الصفحة السابقة الصفحة التالية

الإمامة والسياسة (ج2)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 31

علي. فقال المختار لأبي عمرو صاحب حرسه: استأجر لي نوائح يبكين الحسين على باب عمرو (1) بن سعد بن أبي وقاص. قال: ففعل: فلما جئن يبكين الحسين، قال عمرو (1) لابنه حفص: يا بني ائت الأمير، فقل له: ما شأن النوائح يبكين الحسين على بابي؟ قال: فأتاه فقال له ذلك، فقال له: إنه أهل أن يبكى عليه، فقال: أصلحك الله، انههن عن ذلك. قال: نعم. ثم دعا أبا عمرو (2)، فقال: اذهب إلى عمرو (1) بن سعد فأتني برأسه، قال فأتاه، فقال: قم إلي أبا حفص، فقام إليه وهو ملتحف، فجلله بالسيف، ثم جاء برأسه إلى المختار، وحفص جالس عنده على الكرسي، فقال: هل تعرف هذا الرأس؟ قال: نعم، رحمة الله عليه، قال: أتحب أن ألحقك به؟ قال: وما خير الحياة بعده (3). قال: فضرب رأسه فقتله. قال: ثم أرسل عبد الله بن الزبير يزيد بن زياد على العراق، فكان بالكوفة حتى مات يزيد، وأحرقت الكعبة، ورجع الحسين هاربا إلى الشام. قال: ثم أرسل عبد الله بن مطيع إلى الكوفة، ثم بعث المختار بن أبي عبيد على الكوفة، وعزل عبد الله بن مطيع، وسيره إلى المدينة، وسار عبيد الله بن زياد بعد ذلك إلى المختار، وجهه عبد الملك بن مروان أميرا على العراق، وندب معه جيشا عظيم من أهل الشام، فأقبل إلى الكوفة يريد المختار، فالتقوا بجازر (4)، فاقتتلوا، فقتل المختار عبيد الله بن زياد ومن معه، وكان معه الحصين بن نمير، وذو الكلاع (5)، وغلبة من كان معه ممن شهد وقعة الحرة من رؤسهم.

 قتل مصعب بن الزبير المختار بن أبي عبيد الله

 قال: وذكروا أن أبا معشر، قال: لما قتل عبيد الله بن زياد ومن معه،

(هامش)

(1) الصواب (عمر) وقد تقدم. (2) في الطبري: أبا عمرة، وكان صاحب شرطته. واسمه كيسان (الأخبار الطوال). (3) في الطبري: ولا خير في العيش بعده. (4) في الطبري وابن الأثير: الخازر. وجازر: قرية من نواحي النهروان. من أعمال بغداد قرب المدائن. والخازر: نهر بين اربل والموصل. قال ياقوت في معجم البلدان: وهو موضع كانت عنده موقعة بين عبيد الله بن زياد وإبراهيم بن مالك الأشتر النخعي في أيام المختار، ويومئذ قتل ابن زياد الفاسق وذلك في سنة 66 للهجرة. (5) هو شرحبيل بن ذي الكلاع. (*)

ص 32

ارتضى أهل البصرة عبد الله بن الحارث بن نوفل، فأمروه على أنفسهم، ثم أتى عبد الله بن الزبير، وأم عبد الله بن الحارث هند بنت أبي سفيان، وكانت أمه تنبزه وهو صغير بببه، فلقب بببه، ثم بعث عبد الله بن الزبير الحارث بن عبيد الله بن أبي ربيعة عاملا على البصرة، ثم بعث حمزة بن الزبير بعده، ثم بعث مصعب بن الزبير أخاه، وضم إليه العراقين جميعا الكوفة والبصرة، فلما ضم إليه الكوفة، وعزل المختار عنها خلع المختار عبد الله بن الزبير بالكوفة (1)، ودعا إلى آل الرسول، وأراد أن يعقد البيعة لمحمد بن الحنفية، ويخلع عبد الله بن الزبير. فكتب عبد الله إلى أخيه مصعب، أن سر إلى المختار بمن معك، ثم لا تبلعه ريقه، ولا تمهله حتى يموت الأعجل منكما، فأتاه مصعب بمن معه فقاتله ثلاثة أيام حتى هزمه وقتله، وبعث مصعب برأس المختار إلى أخيه. وقتل مصعب أصحاب المختار، قتل منهم ثمانية آلاف صبرا (2) ثم قدم حاجا في سنة إحدى وسبعين، فقدم على أخيه عبد الله بن الزبير، ومعه رؤساء العراق ووجوههم وأشرافهم. فقال: يا أمير المؤمنين قد جئتك برؤوساء أهل العراق وأشرافهم، كل مطاع في قومه، وهم الذين سارعوا إلى بيعتك، وقاموا بإحياء دعوتك، ونابذوا أهل معصيتك، وسعوا في قطع عدوك، فأعطهم من هذا المال، فقال له عبد الله بن الزبير: جئتني بعبيد أهل العراق وتأمرني أن أعطيهم مال الله! لا أفعل، وأيم الله لوددت أني أصرفهم كما تصرف الدنانير بالدراهم: عشرة من هؤلاء برجل من أهل الشام. قال: فقال رجل منهم (3): علقناك (4) وعلقت أهل

(هامش)

(1) لم يرد في رواية الطبري أو ابن الأثير أن ابن الزبير عزل المختار عن الكوفة مع الإشارة إلى أنه قد اشتد عليه ما آل إليه أمر المختار وضاقت عليه الأرض بما رحبت وهو يرى غلبة المختار على البلاد. ويستفاد من رواية الطبري وابن الأثير أنه هرب ألوف من الكوفيين بعد معركة جبانة السبيع إلى مصعب بن الزبير وسألوه المسير إلى المختار. وثمة رواية أخرى عندهما أن المختار إنما أظهر الخلاف لابن الزبير عند قدوم مصعب البصرة وتخوفه منه. (2) في الطبري وابن الأثير: ستة آلاف رجل. وفي الأخبار الطوال: ستة آلاف: ألفان من العرب، وأربعة آلاف من العجم، وفي مروج الذهب: سبعة آلاف. وفي العقد الفريد: ثلاثة آلاف. وكان قتل المختار لأربع عشرة خلت من رمضان سنة 67. (3) هو عبيد الله بن ظبيان. وزيد في العقد الفريد: قال: فإن مثلنا ومثلك ومثل أهل الشام كما قال أعشى بكر بن وائل: علقتها عرضا وعلقت رجلا * غيري وعلق أخرى غيرها الرجل (*)

ص 33

الشام، ثم انصرفوا عنه وقد يئسوا مما عنده، لا يرجون رفده، ولا يطمعون فيما عنده، فاجتمعوا وأجمعوا رأيهم على خلعه، فكتبوا إلى عبد الملك بن مروان أن أقبل إلينا (1). خلع ابن الزبير قال: وذكروا أن أبا معشر قال: لما أجمع القوم على خلع ابن الزبير، وكتبوا إلى عبد الملك بن مروان، أن سر إلينا، فلما أراد عبد الملك أن يسير إليهم، وخرج من دمشق (2)، فأغلق عمرو بن سعيد باب دمشق [وخالف عليه]، فقيل لعبد الملك ما تصنع؟ أتذهب إلى أهل العراق، وتدع دمشق؟ أهل الشام أشد عليك من أهل العراق. فأقام مكانه، فحاصر أهل دمشق أشهرا، حتى صالح عمرو بن سعيد، على أنه الخليفة بعده، ففتح دمشق (3)، ثم أرسل عبد الملك إلى عمرو، وكان بيت المال في يد عمرو، أن أخرج للحرس أرزاقهم. فقال عمرو: إن كان لك حرس فإن لنا حرسا، فقال عبد الملك: أخرج لحرسك أرزاقهم أيضا.

 قتل عبد الملك عمر بن سعيد

 قال: وذكروا أن أبا معشر قال: لما اصطلح عبد الملك وعمرو بن سعيد على أنه الخليفة بعده أرسل عبد الملك إلى عمرو بن سعيد نصف النهار (4) أن ائتني أبا أمية. قال: فخرج ليأتيه، فقالت له امرأته: لا تذهب إليه فإني أتخوفه عليك، وإني لأجد ريح دم مسفوح. قال: فما زالت به حتى ضربها بقائم سيفه، فشجها، فتركته، فأخرج معه أربعة آلاف (5) رجل من أهل دولته، لا يقدر على

(هامش)

= أي أحببناك نحن وأحببت أنت أهل الشام، وأحب أهل الشام عبد الملك. (4) علقناك: أي أحببناك وبايعناك، وعلقت أهل الشام: أي أحببتهم وفضلتهم علينا. (1) الخبر في روايتين في العقد الفريد 2 / 98 و4 / 406 باختلاف. (2) في العقد الفريد 4 / 408 فلما كان من دمشق على ثلاث مراحل. (3) تقدمت الإشارة إلى الاتفاق بين عبد الملك وعمرو بن سعيد. وانظر الطبري 6 / 140 وابن الأثير 3 / 32 والعقد الفريد 4 / 408. (4) في الطبري وابن الأثير: بعد دخول عبد الملك دمشق بأربعة أيام. وفي العقد الفريد: فلما كان يوم من الأيام. (5) في الطبري وابن الأثير: في مائة من مواليه. (*)

ص 34

مثلهم، متسلحين، فأحدقوا بخضراء دمشق، وفيها عبد الملك بن مروان. فقالوا لعمرو: إن دخلت على عبد الملك يا أبا أمية ورابك منه شيء فأسمعنا صوتك، فقال لهم: إن خفي عليكم صوتي ولم تسمعوه، فالزوال بيني وبينكم ميعاد، إن زالت الشمس ولم أخرج إليكم، فاعلموا أني مقتول أو مغلوب، فضعوا أسيافكم ورماحكم حيث شئتم، ولا تغمدوا سيفا حتى تأخذوا بثأري من عدوي. قال: فدخل، وجعلوا يصيحون: يا أبا أمية، أسمعنا صوتك. وكان معه غلام أسحم شجاع. فقال له: اذهب إلى الناس فقل لهم: ليس عليه بأس، ليسمع عبد الملك أن وراءه ناسا، فقال له عبد الملك: أتمكر يا أبا أمية عند الموت! خذوه، فأخذوه، فقال له: إن أمير المؤمنين قد أقسم ليجعلن في عنقك جامعة منه، ثم نتر إلى الأرض نترة، فكسرت ثنيته. قال: فجعل عبد الملك ينظر إليه. فقال عمرو: لا عليك يا أمير المؤمنين، عظم انكسر (1). فقال عبد الملك لأخيه عبد العزيز: اقتله حتى أرجع إليك. قال: فلما أراد عبد العزيز أن يضرب عنقه، قال له عمرو: تمسك بالرحم يا عبد العزيز أنت تقتلني من بينهم فتركه، فجاء عبد الملك فرآه جالسا، فقال له: لم لا تقتله؟ لعنه الله ولعن أما ولدته! قال: فإنه قال: تمسك بالرحم فتركته. قال: فأمر رجلا عنده يقال له ابن الزويرع (2)، فضرب عنقه، ثم أدرجه في بساط، ثم أدخله تحت السرير. قال: فدخل عليه قبيصة بن ذؤيب الخزاعي، وكان أحد الفقهاء، وكان رضيع عبد الملك بن مروان، وصاحب خاتمه ومشورته، فقال له عبد الملك: كيف رأيك في عمرو بن سعيد؟ فأبصر قبيصة رجل عمرو تحت السرير، فقال: اضرب عنقه يا أمير المؤمنين. فقال له عبد الملك: جزاك الله خيرا، فما علمتك إلا ناصحا أمينا موافقا، قال له: فما ترى في هؤلاء الذين أحدقوا بنا، وأحاطوا بقصرنا؟ قال قبيصة: اطرح رأسه إليهم يا أمير المؤمنين، ثم اطرح عليهم الدنانير والدراهم

