتى، فقيل له: ويحك، ما تصنع بقتله، دعه، قال: فحمل عليه فضربه، فقطع يده، ثم
ضربه ضربة أخرى فقتله، ثم قتلوا جميعا. فقتل يومئذ الحسين بن علي، وعباس بن علي،
وعثمان بن علي، وأبو بكر بن علي (2)، وجعفر بن علي، وأمهم أم البنين بنت حرام
الكلابية، وإبراهيم بن علي، وأمه أم ولد، وعبد الله بن علي، وخمسة من بني عقيل (3)،
وابنان لعبد الله بن جعفر: عون، ومحمد، وثلاثة من بني هاشم، ونساء من نسائهم، وفيهم
فاطمة بنت الحسين بن علي، وفيهم محمد بن علي، وابنا جعفر، ومحمد بن الحسين بن علي
(4).
قدوم من أسر من آل علي على يزيد
قال وذكروا أن أبا معشر قال: حدثني محمد بن
الحسين بن علي، قال: دخلنا على يزيد، ونحن اثنا عشر غلاما مغللين في الحديد وعلينا
قمص. فقال يزيد (5): أخلصتم أنفسكم بعبيد أهل العراق؟ وما علمت بخروج أبي عبد الله
حين خرج، ولا بقتله حين قتل. قال: فقال علي بن الحسين: (ما أصاب من مصيبة في الأرض
ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها، إن ذلك على الله يسير. لكيلا تأسوا
على ما فاتكم، ولا تفرحوا بما آتاكم، والله لا يحب كل مختال فخور) [الحديد: 22 -
23]. قال: فغضب يزيد، وجعل يعبث بلحيته،
(هامش)
(1) هو عمر بن سعد وقد تقدم. (2) أبو بكر بن علي أمه ليلى بنت مسعود الدارمية (ابن
الأثير -) قال ابن الأثير وقد شك في قتله. ولم يذكره المسعودي في مروج الذهب. (3)
وهم: عبد الرحمن بن مسلم بن عقيل، وعبد الله بن مسلم بن عقيل - ومحمد بن أبي سعيد
بن عقيل (تاريخ خليفة) وجعفر بن عقيل بن أبي طالب. (4) قال خليفة في تاريخه ص 235:
أصيب مع الحسين ستة عشر رجلا من أهل بيته. وفي رواية: 17 رجلا. وقال المسعودي في
مروج الذهب 3 / 7: جميع من قتل مع الحسين سبعة وثمانين. (5) أنظر ما قاله يزيد لعلي
بن الحسين في الطبري 5 / 461 وابن الأثير 2 / 578. (*)
ص 13
وقال: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم، ويعفو عن كثير) [الشورى: 30] يا أهل
الشام ما ترون في هؤلاء؟ فقال رجل من أهل الشام لا تتخذن من كلب سوء جروا. فقال
النعمان بن بشير: يا أمير المؤمنين! اصنع بهم ما كان يصنع بهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم لو رآهم بهذه الحال. فقالت فاطمة بنت الحسين (1): يا يزيد بنات رسول الله
صلى الله عليه وسلم. قال: فبكى يزيد حتى كادت نفسه تفيض، وبكى أهل الشام حتى علت
أصواتهم. ثم قال: خلوا عنهم، واذهبوا بهم إلى الحمام، واغسلوهم، واضربوا عليهم
القباب، ففعلوا، وأمال عليهم المطبخ وكساهم، وأخرج لهم الجوائز الكثيرة من الأموال
والكسوة ثم قال: لو كان بينهم وبين عاض بظر أمه (2) نسب ما قتلهم، ارجعوا إلى
المدينة. قال: فبعث بهم من صار بهم إلى المدينة.
إخراج بني أمية عن المدينة
، وذكر
قتال أهل الحرة قال: وذكروا في قصة إخراج بني أمية عن المدينة، قالوا: بعث عثمان بن
محمد أمير المدينة إلى يزيد بقميصه مشقوقا وكتب إليه: واغوثاه! إن أهل المدينة
أخرجوا قومنا من المدينة (3). قال أبو معشر: فخرج يزيد بعد العتمة، ومعه شمعتان
شمعة عن يمينه، وشمعة عن يساره، وعليه معصفرتان، وقد نقش جبهته كأنها ترس، فصعد
المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، يا أهل الشام، فإنه كتب إلي عثمان
بن محمد أن أهل المدينة أخرجوا قومنا من المدينة، ووالله لأن تقع الخضراء على
الغبراء أحب إلي من هذا الخبر. قال: وكان معاوية أوصى يزيد فقال له: إن رابك من
قومك ريب، أو تنقص عليك منهم أحد، فعليك بأعور بني مرة، فاستشره، يعني مسلم بن
عقبة، فلما كانت تلك الليلة قال يزيد: أين مسلم ابن عقبة؟ فقام فقال: ها أناذا.
قال: عبئ ثلاثين ألفا من الخيل. قال: وكان معقل بن سنان الأشجعي نازلا على مسلم بن
عقبة. فقال له مسلم بن عقبة: إن
(هامش)
(1) في الطبري وابن الأثير: فاطمة بنت علي. (2) يريد عبيد الله بن زياد. وفي
الطبري: قبح الله ابن مرجانة، لو كانت بينه، وبينكم رحم أو قرابة ما فعل هذا بكم،
ولا بعث بكم هكذا. (3) مر في الجزء الأول (ص 231 حاشية رقم 1) أن مروان بن الحكم هو
الذي أرسل الكتاب إلى يزيد، راجع نص الكتاب هناك. (*)
ص 14
أمير المؤمنين أمرني أن أتوجه إلى المدينة في ثلاثين ألفا. فقال له: استعفه. قال:
لا. قال: فاركب فيلا أو فيلة، وتكون أبا يكسوم (1)، فمرض مسلم قبل خروجه من الشام،
فأدنف فدخل عليه يزيد بن معاوية يعوده، قال له: قد كنت وجهتك لهذا البعث، وكان أمير
المؤمنين معاوية قد أوصاني بك، وأراك مدنفا ليس فيك سفر. فقال: يا أمير المؤمنين
أنشدك الله، أن لا تحرمني أجرا ساقه الله إلي، إنما أنا امرؤ وليس بي بأس. قال: فلم
يطق من الوجع أن يركب بعيرا ولا دابة، فوضع على سرير، وحمله الرجال على أعناقهم،
حتى جاءوا مكانا يقال له البتراء، فأرادوا النزول به. فقال لهم: ما اسم هذا المكان؟
فقيل له البتراء. فقال: لا تنزلوا به، ثم سار حتى حاجزة، فنزل به، فأرسل إلى أهل
المدينة: إن أمير المؤمنين يقرأ عليكم السلام، ويقول لكم: أنتم الأصل والعشيرة
والأهل، فاتقوا الله واسمعوا وأطيعوا، فإن لكم عندي في عهد الله وميثاقه عطاءين في
كل سنة، عطاء في الصيف، وعطاء في الشتاء، ولكم عندي عهد الله وميثاقه، أن أجعل سعر
الحنطة عندكم كسعر الحنطة عندنا، والحنطة يومئذ سبعة آصع بدرهم، وأما العطاء الذي
ذهب به عنكم عمرو بن سعيد، فعلي أن أخرجه لكم، وكان عمرو بن سعيد قد أخذ أعطياتهم،
فاشترى بهم عبيدا لنفسه. فقالوا لمسلم: نخلعه كما نخلع عمائمنا، يعنون يزيد، وكما
نخلع نعالنا. قال: فقاتلهم، فهزم الناس أهل المدينة. قال أبو معشر: حدثنا محمد بن
عمرو بن حزم، قال: قتل بضعة وسبعون رجلا من قريش، وبضعة وسبعون رجلا من الأنصار،
وقتل من الناس نحو من أربعة آلاف (2)، وقتل ابنان لعبد الله بن جعفر، وقتل أربعة أو
خمسة من ولد زيد بن ثابت لصلبه (3). فقال مسلم بن عقبة لأهل الشام: كفوا أيديكم،
فخرج محمد بن سعد بن أبي وقاص، يريد القتال، فقاتلهم بعد الكف. فقال مسلم بن
(هامش)
(1) أبو يكسوم، كنية أبرهة الحبشي الذي قدم مكة على الفيل لهدم البيت فأرسل الله
عليه وعلى جيشه طيرا من البحر أمثال الخطاطيف يحمل كل منها ثلاثة أحجار، فكانت لا
تصيب أحدا منهم إلا أهلكته فانهزموا أي هزيمة (أنظر سيرة ابن هشام 1 / 54 - 55).