(هامش)

(1) زيد في الطبري وابن الأثير: فلا تركب ما هو أعظم من ذلك. فقال له عبد الملك: والله لو أعلم أنك تبقي علي إن أنا أبقيت عليك وتصلح قريش لأطلقتك، ولكن ما اجتمع رجلان في بلدة قط على ما نحن عليه إلا أخرج أحدهما الآخر. (2) في مروج الذهب 3 / 123 أبو الزعيزعة. وفي ابن الأثير: أبو الزعيرية. وفي رواية في الطبري وابن الأثير والعقد الفريد أن عبد الملك هو الذي ضربه فقتله ثم جلس على صدره فذبحه وهو يقول: يا عمرو أن لا تدع شتمي ومنقصتي * أضربك حيث تقول الهامة اسقوني (*)

ص 35

يتشاغلون بها. قال: فأمر عبد الملك برأس عمرو أن يطرح إليهم من أعلى القصر، فطرح إليهم، وطرحت الدنانير، ونثرت الدراهم، ثم هتف عليهم الهاتف ينادي: إن أمير المؤمنين قد قتل صاحبكم، بما كان من القضاء السابق، والأمر النافذ، ولكم على أمير المؤمنين عهد الله وميثاقه، أن يحمل راجلكم، ويكسو عاريكم، ويغني فقيركم، ويبلغكم إلى أكمل ما يكون من العطاء والرزق، ويبلغكم إلى المئتين في الديوان، فاعترضوا على ديوانكم، واقبلوا أمره، واسكنوا إلى عهده، يسلم لكم دينكم ودنياكم. قال: فصاحوا نعم نعم نعم، سمعا وطاعة لأمير المؤمنين. قال: فلما تمت البيعة لعبد الملك بن مروان بالشام، أراد أن يخرج إلى مصعب، فجعل يستفز أهل الشام، فيبطئون عليه. فقال له الحجاج بن يوسف، وكان يومئذ في حرس أبان بن مروان: يا أمير المؤمنين، سلطني عليهم، فأعطاه ذلك فقال له عبد الملك: اذهب قد سلطتك عليهم. قال: فكان لا يمر على بيت رجل من أهل الشام تخلف إلا أحرق عليه بيته، فلما رأى ذلك أهل الشام خرجوا، قال: فأصابهم من ذلك غلاء في الأسعار، وشدة من الحال، وصعوبة من الزمان، قال: وكانوا يصنعون لعبد الملك بن مروان الأرز. فسار بأهل الشام إلى العراق ومعه الحجاج بن يوسف.

 مسير عبد الملك إلى العراق

 قال: وذكروا أن عبد الملك لما سار بأهل الشام ومعه الحجاج بن يوسف إلى العراق: خرج مصعب بن الزبير بأهل البصرة والكوفة، فالتقيا بين الشام والعراق، وكان عبد الملك ومصعب قبل ذلك متصافيين، وصديقين متحابين، لا يعلم بين اثنين من الناس ما بينهما من الإخاء والصداقة، فبعث إليه عبد الملك أن ادن مني أكلمك. قال: فدنا كل واحد من صاحبه، وتنحى الناس عنهما، فسلم عبد الملك عليه، وقال له: يا مصعب، قد علمت ما أجرى الله بيني وبينك منذ ثلاثين سنة، وما اعتقدته من إخائي وصحبتي، والله أنا خير لك من عبد الله، وأنفع منه لدينك ودنياك، فثق بذلك مني، وانصرف إلى وجوه هؤلاء القوم، وخذ لي بيعة هذين المصرين، والأمر أمرك، لا تعصى ولا تخالف، وإن شئت اتخذتك صاحبا لا تخفى، ووزيرا لا تعصى. فقال له مصعب: أما ما ذكرت في

ص 36

من ثقتي بك، ومودتي وإخائي، فذلك كما ذكرته ولكنه بعد قتلك عمرو بن سعيد لا يطمأن إليك، وهو أقرب رحما مني إليك، وأولى بما عندك، فقتلته غدرا، ووالله لو قتلته في ضرب ومحاربة لمسك عاره، ولما سلمت من إثمه. وأما ما ذكرت من أنك خير لي من أخي، فدع عنك أبا بكر، وإياك وإياه، لا تتعرض له واتركه ما تركك، واربح عاجل عافيته وارج الله في السلامة من عاقبته فقال له عبد الملك: لا تخوفني به، فوالله إني لأعلم منه مثل ما تعلم، إن فيه لثلاث خصال لا يسود بها أبدا: عجب قد ملأه، واستغناء برأيه، وبخل التزمه، فلا يسود بها أبدا.

 قتل مصعب بن الزبير

 قال: وذكروا أن عبد الملك لما أيس من مصعب، كتب إلى أناس من رؤساء أهل العراق يدعوهم إلى نفسه، ويجعل لهم أموالا عامة، وشروطا وعهودا، ومواثيق وعقودا، وكتب إلى إبراهيم بن الأشتر يجعل له وحده مثل جميع ما جعل لأصحابه، على أن يخلعوا عبد الله بن الزبير إذا التقوا. فقال إبراهيم بن الأشتر لمصعب: إن عبد الملك قد كتب إلي هذا الكتاب (1)، وكتب لأصحابي كلهم فلان وفلان بذلك، فادع بهم في هذه الساعة، فاضرب أعناقهم واضرب عنقي معهم. فقال مصعب ما كنت لأفعل ذلك حتى يستبين لي ذلك من أمرهم. قال إبراهيم: فأخرى، قال: وما هي؟ قال: أحبسهم في السجن حتى يتبين ذلك، فأبى، فقال له إبراهيم بن الأشتر: عليك السلام ورحمة الله وبركاته، ولا تراني والله بعد في مجلسك هذا أبدا. وقد كان قال له قبل ذلك: دعني أدعو أهل الكوفة بدعوة لا يخلعونها أبدا، وهي ما شرطه الله. فقال له مصعب: لا والله لا أفعل، لا أكون قتلتهم بالأمس، وأستنصر بهم اليوم (2)، قال: فما هو إلا أن التقوا فحولوا رؤوسهم ومالوا إلى عبد الملك بن مروان. قال: فبقي مصعب في شرذمة (3) قليلة. قال: فجاءه عبيد الله [بن زياد] بن ظبيان، فقال: أين الناس أيها

(هامش)

(1) نسخة الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين إلى إبراهيم بن الأشتر، أما بعد، فإني أعلم أن تركك الدخول في طاعتي ليس إلا عن معتبة، فلك الفرات وما سقى، فأنجز إلي فيمن أطاعك من قومك، والسلام. (الأخبار الطوال ص 312). (2) إشارة إلى حروبه مع المختار بن أبي عبيد بالكوفة وتتبع مصعب أصحابه بالقتل حتى قتل ما يزيد على الستة آلاف. (3) في مروج الذهب: في سبعة نفر. بعدما تخلى عنه مضر وربيعة وقتل إبراهيم بن الأشتر. (*)

ص 37

الأمير؟ فقال: غدرتم يا أهل العراق. قال: فرفع عبيد الله سيفه ليضربه (1)، فبدره مصعب بالسيف على البيضة، فنشب فيها، فجعل يقلب السيف ولا ينتزع من البيضة. قال: فجاء غلام لعبيد الله [بن زياد] بن ظبيان، فضرب مصعبا بالسيف فقتله، ثم جاء عبيد الله برأسه إلى عبد الملك، يدعي أنه قتله، فطرح رأسه وقال: نطيع ملوك الأرض ما أقسطوا لنا (2)* وليس علينا قتلهم بمحرم قال: فوقع عبد الملك ساجدا، فتحامل عبيد الله على ركابه ليضرب عبد الملك بالسيف (3). فرفع عبد الملك رأسه وقال: والله يا عبيد الله لولا منتك لألحقتك سريعا به. قال: فبايعه الناس، ودخل الكوفة فبايعه أهلها.

 ذكر حرب ابن الزبير وقتله

 قال: وذكروا أنه لما تمت البيعة لعبد الملك بن مروان من أهل العراق، وأتاه الحجاج بن يوسف فقال: يا أمير المؤمنين، إني رأيت في المنام كأني أسلخ عبد الله بن الزبير، فقال له عبد الملك: أنت له فاخرج إليه (4)، فخرج إليه الحجاج في ألف وخمس مئة رجل (5) من رجال أهل الشام حتى نزل الطائف،

(هامش)

(1) وكان عبيد الله بن زياد بن ظبيان سيد ربيعة وبكر بن وائل، وكان له أخ اسمه النابئ بن زياد قتله مصعب. وكان عبيد الله مع مصعب، وكان يتحين الفرص للانحياز إلى عبد الملك، ولما رأى الفرصة المناسبة انحاز بقومه إلى عبد الملك وقاتلوا معه. (2) في مروج الذهب 3 / 129: نعاطي الملوك الحق ما قسطوا لنا. (3) وكان عبيد الله يقول بعد ذلك: ما ندمت على شيء قط ندمي على عبد الملك بن مروان إذ أتيته برأس مصعب فخر ساجدا أن لا أكون ضربت عنقه فأكون قد قتلت ملكي العرب في يوم واحد. (4) في تولية الحجاج حرب عبد الله بن الزبير قرار اتخذه عبد الملك لم يكن كما ذكر بسبب منام رآه الحجاج فإننا نرى أن الأمر يتجاوز ذلك وأن هناك أسبابا جوهرية حتمت على عبد الملك اتخاذ هذا القرار منها: - أن عبد الملك انتدب الناس لقتال ابن الزبير - بعد مقتل مصعب - فأقصر الناس عن ذلك ولم يجبه أحد. ولعل فيما أورده الدينوري ما يجيب على ذلك: فإنه انتدب قدامة بن مظعون ثم عزله فورا، وانتدب الحجاج وهذا يدل على عدم ثقته بالعساكر المنتدبة وبابن مظعون نفسه. - المهارة التي أظهرها الحجاج في قيادة مؤخرة الجيش في معارك العراق. - تلهف الحجاج لقتال ابن الزبير ربما للثأر لمقتل والده، وقد قيل إنه قتل في الربذة في معركة بين جنود ابن الزبير والحملة التي أرسلها عبد الملك سنة 65. حتى أنه أقسم ألا يقرب الطيب ولا النساء إلا إذا قتل ابن الزبير. (5) في اليعقوبي: 20 ألفا، وقيل في ستة آلاف، وفي ابن الأثير: ألفين، وقيل ثلاثة آلاف. (*)

ص 38

وجعل عبد الملك يرسل إليه الجيوش رسلا (1)، حتى توافي الناس عنده قدر ما يظن أنه يقدر على قتال عبد الله بن الزبير، وكان ذلك في ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين فسار الحجاج من الطائف، حتى نزل منى، فحج بالناس وعبد الله بن الزبير محصور بمكة، ثم نصب الحجاج المنجنيق على أبي قبيس (2)، ونواحي مكة كلها، فرمى أهل مكة بالحجارة، فلما كانت الليلة التي قتل في صبيحتها، جمع عبد الله بن الزبير القرشيين، فقال لهم: ما ترون؟ فقال رجل منهم من بني مخزوم: والله لقد قاتلنا معك حتى ما نجد مقاتلا، لئن صبرنا معك ما نزيد على أن نموت معك، وإنما هي إحدى خصلتين: إما أن تأذن لنا فنأخذ الأمان لأنفسنا ولك، وإما أن تأذن لنا فنخرج. فقال عبد الله قد كنت عاهدت الله أن لا يبايعني أحد، فأقيله بيعته إلا ابن صفوان. قال ابن صفوان: والله إنا لنقاتل معك، وما وفيت لنا بما قلت، ولكن خذني لحفيظة أن لا أدعك عند مثل هذه حتى يموت معك. فقال رجل آخر: اكتب إلى عبد الملك. فقال له عبد الله: وكيف؟ أأكتب إليه: من عبد الله أبي بكر أمير المؤمنين، فوالله لا يقبل هذا مني أبدا، أم أكتب إليه: لعبد الملك أمير المؤمنين من عبد الله بن الزبير، فوالله لأن تقع الخضراء على الغبراء أحب إلي من ذلك. قال عروة أخوه وهو جالس معه على السرير: يا أمير المؤمنين، قد جعل الله لك أسوة. فقال عبد الله: من هو أسوتي؟ قال: الحسن بن علي بن أبي طالب، خلع نفسه وبايع معاوية. فرفع عبد الله رجله وضرب عروة حتى ألقاه ثم قال: يا عروة، قلبي إذن مثل قلبك، والله لو قبلت ما تقولون ما عشت إلا قليلا، وقد أخذت الدنية، وما ضربة بسيف إلا مثل ضربة بسوط (3)، لا أقبل شيئا مما تقولون. قال: فلما أصبح دخل على بعض نسائه فقال: اصنعي لي طعاما، فصنعت له كبدا وسناما. قال: فأخذ منها لقمة فلاكها ساعة، فلم يسغها فرماها، وقال: اسقوني لبنا، فأتي بلبن فشرب، ثم قال هيئوا لي غسلا، قال: فاغتسل، ثم تحنط وتطيب، ثم تقلد سيفه وخرج وهو يقول: ولا ألين لغير الحق أسأله * حتى يلين لضرب الماضغ الحجر

(هامش)

(1) أي قطعة بعد قطعة، أو جماعة بعد جماعة. يريد أنه تتالى إرسال الجيوش إليه، ربما حتى بلغت 20 ألفا كما ورد عند اليعقوبي. (2) أبو قبيس: جبل بمكة، سمي باسم رجل من مذحج حداد، لأنه أول من بنى فيه. (3) في العقد الفريد: وإن ضربة بسيف في عز خير من لطمة في ذل. (*)

ص 39

ثم دخل على أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق، وهي عمياء من الكبر، قد بلغت من السن مئة سنة. فقال لها: يا أماه، ما ترين؟ قد خذلني الناس وخذلني أهل بيتي (1). فقالت: يا بني لا يلعبن بك صبيان بني أمية، عش كريما، ومت كريما. فخرج وأسند ظهره إلى الكعبة، ومعه نفر يسير فجعل يقاتل بهم أهل الشام، فيهزمهم، وهو يقول: ويل أمه فتحا لو كان له رجال! قال: فجعل الحجاج يناديه: قد كان لك رجال، ولكنك ضيعتهم. قال: فجاءه حجر من حجارة المنجنيق وهو يمشي، فأصاب قفاه، فسقط، فما درى أهل الشام أنه هو حتى سمعوا جارية تبكي وتقول: وا أمير المؤمنين، فاحتزوا رأسه، فجاؤوا به إلى الحجاج، وقتل معه عبد الله بن صفوان بن أمية، وعمارة بن عمرو بن حزم (2)، ثم بعث برؤوسهم إلى عبد الملك، وقتل لسبع عشرة ليلة مضين من جمادى الأولى (3)، سنة ثلاث وسبعين (4). قال أبو معشر: ثم أقام الحجاج بالمدينة عاملا عليها وعلى مكة والطائف ثلاث سنين، يسير بسيرته فيما يقولون، قال: فلما مات بشر بن مروان، وكان على الكوفة والبصرة، كتب إليه عبد الملك: أن سر إلى العراقيين، واحتل لقتلهم، فإنه قد بلغني عنهم ما أكره. واستعمل عبد الملك على المدينة يحيى بن حكيم بن أبي العاص.

 ولاية الحجاج على العراقيين

 قال: وذكروا أن عبد الملك لما كتب إلى الحجاج يأمره بالمسير إلى العراقيين ويحتال لقتلهم، توجه ومعه ألفا رجل من مقاتلة أهل الشام وحماتهم، وأربعة آلاف من أخلاط الناس وتقدم بألفي رجل، وتحرى دخول البصرة يوم الجمعة في حين أوان الصلاة، فلما دنا من البصرة، أمرهم أن يتفرقوا على أبواب المسجد،

(هامش)

(1) وكان ابناه حمزة وخبيب فارقاه وأخذا لأنفسهما أمانا. (2) زيد في العقد الفريد: وعبد الله بن مطيع. (3) في ابن الأثير 3 / 73 يوم الثلاثاء من جمادى الآخرة وفي مروج الذهب: يوم الثلاثاء ل‍ 14 ليلة خلت من ربيع الأول. وفي الأخبار الطوال ص 315 وتاريخ خليفة ص 269 وتاريخ الإسلام للذهبي 3 / 175 لثلاث عشرة خلت من جمادى الأولى. (4) في تاريخ الإسلام للذهبي: وله نيف وسبعون سنة، وعند خليفة: ولد عام الهجرة. وفي تاريخ اليعقوبي ومروج الذهب: له إحدى وسبعون سنة. (*)

ص 40

على كل باب مئة رجل بأسيافهم تحت أرديتهم، وعهد إليهم أن إذا سمعتم الجلبة في داخل المسجد، والواقعة فيهم، فلا يخرجن خارج من باب المسجد حتى يسبقه رأسه إلى الأرض، وكان المسجد له ثمانية عشر بابا، يدخل منها إليه. فافترق القوم عن الحجاج فبدروا إلى الأبواب، فجلسوا عندها مرتدين ينتظرون الصلاة، ودخل الحجاج وبين يديه مئة رجل، وخلفه مئة كل رجل منهم مرتد بردائه، وسيفه قد أفضى به إلى داخل إزاره. فقال لهم: إني إذا دخلت فسأكلم القوم في خطبتي، وسيحصبونني، فإذا رأيتموني قد وضعت عمامتي على ركبتي، فضعوا أسيافكم، واستعينوا بالله، واصبروا إن الله مع الصابرين، فلما دخل المسجد، وقد حانت الصلاة، صعد المنبر فحمد الله ثم قال: أيها الناس إن أمير المؤمنين عبد الملك أمير استخلفه الله عز وجل في بلاده، وارتضاه إماما على عباده، وقد ولاني مصركم، وقسمة فيئكم، وأمرني بإنصاف مظلومكم، وإمضاء الحكم على ظالمكم، وصرف الثواب إلى المحسن البرئ، والعقاب إلى العاصي المسئ، وأنا متبع فيكم أمره، ومنفذ عليكم عهده، وأرجو بذلك من الله عز وجل المجازاة، ومن خليفته المكافأة وأخبركم أنه قلدني بسيفين حين توليته إياي عليكم: سيف رحمة، وسيف عذاب ونقمة، فأما سيف الرحمة فسقط مني في الطريق، وأما سيف النقمة فهو هذا. فحصبه الناس. فلما أكثروا عليه خلع عمامته، فوضعها على ركبته، فجعلت السيوف تبري الرقاب، فلما سمع الخارجون الكائنون على الأبواب وقيعة الداخلين، ورأوا تسارع الناس إلى الخروج، تلقوهم بالسيوف، فردعوا الناس إلى جوف المسجد، ولم يتركوا خارجا يخرج، فقتل منهم بضعة وسبعين ألفا، حتى سالت الدماء إلى باب المسجد، وإلى السكك (1). قال أبو معشر: لما قدم الحجاج البصرة، صعد المنبر، وهو معتجر بعمامته متقلد سيفه وقوسه. قال: فنعس على المنبر، وكان قد أحيا الليل، ثم تكلم بكلام فحصبوه، فرفع رأسه ثم قال: إني أرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها (2). فهابوه وكفوا، ثم كلمهم فحصبوه وأكثروا، فأمر بهم جندا من أهل

(هامش)

(1) كذا بالأصل، ولم أقف على خطبته هذه فيما لدي من مراجع. والواضح أن في الخبر مبالغة ظاهرة إذ أن حدثا بهذا القدر - يقتل بضعة وسبعين ألفا - لا يمكن إغفاله. (2) من خطبة طويلة. أنظر ابن الأثير 3 / 85 الكامل للمبرد 1 / 224 البيان والتبيين 2 / 224 العقد = (*)

ص 41

الشام، وكانوا قد أحاطوا به من حوله ومن حول أبواب المسجد. قال: فلما فرغ منهم وأحكم شأنه فيهم، بعث عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث إلى سجستان، عاملا ومعه جيش. فكتب إليه الحجاج أن يقاتل حصن كذا وكذا، فكتب إلى الحجاج: إني لا أرى ذلك صوابا، إن الشاهد يرى ما لا يرى الغائب. فكتب إليه الحجاج: أنا الشاهد، وأنت الغائب، فانظر ما كتبت به إليك، فامض له، والسلام.

 خروج ابن الأشعث على الحجاج

 قال: وذكروا أن عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث لما خرج على الحجاج جمع أصحابه، وفيهم عبد الرحمن بن ربيعة بن الحارث بن نوفل، وبنو عون بن عبد الله، وعمر بن موسى بن معمر بن عثمان بن عمرة، وفيهم محمد بن سعد بن أبي وقاص. فقال لهم: ما ترون؟ فقالوا: نحن معك، فاخلع عدو الله وعدو رسوله، فإن خلعه من أفضل أعمال البر، فخلعه وأظهر خلعه (1). فلما أظهر ذلك قدم عليهم سعيد بن جبير، فقالوا له: إنا قد حبسنا أنفسنا عليك، فما الرأي؟ قال: الرأي أن تكفوا عما تريدون، فإن الخلع فيه الفتنة، والفتنة فيها سفك الدماء، واستباحة الحرم، وذهاب الدين والدنيا. فقالوا: إنه الحجاج وقد فعل ما فعل، فذكروا أشياء، ولم يزالوا به حتى سار معهم وهو كاره. قال: وانتهى الخبر إلى الحجاج، فقيل له: إن عبد الرحمن قد خلعك ومن معه فقال: إن معه سعيد بن جبير، وأنا أعلم أن سعيدا لا يخرج، وإن أرادوا ذلك فسيكفهم عنه. فقيل له: إنه رام ذلك، ثم لم يزالوا به حتى فتنوه، وسار معهم. فبعث الحجاج الغضبان الشيباني (2) ليأتيه بخبر عبد الرحمن بن الأشعث من كرمان، وتقدم إليه أن لا يكتمه من أمره شيئا، فتوجه الغضبان إلى عبد الرحمن. فقال له عبد الرحمن:

(هامش)

= الفريد 4 / 120 مروج الذهب 3 / 155، فتوح ابن الأعثم 7 / 5 - 9 البداية والنهاية 9 / 11 الطبري 7 / 210. (1) أهم الأسباب التي دفعت بالأشعث وأصحابه للثورة على الحجاج هي: - قوانين الحجاج الصارمة وممارساته القمعية ضدهم. - الحقد على الحجاج لظلمه أهل العراق بني جلدته وإهانتهم، وسوء معاملته قواده وجنده حتى أنهم سموه فرعون. - عصبية الحجاج المتطرفة ضد الموالي وشدة تمسكه بانتمائه القيسي. (2) في المروج الذهب 3 / 179 الغضبان بن القبعثري. (*)