(2) تقدمت الإشارة إلى عدة من قتل يوم الحرة في الجزء الأول. (3) وهم: سعيد وسليمان
وزيد ويحيى وعبيد الله بنو زيد بن ثابت (تاريخ خليفة بن خياط ص 247). (*)
ص 15
عقبة: انهبها ثلاثا. قال: فقتل الناس، وفضحت النساء (1)، ونهبت الأموال. فلما فرغ
مسلم بن عقبة من القتال، انتقل من منزله ذلك إلى قصر بني عامر بدومة، فدعا أهل
المدينة من بقي منهم للبيعة. قال: فجاء عمرو بن عثمان بن عفان بيزيد بن عبد الله بن
زمعة، وجدته أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عمرو قال لأم سلمة: أرسلي
معي ابن بنتك، فجاء به إلى مسلم، فلما تقدم يزيد قال له مسلم: تبايع لعبد الله يزيد
أمير المؤمنين على أنكم خول له، مما أفاء الله عليه بأسياف المسلمين، إن شاء وهب،
وإن شاء أعتق، وإن شاء استرق، فقال يزيد: لأنا أقرب إلى أمير المؤمنين منك. قال:
والله لا تستقبلها أبدا. فقال عمرو بن عثمان: أنشدك الله، فإني أخذته من أم سلمة،
بعهده وميثاقه، أن أرده إليها. قال: فركضه برجله، فرماه من فوق السرير، فقتل يزيد
بن عبد الله، ثم أتي محمد بن أبي جهم [بن حذيفة العدوي] (2) مغلولا. فقال له مسلم:
أنت القائل، اقتلوا سبعة عشر رجلا من بني أمية لا تروا شرا أبدا. قال: قد قلتها
ولكن لا يسمع لقصير أمر، فأرسل يدي، وقد برئت مني الذمة، إنما نزلت بعهد الله
وميثاقه. قال: لا، والله حتى أقدمك إلى النار. قال: فضرب عنقه. ثم جاء معقل بن سنان
الأشجعي، وكان جالسا في بيته، فأتاه مئة رجل من قومه، فقالوا له: اذهب بنا إلى
الأمير حتى نبايعه. فقال لهم: إني قد قلت له قولا، وأنا أتخوف، فقالوا: لا، والله
لا يصل إليك أبدا، فلما بلغوا الباب أدخلوا معقلا، وحبسوا الآخرين، واغلقوا الباب،
فلما نظر إليه مسلم بن عقبة قال: إني أرى شيخا قد تعب وعطش، أسقوه من البلح (3)
الذي زودني به أمير المؤمنين، قال: فخاضوا له بلحا بعسل فشربه. قال له: أشربت؟ قال:
نعم، قال: والله لا تبولها من مثانتك أبدا، أنت القائل: اركب فيلا أو فيلة وتكون
أبا يكسوم (4). فقال معقل: أما والله لقد تخوفت ذلك منك، وإنما غلبتني عشيرتي. قال:
فجعل يفري جبة كانت عليه، وقال: أكره أن يلبسوها، فضرب عنقه.
(هامش)
(1) قال يا قوت في معجم البلدان (حرة): واستباحوا الفروج، وحملت منهم ثمانمئة حرة
وولدن، وكان يقال لأولئك الأولاد أولاد الحرة. (2) زيادة عن الطبري. (3) في الطبري:
العسل. وفي فتوح ابن الأعثم: سويق الكوز. (4) خبر مقتل معقل بن سنان في الطبري 5 /
492 والأخبار الطوال ص 266 وابن الأعثم 5 / 297 وابن الأثير 2 / 598 باختلاف. (*)
ص 16
ثم سار إلى مكة، حتى إذا بلغ قفا المشلل أدنف (1)، فدعا الحصين بن نمير. فقال له:
يا بن برذعة الحمار، والله ما خلق الله أحدا أبغض إلي منك، ولولا أن أمير المؤمنين
أمرني أن أستخلفك ما استخلفتك، أتسمع؟ قال: نعم، قال: لا تكونن إلا على الوقاف، ثم
الثقاف، ثم الانصراف (2)، ولا تمكن قريشا من أذنك. ثم مات مسلم بن عقبة، فدفن بقفا
المشلل، وكانت أم ولد ليزيد بن عبد الله بن زمعة بأستار، فخرجت إليه فنبشته من
قبره، ثم أحرقت عليه بالنار، وأخذت أكفانه فشقتها، وعلقتها بالشجرة، فكل من مر عليه
يرميه بالحجارة، وسار الحصين حتى جاء مكة، فدعاهم إلى الطاعة، وعبد الله بن الزبير
يومئذ بمكة، فلم يجبه، فقاتله، فقتل يومئذ المنذر بن الزبير، ورجلان من إخوته،
ومصعب بن عبد الرحمن، والمسور بن مخزمة (3).
حرب ابن الزبير رضي الله عنهما
قال:
وذكروا أن مسلم بن عقبة لما فرغ من قتال أهل المدينة يوم الحرة، مضى إلى مكة
المشرفة، يريد ابن الزبير، حتى إذا كان بقديد، حضرته الوفاة، فدعا الحصين بن نمير.
فقال له: إن أمير المؤمنين عصاني فيك، فأبى إلا استخلافك بعدي، فلا ترسلن بينك وبين
قريش رسولا تمكنه من أذنيك، إنما هو الوقاف، ثم الثقاف، ثم الانصراف. وهلك مسلم بن
عقبة، فدفن بالثنية. قال: وسمع بهم عبد الله بن الزبير، فأحكم مراصد مكة، فجعل
عليها المقاتلة، وجاءه جند أهل المدينة، وأقبل ابن نمير حتى نزل على مكة، وأرسل
خيلا فأخذت أسفلها، ونصب عليها العرادات والمجانيق، وفرض على أصحابه عشرة آلاف
صخرة، في كل يوم يرمونها بها. فقال الناس: انظروه لئلا يصيبه ما أصاب أصحاب الفيل.
قال عبد الله بن عمرو بن العاص، وكان بمكة معتمرا، قدم من الطائف: لا تظن ذلك، لو
كان كافرا بها لعوقب دونها، فأما إذا كان مؤمنا بها فسيبتلى فيها، فكان كما قال،
وحاصروهم لعشر ليال بقين من المحرم، سنة أربع وستين، فحاصروهم بقية المحرم، وصفر،
وشهري ربيع، يغدون على
(هامش)
(1) أدنف: أي اشتد مرضه وأشفى على الموت (معجم وسيط). (2) مر الشرح سابقا. وفي
الكامل لابن الأثير 2 / 601 خذ عني أربعا: أسرع السير، وعجل المناجزة، وعم الأخبار،
ولا تمكن قريشا من أذنك، وانظر الطبري 7 / 14 طبعة بولاق. (3): هذا هو الحصر الأول
من عسكر الشام لابن الزبير. (*)
ص 17
القتال ويروحون، حتى جاءهم موت يزيد بن معاوية (1)، فأرسل الحصين بن نمير إلى ابن
الزبير، أن ائذن لنا نطوف بالبيت، وننصرف عنكم، فقد مات صاحبنا. فقال ابن الزبير:
وهل تركتم من البيت إلا مدرة؟ وكانت المجانيق قد أصابت ناحية من البيت الشريف
فهدمته، مع الحريق الذي أصابه (2)، قال: فمنعهم أن يطوفوا بالبيت. فارتحل الحصين،
حتى إذا كان بعسفان تفرقوا، وتبعهم الناس يأخذونهم، حتى إن كانت الراعية في غنمها
لتأتي بالرجل منهم مربوطا، فيبعث بهم إلى المدينة، وأصاب منهم أهل المدينة حين مروا
بهم ناسا كثيرا، فحبسوا بالمدينة، حتى قدم مصعب بن الزبير عليهم من عند عبد الله بن
الزبير، فأخرجهم إلى الحرة، فضرب أعناقهم، وكانوا أربع مئة وأكثر، قال: وانصرف ذلك
الجيش إلى الشام مفلولا، وبايع أهل المدينة لابن الزبير بالخلافة، وكان ابن عباس
بمكة يومئذ، فخرج إلى الطائف، فهلك بها سنة سبعين (3)، وهو يومئذ ابن أربعة وسبعين
سنة رضي الله عنه.
خلافة معاوية بن يزيد
قال: فلما مات يزيد بن معاوية، استخلف ابنه
معاوية بن يزيد، وهو يومئذ ابن ثماني عشرة سنة، فلبث واليا شهرين وليالي محجوبا لا
يرى، ثم خرج بعد ذلك، قال: فجمع الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس،
إني نظرت بعدكم فيما صار إلي من أمركم، وقلدته من ولايتكم، فوجدت ذلك لا يسعني فيما
بيني وبين ربي، أن أتقدم على قوم فيهم من هو خير مني، وأحقهم بذلك، وأقوى على ما
قلدته، فاختاروا مني إحدى خصلتين: إما أن أخرج منها، وأستخلف عليكم من أراه لكم رضا
ومقنعا، ولكم الله علي ألا آلوكم نصحا في الدين والدنيا، وإما أن تختاروا لأنفسكم
وتخرجوني منها (4). قال: فأنف الناس
(هامش)
(1) قال الواقدي: قدم مكة لأربع بقين من المحرم، فحاصر ابن الزبير أربعا وستين يوما
حتى جاءهم نعي يزيد بن معاوية لهلال ربيع الآخر (الطبري 5 / 498). (2) أنظر في خبر
حرق الكعبة ما رواه الطبري 5 / 498 ومروج الذهب 3 / 86 وابن الأثير 2 / 602. (3) في
البداية والنهاية ذكر وفاته سنة 68 ه. قال الواقدي: سنة 68 عن 65 سنة. وذكر خليفة
وفاته سنة 68 بالطائف. (4) وردت خطبته باختلاف في الطبري 5 / 530 - 531 ابن الأثير
2 / 605 الفخري ص 118 تاريخ ابن العبري ص 111 مروج الذهب 3 / 88. تاريخ اليعقوبي 2
/ 254. (*)
ص 18
من قوله، وأبوا من ذلك (1)، وخافت بنو أمية أن تزول الخلافة منهم، فقالوا: ننظر في
ذلك يا أمير المؤمنين ونستخير الله فأمهلنا. قال: لكم ذلك، وعجلوا علي. قال: فلم
يلبثوا بعدها إلا أياما حتى طعن (2)، فدخلوا عليه، فقالوا له: استخلف على الناس من
تراه لهم رضا. فقال لهم (3): عند الموت تريدون ذلك؟ لا والله لا أتزودها، ما سعدت
بحلاوتها، فكيف أشقى بمرارتها، ثم هلك رحمه الله ولم يستخلف أحدا. فقالوا لعثمان بن
عنبسة: تقدم فصل بالناس، فأبى. وقال: لا. أما أنا فلاحق بخالي عبد الله بن الزبير،
فقال له ابن زياد: إن هذا ليس بزمان خالك ولا عمك. فلما دفن معاوية بن يزيد، وسوي
عليه التراب، وبنو أمية حول قبره، قال مروان: أما والله يا بني أمية إنه لأبو ليلى،
ثم قال: الملك بعد أبي ليلى لمن غلبا (4). وماج أمر بني أمية واختلفوا.
(هامش)
(1) موقف الخليفة معاوية بن يزيد المفاجئ وبعد قليل من توليه مقاليد الخلافة، حيث
بقي محجوبا لا يرى حاول بعض المؤرخين تعقبه فقال ابن العبري إنه كان قدريا، حيث
قال: لا أحب أن ألقى الله بتبعاتكم فشأنكم وأمركم ولوه من شئتم وتخلى للعبادة حتى
مات. ورأى الفخري: إنه كان صبيا ضعيفا وقد عرف بأبي ليلى لضعفه كما قال المسعودي في
مروجه: هذه الكنية للمستضعف من العرب. ونرى أن اعتكافه وعزلته في منزلته، واحتجابه
عن الناس يعود لأسباب كثيرة أقلها ثلاثة: 1 - عدم اقتناعه - من حيث المبدأ -
بأحقيته بالولاية (العبري). 2 - اشتداد الصراع بين أطراف القيادة الأموية، بين
القيسية (الضحاك) واليمنية. 3 - ظهور عبد الله بن الزبير الرجل القوي، بعد موت
يزيد، ودعوته الناس لمبايعته وادعائه الخلافة وظفره بالحجاز، والعراق وخراسان ومصر
واليمن والشام إلا الأردن. (2) لم يرد في الطبري ولا في ابن الأثير ولا عند
المسعودي أنه كان مريضا قال المسعودي في مروج الذهب: وقد تنوزع في سبب وفاته فمنهم
من رأى أنه سقي شربة ومنهم من رأى أنه مات حتف أنفه ومنهم من رأى أنه طعن 3 / 89.
وفيه أن أيامه كانت أربعين يوما وقيل شهرين (وانظر البداية والنهاية 8 / 260. وابن
الأثير 2 / 605). (3) قارن مع ما ذكره المسعودي في المروج 3 / 88. (4) البيت لأرثم
الفزاري وتمامه: إني أرى فتنة تغلي مراجلها * والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا
(البداية والنهاية 8 / 261 مروج الذهب 3 / 88، المعارف ص 154). (*)
ص 19
غلبة ابن الزبير رضي الله عنهما وظهوره
قال: وذكروا أن أبا معشر قال: حدثنا بعض
المشيخة الذين حضروا قتال ابن الزبير، قال: لما نزل الحصين بمكة، وغلب عليها كلها
إلا المسجد الحرام، قال: فإني لجالس مع ابن الزبير، ومعه من القرشيين عبد الله بن
مطيع، والمختار بن أبي عبيد، والمسور بن مخرمة، والمنذر بن الزبير، ومصعب بن عبد
الرحمن بن عوف في نفر من قريش. قال: فقال المختار بن عبيد: وهبت رويحة: والله إني
لأجد النصر في هذه الرويحة، فاحملوا عليهم، قال: فحملوا عليهم حتى أخرجوهم من مكة،
وقتل المختار رجلا، وقتل ابن مطيع رجلا. قال: فجاءه رجل من أهل الشام، في طرف سنان
رمحه نار. قال: وكان بين موت يزيد بن معاوية وبين حريق الكعبة إحدى عشرة ليلة (1)
ثم التحمت الحرب عند باب بني شيبة، فقتل يومئذ المنذر بن الزبير، ورجلان من إخوته،
ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف والمسور بن مخرمة، وكان الحصين قد نصب المجانيق على جبل
أبي قبيس، وعلى قعيقعان، فلم يكن أحد يقدر أن يطوف بالبيت، وأسند ابن الزبير ألواحا
من الساج إلى البيت، وألقى عليها القطائف والفرش، فكان إذا وقع عليها الحجر، نبأ عن
البيت، فكانوا يطوفون تحت تلك الألواح، فإذا سمعوا صوت الحجر حين يقع على الفرش
والقطائف كبروا، وكان طول الكعبة في السماء ثمانية عشر ذراعا، وكان ابن الزبير قد
ضرب فسطاطا في ناحية من المسجد، فكلما جرح أحد من أصحابه أدخله ذلك الفسطاط.