ص 42

ما وراءك يا غضبان؟ قال: شر طويل، تغد بالحجاج قبل أن يتعشى بك. ثم انصرف من عنده (1)، فنزل رملة كرمان، وهي أرض شديدة الحر، فضرب بها قبة وجلس فيها، فبينا هو كذلك إذ ورد أعرابي من بكر بن وائل على قعود، فوقف عليه وقال: السلام عليك. فقال له الغضبان: السلام كثير، وهي كلمة مقولة. قال الأعرابي: من أين أقبلت؟ قال: من الأرض الذلول. قال: وأين تريد؟ قال: أمشي في مناكبها، وآكل من رزق الله الذي أخرج لعباده منها. قال الأعرابي: فمن غلب اليوم؟ قال الغضبان: المتقون. قال: فمن سبق؟ قال: حزب الله الفائزون. قال الأعرابي: ومن حزب الله؟ قال: هم الغالبون. فعجب الأعرابي من منطقه، وحضور جوابه. ثم قال: أتقرض؟ قال الغضبان: إنما تقرض الفأرة. قال: أفتنشد؟ قال: إنما تنشد الضالة. قال: أفتسجع؟ قال: إنما تسجع الحمامة. قال: أفتنطق؟ قال: إنما ينطق كتاب الله. قال: أفتقول؟ قال: إنما يقول الأمير. قال الأعرابي: تالله ما رأيت مثلك قط. قال الغضبان: بل رأيت ولكنك نسيت، قال الأعرابي: فكيف أقول؟ قال: أخذتك الغول، في العاقول (2)، وأنت قائم تبول. قال الأعرابي: أتأذن لي أن أدخل (3) عليك؟ قال الغضبان: وراؤك أوسع لك، قال الأعرابي: قد أحرقتني الشمس. قال الغضبان: الآن يفئ عليك الفئ إذا غربت. قال الأعرابي: إن الرمضاء قد أحرقت قدمي. قال الغضبان: بل عليها تبرد. قال الأعرابي: إن الوهج شديد. قال الغضبان: ما لي عليه سلطان. قال الأعرابي: إني والله ما أريد طعامك ولا شرابك. قال الغضبان: لا تعرض بهما، فوالله لا تذوقهما. قال الأعرابي: وما عليك لو ذقتهما؟ قال الغضبان: نأكل ونشبع. فإن فضل شيء من الأكرياء والغلمان، فالكلب أحق به منك. قال الأعرابي: سبحان الله! قال الغضبان: نعم، من قبل أن يطلع رأسك وأضراسك إلى الدنيا، قال الأعرابي: ما عندك إلا ما أرى؟ قال الغضبان: بل عندي هراوتان أضرب بهما رأسك حتى ينتثر دماغك. قال الأعرابي: إنا لله وإنا إليه راجعون. قال الغضبان: أظلمك أحد؟ قال الأعرابي: ما أرى. ثم قال الأعرابي: يا آل حارث بن كعب، فقال الغضبان: بئس الشيخ ذكرت. قال الأعرابي: ولم ذلك؟ قال الغضبان: لأن إبليس يسمى حارثا. قال

(هامش)

(1) في مروج الذهب 3 / 180 دخل مع ابن الأشعث في أمره. (2) العاقول: نبات تأكله الإبل. (3) في مروج الذهب: أدنو إليك. (*)

ص 43

الأعرابي: إني لأحسبك مجنونا. قال الغضبان: اللهم اجعلني من خيار الجن. قال الأعرابي: إني لأظنك حروريا. قال الغضبان: اللهم اجعلني ممن يتحرى الخير. قال الأعرابي: إني لأراك منكرا. قال الغضبان. إني لمعروف فيما أوتي. فولى عنه وهو يقول: إنك لبذخ أحمق، وما أنطق الله لسانك إلا بما أنت لاق وعما قليل تلتف ساقك بالساق. فلما قدم (1) الغضبان على الحجاج قال له: أنت شاعر؟ قال: لست بشاعر، ولكني خابر. قال: أفعراف أنت؟ قال: بل وصاف. قال: كيف وجدت أرض كرمان؟ قال الغضبان: أرض ماؤها وشل (2)، وسهلها جبل، وثمرها دقل (3)، ولصها بطل [والخيل بها ضعاف] (4)، إن كثر الجيش بها جاعوا، وإن قل بها ضاعوا. قال: صدقت، أعلمت من كان الأعرابي؟ قال: لا، قال: كان ملكا خاصمك، فلم تفقه عنه لبذخك، اذهبوا به إلى السجن فإنه صاحب المقالة: تغد بالحجاج قبل أن يتعشى بك؟ وأنت يا غضبان قد أنذرك خصمك على نطق لسانك، فما الذي به دهاك؟ قال الغضبان: جعلني الله فداك أيها الأمير، أما إنها لا تنفع (5) من قيلت له، ولا تضر من قيلت فيه. فقال الحجاج: أجل ولكن أتراك تنجو مني بهذا؟ والله لأقطعن يديك ورجليك، ولأضربن بلسانك عينيك. قال الغضبان: أصلح الله الأمير، قد آذاني الحديد وأهون ساقي القيود، فما يخاف من عدلك البرئ، ولا يقطع من رجائك المسئ. قال الحجاج: إنك لسمين. قال الغضبان: القيد والرتعة (6)، ومن يك ضيف الأمير يسمن. قال: إنا حاملوك على الأدهم (7) قال الغضبان: مثل الأمير أصلحه الله يحمل على الأدهم (8) والأشقر. قال الحجاج: إنه لحديد. قال الغضبان: لأن يكون حديدا (9) خير من أن يكون بليدا. قال الحجاج: اذهبوا به إلى السجن، قال الغضبان: (فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون)

(هامش)

(1) في مروج الذهب: أخذ الغضبان فيمن أسر، ثم أدخل على الحجاج. (2) وشل: قليل. (3) دقل: من التمر أردؤه. (4) زيادة عن مروج الذهب. (5) في مروج الذهب: ما نفعت. (6) الرتعة: الدعة والراحة. (7) يريد بالأدهم هنا الحديد، شبه بالأدهم لسواده. (8) يريد بالأدهم هنا الفرس الأدهم، والأشقر: الفرس الأبيض. (9) حديدا: سريعا. (*)

ص 44

[يس: 50] فاستمر في السجن إلى أن بنى الحجاج خضراء واسط فقال لجلسائه: كيف ترون هذه القبة؟ قالوا: ما رأينا مثلها قط. قال الحجاج: أما إن لها عيبا فما هو؟ قالوا: ما نرى بها عيبا. قال: سأبعث إلى من يخبرني به، فبعث، فأقبل بالغضبان وهو يرسف في قيوده، فلما مثل بين يديه. قال له يا غضبان كيف قبتي هذه؟ قال: أصلح الله الأمير نعمت القبة! حسنة مستوية! قال: أخبرني بعيبها؟ قال (1): بنيتها في غير بلدك، لا يسكنها ولدك، ومع ذلك فإنه لا يبقى بناؤها، ولا يدوم عمرانها، وما لا يبقى ولا يدوم، فكأنه لم يكن. قال الحجاج: صدق، ردوه إلى السجن. فقال الغضبان: أصلح الله الأمير، قد أكلني الحديد، وأوهن ساقي القيود، وما أطيق المشي. قال: احملوه. فلما حمل على الأيدي قال: (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين) [الزخرف: 13] قال: أنزلوه، فلما أنزلوه. قال: (رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين) [المؤمنون: 29] قال الحجاج: جروه. قال الغضبان وهو يجر: (بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم) [هود: 41]. قال الحجاج: اضربوا به الأرض، فقال: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى) [طه: 55] فضحك الحجاج حتى استلقى على قفاه ثم قال: ويحكم، قد غلبني والله هذا الخبيث، أطلقوه إلى صفحي عنه. قال الغضبان: (فاصفح عنهم وقل سلام) [الزخرف: 89]. فنجا من شره بإذن الله، وكانت براءته فيما انطلق على لسانه (2).

حرب الحجاج مع ابن الأشعث وقتله

 قال: وذكروا أن الحجاج لما قدم العراق أميرا، زوج ابنه محمدا ميمونة بنت محمد بن الأشعث بن قيس الكندي، رغبة في شرفها، مع ما كانت عليه من جمالها، وفضلها في جميع حالاتها، وأراد من ذلك، استمالة جميع أهلها وقومها إلى مصافاته، ليكونوا له يدا على من ناوأه، وكان لها أخ يقال له عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث الكندي، له أبهة في نفسه. وكان جميلا بهيا منطقيا، مع ما

(هامش)

(1) العبارة في مروج الذهب: بنيت في غير بلدك، لغير ولدك، لا تتمتع به ولا تنعم، فما لما لا يتمتع فيه من طيب ولا لذة. (2) الخبر باختلاف: زيادة ونقصان في العبارات في مروج الذهب (3 / 179 - 182). (*)

ص 45

كان له من التقدم والشرف، فازدهاه ذلك وملأه كبرا وفخرا وتطاولا، فألزمه بنفسه، وألحقه بأفاضل أصحابه وخاصته وأهل سره، وأجرى عليه العطايا الواسعة، صلة لصهره، وحبا لإتمام الصنيعة إليه، وإلى جميع أهله. فأقام عبد الرحمن كذلك حينا مع الحجاج، لا يزيده الحجاج إلا إكراما، ولا يظهر له إلا قبولا، وفي نفس الحجاج من عجبه ما فيها، لتشمخه زاهيا بأنفه حتى إنه كان ليقول إذا رآه مقبلا: أما والله يا عبد الرحمن، إنك لتقبل علي بوجه فاجر، وتدبر عني بقفاء غادر، وأيم الله لتبتلين حقيقة أمرك على ذلك. فمكث بهذا القول منه دهرا، حتى إذا عيل صبر الحجاج على ما يتطلع من عبد الرحمن، أراد أن يبتلي حقيقة ما يتفرس فيه من الغدر والفجور، وأن يبدي منه ما يكتم من غائلته، فكتب إليه عهده على سجستان. فلما بلغ ذلك أهل بيت عبد الرحمن، فزعوا من ذلك فزعا شديدا، فأتوا الحجاج، فقالوا له: أصلح الله الأمير، إنا أعلم به منك، فإنك به غير عالم، ولقد أدبته بكل أدب، فأبى أن ينتهي عن عجبه بنفسه، ونحن نتخوف أن يفتق فتقا، أو يحدث حدثا، يصيبنا فيه منك ما يسؤونا (1). فقال الحجاج: القول كما قلتم، والرأي كالذي رأيتم، ولقد استعملته على بصيرة، فإن يستقم فلنفسه نظر، وإن يفترج سبيله عن بصائر الحق يهد إليها إن شاء الله. فلما توجه عبد الرحمن إلى عمله، توجه وهو مصر لخلعان طاعة الحجاج، وصار بذلك مسيره أجمع حتى نزل مدينة سجستان، ثم مر على خلعانه عام كامل، فلما أجمع عبد الرحمن على إظهار خلعان الحجاج، كتب إلى أيوب بن القرية التميمي، وهو مع الحجاج في عسكره، خاص المنزلة منه (2)، وكان مفوها كليما يسأله أن يصدر إليه رسالة الحجاج، يخلع فيها طاعة

(هامش)

(1) أنظر الخبر في الطبري وابن الأثير حوادث سنة 80 والبداية والنهاية 9 / 40 وابن الأعثم في الفتوح 7 / 115 والعبارة فيه: وجاءت أخوة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث منهم قيس وإسحاق والمنذر والصباح حتى دخلوا على الحجاج فقالوا: أيها الأمير! لا توجه عبد الرحمن في هذا الجيش، فإننا نتخوف أن يخرج عليك! قال: فتبسم الحجاج ثم قال: ليس هذا أول حسد الأخوة، وإنما أنتم حسدتموه لأنه ليس من أمكم. فقالوا. أيها الأمير! أما نحن فقضينا ما علينا ونحن خارجون معه. (2) في الأخبار الطوال ص 318 أن الحجاج بعث ابن القرية إلى عبد الرحمن يدفعه إلى الطاعة وله الأمان على ما سلف من ذنبه. ولم يزل عبد الرحمن بابن القرية يختدعه حتى ترك ما أرسل فيه وأقام مع عبد الرحمن. (*)

ص 46

الحجاج، فكتب له ابن القرية رسالة فيها (1): بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، إلى الحجاج بن يوسف: سلام على أهل طاعة الله، أوليائه الذين يحكمون بعدله، ويوفون بعهده، ويجاهدون في سبيله، ويتورعون لذكره، ولا يسفكون دما حراما، ولا يعطلون للرب أحكاما، ولا يدرسون له أعلاما، ولا يتنكبون النهج، ولا يبرمون السي، ولا يسارعون في الغي، ولا يدللون الفجرة، ولا يترضون الجورة، بل يتمكنون عند الاشتباه، ويتراجعون عند الإساءة. أما بعد: فإني أحمد إليك الله حمدا بالغا في رضاه، منتهيا إلى الحق في الأمور الحقيقية لله علينا؟ وبعد: فإن الله أنهضني لمصاولتك، وبعثني لمناضلتك، حين تحيرت أمورك، وتهتكت ستورك، فأصبحت عريان حيران، مبهتا لا توافق وفقا، ولا ترافق رفقا. ولا تلازم صدقا، أؤمل من الله الذي ألهمني ذلك، أن يصيرك في حبالك، أو أن يجئ بك في القرن (2)، ويسحبك للذقن وينصف منك من لم تنصفه من نفسك، ويكون هلاكك بيدي من اتهمته وعاديته. فلعمري لقد طال ما تطاولت، وتمكنت وأخطيت، وخلت أن لن تبور، وأنت في فلك الملك تدور، وأظن مصداق ما أقول ستخبره عن قريب فسر لأمرك، ولاق عصابة خلعتك من حبالها خلعها نعالها. وتدرعت جلالها، تجرعها مطالها، لا يحذرون منك جهدا، ولا يرهبون منك وعيدا، يتأملون خزايتك، ويتجرعون إمارتك، عطاشا إلى دمك، يستطعمون الله لحمك، وأيم الله لينافقنك منهم الأبطال، الذين بيتهم فيما يحاولونك به على طاعة الله، شروا أنفسهم تقربا إلى الله، فأغض عن ذلك بابن أم الحجاج. فسنحمل عليك إن شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والسلام على أهل طاعة الله (3). فلما قدم الكتاب على الحجاج، خرج موائلا قد أخذ بطرف ردائه، وألقى الطرف الآخر يجره من خلفه حتى صعد المنبر ونودي: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس ثم قال:

(هامش)

(1) في الأخبار الطوال: فأملى عليه (أي ابن القرية) فكتب. (2) القرن: بفتح القاف والراء: الحبل. (3) نسخة الكتاب في الأخبار الطوال ص 318 - 319. باختلاف (*)

ص 47

نقاتلهم ولم نشتم عدوا * وشر عداوة المرء السباب امرؤ وعظ نفسه بنفسه، امرؤ تعاهد غفلة نفسه وتفقدها جهده، امرؤ وعظ بغيره فاتعظ، قد تبين لكم ما تأتون وما تبغون، العجب العجب، وما هو أعجب من العير الأبتر، إني وجهته ومن معه من المنافقين لسبع مئة وزن سبعة سواء، فانطلقوا في نحور العدو، ثم أقبلوا على راياتهم لقتال أهل الإسلام، من أجل عير أبتر، ومن كيده ما هو أعجب العجب، على حين أننا قد أمنا الخوارج، وأطفأنا الفتن، فكان من شكركم يا أهل العراق ليد الله فيكم، ونعمته عليكم، وإحسانه إليكم جرأتكم على الله، وانتهاككم حرمته، واغتراركم بنعمة الله، ألم يأتكم شبيب مهزوما ذليلا، فهلا توجهت إليه منكم خمسة وعشرون أمير جيش، ليس منهم من أمير جيش إلا وهو في جنده بمنزلة العروس التي يزف بها إلى خدرها، فيقتل أميرهم وهم وقوف ينظرون إليه، لا يرون له حرمة في صحبة، ولا ذماما في طاعة، فقبحت تلك الوجوه! فما هذا الذي يتخوف منكم يا أهل العراق، أما هذا الذي نتقي؟ والله لقد أكرمنا الله بهوانكم وأهانكم بكرامتنا، في مواطن شتى تعرفونها، وتعرفون أشياء حرمكم الله اتخاذها، وما الله بظلام للعبيد. ثم خذلانكم لهذه المعلوجاء (1) المقصصة انحرافا، أولى لهذه المعلوجاء وأخلاطها من أهل العراق! لقد هممت أن أترك بكل سكك منها جيفا منتفخين شائلة أرجلهم، تنهشهم الطير من كل جانب. يا أهل الشام: أحدوا قلوبكم، وأحدوا سيوفكم، ثم قال: قد جد أشياعكم فجدوا * والقوس فيها وتر عرد (2) مثل ذراع البكر أو أشد (3) هيهات: ترك الخداع من أجرى من المئة، ومن لم يذد عن حوضه يهدم، وأرى الحزام قد بلغ الطبيين (4)، والتقت حلقتا البطان، ليس سلامان كعهدين، أنا ابن العرقية. وابن الشيخ الأعز، كذبتم ورب الكعبة، ما الرأي كما رأيتم،

(هامش)

(1) المعلوجاء جمع علج. المقصصة: التي تركت حتى كادت تموت. (2) قوله والقوس فيها وتر عرد: قال المبرد: فهو الشديد، ويقال عرند في هذا المعنى. (3) الأرجاز لحنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي: الكامل للمبرد 2 / 494 والنقائض ص 642 والطبري 2 / 209. (4) مثل. تقدم شرحه. (*)

ص 48

ولا الحديث كما حدثتم، فافطنوا لعيوبكم وإياكم أن أكون أنا وأنتم كما قال القائل (1): إنك إن كلفتني ما لم أطق * ساءك ما سرك مني من خلق والمخبر بالعمل ليس كالراجم بالظنون، فالتقدم قبل التندم، وأخو المرء نصيحته ثم قال: لذي الحلم قبل اليوم ما تفرع العصا * وما علم الإنسان إلا ليعلما (2) ثم قال: احمدوا ربكم، وصلوا على نبيكم صلى الله عليه وسلم، ثم نزل وقال: اكتب يا نافع، وكان نافع مولاه وكاتبا يكتب بين يديه: بسم الله الرحمن الرحيم، من الحجاج بن يوسف إلى عبد الرحمن بن الأشعث، سلام على أهل النزوع (3) من التزييغ وأسباب الرداء، لا إلى معادن السي، والتقحم في الغي، فإني أحمد الله الذي خلاك في حيرتك، إذ بهتك في السيرة، ووهلك للضرورة حق أقحمك أمورا أخرجت بها عن طاعته، وجانبت ولايته، وعسكرت بها في الكفر، وذهلت بها عن الشكر، فلا تشكر في السراء، ولا تصبر في الضراء أقبلت مستنا بحريم الحرة، وتستوقد الفتنة لتصلى بحرها، وجلبت لغيرك ضرها، وقلت وثاق الاحتجاج، ومبارزة الحجاج، ألا بل لأمك الهبل، وعزة ربك لتكبن لنحرك. ولتقلبن لظهرك، ولتتخبطن فريصتك (4)، ولتدحضن حجتك ولتذمن مقامك، ولتشتغلن سهامك، كأني بك تصير إلى غير مقبول منك. إلا السيف هوجا هوجا، عند كشوف الحرب عن ساقها، ومبارزة أبطالها، والسلام على من أناب إلى الله وسمع وأجاب (5). ثم قال: من هاهنا من فتية بني الأشعث بن قيس؟ قيل: سعيد بن جبير.

(هامش)

(1) الرجز لعامر بن خالد بن جعفر قاله ليزيد بن الصعق. عيون الأخبار 3 / 121. (2) قيل هذا البيت لعمرو بن مالك بن ضبيعة. وله قصة رواها في عيون الأخبار 2 / 205 والأغاني (21 / 205 ليدن) ومجمع الأمثال للميداني (1 / 32 بولاق). (3) في الأخبار الطوال ص 319: أهل التورع لا التبدع. (4) الفريصة: داخل الفخذ، أي جزءه غير الظاهر، ويريد لتضطربن فريصتك وترتجفن وذلك يحدث عند الخوف والرعب. (5) الكتاب في الأخبار الطوال ص 319 وفيه اختلاف. (*)

ص 49

قال: فأتي به. قال له: انطلق بهذا الكتاب إلى هذا الطاغية، الذي قد فتن وفتن، فاردعه عن قبيح ما دخل فيه، وعظيم ما أصر عليه من حق الله، وحرمة ما انتهك عدو الله، إلى ما في ذلك من سفك الدماء، وإباحة الحريم، وإنفاق الأموال، فإني لولا معرفتي بأنك قد حويت علما، وأصبت فقها، أخاف أن يكون عليك لا لك، لعهدت لك به عهدا تقفل به، ولكن انطلق مرتك هذه قبل الكتاب إليه، واحمله على البريد. فخرج سعيد به متوجها، حتى انتهى إليه. فلما قرأ عبد الرحمن الكتاب، تبينت رعشته جزعا منه، وهيبة له، وسمع بذلك من كان يتابعه، وهوى كل ذي هوى، وضم سعيد بن جبير فلم يظهره للناس، وكتم الكتاب وجعل يستخلي بابن جبير في الليل فيسمر معه، ويسأله عبد الرحمن الدخول معه فيما رأى هو من خلع الحجاج، فأبى سعيد ذلك عليه، فمكث بذلك شهرا كريتا (1). فأسعفه سعيد بن جبير بطلبته، وسارع معه في رغبته، وخلعان طاعة الحجاج، ثم إن عبد الرحمن، تجهز من سجستان مقبلا، يقود من يقوده من أهل هواه وأهل رأيه، وخرج الحجاج إليه بمن معه من أجناده من أهل الشام، وبمن معه يومئذ من أهل الطاعة من أهل العراق، حتى لقيه بدير من أديار الأهواز، يسمى بنيسابور، فناصبه للقتال ستة أشهر كريتة (2)، لا له ولا عليه، حتى إذا كان في جوف ليلة من الليالي، خلا الحجاج بعنبسة بن سعيد بن العاص ويزيد بن أبي مسلم، وعلي بن منقذ مولاه، وبعبد الرحمن بن زياد مولاه، وكان يزيد بن أبي مسلم حاجبه على ما وراء بابه وأما يحيى فوكله بالقيام خلف ظهره، إذا هو نسي أو غفل نخسه بمنخسه، ثم قال: اذكر الله يا حجاج، فيذكر ما بدا له أن يذكر. وأما عبد الرحمن بن زياد، فكان ذا رأي ومشورة وأدب وفقه ونصيحة. أما عنبسة، فكان بعيد الهمة، طويل اللسان، بديه الجواب، فاصل الخطاب، موفق الرأي، فاستشارهم لما طال به وبعبد الرحمن القتال، لا يظفر واحد منهما بصاحبه - ومع عبد الرحمن سعيد بن جبير والشعبي (3)، فكان هذا فقيه أهل الكوفة، وهذا فقيه أهل البصرة - في أن يبيته، فكره ذلك مواليه،