حريق
الكعبة
قال: فجاء رجل في طرف سنان رمحه نار، فأشعلها في الفسطاط، فوقعت النار على
الكعبة، فاحترق الخشب، وانصدع الركن، واحترقت الأستار، وتساقطت إلى الأرض (2). قال:
ثم قاتل أهل الشام أياما بعد حريق الكعبة، واحترقت في ربيع الأول سنة أربع وستين.
قال: فلما احترقت جلس أهل مكة
(هامش)
(1) مات يزيد بن معاوية لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول وكان حريق الكعبة يوم
السبت لثلاث ليال خلون من شهر ربيع الأول. (أنظر الطبري 5 / 498 مروج الذهب 3 /
87). (2) وقيل في احتراقها غير ذلك. قارن مع الطبري 5 / 498 مروج الذهب 3 / 86
تاريخ خليفة ص 255 البداية والنهاية 8 / 247. (*)
ص 20
في ناحية الحجر، ومعهم ابن الزبير، وأهل الشام يرمونهم بالنبل. قال: فوقعت بين يديه
نبلة. قال: في هذه خبر، فأخذوها فوجدوا بها مكتوبا: مات يزيد بن معاوية يوم الخميس
لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول. فلما قرأ ذلك ابن الزبير قال: يا أهل الشام، يا
محرقي بيت الله، يا مستحلي حرم الله، علام تقاتلون؟ وقد مات طاغيتكم يزيد بن
معاوية، فأتاه الحصين بن نمير فقال له: موعدك البطحاء الليلة يا أبا بكر. فلما كان
الليل خرج ابن الزبير بأصحابه، وخرج الحصين بأصحابه إلى البطحاء، فتنحى كل واحد
منهما من أصحابه وانفردا، فقال الحصين: يا أبا بكر، قد علمت أني سيد أهل الشام، لا
أدافع عن ذلك، وأن أعنة خيلهم بيدي، وأرى أهل الحجاز قد رضوا بك، فأبايعك الساعة،
على أن تهدر كل شيء أصبناه يوم الحرة، وتخرج معي إلى الشام، فإني لا أحب أن يكون
الملك في الحجاز. قال: لا والله لا أفعل لا أؤمن من أخاف الناس، وأحرق بيت الله،
وانتهك حرمته. فقال الحصين: بلى، فافعل، فعلي إلا يختلف عليك اثنان. فأبى ابن
الزبير. فقال له الحصين: لعنك الله، ولعن من زعم أنك سيد، والله لا تفلح أبدا،
اركبوا يا أهل الشام. فركبوا وانصرفوا قال: فحدثني من شهد انصرافهم، قال: والله إن
كانت الوليدة لتخرج فتأخذ الفارس ما يمتنع. قال أبو معشر: وذلك أن المنهزم لا فؤاد
له. قال: فبايع أهل الشام كلهم ابن الزبير، إلا أهل الأردن (1)، وبايع أهل مصر ابن
الزبير، وغلب على أهل العراق والحجاز واليمن، وغلظ أمره، وعظم شأنه، واستخلف ابن
الزبير الضحاك بن قيس على أهل الشام. اختلاف أهل الشام على ابن الزبير قال: وذكروا
أن ابن الزبير لما استخلف الضحاك على أهل الشام، قام أناس من أهل الشام من رؤس قريش
بني أمية وأشرافهم وفيهم روح بن زنباع الجذامي، فقال بعضهم: إن الملك كان فينا أهل
الشام، أفينتقل ذلك إلى أهل الحجاز؟ لا نرضى بذلك (2)، هل لكم أن تأخذوا رجلا منا
فينظر في هذا الأمر؟
(هامش)
(1) وكان على الأردن حسان بن مالك بن بحدل، وقد أبى أن يبايع لابن الزبير وأرادها
لخالد بن يزيد بن معاوية. (2) كان موت يزيد بن معاوية وارتباك الأسرة الأموية في
معالجة النتائج السلبية التي انعكست = (*)
ص 21
قالوا: نعم. فجاؤوا إلى خالد بن يزيد بن معاوية، وهو غلام حدث السن، فقيل له: ارفع
رأسك لهذا الأمر، فقال: أستخير الله وأنظر، فرأى القوم أنه ذو ورع عن القيام في
ذلك، فخرجوا فأتوا عمرو بن سعيد، فقالوا له: يا أبا أمية، ارفع رأسك لهذا الأمر،
فجعل يشير يقول: والله لأفعلن لأفعلن، فلما خرجوا من عنده قالوا: هذا حديث علج.
فأتوا مروان بن الحكم، فإذا عنده مصباح، وإذا هم يسمعون صوته بالقرآن، فاستأذنوا
ودخلوا عليه، فقالوا له: يا أبا عبد الملك، ارفع رأسك لهذا الأمر، فقال: استخيروا
الله واسألوه أن يختار لأمة محمد خيرها وأعدلها ما شاء الله.