(هامش)

(1) أي كاملا. (2) أي كاملة. (3) هو عامر بن شراحيل الشعبي، سمع من 48 من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. متفق على توثيقه حديثه في الكتب الستة. ترجمته في التهذيب 5 / 65. (*)

ص 50

وأشار عنبسة أن يبيته، فقال الحجاج: أصبت، أصاب الله بك الخير، وما الأمر إلا النصيحة، والرأي شعوب، فمخطئ منها أو مصيب، غدا الاثنان، فصوموا ونصوم، واستعينوا الله بالخيرة، ونبيتهم الليلة المقبلة، ليلة الثلاثاء، فسوف أترجل، ويترجل أهل مودتي ونصيحتي، من ولدي وغيرهم. ففعل: وأصبح صائما، وبيتهم ليلة الثلاثاء وهو يقول: اللهم إن كان الحق لهم فلا تمتنا على الضلالة، وإن كان الحق لنا فانصرنا عليهم، فحمل عليهم والنيران توقد، فأصاب منهم، وأصيب منه، وانهزم ابن الأشعث في سواد الليل، وأصاب الحجاج عسكره، وأسر سعيد بن جبير، وأفلت عامر بن سعيد الشعبي مع ابن الأشعث، فلما أتي الحجاج بسعيد بن جبير. قال له: ويحك يا سعيد! أما تستحيي مني؟ ومدك الشيطان في طغيانك، ألا استحيت من المراقب لي ولك والحافظ علي وعليك؟ فقال: أصلح الله الأمير، وأمتع به! هي بلية وقعت، وعذاب نزل، والقول كما قال الأمير، وكما نسبه به وأضافه إليه، إلا أني أتيت رجلا قد أزهى وطغى، ولبسته الفتنة، وركب الشيطان كتفيه، ونفث في صدره، وأملى علي لسانه فخفته واتقيته بالذي فعلت؟ فإن تعاقب فبذنب، وإن تعف فسجية منك. فقال له الحجاج: فإنا قد عفونا عنك، وسنردك إليه تارة أخرى ثم كتب كتابا، ووجهه مع سعيد بن جبير إلى عبد الرحمن، فلما كان سعيد ببعض الطريق، خرق الكتاب. وقدم عبد الرحمن فأخبره، فنفر عبد الرحمن، وخرج موائلا إلى أهل البصرة، وقد قدمت عليه كتبهم، بستبطئونه ويستعجلونه حتى قدم عليهم، وبلغ ذلك الحجاج فسبقه إلى البصرة فدخل الحجاج المسجد متنكبا قوسا، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وحرض الناس على قتال ابن الأشعث، وحضهم على طاعة عبد الملك، وتكلم رجل من أهل البصرة، يقال له سلمة المنقري من بني تميم، وكان رجلا منطقيا، وله هوى في الخوارج، وكان الحجاج به خابرا. فلما رآه عرف أنه يريد الكلام. فقال له: ادن يا سلمة، فدنا. فقال له: قل: رضينا بالله ربا، وبمحمد نبيا، وبالإسلام دينا، وبالقرآن إماما، وبأمير المؤمنين خليفة، وبالحجاج بن يوسف واليا. قال: والله لو كنا زمعا (1) وبني زمع ما رضينا أن نكون تبعا لهذا الحائك، أمير المؤمنين أعزه الله،

(هامش)

(1) زمع: رذال الناس وأتباعهم، الجمع أزماع، يقال هو من زمعهم أي من مآخيرهم (اللسان). (*)

ص 51

وأعز أمره، أقرب قرابة وأوجب حقا، ونحن ألزم لطاعة الأمير أكرمه الله، من أن نسارع له في معصية أو نبطئ عنه في طاعة، فأجابه الحجاج فقال: يا سلمة، هذا قول حسن، لا أدخله صدري، ولأردنه في نحرك، حتى نبتلي حقيقته إن شاء الله، وكان قوله هذا على المنبر، وقد عسكر بأجناده بالزاوية (1) والزاوية في طرف من ناحية البصرة في طرف بني تميم. ثم إنه خرج من المسجد، وحشد الناس من كان في الطاعة يومئذ من أهل العراق، وقد كان انهزم لابن الأشعث غير ما مرة، وقتل له ابن الأشعث خلقا لا تحصى كثرة، قبل هذه المرة، حتى يئس من نفسه وقال: أترون العجوز، ابنة الرجل الصالح كذبتني؟ يعني أسماء بنت أبي بكر الصديق، لئن صدقت أسماء لا أقتل اليوم. وكان الحجاج لما فرغ من قتال عبد الله بن الزبير، بعث إلى أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق أن تأتيه، فأبت أن تأتيه. فقال: والله لئن لم تأتني لأبعثن إليها من يجر بقرون رأسها، ويسحبها حتى تصل إلي، فقيل ذلك لها. فقالت: والله لا أسير إليه حتى يبعث إلي من يجر بقرون رأسي. فأقبل الحجاج حتى وقف عليها، فقال لها: كيف رأيت ما فعل الله تعالى بابنك، عدو الله؟ الشاق لعصا المسلمين، المفني لعباده والمشتت لكلمة أمة نبيه؟ فقالت: رأيته اختار قتالك، فاختار الله ما عنده، إذ كان إكرامه خيرا من إكرامك. ولكن يا حجاج بلغني أنك تنتقصني بنطاقي هذين، أو تدري ما نطاقاي؟ أما النطاق هذا فشددت به سفرة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غزوة بدر، وأما النطاق الآخر، فأوثقت به خطام بعيره. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إن لك به نطاقين في الجنة، فانتقص علي بعد هذا أو دع، ولكن لا إخالك يا حجاج، أبشر فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: منافق ثقيف يملأ به زاوية من زوايا جهنم، يبيد الخلق، ويقذف الكعبة بأحجارها، ألا لعنة الله عليه! فأفحم الحجاج ولم يحر جوابا. قال: وسار ابن الأشعث بعدما هزم الحجاج مرارا إلى الكوفة حتى نزل دير الجماجم (2)، فقتل للحجاج فيه خلق كثير، وكتب إلى

(هامش)

(1) الزاوية: موضع قرب البصرة كانت به الوقعة المشهورة بين الحجاج وابن الأشعث قتل فيها خلق كثير من الفريقين (معجم البلدان). (2) دير الجماجم: موضع بظاهر الكوفة على سبعة فراسخ منها على طرف البر السالك إلى البصرة (معجم البلدان). (*)

ص 52

عبد الملك بن مروان أن أمدني بالرجال، قال: فأمده بمحمد بن مروان في أناس من بني أمية كثير (1)، وجعل الحجاج أميرا عليهم، فسار الحجاج إلى ابن الأشعث، فاقتتلوا أياما بدير الجماجم، حتى كثر القتل في الفريقين جميعا، ثم إن ابن الأشعث لما حشد العسكر والحجاج بالبصرة. عسكر على مسير ثلاثة أميال من البصرة على نهر يقال له نهر ابن عمر، فكتب ابن الأشعث يسأله أن يتنحى عنهم لما كرهوا ولايته، حتى يستعمل عليهم أمير المؤمنين غيره، من هو أحب إليهم منه. فلما انتهى إليه رسوله قال الحجاج: أدخلوه، فلما دخل سلم عليه بالإمارة، قال: من أنت؟ قال: رجل من خزاعة. قال: من أهل البصرة أنت، أم من أهل الكوفة؟ قال: لا، بل من أهل سجستان. قال: هل تأخذ لأمير المؤمنين ديوانا؟ قال: لا، قال: أفمن وزراء ابن الأشعث أنت علينا في هذه الفتنة يا أخا خزاعة؟ قال: والله ما هويتها، ولقد جلبني إليك مكرها، قال: فكيف تسليمك على صاحبك إذا انصرفت إليه؟ قال: بالإمرة، قال: فهل ترى في ذلك أنك صادق؟ قال: الله أعلم بأي الأمرين هو في نفسك أعلى الصواب أم على الخطأ؟ قال: الله أعلم أي الأمرين في نفسي. قال: أما إنك يا أخا خزاعة قد رددت الأمر إليه وهو تعالى أعلم، انطلق إلى صاحبك بكتابك كما جئت به، وأعلمه بالذي كان من ردنا عليك، فإنه جوابه عندنا، ونحن مناجزوه القتال، ومحاكموه إلى الله من يوم الأربعاء إن شاء الله، فليعد وليستعد لذلك، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وذلك يوم الأحد. قال: فلما انصرف رسوله إليه ناوله الكتاب، فلما رآه بخاتمه، أي مثل ما بعثه كف، فلم يسأله أمام من حضر، حتى ارتفع الناس، ثم دعاه فأخبره الخبر. قال: وما وراء ظهرك إلا هذا؟ قال له: في دون ما جئتك به ما يكفيك، فقد رأيت أمرا صعبا ليس وراءه إلا المناجزة. ثم إن الحجاج هتف هتفة أن اجتمعوا للعطية، ففرق العطية في ثلاث مواضع، وكان قواده يومئذ ثلاثة: سفيان بن الأبرد الكلبي على ميمنته،

(هامش)

(1) قال الطبري وابن الأثير: أن عبد الملك بعث عرضا مع ابنه لأهل العراق يتضمن: - نزع الحجاج عن العراق. - أن يجري عليهم أعطياتهم كما تجرى على أهل الشام. - أن ينزل ابن الأشعث أي بلد شاء على أن يكون واليا عليه ما دام حيا لكنهم رفضوه وقالوا: والله لا نقبل. فأعادوا خلعه ثانية. (*)

ص 53

وسعيد بن عمرو الجرشي على القلب، وعبد الرحمن بن عبد الله العكي (1) على ميسرته، فأعطى الناس على هذا وأقام في معسكره متربصا ومنتظرا ليوم الأربعاء. فلما رأى ابن الأشعث أنه لا يتقدم لقتاله، وأنه متربص ليوم الأربعاء، بعث رجلا من معسكره، حتى دنا من معسكر الحجاج، فنزل قريبا منه، على مقدار حضر (2) الفرس، رجاء أن يتحرش له أحد من معسكر الحجاج، فينشب القتل قبل يوم الأربعاء، فرارا منه، وتطيرا به. فلما رأى الحجاج ذلك علم ما أراده والذي توقع، فتقدم إلى أمراء أجناده وقواده، وإلى أهل عسكره عامة، ألا يكلم أحد منهم أحدا من عسكر ابن الأشعث، ولا يعرضه على نفسه، وإن أمكنته الفرصة منه إلا يوم الأربعاء، فلما كانت صبيحة يوم الأربعاء، وهو يوم يتطير به أهل العراق، فلا يتناكحون، ولا يسافرون فيه، ولا يدخلون من سفر، ولا يبايعون فيه بشيء، ولا بالبغل الأغر الأشقر. قال: فدعا الحجاج ببغلة شقراء محجلة، فركبها خلافا لرأيهم، واستشعارا بطيرتهم، وتوكلا على الله، ونادى مناديه في عسكره: أن انهضوا إلى قتال ابن الأشعث، وأمر خاصته فركبوا معه، وقدم رجالته، وأخر خلفه مقاتلته، حتى إذا كانوا من عسكر ابن الأشعث على مثال الأسهم وقف فصف أصحابه وعبأهم للقتال، وفعل مثل ذلك ابن الأشعث، وترجل الحجاج وخاصته، ووضع له منبرا من حديد، فجلس عليه وترامى الناس، حتى إذا كاد القتال ينشب، خرج رجل من أصحاب ابن الأشعث وهو ينادي: ألا هل من مبارز؟ فقام إليه عنبسة بن سعيد القرشي وهو يمشي مشية قد لامه الحجاج عليها، وكرهها له. فلما رآه الحجاج وهو يمشي تلك المشية، قال الحجاج: ظلمتك يا عنبسة، لو كنت تاركها يوما من دهرك لتركتها يومك هذا. فلما دنا من الرجل، قال له عنبسة: فمن أنت يا منتخي؟ فقال: رجل من بني تميم، ثم من بني دارم، فحمل عليه عنبسة، فبدره بالضربة فقتله، ثم انصرف إلى مجلسه فجلس، وقد تبين للناس حسن صنعه، ثم زحف الفريقان بعضهم إلى بعض، واشتد قتالهم، وانتحى سفيان على مركزه لم يرم، والجرشي على مركزه لم يرم، وكانت ميلتهم على الميسرة، فنحوا عبد الرحمن العكي. فلما رآه

(هامش)

(1) أنظر في تعبئة الحجاج لجيشه وتوزيع قواده وأسمائهم الطبري 6 / 83 وابن الأثير 3 / 150 البداية والنهاية 9 / 51. (2) حضر الفرس: جريه السريع، أي على مسافة يقطعها الفرس سريعا بحيث يراه من خلفه. (*)

ص 54

الحجاج قد انكسرت ناحيته، وزال عنها، بعث إليه ابن عمه الحكم بن أيوب في خيل. فقال: انطلق إلى عدو الله فاضرب وجهه بالسيف حتى ترده إلى مقامه، ففعل، وبعث إلى سفيان بن الأبرد يأمره بقتال القوم ومحاربتهم، فحمل عليهم سفيان وهم مشغولون بالميسرة قد طمعوا فيها، وكان بإذن الله الفتح والغلبة من ناحية سفيان، وقد بعث إليه الجرشي يستأذنه للقتال، فمنعه الحجاج وقال له: لا، إلا أن ترى أمرا مقبلا، وتمكنا من فرصة، فاجتمع الأمر، وثاب العكي، وانهزم ابن الأشعث، واستحقت هزيمته (1)، فدعا الحجاج بدابته فركبها، وركب من كان مترجلا معه، بعد سجود ودعاء، وشكر كان منه، على ما صنع الله به ومن كان معه، وحمدوا الله تعالى كثيرا، وكبروا تكبيرا عاليا، ثم انتهى إلى ربوة فأومأ إليها، ثم استقبل ناحيتهم والسيوف تأخذهم، وحسر بيضته (2) عن رأسه، فجعل يقرع رأسه بخيزران في يده، وهو يتمثل بهذه الأبيات، وهي من قول عبيد بن الأبرص، أو من قول اليشكري: كيف يرجون سقاطي بعد ما * جلل الرأس بياض وصلع ساء ما ظنوا وقد أوريتهم * عند غايات الوغى كيف أقع رب من انضجت غيظا قلبه * قد تمنى لي موتا لم يطع ويراني كالشجى في حلقه * عسرا مخرجه ما ينتزع مربد يهدر ما لم يرني * فإذا أسمعته صوتي انقمع ويحييني إذا لاقيته * وإذا يخلو له الحمى رتع ورث البغضاء عن والده * حافظا منه الذي كان استمع ولساني صيرفي صارم * كذباب السيف ما مس قطع قال: فلما فرغ الحجاج من هذه الأبيات كبر، ثم حمد الله بما هو أهله، للذي كان من صنعه به وبجماعته، فبينا هو كذلك، إذ أتاه من يخبره أن ابن الأشعث قد انخزل من أصحابه في نفر يسير، متوجها إلى ناحية خراسان (3)،

(هامش)

(1) قال خليفة في تاريخه ص 282: كانت بينهم بالجماجم إحدى وثمانين وقيعة كلها على الحجاج إلا آخر وقعة كانت على ابن الأشعث فانهزم. (2) البيضة: الخوذة من الحديد يغطي بها الفارس رأسه. (3) في الطبري 6 / 366 ومضى عبد الرحمن والفل من المنهزمين معه نحو سجستان.. وفي ابن الأثير 4 / 481 فنزل هو ومن معه لا يلوون على شيء. (*)

ص 55

فدعا الحجاج ابن عم له (1)، كان يعرفه بالنصيحة والهوى، فقطع معه ليلا، وأرسله في طلب ابن الأشعث إلى مواضع شتى، وعهد إليهم أن لا يدركوا أحدا إلا أتوا به أو برأسه أو يموت، فوقف الحجاج طويلا في مكانه ذلك المرتفع ينظر إلى معسكر ابن الأشعث، وأصحابه ينتهبونه، ثم رجع إلى معسكره فنزل، ودخل فسطاطه فجلس، وأذن لأصحابه فدخلوا عليه، فقام كل واحد منهم يهنئه بالفتح، وجعل ابن جبلة يأتيه بالأسرى، فكلما أتي بأسير أمر به فضربت عنقه، فكان ذلك فعله يومه ذلك إلى الليل، فلما أصبح وتراجع إليه أكثر خيله، أمر مناديه ينادي بالقفل، فقفل وقفلت معه أجناده، وجميع أصحابه إلى مدينة واسط، فكان فيها وهو الذي كان بناها، قال: وضرب ابن الأشعث ظهرا لبطن، ليلا ونهارا حتى لحق بخراسان، ورجا في لحوقه بها النجاة من الحجاج، والحذر لنفسه، ولم يشعر بالخيل التي بعثت في طلبه حتى غشيته، فلم تزل تطلبه من موضع إلى موضع، حتى استغاث بقصر منيف، فحصره ابن عم الحجاج فيه، وأحاطت به الخيل من كل جانب، حتى ضيق عليه، ودعا بالنار ليحرقه في القصر، فلما رأى ابن الأشعث أنه لا محيص له ولا ملجأ، وخاف النار، رمى بنفسه من بعض علالي القصر (2)، وطمع أن يسلم ولا يشعر به فيدخل في غمار النار، فيخفى أمره، ويكتم خبره، فسقط فانكسرت ساقه، وانخذل ظهره ووقع مغشيا عليه، قال: فشعر به أصحاب الحجاج فأخذوه، وقد أفاق

(هامش)

= وفي مروج الذهب 3 / 160 فمضى حتى انتهى إلى ملوك الهند. وفي البداية والنهاية 9 / 59 دخل هو ومن معه من الفل إلى بلاد رتبيل ملك الترك. (1) في الطبري: أتبعهم الحجاج عمارة بن تميم اللخمي ومعه ابنه محمد بن الحجاج. (2) في مقتل ابن الأشعث عدة روايات ذكرها الطبري 6 / 390 - 394 وابن الأثير 4 / 501 ومنها ما ذكر بالأصل. وفي رواية أخرى: أنه كان عند رتبيل رجل من بني تميم يقال له عبيد بن أبي سبيع - وهو من خواص ابن الأشعث ورسوله إلى رتبيل فخص به رتبيل وخف عليه فحاول عبد الرحمن قتله فعمل عبيد على تخويف رتبيل من الحجاج ودعاه إلى الغدر به - (وكان ابن الأشعث قد التجأ إلى رتبيل) وقال له: أنا آخذ لك من الحجاج عهدا ليكفن الخراج عن أرضك سبع سنين على أن تدفع إليه ابن الأشعث فأجابه إلى ذلك. وانظر ابن الأعثم 7 / 156. وعلى كل الأحوال لم يصل ابن الأشعث حيا إلى الحجاج، وإنما أرسل إليه رأسه بعدما قتل (في رواية سقط عن علالي القصر - وفي رواية أن رتبيل قتله - وفي رواية ثالثة أنه مرض بالسل ومات فحز رأسه رتبيل قبل أن يدفن. الطبري 6 / 390 ابن الأثير 4 / 502). وذكروا مقتله سنة 85. بينما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية 83 (ج 9 / 65 - 66). (*)

ص 56

بعض الإفاقة، ولا يقدر على النهوض فأتوا به إلى ابن عم الحجاج، فلما رآه بتلك الحال أيقن أنه لا يقدر على أن يبلغ الحجاج حتى يموت، فأمر به فضربت رقبته، وانطلق برأسه إلى الحجاج، فلما قدم عليه أحدث لله شكرا وحمدا فيما كان من تمام الصنع، وما هيأ له من التأييد والظفر، وأقام كذلك لا يمر عليه يوم إلا وهو يؤتى فيه بأسرى، فلما رأى كثرتهم ازداد حنقا وغيظا لمسارعتهم في اتباع ابن الأشعث، ومخالفتهم عن الحجاج، فيأمر بقتلهم حردا على الخوارج، ورجاء أن يستأصلهم، فلا يخرج عليه خارجي بعدها، فلما رأى كثرة من يؤتى به من الأسرى تحرى، فجعل إذا أتي بأسير يقول له: أمؤمن أنت أم كافر؟ ليعرف بذلك الخوارج من غيرهم، فمن بدأ على نفسه بالكفر والنفاق عفا عنه ومن قال أنا مؤمن ضرب عنقه.

الحجاج والشعبي

(1) وأسر عامر بن سعيد (2) الشعبي فيمن أسر، وكان مع ابن الأشعث في جميع حروبه، وكان خاص المنزلة منه، ليس لأحد منه مثلها للذي كان عليه من حاله، إلا سعيد بن جبير، وأفلت سعيد بن جبير فلحق بمكة، وأتى الشعبي إلى الحجاج في سورة غضبه (3)، وهو يقتل الأسرى الأول فالأول، إلا من باء على نفسه بالكفر والنفاق، فلما سار عامر بن سعيد الشعبي إلى الدخول عليه لقيه رجل من صحابة الحجاج يقال له يزيد بن أبي مسلم وكان مولاه وحاجبه، فقال: يا شعبي، لهفي بالعلم الذي بين دفتيك، وليس هذا بيوم شفاعة إذا دخلت على الأمير، فبؤ له بالكفر (4) والنفاق عسى أن تنجو (5)، فلما دخل الشعبي على الحجاج صادفه واضعا رأسه لم يشعر، فلما رفع رأسه رآه قال له: وأنت أيضا يا شعبي فيمن أعان علينا وألب! قال: أصلح الله الأمير إني أمرت بأشياء أقولها لك، أرضيك بها وأسخط الرب، ولست أفعل، ولكني أقول: أصلح الله الأمير

(هامش)

(1) عنوان استدركناه للإيضاح. (2) هو عامر بن شراحيل الشعبي، تقدمت الإشارة إليه. (3) سورة غضبه: في شدة غضبه. (4) في مروج الذهب 3 / 176 والعقد الفريد 5 / 32: بالشرك. (5) زيد في مروج الذهب: فلما دخلت عليه (في العقد: ثم لقيني) استقبلني محمد بن الحجاج فقال لي مثل مقالة يزيد. (*)