بيعة أهل الشام مروان
بن الحكم
قال: وذكروا أن روح بن زنباع قال لمروان بن الحكم: إن معي أربع مائة
(هامش)
= عليها، عاملا دعم موقف وسياسة ابن الزبير الذي خرج منتصرا من هزيمة عسكرية محققة
وامتد نفوذه وانتشر. وجاء الاختفاء الغامض لمعاوية بن يزيد أزمة الأسرة الأموية
خطورة ويفتح الصراعات بين الأجنحة الممثلة للسلطة الأموية على مختلف الاتجاهات ويضع
الجميع على مفترق مصيري، حيث الفراغ في السلطة المركزية يقابله تمدد لنفوذ وسلطة
ابن الزبير. فبرز اتجاهان تجاذبا الصراع على نفوذ بعدما تمزقت الجبهة الأموية نتيجة
الصراعات القديمة الجديدة بين الأجنحة القبلية التي كانت تقوم عليها السلطة
المركزية الأموية السفيانية، وتجلى هذا الصراع بين أجنحة ثلاثة كل منها يعمل لإيصال
مرشحه للخلافة: - جناح خالد بن يزيد بن معاوية ممثل الشرعية السفيانية. - جناح
مروان بن الحكم، شيخ بني العاص، والذي طرح مرشحه كمرشح تسوية أو إجماع. - جناح عمرو
بن سعيد الأشدق وكان الأضعف في مواجهة التيارين الآخرين. كان هذا الصراع بين أجنحة
الاتجاه اليمني - الكلبي. وأما الاتجاه القيسي وبعد أن رأى تماسك الاتجاه الأول
وحرصه على المحافظة على المعادلة التقليدية في الشام، تطلع إلى ابن الزبير وتحالف
معه. وفي الاجتماع اليمني الذي عقد في الجابية جرت التسوية بين أجنحة هذا الاتجاه
الثلاثة فطرح مروان كمرشح تسوية على أن يكون خالد بن يزيد وليا للعهد فضلا عن
تعيينه أميرا على حمص، وأعطيت للقطب الثالث عمرو بن سعيد ولاية عهد خالد وأمارة
دمشق (أنظر تفاصيل وافية أوردها د. إبراهيم بيضون في كتابه تكون الاتجاهات السياسية
في الإسلام الأول ص 211 وما بعدما، ومروج الذهب 3 / 103). واشترط حسان بن بحدل -
وكان رئيس قحطان وسيدها بالشام - ما كان لهم من الشروط على معاوية وابنه يزيد وابنه
معاوية منها: أن يفرض لهم لألفي رجل ألفين ألفين، وإن مات قام ابنه أو ابن عمه
مكانه وعلى أن يكون لهم الأمر والنهي، وصدر المجلس، وكل ما كان من حل وعقد فعن رأي
منهم ومشورة. فأجابه مروان إلى ما سأل. (مروج الذهب 3 / 104). (*)
ص 22
رجل من جذام، وسآمرهم أن يبتدروا في المسجد غدا، فمر ابنك عبد العزيز أن يخطب،
ويدعوهم إليك، وأنا آمرهم أن يقولوا صدقت، فيظن الناس أن أمرهم واحد، قال: فلما
أصبح عبد العزيز خرج على الناس وهم مجتمعون، فقام: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
ما أحد أولى بهذا الأمر من مروان بن الحكم، إنه لكبير قريش وشيخها، وأفرطها عقلا
وكمالا، دينا وفضلا، والذي نفسي بيده، لقد شاب شعر ذراعيه من الكبر. فقال
الجذاميون: صدقت. فقال خالد بن يزيد: أمر قضي بليل. فبايعوا مروان بن الحكم. فقال
عمرو بن سعيد للضحاك بن قيس: أرضيت أن تكون بريدا لابن الزبير، وأنت أكبر قريش
وسيدها، تعالى نبايعك، فخرج به إلى مرج راهط، فلما دعاه إلى البيعة اقتتلوا، فقتل
الضحاك بن قيس، فقال عمرو بن سعيد لأهل الشام، ما صارت أيديكم إلا مناديل، من جاءكم
مسح يده بها، إن مروان سيد قريش، وأكبرهم سنا، فبايعوا مروان بن الحكم، وقتل الضحاك
بن قيس، هزم أصحابه، وكانت قريش مع الضحاك، وكان اليمن مع عمرو بن سعيد (1)، فمكث
مروان ما شاء الله أن يمكث، ثم قال له أصحابه: والله ما نتخوف إلا خالد بن يزيد بن
معاوية، وإنك إن تزوجت أمه كسرته، وأمه ابنة (2) هاشم بن عتبة بن ربيعة، فخطبها
مروان بن الحكم، فتزوجها، وأقام بالشام، ثم أراد أن يخرج إلى مصر. فقال لخالد:
أعرني سلاحا إن كان عندك. قال: فأعاره سلاحا، وخرج إلى مصر، فقاتل أهل مصر، وسبى
ناسا كثيرا، فافتدوا منه، ثم قدم الشام.
(هامش)
(1) أشرنا إلى أن الصراع قد فتح على مصراعيه بين الأجنحة القبلية الداعمة للأمويين
وحدث من ذلك تحرك العصبية فكانت مرج راهط بين العصبيتين القيسية الممثلة بالتحالف
بين الضحاك والزبير والقبائل المنضوية تحت لواء الضحاك، واليمنية التي تمثلت في
الأجنحة المتحالفة بزعامة مروان بن الحكم. وكان أبرز نتائج هذه المعركة: - انهزام
الخط الزبيري الذي أخفق في الاستقطاب القبلي. - استمرارية النظام الأموي، عبر مرحلة
انتقالية تمثلها خلافة مروان على أن تعود الخلافة للبيت السفياني ممثلا بخالد بن
يزيد (حسب الاتفاق الذي جرى بين أجنحة النظام الأموي - أنظر ما لاحظناه قريبا). لكن
مروان عمد إلى خرق هذا الاتفاق، من خلال تزوجه بأم خالد بن يزيد ليحط من قدره
ويضعفه ثم مبادرته بعد ذلك إلى تعيين ولديه لولاية العهد مطوقا أية محاولة في
المستقبل لانتزاع السلطة من بيت بني العاص أو بني مروان. (2) هي فاختة بنت أبي هاشم
بن عتبة (ابن الأثير - مروج الذهب). (*)
ص 23
موت مروان بن الحكم قال: وذكروا أن مروان بن الحكم لما قدم الشام من مصر، قال له
خالد بن يزيد بن معاوية: اردد إلي سلاحي، فأبى عليه مروان، فألح عليه، وكان مروان
فاحشا سبابا، وقال له يا بن الربوخ (1)، يا أهل الشام، إن أم هذا ربوخ، يا ابن
الرطبة، قال: فجاء ابنها إليها قال: هذا ما صنعت بي، سبني مروان على رؤس أهل الشام
وقال: هذا ابن الربوخ. قال: وكان مروان استخلف حين خرج إلى مصر ابنه عبد الملك وعبد
العزيز أنهما يكونان بعده، وبايع لهما أهل الشام، فلبث مروان بعد ذلك ليالي، بعد ما
قال لخالد بن يزيد ما قال، ثم جاء إلى أم خالد فرقد عندها، فأمرت جواريها فطوين
عليه الشوادك (2)، ثم غطته حتى قتلته (3)، ثم خرجن يصحن ويشققن جيوبهن، يا أمير
المؤمنين. قال: فقام عبد الملك، فبايع لنفسه، ووعد عمرو بن سعيد أن يستخلفه، فبايعه
وأقاموا بالشام.
بيعة عبد الملك بن مروان وولايته
قال: وذكروا أن عبد الملك بن مروان بايع لنفسه بالشام، ووعد الناس خيرا، ودعاهم إلى إحياء الكتاب والسنة، وإقامة
العدل والحق، وكان معروفا بالصدق، مشهورا بالفضل والعلم، لا يختلف في دينه، ولا
ينازع في ورعه، فقبلوا ذلك منه، ولم يختلف عليه من قريش أحد، ولا من أهل الشام.
فلما تمت بيعته خالفه عمرو بن سعيد الأشدق (4)، فوعده عبد الملك أن سيتخلفه بعده،
فبايعه على ذلك، وشرط عليه أن لا يقطع شيئا دونه، ولا ينفذ أمرا إلا
(هامش)
(1) الربوخ: المرأة يغشى عليها عند الجماع. (2) الشوادك جمع شودكان وهو الشبكة
وأداة السلاح. (3) وقيل في قتله غير ذلك: في الأخبار الطوال ص 285: سقته السم، فلما
أحس بالموت جمع بني أمية وأشراف أهل الشام فبايع لابنه عبد الملك. وفي ابن الأثير 2
/ 647 غطته بوسادة حتى قتلته. وفي مروج الذهب 3 / 107 وضعت على نفسه وسادة وقعدت
فوقها مع جواريها حتى مات، وقيل: أعدت له لبنا مسموما، وانظر تاريخ اليعقوبي 2 /
257 والبداية والنهاية 8 / 282. (4) قال الطبري إن خلاف عمرو بن سعيد على عبد الملك
كان سنة 68 وقيل في رواية أخرى عنده في سنة 70. وانظر خبر خلافه على عبد الملك في
الأخبار الطوال ص 286 وشروط الصلح بينهما، وانظر تاريخ اليعقوبي 2 / 270. (*)
ص 24
بمحضره، فأعطاه ذلك. ثم إن عبد الملك بعث حبيش بن دلجة القيسي إلى المدينة، في سبعة
آلاف رجل، فدخل المدينة، وجلس على المنبر الشريف، فدعا بخبز ولحم، فأكل على المنبر،
ثم أتي بماء فتوضأ على المنبر. قال أبو معشر: فحدثني رجل من أهل المدينة يقال له
أبو سلمة، قال: شهدت حبيش بن دلجة يومئذ، وقد أرسل إلى جابر بن عبد الله الأنصاري،
فدعاه فقال: تبايع لعبد الملك أمير المؤمنين بالخلافة، عليك بذلك عهد الله وميثاقه
وأعظم ما أخذ الله على أحد من خلقه بالوفاء، فإن خالفت فأهرق الله دمك على الضلالة.
فقال له جابر بن عبد الله: إنك أطوق لذلك مني، ولكني أبايعه على ما بايعت عليه رسول
الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، على السمع والطاعة. قال: ثم أرسل إلى عبد
الله بن عمر، فقال له: تبايع لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين على السمع والطاعة؟
فقال ابن عمر: إذا اجتمع الناس عليه بايعت له إن شاء الله. ثم خرج ابن دلجة من يومه
ذلك نحو الربذة (1)، وقام في أثره رجلان: أحدهما على أثر الآخر، مع كل واحد منهما
جيش، وكل واحد منهما يصعد المنبر ويخطب، ثم خرجوا جميعا إلى الربذة، وذلك في رمضان،
سنة خمس وستين، فاجتمعوا بها، وأميرهم ابن دلجة. وكتب ابن الزبير إلى عباس بن سهل
الساعدي بالمدينة: أن سر إلى حبيش ابن دلجة وأصحابه في ناس، فسار حتى لقيهم بالربذة
في شهر رمضان، وبعث الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة من البصرة (2)، مددا إلى عباس
بن سهل حنيف بن السجف في تسع مئة رجل، فساروا حتى انتهوا إلى الربذة، فبات أهل
البصرة وأهل المدينة يقرأون القرآن، ويصلون ليلتهم حتى أصبحوا، وبات الآخرون في
المعازف والخمور، فلما أصبحوا قال لهم حبيش بن دلجة: أهريقوا ماءكم حتى تشربوا من
سويقكم المعتد (3) فأهرقوا الماء، وغدوا إلى القتال، فقتل حبيش، ومن معه من أهل
الشام، وتحصن من أهل الشام خمس مئة رجل على عمود الربذة، وهو الجبل الذي عليها.
قال: وكان يوسف أبو الحجاج مع
(هامش)
(1) الربذة: بفتح الراء والباء والذال، موضع قرب المدينة. (2) وكان واليا على
البصرة لابن الزبير. (3) في الطبري: من مقندهم يعني السويق الذي فيه القند. (*)
ص 25
ابن دلجة، قال: وأحاط بهم عباس بن سهل، فقال: انزلوا على حكمي، فنزلوا على حكمه،
فضرب أعناقهم أجمعين (1).
غلبة ابن الزبير على العراقيين وبيعتهم
قال: وذكروا أن
عباس بن سهل، لما فرغ من قتال أهل الشام، رجع المدينة فجدد البيعة لابن الزبير،
فسارعوا إليها، ولم يتثبطوا، وقدم أهل البصرة على ابن الزبير بمكة فكانوا معه، وكان
عبد الله بن الزبير استعمل الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة على البصرة، فلما قدمها
قيل له: إن الناس يقطعون الدراهم يجعلونها حتى كأنها أصفار. فقال لهم: هلم بسبعة
ثقالا، فأتوه بسبعة ثقال. فقال: هذه بعشرة، فزنوا كيف شئتم. قال: وأتوا بالمكيال
الذي يكيلون به، فقال: هذا قريب صالح. ثم قيل له: إن أهل البصرة لا يصلحهم إلا
القتل. فقال لأن تفسد البصرة أحب إلي من أن يفسد الحرث والنسل. قال: فبعث ابن
الزبير حمزة بن عبد الله بن الزبير إلى البصرة عاملا، فاستحقره أهل البصرة (2)،
فبعث مصعب بن الزبير، فقدم عليهم، فقال أهل البصرة: لا يقدم عليكم أحد إلا لقبتموه،
وأنا ألقب لكم نفسي، أنا القصاب (3). ثم سار إلى المختار فقتله.
بيعة أهل الكوفة
لابن الزبير وخروج ابن زياد عنها
قال: وذكروا عن بعض المشيخة من أهل العلم بذلك،
قالوا: كان ابن زياد أول من ضم إليه الكوفة والبصرة، وكان أبوه زياد كذلك قبله، فلم
يزل عبيد الله يتبع الخوارج ويقتلهم، ويأخذ على ذلك الناس بالظن، ويقتلهم بالشبهة،
واستعمد إلى عامتهم، وكان بعضهم له على ما يحب. قال: فلما اختلف أمر الناس، ومات
يزيد، وامتد سلطان ابن الزبير، وغلظ شأنه وعظم أمره، وخلع أهل البصرة طاعة بني
أمية، وبايعوا ابن الزبير، خرج عبيد الله بن زياد إلى المسجد، فقام خطيبا، فحمد
الله وأثنى عليه، وقال: أيها الناس، إن
(هامش)
(1) زيد في الطبري: ورجع فل حبيش إلى الشام. (2) لقبه أهل البصرة بقعيقعان (أنظر
سبب هذه التسمية في معجم البلدان) واستضعفوه ولم يرتضوا به أميرا عليهم، فكتب إلى
أبيه يستعفيه من الولاية فعزله وأرسل مكانه مصعب. (3) في الطبري: الجزار. (*)
ص 26
الذي كنا نقاتل على طاعته قد مات، واختلف أمر الناس، وتشتتت كلمتهم، وانشقت عصاهم،
فإن أمرتموني عليكم حببت فيكم، وقاتلت بكم عدوكم، وحكمت بينكم، وأنصفت مظلومكم،
وأخذت على يد ظالمكم حتى يجتمع الناس على خليفة (1). فقام (2) يزيد بن الحارث بن
رويم اليشكري وقال: الحمد لله الذي أراحنا من بني أمية وأخزى ابن سمية، لا والله
ولا كرامة، فأمر به عبيد الله (3) فلبب، ثم انطلق به إلى السجن، فقامت بكر بن وائل،
فحالت بينه وبين ذلك. ثم خرج الثانية عبيد الله بن زياد إلى المنبر، فخطب الناس،
فحصبه الناس ورموه بالحجارة وسبوه، وقام قوم فدنوا منه، فنزل فاجتمع الناس في
المسجد. فقالوا: نؤمر رجلا حتى تجتمع الناس على خليفة، فاجتمع رأيهم على أن يؤمروا
عمرو (4) بن سعد بن أبي وقاص وكان الذين قاموا بأمره هذا الحي الذي من كندة، فبينما
هم على ذلك إذ أقبل النساء يبكين وينعين الحسين، وأقبلت همدان حتى ملأوا المسجد،
فأطافوا بالمنبر متقلدين السيوف، وأجمع رأي أهل البصرة والكوفة على عامر بن مسعود
بن أمية بن خلف، فأمروه عليهم حتى يجتمع الناس، وكتبوا إلى عبد الله بن الزبير
يبايعونه بالخلافة، فأقره عبد الله بن الزبير عاملا عليهم نحوا من سنة (5) واستعمل
العمال في الأمصار،
(هامش)
(1) في الطبري وابن الأثير والمسعودي: ذكروا أنه بعد موت يزيد وخطبة ابن زياد في
الناس أجمع أهل البصرة على مبايعته وقالوا (رواية المسعودي): ما نعلم ذلك الرجل
غيرك أيها الأمير وأنت أحق من قام على أمرنا حتى يجتمع الناس على خليفة. (2) بعد
انقياد أهل البصرة لابن زياد أرسل إلى الكوفة إلى عمرو بن حريث يعلمه خبر موت يزيد
ويدعوهم إلى البيعة كما صنع أهل البصرة فقام عمرو ورسولا ابن زياد يعلمون الناس
بالأمر ويدعوهم إلى ما دخل فيه أهل البصرة فقام (في الكوفة) عندئذ يزيد بن الحارث
بن يزيد الشيباني وهو ابن رويم وقال قوله (الطبري 5 / 524 ابن الأثير 2 / 607 مروج
الذهب 3 / 101 - 102). (3) كذا بالأصل ومروج الذهب، وهو عمر على الصواب. وهو
الذي قاد عسكر ابن زياد وقاتل الحسين بن علي. (4) في الطبري: عمرو وهو عمرو بن
حريث خليفة عبيد الله على الكوفة. (5) قال الطبري 5 / 527 اجتمعوا على عبد الملك بن
عبد الله بن عامر شهرا، ثم جعلوا ببة - عبد الله بن الحارث بن عبد المطلب - شهرين،
ثم قدم عليهم عمر بن عبيد الله بن معمر من قبل ابن الزبير فمكث شهرا، ثم قدم الحارث
بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي وهو القباع. وذلك على مدينة البصرة. أما على
الكوفة فقد مكث فيهم عامر بن مسعود ثلاثة أشهر ثم قدم عليهم عبد الله بن يزيد
الأنصاري الخطمي على الصلاة، وإبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله على الخراج.
(*)
ص 27
فبلغ أهل البصرة ما صنع أهل الكوفة، فاجتمعوا وأخرجوا الرايات، فلم يبق أحد إلا
خرج، وذلك لسوء آثار عبيد الله بن زياد فيهم، يطلبون قتله. ثم قام ابن أبي ذؤيب
فقال: يا هؤلاء من ينصر الله ينصر الكعبة، من يغار على ابن سمية، سارعوا أيها الناس
إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض، واجتنبوا هذه الدعوة، وأقيموا أود
هذه البيعة، فإنها بيعة هدى، فإنه من قد علمتهم عبد الله بن الزبير حواري رسول الله
صلى الله عليه وسلم وابن عمته وابن أسماء بنت أبي بكر الصديق، أما والله لو أن أبا
بكر علم أنه بقي على الأرض من هو خير منه وأولى بهذه البيعة، ما مد يده، ولا نازعته
إليها نفسه، أما والله لقد علمتم ما أحد على وجه الأرض خير ولا أحق بها إلا هذا
الشيخ عبد الله بن عمر، المتبرئ من الدنيا، المعتزل عن الناس الكاره لهذا الأمر، ثم
خرجت الخوارج من سجون عبيد الله بن زياد، واجتمعوا على حدة، والقبائل كل قبيلة في
المسجد معتزلة على حدة، وعبيد الله بن زياد في القصر، وقد أخذ بأبوابه وقد تمنع أن
يدخل القصر أحد، وقد أخذت العرب بأفواه السكك والدروب، وكان عبيد الله أول من جفا
العرب، وأخذ منهم المحاربة اثني عشر ألفا ليعتز بهم، فوالله ما زادوه إلا ذلا، فلما
رأى ذلك عبيد الله بن زياد لم يدر كيف يصنع، وخاف تميما وبكر بن وائل أن يستجير بهم
ولم يأمن غدرهم، فأرسل إلى الحارث بن قيس الجهمي (1) من الأزد، فدخل عليه الحارث،
فقال: يا حارث، قد أكرمتم زيادا، وحفظتم منه ما كنتم أهله، وقد استجرت بكم، فأنشدكم
الله في. قال الحارث: أخاف أن لا تقدر على الخروج إلينا، لما أرى من سوء رأي العامة
فيك من سوء آثارك في الأزد. قال: فتهيأ عبيد الله، فلبس لبس امرأة في خمرتها
وعقيصتها، فأردفه الحارث خلفه، فخرج به على الناس فقالوا: يا حارث ما هذه؟ قال:
تنحوا رحمكم الله، هذه امرأة من أهلي، كانت زائرة لأهل ابن زياد، أتيت أذهب بها.
فقال عبيد الله للحارث: أين نحن؟ قال: في بني سليم، فقال: سلمنا الله. قال: ثم سار
قليلا، ثم قال: أين نحن؟ قال: في بني ناجية من الأزد، قال: نجونا إن شاء الله (2).
قال: فأتى به مسعود بن
(هامش)
(1) هو الحارث بن قيس بن صهبان بن عون بن علاج بن مازن بن أسود بن جهضم بن جذيمة بن
مالك بن فهم. (2) زيد في الأخبار الطوال ص 282 ثم سارا حتى انتهيا إلى الأزد وانظر
الطبري 5 / 510 وابن الأثير 2 / 608. (*)
ص 28
عمرو وهو يومئذ سيد الأزد، فقال: يا أبا قيس؟ قد جئتك بعبيد الله مستجيرا. قال: ولم
جئتني بالعبد؟ قال: نشدتك الله، فقد اختارك على غيرك، فلما رآهم عبيد الله يتراضون
ويتناشدون، قال: قد بلغني الجهد والجوع، فقال مسعود: يا غلام: ائت البقال، فأتنا من
خبزه وتمره. قال: فجاء به الغلام فوضع. قال: فأكل، وإنما أراد ابن زياد أن يتحرم
بطعامه. ثم قال: أدخل فدخل، ومنارات الناس يومئذ من القصب، وكان منزل مسعود يومئذ
قاصيا. قال: فكأن عبيد الله خاف. فقال: يا غلام، اصعد إلى السطح بحزمة من قصب،
فاشعل أعلاه نارا، ففعل ذلك في جوف الليل، فأقبلت الأزد على الخيل وعلى أرجلها حتى
شحنوا السكك وملؤوها. فقالوا: ما لسيدنا؟ قال: شيء حدث في الدار. قال: فعرف عبيد
الله عزته ورفعته، وما هو عليه. قال: هذا والله العز والشرف، فأقام عنده أياما،
وعنده امرأتان امرأة من الأزد، وامرأة من عبد قيس، فكانت العبدية تقول: أخرجوا
العبد وكانت الأزدية تقول: استجار بك على بغضه إياك، وجفوته لك، وتحدث الناس أنه
لجأ إلى مسعود بن عمرو، فاجتمعت القبائل في المسجد والخوارج، وهم في أربعة آلاف،
فقال مسعود: ما أظنني إلا خارجا إلى البصرة معتذرا إليهم من أمر عبيد الله. ثم قال:
وكيف آمن عليه وهو في منزلي، ولكني أبلغه مأمنه، ثم أعتذر إليهم. قال: وكان مسعود
قد أجار عنده ابن زياد أربعين ليلة. قال: فأقبل مسعود يوما على برذون له، وحوله عدة
من الأزد عليهم السيوف، وقد عصب رأسه بسير أحمر، قال الهيثم: فقلت لابن عباس: لم
عصب رأسه بسير أحمر؟ قال: قد سألت عن ذلك قبلك. فقال شيخ من الأزد، كان ضخم الهامة،
وكانت له ضفيرتان، فعصب لذلك بالسير. قال ابن عباس: فذكرت ذلك لعمرو بن هرم، وكان
معنا بواسط. فقال: حدثك من لا يعرف هذا شيء كانت العرب تصنعه إذا أراد الرجل
الاعتذار من الذنب، عصب السير ليعلموا أنه معتذر. قال: فأقبل مسعود حتى انتهى إلى
باب المسجد، ومعه أصحابه رجالة، بين يديه وخلفه وكان كبيرا فلم يستطع النزول
والقبائل في المسجد بأجمعها، فدخل المسجد بدابته، فبصرت به الخوارج، فظنوا أنه عبيد
الله، فأقبلوا نحوه متقلدين السيوف، وجال الناس جولة، فضربوه بأسيافهم حتى مات.
قتله نفر من بني حنيفة من الخوارج، وجال الناس ونهضوا من مجالسهم، وبلغ ذلك الأزد،
فأقبلوا على كل صعب وذلول، وأقبل عباد بن الحصين لينظر إلى عبيد الله فإذا هو
بمسعود. فقال: مسعود ورب الكعبة، إنا لله
ص 29
وإنا إليه راجعون، أبا قيس قد وفيت، ما كان أغنى أهل مصرك بما صنعت من ذلك، فجعتهم
بنفسك. ثم ألقي عليه كساءه، ثم أقبلت الأزد، فكان بينهما وبين مضر ما وقع ذكره في
غير هذا الكتاب حتى اصطلحوا، وتراضوا على بيعة ابن الزبير. قال الهيثم: قال ابن
عباس: حدثني عوكل اليشكري (1) قال: إنا مع عبيد الله بن زياد في ليلة مظلمة، فإذا
نحن بنار من بعد. فقال عبيد الله: يا عوكل كيف الطريق؟ قال: اجعل النار على حاجبك،
فقال: بل على حاجبك. قال عوكل: فوالله إنا لنسير بالسمارة (2)، إذ قال عبيد الله:
قد كرهت البعير، فابغوا لي ذا حافر. قال (3): فإذا نحن بأعرابي من كلب معه حمار
أقمر ضخم. فقلت: تبيعه بكم؟ فقال: بأربع مئة درهم، لا أنقصكم درهما، فأشار إلينا
عبيد الله أن خذوه. قال: فجعلنا ننقده الدراهم. قال: لست أدري ما هذه؟ ولكن بيني
وبينكم هذا المولى، يعني عبيد الله بن زياد، وكان عبيد الله أحمر أقمر، شبيها
بالموالي. قال: فأخذناه منه فقال عبد الله: ارحلوا لي عليه، فرحلنا له عليه، فلما
قدم ليركب، قال الأعرابي: أنا أقسم بالله إن لكم لشأنا، وما أظن صاحبكم إلا والي
العراق، فاستقفاه عبيد الله بالعصا، فضربه بها، فوقع، ثم شدوه وثاقا. قال: وجعلوا
يتجنبون المياه. قال عوكل: ثم إن عبيد الله بينا هو على راحلته، إذ هجعت عينه. فقلت
له: أراك نائما. فقال: ما كنت بنائم. فقلت له: ما أعلمني بما كنت تحدث به نفسك قال:
وبأي شيء كنت أحدث نفسي؟ قال: قلت: ليتني لم أبن البيضاء (4)، ولم أستعمل الدهاقين
(5)، وليتني لم أتخذ المحاربة، قال: ما خطر لي هذا على بال: أما قولك: ليتني لم أبن
البيضاء، فما كان علي منها إثم، بناها اليزيد من ماله (6)، وأما استعمال الدهاقين،
فقد استعملهم أبي
(هامش)
(1) في الطبري: يساف بن شريح اليشكري، وفي ابن الأثير: مسافر بن شريح اليشكري. (2)
السمارة: كذا بالأصل تحريف. والصواب: السماوة بادية بين الكوفة والشام (معجم
البلدان). (3) في الطبري وابن الأثير: فجعلوا له قطيفة على حمار، فركبه. زيد في
الطبري: وإن رجليه لتكادان تخدان في الأرض. (4) البيضاء (القصر الأبيض) دار كانت
لعبيد الله بن زياد بالبصرة. (5) الدهاقين جمع دهقان وهو رئيس التجار. (6) في
الطبري وابن الأثير: اشتريتها من عبد الله بن عثمان الثقفي وأرسل إلي يزيد بألف ألف
فأنفقتها عليها. فإن بقيت فلأهلي، وإن هلكت لم آس عليها مما لم أعنف فيه. (*)
ص 30
ومن كان قبله (1)، وأما المحاربة: فوالله ما اتخذتهم إلا وقاية، لأني كنت أقتل بهم
أهل المعصية، فلو أمرت عشائرهم بهم لم يقتلوهم ولشق ذلك عليهم، فجعلت ذلك بيني
وبينهم، من لا آل بينه وبينهم، ولكني كنت أحدث نفسي أني ندمت على تركي أربعة آلاف
في السجن من الخوارج، فوددت أني كنت أضرمت البيضاء عليهم، حتى أتي على آخرهم ووددت
أني جمعت آل بيتي وموالي، ونابذت أهل المصر على سواء، حتى يموت الأعجل (2)، ووددت
أني قدمت الشام ولم يبايع أهلها بعد (3).
قتل المختار عمرو (4) بن سعد
قال: وذكروا
أن المختار بن أبي عبيد كتب إلى عبد الله بن الزبير من الكوفة (5)، وقال لرسوله:
إذا جئت مكة فدفعت كتابي إلى عبد الله بن الزبير، فأت المهدي محمد بن علي، وهو ابن
الحنفية، فاقرأ عليه مني السلام، وقل له: يقول لك أخوك أبو إسحاق: إني أحبك، وأحب
أهل بيتك، قال: فأتاه الرسول فقال له ذلك. قال: كذبت، وكذب أبو إسحاق معك، كيف
يحبني ويحب أهل بيتي، وهو يجلس عمرو (4) بن سعد بن أبي وقاص على وسائده (6)، وقد
قتل الحسين بن علي أخي. قال: فلما قدم عليه رسوله أخبره بما قال محمد بن
(هامش)
(1) في الطبري وابن الأثير: وأما استعمال الدهاقين: فإن عبد الرحمن بن أبي بكرة
وزاذان فروخ وقعا في عند معاوية فبلغا بخراج العراق مائة ألف ألف فخيرني معاوية بين
الضمان والعزل، فكرهت العزل، فكنت إذا استعملت الرجل من العرب فكسر الخراج، فتقدمت
إليه أو أغرمت صدور قومه، أو أغرمت عشيرته أضررت بهم، وإن تركته تركت مال الله وأنا
أعرف مكانه فوجدت الدهاقين أبصر بالجباية وأوفى بالأمانة وأهون في المطالبة. (2)
زيد في الطبري: ولقد حرصت على ذلك ولكن بني زياد أتوني فقالوا: إنك إذا قاتلتهم
فظهروا عليك لم يبقوا منا أحد. (3) الخبر في الطبري 5 / 522 - 523 ابن الأثير 2 /
612 الأخبار الطوال ص 284 ابن الأعثم 5 / 308 وزيد في المصادر: (رواية الطبري):
فقدم الشام ولم يبرموا أمرا، وقال بعضهم: قدم الشام وقد أبرموا، فنقض ما أبرموا إلى
رأيه. (4) كذا بالأصل عمرو خطأ، والصواب عمر . (5) كان المختار قد أقام مع
ابن الزبير حتى هلك يزيد بن معاوية، وانقضى الحصار، وكانت إقامته معه خمسة أشهر
وأياما بعد مهلك يزيد. ولما رآه لا يستعمله وثب قاصدا الكوفة، وبعدما قدمها أخرج
منها عامل ابن الزبير عبد الله بن مطيع. (6) وكان المختار قد كتب لعمر بن سعد كتابا
أمنه فيه. أنظر نسخة الكتاب في الطبري 6 / 60 والفتوح لابن الأعثم 6 / 122. (*)
|