ص 57

وأصدقك القول، فإن كان شيء ينفع لديك فهو في الصدق إن شاء الله أحزن بنا المنزل (1)، وأجدب الجناب، واكتحلنا السهر، واستحلسنا (2) الخوف، وضاق بنا البلد العريض، فوقعنا في خزية لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء، فقال له الحجاج: كذلك. قال: نعم، أصلح الله الأمير، وأمتع به، قال: فنظر الحجاج إلى أهل الشام فقال: صدق والله يا أهل الشام ما كانوا بررة أتقياء فيتورعوا عن قتالنا، ولا فجرة أقوياء فيقووا علينا، ثم قال: انطلق يا شعبي فقد عفونا عنك، فأنت أحق بالعفو ممن يأتينا وقد تلطخ بالدماء ثم يقول: كان وكان، قال: وكان قد أحضر بالباب رجلان، وأحدهما من بكر بن وائل، والآخر من تميم، وكانا قد سمعا ما قيل للشعبي بالباب أن يقوله، فلما أدخلا. قال الحجاج للبكري: أمنافق أنت؟ قال: نعم، أصلح الله الأمير، لكن أخو بني تميم لا يبوء (3) على نفسه بالنفاق. قال التميمي: أنا على دمي أخدع؟، بل أنا - أصلح الله الأمير - منافق مشرك فتبسم الحجاج وأمر بتخلية سبيلهما. قال الشعبي: فوالله ما أتى لذلك الأمر إلا نحو من شهرين، حتى رفعت إليه فريضة أشكلت عليه، وهي أم، وجد، وأخت. فقال: من هاهنا نسأله عنها؟ قال: فدل علي، فأرسل إلي، وقال يا شعبي ما عندك في هذه الفريضة، أم، وأخت وجد؟ فقلت: أصلح الله الأمير. قال فيها خمسة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. قال: من قال فيها؟ قلت: قال فيها علي بن أبي طالب، وأمير المؤمنين عثمان بن عفان، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت. قال: هات ما قال فيها علي. فأخبرته. قال: فما قال فيها ابن مسعود؟ فأخبرته، قال: فما قال فيها ابن عباس؟ فوالله لقد كان متفقها (4) فأخبرته. قال: فما قال فيها أمير المؤمنين عثمان؟ فأخبرته. قال: فما قال زيد بن ثابت؟ قلت: أخذها من تسعة أسهم، فأعطى الأم ثلاثة أسهم، وأعطى الجد أربعة أسهم، وأعطى الأخت سهمين. فلما سمع ما كان من قول كل واحد

(هامش)

(1) في العقد: نبأ بنا المنزل وفي المروج: أحزن بنا المبرك. (2) استحلسنا الخوف: أي لم يفارقنا. (3) لا يبؤ: لا يعترف. (4) في مروج الذهب: متقيا وفي العقد: منقبا . (*)

ص 58

منهم، وعرف رأيهم فيها (1). قال يا غلام: قل للقاضي يمضيها على ما قال أمير المؤمنين عثمان (2). قال الشعبي: ودخلت عليه الترك، قد شدوا أوساطهم بعمائمهم، وانتزعت السيوف من أعناقهم وأخذوا الطوامير (3) بأيمانهم، فدخل عليه رجل (4) من قبل أمير المؤمنين عبد الملك. فقال له الحجاج: كيف تركت أمير المؤمنين وأهله وولده وحشمه؟ فأنباه عنه وعنهم بصلاح. فقال: ما كان وراءك من غيث؟ قال: نعم، أصلح الله الأمير، أصابتني سحابة في موضع كذا، فواد سائل، وواد تارع (5)، فأرض مدبرة، وأرض مقبلة، حتى صدعت عن الكمأه أماكنها، فما أتيتك إلا في مثل مجرى الضب (6). فقال للحاجب: ائذن للناس فدخل عليه رجلا أتاه من قبل نجد (7). فقال له: ما كان وراءك من غيث؟ فقال: كثير الإعصار، واغبر البلاد، وأكل ما أشرف من الحشيشة، فاستيقنا أنه عام سنة. فقال: بئس المخبر أنت. قال: أخبرتك بالذي كان. فقال للحاجب: ائذن للناس، فدخل عليه رجل أتاه من قبل اليمامة. فقال: هل كان وراءك من غيث؟ قال: نعم. وسمعت الرواد يدعون إلى ريادها، وسمعت رائدا يقول: هلموا (8) أطعمكم محلة تطفوا فيها النيران، وتشتكي فيها النساء، وتنافس فيها المعز. فقال له: ويحك، إنما تحدث أهل الشام فأفهمهم. فقال: أصلح الله الأمير، أما تطفوا النيران، فيستكثر فيها الزبد واللبن والتمر، فلا توقد نار [يختبز بها]، وأما أن يشتكي النساء: فإنه من جذبها على إبريق لبنها فتظل تمخض لبنها فتبيت ولها أنين من عضديها، وأما تنافس المعز: فإنها ترأم من نوار النبات وألوان الثمر ما يشبع بطونها، ولا يشبع عيونها، فتبينت، وقد امتلأت أكراشها، لها من الكظة

(هامش)

(1) أنظر ما جاء في أقوالهم مروج الذهب 3 / 176 العقد الفريد 5 / 33. (2) وكان رأي عثمان بن عفان: أن جعلها أثلاثا. (3) في العقد: وكتبهم والطوامير جمع طومار وهو الصحيفة. (4) في العقد: من بني سليم واسمه شبابة بن عاصم. (5) في العقد 5 / 34: نازح. (6) في العقد: وجئتك في مثل وجار الضبع (أنظر اللسان: وجر). (7) في العقد: من بني أسد. (8) في العقد: هلموا ظعنكم إلى محلة تطفأ فيها النيران. (*)

ص 59

شرة تنزل به الدرة (1). ثم قال للحاجب: ائذن للناس، فدخل عليه رجل من الموالي، كان أشجع الناس في زمانه، يقال له عمرو بن الصلت. فقال له الحجاج: هل كان وراءك من غيث؟ قال: نعم أصلح الله الأمير، أصابتني سحابة بموضع (2) كذا وكذا، فلم أزل أطأ في أثرها، حتى دخلت على الأمير. فقال له الحجاج: أما والله لئن كنت في المطر أقصرهم خطبة، إنك بالسيف لأطولهم باعا وخطوة.

 ولما انهزم ابن الأشعث،

 قام بعده عبد الرحمن بن عياش (2) بن ربيعة، فقاتل الحجاج ثلاثة أيام، ثم انهزم، فوقع بأرض فارس، ثم صار إلى السند، فمات هناك. وتحصن ناس من أصحاب ابن الأشعث في قلعة بأرض فارس، منهم عبد الرحمن بن الحارث بن نوفل، والفضل بن عياش، وعمرو بن موسى التميمي، ومحمد بن سعد بن أبي وقاص، وعبيد الله، ومحمد، وإسحاق، وعون، بنو عبد الله بن الحارث في ناس من قريش، ولحق سعيد بن جبير بمكة، فأشعر به الحجاج، فغفل عنه ولم يهيجه، فبعث الحجاج يزيد بن المهلب، فحاصرهم بفارس. قال أبو معشر: حدثني عون قال: كتب إلينا يزيد بن المهلب، أن أخبروني بآية بيني وبينكم حتى أخرجكم. قال: فكتب إليه عبد الله بن الحارث: كنت يوم كذا وكذا في دارنا. قال: فأخرجه وبنيه، فسكنا عمان. وأسر من بقي، وأسروا اثني عشر رجلا من وجوه الناس عامتهم من قريش، منهم عمرو بن موسى التميمي (4) ومحمد بن سعد بن أبي وقاص، فبعث بهم إلى الحجاج فحبسهم عنده، وكتب إلى عبد الملك يخبره بأمرهم، وجعل يذكر في كتابه أن سعيدا قد أنكر الخروج مع هؤلاء القوم، فكتب إليه عبد الملك يأمره بضرب أعناقهم ويقول في كتابه: لم أبعثك مشفعا وإنما بعثتك منفذا مناجزا لأهل الخلاف والمعصية. فأبرزهم الحجاج، فقال لعمرو بن موسى: يا عاتق قريش وكان شابا جميلا،

(هامش)

(1) في العقد: ولها في الكظة جرة، فتبقى الجرة حتى تستنزل الدرة. (2) في العقد: بحلوان. (3) كذا بالأصل، والصواب عباس كما في الطبري. (4) هو عمرو بن موسى بن عبيد الله بن معمر. وانظر في الطبري 6 / 374 بقية أسماء الأسرى. وفيه أن محمد بن سعد بن أبي وقاص قال ليزيد: أسألك بدعوة أبي لأبيك فخلى سبيله. (*)

ص 60

ما لك أنت وللخروج، إنما أنت عاتق صاحب ثياب ولعب؟ فقال له عمرو: أيها الرجل، امض لما تريد، فإنما نزلت بعهد الله وميثاقه، فإن شئت فأرسل يدي، وبرئت مني الذمة. فقال له الحجاج: كلا، حتى أقدمك إلى النار، فضربت رقبته، ثم جئ بمحمد بن سعد، فقال له: يا ظل الشيطان، وكان رجلا طويلا، ألست بصاحب كل موطن؟ أنت صاحب الحرة، وصاحب يوم الزاوية، وصاحب الجماجم. فقال له: إنما نزلت بعهد الله وميثاقه، أرسل يدي وبرئت مني الذمة، قال: لا، حتى أقدمك إلى النار، ثم قال لرجل من أهل الشام: اضرب لي مفرق رأسه، فضرب، فمال نصفه هاهنا، ونصفه هاهنا، ثم قتل الباقين.

ذكر قتل سعيد بن جبير

 قال: وذكروا أن مسلمة بن عبد الملك، كان واليا على أهل مكة، فبينما هو يخطب على المنبر، إذ أقبل خالد بن عبد الله القسري من الشام واليا عليها، فدخل المسجد، فلما قضى مسلمة خطبته، صعد خالد المنبر، فلما ارتقى في الدرجة الثالثة، تحت مسلمة، أخرج طومارا مختوما، ففضه ثم قرأه على الناس، فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الملك (1) بن مروان أمير المؤمنين إلى أهل مكة، أما بعد: فإني وليت عليكم خالد بن عبد الله القسري، فاسمعوا له وأطيعوا، ولا يجعلن امرؤ على نفسه سبيلا، فإنما هو القتل لا غير، وقد برئت الذمة من رجل آوى سعيد بن جبير (2)، والسلام. ثم التفت إليهم خالد وقال: والذي نحلف به، ونحج إليه، لا أجده في دار أحد إلا قتلته، وهدمت داره، ودار كل من جاوره، واستبحت حرمته. وقد أجلت لكم فيه ثلاثة أيام، ثم نزل، ودعا مسلمة برواحله ولحق بالشام، فأتى رجل إلى خالد فقال له: إن سعيد بن جبير بواد من أودية مكة، مختفيا بمكان كذا، فأرسل في طلبه، فأتاه

(هامش)

(1) كذا بالأصل. وهو خطأ فعبد الملك كان قد مات، والخليفة الوليد بن عبد الملك وهو صاحب الكتاب وهذا ما أشار إليه الطبري في حوادث سنة 94. (2) وكان سعيد بن جبير بعد هزيمة ابن الأشعث قد هرب إلى أصبهان ثم هرب منها وكان يعتمر في كل سنة ويحج ثم إنه لجأ إلى مكة فأقام بها، وكان الحجاج قد بعث نفرا وأمرهم بطلب سعيد بن جبير فخرج القوم في طلبه يسألون عنه وعن موضعه. (أنظر الطبري 8 / 95 ابن الأثير 4 / 580 حلية الأولياء 4 / 291 وفيات الأعيان 2 / 372 تاريخ أصبهان 1 / 324). (*)

 

الصفحة السابقة الصفحة التالية

الإمامة والسياسة (ج2)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب