الصفحة السابقة

الإمامة والسياسة (ج2)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 207

فلما أتم قراءته قال هارون لفقهاء الحجاز والعراق: هل أنكرتم شيئا من هذا العلم؟ قالوا: ما أنكرنا شيئا إلا ما ذكر من أمر الدماء، والتدمية في القتل، فإن هذا من أنكر ما يكون من العلم وأبطله، يقول الرجل: قتلني فلان فيقبل منه، ويحلف أولياؤه على القاتل خمسين يمينا، ثم يقتل، ولعل أولياءه لم يحضروا، ولم يكونوا بمصر، فيعرض بهم الحنث في الأيمان، فيقبل قول رجل من غيره، وهو لا يقبل في ربع دانق (1) يدعيه إلا ببينة تقوم، إن هذا لهو الضلال (2). وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه ابن عباس حيث قال: لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى ناس دماء أقوام وأموالهم، ولكن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر (3). قال الرشيد: ويحكم، إن في كتاب الله ما يصدق ذلك، ولا إخال أبا عبد الله أخذه إلا من كتاب الله فاستثبتوه. فأرسل إليه فأقبل. فقال هارون: يا أبا عبد الله، إن أصحابنا هؤلاء لم يختلف منهم اثنان في الانكار عليك فيما وضعت في موطئك من التدمية. وتصديق قول من ادعى، وأنت وهم تزعمون بطل دعوى من ادعى على رجل دانقا إلا ببينة تقوم له، فأخبر القوم، وأوضح لهم حجتك في ذلك وأنا معك عليهم، فإني لا أعلم بعد أمير المؤمنين أحدا أعلم منك، فقال مالك: يا أمير المؤمنين، إن مما يصدق القسامة (4) ما في كتاب الله من القتل، والأخذ بالدم الذي كان في بني إسرائيل. قال الله عز وجل: (اضربوه ببعضها) [البقرة: 73] فذبحت البقرة، ثم ضربوه بعضو من أعضائها (5)، فحيي القتيل، ثم تكلم. فقال: فلان قتلني، فقتله موسى بن عمران عليه السلام بقوله ذلك، وهو حكم التوراة، فيها هدى ونور

(هامش)

(1) الدانق: سدس درهم. (2) راجع رأي مالك في الموطأ - كتاب القسامة ص 633 وما بعدها. (3) أخرجه البخاري في الرهن (6) والترمذي في الأحكام (11) وابن ماجة في الأحكام (7). (4) القسامة بالفتح قال في النهاية: اليمين، كالقسم، وحقيقتها أن يقسم من أولياء الدم خمسون نفرا عن استحقاقهم دم صاحبهم، إذا وجدوه بين قوم ولم يعرف قاتله، فإن لم يكونوا خمسين أقسم الموجودون خمسين يمينا ولا يكون فيهم صبي ولا امرأة ولا مجنون ولا عبد، أو يقسم بها المتهمون على نفي القتل عنهم، فإن حلف المدعون استحقوا الدية. وإن حلف المتهمون لم تلزمهم الدية. وقد أقسم يقسم قسما وقسامة إذا حلف . (5) اختلفوا في البعض الذي ضرب به القتيل فقيل لسانها وقيل فخذها اليمنى وقيل ذنبها وقيل العظم الذي يلي الغضروف وهو أصل الكتف وقيل البضعة بين الكتفين (تفسير الرازي 1 / 125). (*)

ص 208

يحكم بها النبيون الذين أسلموا، فالذين أسلموا: محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقد حكم بالتوراة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في المرجوم اليهودي الذي زنى، فرجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر أنس بن مالك رضي الله عنه أن يهوديا لقي جارية من جواري الأنصار في بعض أنقاب المدينة، وعليها أوضاح (1) من ذهب وورق، فأخذ الأوضاح منها، وشدخ رأسها بين حجرين، فأدركت الجارية وبها رمق، فاتهم بها اليهود، فأتي بهم، فعرضوا عليها رجلا رجلا وهي لا تتكلم، حتى أتي بصاحبها الذي قتلها فعرفته. فقيل له: هذا الذي قتلك؟ فأومأت برأسها أن نعم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فشدخ رأسه بين حجرين، فهذا يا أمير المؤمنين حكم الدماء، والقسامة فيها سنة قائمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء، فقنعوا منه بذلك، وصاروا إلى الرضا بقوله، والتصديق لروايته، والتسليم لتأويل ما تأول من القرآن الكريم. ثم قال له مالك: إن أباك يا أمير المؤمنين بعث إلي في هذا المجلس كما بعثت إلي، وحدثته بما حدثتك به في شأن أهل المدينة، وما يصبرون عليه من البلاء، وشدة الزمان، وغلاء الأسعار، صبرا على ذلك، واختيارا لجوار قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال هارون: ذلك هو أبي وأنا ابنه، وسوف أفعل ما فعل، وأمر لأهل المدينة بعشرة أبيات مال (2)، ضعف ما أمر به المهدي، وكان أبو يوسف القاضي مع الرشيد يومئذ، فسأله أن يجمع بينه وبين مالك، ليكلمه في الفقه. فقال الرشيد لمالك: كلمه يا أبا عبد الله، فأنف من ذلك مالك، وتنزه عنه، وقال لهارون: هاهنا من فتيان قريش من تلامذتنا، من يبلغ حاجة أمير المؤمنين، ويخصمه (3) فيما يتكلم به، ويذهب إليه، فسر ذلك الرشيد حين أضاف ذلك إلى قريش. فقال: من هو؟ فقال: المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي (4)، فبعث إليه الرشيد فجمعه بأبي يوسف فقال: كلمني بما بدا لك أجاوبك. فقال أبو يوسف القاضي (5): يا أمير

(هامش)

(1) الأوضاح: جمع وضح بفتح الواو والضاد: من حلي النساء. والورق: الفضة. (2) قال الطبري: 8 / 239 فقسم في أهلها (المدينة) مالا عظيما. (3) خصمه: يخاصمه في أمر ما وينتصر عليه في الخصومة. (4) هو عبد الرحمن بن الحارث المخزومي فقيه أهل المدينة، عرض عليه الرشيد قضاء المدينة فرفض، مات سنة 186 ه‍. (الكاشف). (5) هو يعقوب بن إبراهيم بن سعد الزهري أبو يوسف. مات سنة 182 ه‍. (العبر 1 / 219 - تذكرة = (*)

ص 209

المؤمنين إن هؤلاء، يعني مالكا وأصحابه، يقضون بغير ما في كتاب الله، يقول الله عز وجل: (وأشهدوا ذوي عدل منكم) [الطلاق: 2] وقال: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) [البقرة: 282] وهؤلاء يقضون باليمين مع الشاهد، ولا نسمع أن الله تعالى ذكر إلا شاهدين وأربعة شهداء، ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى به، وإنما يدور هذا الحديث الذي روى فيه سهيل عن أبي صالح عن أبيه، ثم نسبه سهيل، فكان يحدث ويقول: حدثني ربيعة عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد فلما نسبه سهيل بطل الخبر، وأثبت أصله، فلا معنى لذكره. قال المغيرة: قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقضى به علي بالكوفة، فقال أبو يوسف: أنا أكلمك بالقرآن، وأنت تكلمني بأفعال الناس، أتراك تعرفني بهذا، وبما قضى به علي وغيره؟ فقال المغيرة: فأنت كافر بنبي قضى باليمين مع الشاهد، أو مؤمن به؟ فسكت أبو يوسف فحجه المغيرة. فسر بذلك الرشيد، وأمر للمغيرة بألف دينار. ثم أرسل الرشيد إلى مالك فقال: ما تقول في هذا المنبر، فإني أريد أن أنزع ما زاد فيه معاوية بن أبي سفيان وأرده إلى الثلاث درجات، التي كانت بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال له مالك: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإنما هو من عود ضعيف قد تخرمته المسامير، فإن نقضته تفكك، وذهب أكثره، ومع هذا إنه يا أمير المؤمنين لو أعدته إلى ثلاث درجات لم آمن عليه أن ينتقل عن المدينة، يأتي بعدك أحد فيقول أو يقال له: ينبغي لمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون معك حيث كنت، فإنما المنبر للخليفة، فينتقل كما انتقل من المدينة كل ما كان بها من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أعلم أنه ترك له عليه الصلاة والسلام بها نعل ولا شعر ولا فراش ولا عصا ولا قدح ولا شيء مما كان له هاهنا من آثاره إلا وقد انتقل. فأطاعه الرشيد، وانتهى عن ذلك برأي مالك بن أنس وكان ذلك رحمة من الله لأهل المدينة، وتثبيتا لمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم.

(هامش)

= الحفاظ 1 / 292 - البداية والنهاية 10 / 180 - سير أعلام النبلاء 12 / 141). (*)

ص 210

مسير الرشيد إلى الفضيل (1) بن عياض

 قال: وذكروا أن الرشيد كان كثيرا ما يتلثم، فيحضر مجالس العلماء بالعراق وهو لا يعرف. وكان قد قسم الأيام والليالي على سبع ليالي: فليلة للوزراء، يذاكرهم أمور الناس ويشاورهم في المهم منها، وليلة للكتاب يحمل عليهم الدواوين، ويحاسبهم عما لزم من أموال المسلمين، ويرتب لهم ما ظهر من صلاح أمور المسلمين، وليلة للقواد، وأمراء الأجناد يذاكرهم أمر الأمصار ويسألهم عن الأخبار، ويوقفهم على ما تبين له من صلاح الكور وسد الثغور، وليلة للعلماء والفقهاء يذاكرهم العلم ويدارسهم الفقه، وكان من أعلمهم، وليلة للقراء والعباد يتصفح وجوههم، ويتعظ برؤيتهم، ويستمع لمواعظهم، ويرقق قلبه بكلامهم، وليلة لنسائه وأهله ولذاته، يتلذذ بدنياه، ويأنس بنسائه، وليلة يخلو فيها بنفسه، لا يعلم أحد قرب أو بعد ما يصنع، ولا يشك أحدا أنه يخلو فيها بربه، يسأله خلاص نفسه، وفكاك رقه. فبينما هو يوما في مجلس محمد بن السماك، وقد قصد لرؤيته يسمع لموعظته، ولا يعلم أحد بمكانه، فسمع بعض أهل المجلس يذكر الفضيل بن عياض، ويصف فضله وعبادته، وعلمه وروعه، فاشتهى النظر إليه، وتاقت نفسه إلى رؤيته ومحادثته، فتوجه من العراق إلى الحجاز قاصدا إليه، ومعه عبد الله بن المبارك فقيه أهل بغداد وعالمهم، وكان الفضل بن عياض يسكن الغيران. فلما قربا من موضعه قال عبد الله بن المبارك: يا أمير المؤمنين إن الفضيل إن عرفك وعرف مكانك لم يأذن لك عليه، ويسفر عنك. فقال هارون: تستأذن أنت عليه، وتخفي مكاني عنه، حتى يأذن بالدخول فاستأذن عليه ابن المبارك. قال الفضيل: من بالباب؟ قال: ابن المبارك. قال: مرحبا يا أخي وصاحبي، فقال ابن المبارك: ومن معي يدخل؟ فقال الفضيل: ومن معك؟ قال: رجل من قريش. فقال الفضيل: لا إذن، لا حاجة لي برؤية أحد من قريش. فقال له ابن المبارك: إنه من العلم والعناية والفقه فيه بمكان، فقال له الفضيل: أو ما علمت أن إبليس أفقه الناس؟ فقال له ابن المبارك: إنه سيد قريش في زمانه هذا وفوقهم، وإنما عنى أنه فوقهم في الدنيا وسيدهم، فقال له الفضيل: فإن كان كما تقول فليدخل، فدخل الرشيد فسلم عليه، ثم جلس

(هامش)

(1) في النسخ المطبوعة: الفضل تحريف. وقد جرى تصحيحه في كل مواضع الخبر. (*)

ص 211

بين يديه، فتحدثوا ساعة. فقال له ابن المبارك: يا أبا الحسن، أتدري من هذا؟ قال: لا أدري. فقال له: هذا هارون بن محمد الرشيد أمير المؤمنين، فنظر إليه الفضيل بن عياض ساعة، ثم قال: هذا الوجه الجميل يسأل غدا عن أمة محمد ويؤاخذ بها، لئن كان العفو والغفران يسعك مع ما أنت فيه، إن هذا لهو الفضل المبين، وكان الرشيد من أجمل الناس خلقا، وأحسنهم نطقا، وأبلغهم لسانا، وأعذبهم كلاما، وأكثرهم علما وفهما، ثم جعل الفضيل بن عياض يعظه ويخوفه حتى بكى هارون بكاء شديدا. قال ابن المبارك: ما رأيت أحدا يبكي بكاء الرشيد يومئذ، ثم أفاق من بكائه، فجعل الفضيل يذكر مثالبه، ومثالب أهل بيته، ورداءة سيرتهم، وخلافهم الحق، ثم لم يدع شيئا يعيبه به، ولا أمرا ينتقصه فيه إلا واستقبله به. فقال له الرشيد: يا أبا الحسن، أما لك ذنوب تخاف أن تهلك بها إن لم يغفرها الله لك؟ فقال الفضيل: بلى. فقال الرشيد: فما جعلك بأحق أن ترجو المغفرة مني؟ وأنا على دين يقبل الله فيه الحسنات، ويعفو عن السيئات، ومع ذلك فإني والله ما كنت لأخير بين شيء وبين الله إلا اخترت الله تعالى على ما سواه، الله الشاهد على قولي، والمطلع على نيتي وضميري، وكفى به شهيدا. وأنا مع هذا ألي من الاصلاح بين الناس، والجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ما لا تليه أنت، فما جعلك أحق أن ترجو المغفرة مني؟ فسكت الفضيل ساعة ثم قال: ما ظلمك من حجك، ثم قام هارون للخروج. فقال الفضيل: يا أمير المؤمنين، إني أخشى أن يكون العلم قد ضاع قبلك كما ضاع عندنا، فقال الرشيد: أجل إنه ما قلت (1). فلما قدم الرشيد العراق كان أول ما ابتدأ فيه النظر أن كتب إلى الأمصار كلها، وإلى أمراء الأجناد، أما بعد: فانظروا من التزم الأذان عندكم، فاكتبوه في ألف من العطاء، ومن جمع القرآن وأقبل على طلب العلم وعمر مجالس العلم، ومقاعد الأدب، فاكتبوه في ألفي دينار من العطاء، ومن جمع القرآن، وروى الحديث، وتفقه في العلم واستبحر، فاكتبوه في أربعة آلاف دينار من العطاء، وليكن ذلك بامتحان الرجال السابقين لهذا الأمر، من المعروفين به من علماء عصركم، وفضلاء دهركم، فاسمعوا قولهم وأطيعوا أمرهم، فإن الله تعالى يقول: (أطيعوا الله

(هامش)

(1) خبر الرشيد مع الفضيل بن عياض روي باختلاف عما هنا قارن مع: حلية الأولياء 8 / 106 صفة الصفوة 2 / 242 مروج الذهب 3 / 434 وفيات الأعيان 4 / 48. (*)

ص 212

وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) [النساء: 59] وهم أهل العلم. قال ابن المبارك: فما رأيت عالما ولا قارئا للقرآن، ولا سابقا للخيرات، ولا حافظا للمحرمات، بعد أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيام الخلفاء والصحابة أكثر منهم في زمن الرشيد وأيامه، لقد كان الغلام يجمع القرآن وهو ابن ثمان سنين، ولقد كان الغلام يستبحر في الفقه والعلم، ويروي الحديث، ويجمع الدواوين، ويناظر المعلمين وهو ابن إحدى عشرة سنة.

ذكر الحائك المتطفل

 قال: وذكروا أن الرشيد (1) لما انصرف من الحجار وصار بالرقة (2) قال لوزيره عمرو بن مسعدة: ما زلت تكلمني وتستلطفني في الرخجي (3) حتى وليته الأهواز، فقعد في سرة الدنيا يأكلها خضما (4) وقضما، ولم يوجه إلي درهما، فاخرج إليه من ساعتك هذه، حتى تحل ساحته، ثم لا تدع له حرمة إلا انتهكتها، ولا أكرومة إلا أهنتها. ثم لا تسمع له حجة يرفعها، ولا تقبل منه كلمة ينهيها، إن اعتذر فلا تقبل له عذرا، وإن قال فلا تقبل له قولا، فشر قائل، وأكذب متظلم، فقلت في نفسي: أبعد الوزارة أصير مستحثا على عامل خراج؟ ولكن لم أجد بدا من طاعة أمير المؤمنين، إذ كانت ولايته بسببي. فقلت: أخرج يا أمير المؤمنين؟ قال: فاحلف أنك لا تلبث في بغداد إلا يوما، فحلفت له، ثم انحدرت إلى بغداد، ثم خرجت، فلما صرت بين دير هرقل وبين دير العاقول (5)، إذا رجل (6) يصيح: يا ملاح، يا ملاح، رجل منقطع. فقلت للملاح: قرب إلى

(هامش)

(1) الخبر في العقد الفريد 4 / 175 وصبح الأعشى 1 / 142 بين المعتصم وعمرو بن مسعدة. وهو خطأ. لأن عمرو بن مسعدة مات سنة 217 والمأمون حي، وتولى المعتصم الخلافة سنة 218 ه‍. (2) الرقة: بلد على الفرات. (3) هو عمر بن الفرج الرخجي من أعيان الكتاب، والرخجي نسبة إلى الرخج كورة ومدينة من نواحي كابل. وبقي الرخجي إلى أيام المتوكل حيث سخط عليه (أنظر مروج الذهب 4 / 117 ومعجم البلدان رخج ). (4) الخضم: الأكل مع ملء الفم وأكل الرطب. والقضم: أكل اليابس. يريد أنه يأكل خيرات الأهواز جميعها. (5) دير هرقل: دير مشهور بين البصرة وعسكر مكرم. ودير العاقول: بين مدائن كسرى والنعمانية، وبينه وبين بغداد 15 فرسخا (معجم البلدان). (6) في صبح الأعشى: شاب على الشط يقول: (*)

ص 213

الشط. فقال: يا سيدي هذا رجل شحاذ وإن قعد معك آذاك، قال الوزير: فلم يلتفت إليه ولقوله، وأمرت الغلمان فأدخلوه فقعد، فلما حضر الغداء دعوته، فكان يأكل أكل جائع بنهامة، إلا أنه نظيف الكل، فلما رفع الطعام، أردت أن يقوم ويغسل يديه في ناحية، فلم يفعل، فغمزه الغلمان، فلم يفعل، فتشاغلت عنه ليقوم، ثم قلت له: يا هذا ما صناعتك؟ قال لي: حائك، فقلت في نفسي: هذه شر من الأولى، ما ألوم غير نفسي، إذ لم أقبل ممن نصحني، وصرت أواكل الحوكة. فقلت: توضأ يا أخي، فتوضأ، ثم قال لي: جعلت فداك: قد سألتني عن صناعتي، فما صناعتك أنت؟ فقلت في نفسي: هذه شر من الأولى، وكرهت أن أذكر الوزارة، قلت: أقتصر على الكتابة. فقلت له: كاتب. فقال: إن الكتابة على خمسة أصناف: كاتب رسائل، يحتاج أن يعرف الفصل من الوصل، والصدور ورقيق الكلام، والتهاني والتعازي، والترهيب والترغيب، والمقصور والممدود، وجملا من العربية، وكاتب جند يحتاج إلى أن يعرف حساب التقدير، وشيات (1) الدواب، وحلي الناس ونعوتهم (2). وكاتب قاض، يحتاج أن يكون عالما بالشروط والأحكام، عارفا بالناسخ والمنسوخ من القرآن، والحلال، من الحرام، والفروع والمواريث (3). وكاتب شرطة، يحتاج أن يكون عالما بالجروح والقصاص والديات، فقيها في أحكام الدماء، عارفا بدعوى التعدي. وكاتب خراج، يحتاج أن يعرف الزرع والمساحة وضروب الحساب (4). فأيهم أنت أعزك الله؟ قلت: فوالله ما قضى كلامه حتى صار أعظم الناس في نفسي وأحبهم إلي، وصار كلامه عندي أشهى من الماء البارد العذب على الظمآن. فقلت له: أصلحك الله، تقدم إلي، وادن مني أكلمك، وأقعدك المقعد الذي يقعده مثلك، فلولا أن من البر ما يكون عقوقا لأقعدتك مقعدي هذا. قال: فأخبرني لو كان لك صديق تكتب إليه في المحبوب والمكروه، ويكتب إليك في جميع الأسباب، فتزوجت أمه، كيف كنت تكتب إليه؟ تهنئه أم تعزيه؟ قلت:

(هامش)

(1) شيات الدواب: علاماتها. (2) حلى الناس: جميع حلية أي صفة. (3) في صبح الأعشى:... والتأويل والتنزيل والمتشابه والحدود القائمة. (4) زيد في العقد: والأشوال والطسوق والتقسيط. وفي الصبح: خبيرا بالحساب والمقاسمات، والتقسيط. (*)

ص 214

والله ما أدري كيف الوجه في هذا، وهو بالتعزية أولى منه بالتهنئة. قال: صدقت، كيف كنت تعزيه؟ فقلت: والله ما أقف على ما تقول. قال: فلست بكاتب رسائل، فأيهم أنت؟ قلت: كاتب خراج. قال: فما تقول أصلحك الله، وقد ولاك السلطان عملا فبثثت عمالك فيه، فجاء قوم يتظلمون من بعض عمالك، فأردت أن تنظر في أمرهم، وتنصفهم إذا كنت تحب العدل، وتؤثر حسن الأحدوثة وطيب الذكر، وكان لأحدهم براح (1)، فأردت مساحته، كيف كنت تمسحه؟ قلت: أضرب العطوف في العمود، وأنظر إلى مقدار ذلك. قال: إذا تظلم الرجل. قلت: فأمسح العمود على حدته. قال: إذا تظلم السلطان. قلت: والله ما أدري (2). قال: لست بكاتب خراج، فأيهم أنت؟ قلت: كاتب جند. قال: فما تقول في رجلين اسم كل واحد منهما أحمد، أحدهما مقطوع (3) الشفة العليا، والآخر مقطوع (3) الشفة السفلى، كيف كنت تنعتهما وتحليهما؟ فقلت: كنت أكتب أحمد الأعلم، وأحمد الأعلم. قال: فكيف يكون هذا ورزق هذا مئتا درهم، ورزق ذاك ألف درهم، فيقبض هذا عطاء ذاك، وذاك عطاء هذا، فتظلم صاحب الألف؟ قلت: والله ما أدري. قال: فلست بكاتب جند، فأيهم أنت؟ قلت: كاتب قاض. قال: فما تقول في رجل خلف سرية (4) وزوجة (5)، وكان للزوجة بنت، وللسرية ابن، فلما كان تلك الليلة التي مات فيها الرجل، أخذت الحرة ابن السرية فادعته، وجعلت ابنتها مكانه، فتنازعتا فيه، فقالت هذه [هذا] ابني، وقالت هذه [هذا] ابني، كيف كنت تحكم بينهما وأنت خليفة القاضي؟ قلت: والله ما أدري. قال: فلست بكاتب قاض، فأيهم أنت؟ فقلت: كاتب شرطة. قال: فما تقول في رجل وثب على رجل، فشجه شجة موضحة (6)، فوثب عليه المشجوج فشجه شجة مأمومة (7)، كيف كنت تقضي بينهما؟ فقلت: ما أعلم. قال: فلست بكاتب شرطة. فقلت: أصلحك الله: قد سألت ففسر لي ما ذكرت. فقال:

(هامش)

(1) في العقد والصبح: قراح وهو المزرعة التي ليس عليها بناء ولا شجر. (2) قارن مع الصبح. (3) في الموضعين في الصبح: مشقوق. (4) السرية: بالضم، المملوكة يتسراها صاحبها. (5) في صبح الأعشى: زوجة حرة. (6) الموضحة من الشجاج: التي بلغت العظم فأوضحت عنه. (7) المأمومة أي الضربة التي بلغت أم الرأس. (*)

ص 215

أما الذي تزوجت أمه، فتكتب إليه: أما بعد، فإن أحكام الله تجري بغير محاب المخلوقين، والله يختار للعباد، فخار الله لك في قبضها إليه، فإن القبر أكرم لها، والسلام. وأما البراح (1): فتضرب واحدا وثلثا في مساحة العطوف، فمن ثم بابه. وأما أحمد وأحمد: فتكتب حلية المقطوع الشفة العليا: أحمد الأعلم. والمقطوع الشفة السفلى: أحمد الأشرم. وأما المرأتان فيوزن لبن هذه ولبن هذه، فأيهما كان أخف، فهي صاحبة البنت. وأما صاحب الشجة: فإن في الموضحة خمسا من الإبل، وفي المأمومة ثلاثا وثلاثين وثلثا، فيرد صاحب المأمومة ثمانية وعشرين وثلثا. أصلحك الله؟ فما أتى بك هاهنا؟ قال: ابن عم لي كان عاملا على ناحية، فخرجت إليه، فألفيته معزولا فقطع بي، فأنا خارج أضطرب في المعاش. قلت: ألست قد ذكرت أنك حائك؟ فقال: جعلت فداك، إنما أحوك الكلام، ولست بحائك الثياب (2). قال: فدعوت المزين فأخذ من شعره، وأدخل الحمام وطرحت عليه من ثيابي، فلما صرت إلى الأهواز كلمت فيه الرخجي، فأعطاه خمسة آلاف درهم، ورجع معي، فلما صرت إلى أمير المؤمنين ألفيته قد توقد علي نارا، وامتلأ غيظا، وقد حلف بالمشي إلى الكعبة أن ينالني منه يوم سوء، لطول مقامي، واشتغالي عنه بالرجل، فلما دخلت عليه قال: ما كان من خبرك في طريقك، وما الذي شغلك بعد أمري لك. أن لا تلبث ببغداد إلا يوما واحدا، ويمينك على ذلك؟ فأخبرته خبري، حتى حدثته بحديث الرجل، وقصتي معه، قال: لقد جئتني بأعظم الفوائد، فلأي شيء يصلح ويحك؟ قلت: هو والله يا أمير المؤمنين أعلم الناس بالفقه والعلم، والحلال والحرام، والهندسة والفلسفة، والحساب والكتابة. فولاه هارون البناء والمرمة (3)، والمهم من الأمور، وأولاه على عمال الخراج يتقاضاهم ويحاسبهم، فكنت والله ألقاه في المواكب العظيمة، فينحط عن دابته ساعيا، حتى يقبل على يدي يقبلها، فأحلف عليه، فيقول: سبحان الله إنما هذه نعمتك، وبك نلتها، ويقول:

(هامش)

(1) في العقد والصبح: القراح. (2) في الصبح: فقال: أنا حائك كلام لا حائك نساجة. (3) المرمة: إصلاح المباني وترميمها. (*)

ص 216

فلو أن للشكر شخصا يرى * إذا ما تأمله الناظر لمثلته لك حتى تراه * فتعلم أني امرؤ شاكر قال عمرو بن مسعدة: ثم قال لي هارون: ويحك، لما أبطأت حلفت بالمشي إلى الكعبة أن ينالك مني يوم سوء، ولا والله ما هذا جزاؤك لدي فما الرأي؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، أنت أعلى عينا، وأولى من بر يمينه. فقال: والله ما أريد ذلك. قلت: فليكفر أمير المؤمنين عن يمينه، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: من حلف على يمين فرأى خيرا منها فليكفر، وليأت الذي هو خير : فقال: ويحك، إن العلماء لم يروا الكفارة في هذا، وإنما تأولوا قوله عليه الصلاة والسلام في الأيمان بالله تعالى، وقد أجمعت على المشي، والمضي إلى الكعبة راجلا. فقلت: أنى لك بذلك؟ وكيف تصل راجلا؟ قال: لا بد من ذلك. فقال عمرو: يا أمير المؤمنين، فأمهل عامك هذا حتى أسهل لك طريقا، وأحدد لك مراحل، وأوقت لك مواقيت يسهل عليك ذلك إن شاء الله. قال: ذلك لك. فأمر عمرو بالأنهار فعرجت عن مسيلها، وبالآكام والجبال فسويت، وبالخنادق والأودية فردمت، حتى صار ما بينه وبين مكة كالراحة الموزونة، وصارت الأنهار والأودية تسايره على طريقه، ثم صنع له مراحل، قد حدد له عند كل مرحلة حدا، وابتنى في كل مرحلة دارا، وكانت المرحلة بريدا، قدرها اثنا عشر ميلا، ثم أمر بالمراحل ففرشت بالبسط الرهاوية (1)، ونصب له جدارا بالستور، وسمكها بأكسية الخز الرفيع الملون، وقد ضرب عند كل فرسخ قبة مزوقة، قد أقام فيها الفرش الممهدة، وقد أحاط بها الظلال الممدودة بالرواقات الكثيفة، فيها أنواع الطعام والشراب وألوان الفواكه. فلما تم صنعه ذلك، وأبرم أمره، قال: يا أمير المؤمنين، قد تم ما أردته، وكمل ما حاولته، فانهض على اسم الله العظيم، وكانت زبيدة زوجته التي أغرته عليه، وحملته على اليمين لمعاقبته، فخرج الرشيد ماشيا، ومعه دابته وزبيدة، فكانت المرحلة تفرش، والستور تنصب، والسمك ترفع، فيمشي ثلاثة أميال، ثم ينزل في قبة أمامها رواق، فينال راحته، ويصيب ما اشتهى من لذة في مأكل ومشرب، ثم ينهض ثلاثة أخرى، فينزل على مثل ذلك، فإذا استكمل مشى أربعة فراسخ، نزل في

(هامش)

(1) الرهاوية نسبة إلى الرها، وهي مشهورة بها. (*)

ص 217

قصر قد شيد له، ودار قد بنيت، فيها حمام طيب، ينال فيها راحته مع أهله، ويصيب لذته مما شاء وكيف شاء، ثم يكسر فيه يوما، ثم يخرج في اليوم الثاني إلى مثل ذلك، قد شايعه في طريقه الوزراء والقواد، وأمراء الأجناد والعلماء والفقهاء، والجنود والعساكر قد صاروا منه بمعزل يحاذونه في طريقه. إذا نزل في الرواق صار الخصيان حوله، بحيث يسمعون كلامه، ولا يرون شخصه، فلا يشتهي شيئا من معرفة أخبار الأمصار والبلدان، إلا وخط فيه كتابا، يأمر فيه بإيصاله لحيث شاء من الأماكن، مسيرة الأيام والليالي، فيأتيه الجواب من يومه على النجائب من مسيرة ثمانية أيام، ويأتيه الجواب من يومه من مسيرة شهر ونحوه على أجنحة الحمام، يعلق الكتاب في جناحه فيرتفع في الجو ارتفاعا يغيب شخصه عمن في الأرض، وينقض على وطنه، وموضع فراخه، فإذا نزل لا يستقر نزوله، حتى يؤخذ الكتاب من جناحه، فيجاوب بما أحب، ثم يسرح غيره، فيرتفع في الجو حتى يوازي وطنه وموضعه من بعد تلك الأماكن التي عليها طريق أمير المؤمنين، فيؤخذ الجواب منه، وقد صار الموكلون بذلك لا يهتمون بغير ما قلدوا، ولا يتشاغلون بغير ما حملوا، فلم يزل كذلك ماشيا، حتى وصل إلى مكة في ثلاثة أشهر، فقضى حجه، وشهد مناسكه ومشاعره، ثم انصرف قافلا إلى بغداد، وذلك في آخر شهر ذي الحجة من سنة ثمانين ومئة (1). فلما هم بالانصراف، وذكر القفول إلى العراق، رفع إليه أهل مكة كتابا يسألونه فيه أن يولي عليهم قاضيا عدلا، فأدخلهم على نفسه، فقال: إن شئتم فاختاروا منكم رجلا صالحا أوليه قضاءكم، وإن أحببتم بعثت إليكم من العراق رجلا لا آلوكم فيه إلا خيرا، فخرجوا فاختاروا رجلا، فاختلفوا فيه، فاختارت طائفة منهم رجلا، واختارت أخرى رجلا آخر، فلما اختلفوا ارتفعوا إلى الرشيد يذكرون اختلافهم. فقال لهم هارون: أدخلوا علي هذين الرجلين اللذين اختلفتم فيهما، فإذا برجلين، أحدهما شيخ من قريش، والآخر غلام حدث من الموالي. فلما نظر إليهما الرشيد قال للشيخ: ادن مني، فدنا منه، فقال له الرشيد: أيها القاضي، إن بيني وبين وزيري هذا خصومة وتنازعا، فاقض بيننا بالحق. فقال الشيخ: قصا علي قصتكما، فقصا عليه، فقال الشيخ: تقيم البينة يا أمير

(هامش)

(1) قال في مروج الذهب 4 / 455 حج بالناس سنة 180 موسى بن عيسى بن محمد بن علي. (الطبري 8 / 267). (*)

ص 218

المؤمنين على ما ذكرته، أو يحلف وزيرك هذا. فقال له هارون: إن أخي لا يدافعني ما أقول، ولا ينكر إلا قليلا مما أدعي، فلم يزالا يرددان القول بينهما ويتنازعان، حتى قضى القاضي لأمير المؤمنين على الوزير. فقال له: قم، فقام عنه. ثم دعا بالغلام الحدث، الذي دعته الطائفة الأخرى، فدخل عليه. فقال له: ادن مني، فدنا منه. فقال لها هارون: إن بيني وبين وزيري تنازعا وخصومة، فاسمع منا قولنا، ثم اقض بيننا بالحق، قال لهما: إن مقعدكما مختلف، ومجلسكما متناء، وأخشى إذا اختلف مجلسكما أن يختلف قولكما، فإذا تفاضل مجلس الخصوم اختلف بينهما القول، وكان صاحب المجلس الأرفع ألحن بحجته، وأدحض لحجة صاحبه، وكان إصغاء الحاكم إلى صاحب المجلس الأرفع أكثر، وإليه أميل، ولكن تقومان من مجلسكما هذا الذي قد استعليتما فيه، فتجلسا بين يدي، ثم أسمع منكما قولكما، وأقضى لمن رأيت الحق له، ثم لا أبالي على من دار منكما. فقال الرشيد: صدقت وبررت في قولك، فقام الرشيد، وقام عمرو بن مسعدة، حتى صارا بين يديه جالسين. فلما جلسا بين يديه ذهب الرشيد ليتكلم. فقال له القاضي: لو تركت هذا يتكلم، فإنه أسن منك. فقال الرشيد. إن الحق أسن منه. فقال القاضي: بلى، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحويصة ومحيصة (1): كبر كبر. يريد ليتكلم عمكما، لأنه أسن منكما وأكبر، فتكلم عمرو بن مسعدة، ثم تكلم الرشيد، وتنازعا الخصومة، وترافعا الحجة بينهما، حتى رأى القاضي أن الحق لعمرو، فقضى له به على الرشيد، فلما قضى عليه قال لهما: عودا إلى مجلسكما، فعادا، فعجب الرشيد من قضائه وعدله واحتفاظه، وقلة ميله، فالتفت إلى عمرو فقال: إن هذا أحق بقضاء القضاة من الذي استقضيناه. فقال عمرو: بلى والله، ولكن القوم أحق بقاضيهم إلا أن يأذنوا فيه، فدعا الرشيد برجال مكة، فأدخلهم على نفسه، وأجزل لهم العطاء، وأحسن على قاضيهم الثناء. ثم قال لهم: هل لكم أن تأذنوا أوليه قضاء القضاة، فيسير إلى العراق يقضي بينهم؟ فقالوا: نعم يا أمير المؤمنين أنت أحق به نؤثرك على أنفسنا. فأرسل إليه الرشيد فقال: إني قد وليتك قضاء القضاة، فسر إلى العراق لتقضي

(هامش)

(1) هما ابنا مسعود بن كعب بن عامر بن عدي.. الأوسي الأنصاري، وحويصة الأكبر، أسلم حويصة بعد أخيه محيصة، وكان محيصة أفضل من أخيه (أسد الغابة 4 / 334). (*)

ص 219

بينهم، وتولي القضاة في البلدان والأمصار من تحت يدك، وتوليتهم إليك، وعزلهم عليك. فقال القاضي: إن يجبرني أمير المؤمنين على ذلك فسمعا وطاعة، وإن يخيرني في نفسي اخترت العافية، وجوار هذا البيت الحرام. فقال الرشيد: ما ينبغي لي أن أدع المسلمين وفيهم مثلك، لا أوليه عليهم، فخذ على نفسك فإني مصبح على ظهر إن شاء الله. فخرج الرشيد ومعه الفتى حتى قدم العراق، فولاه القضاء، وجعل إليه قضاء القضاة، فلم يزل بها قاضيا حتى توفي، وذلك بعد ثلاثة أعوام من توليته. فلما توفي اغتم الرشيد وشق عليه، فجعل الناس يعزونه فيه علما منهم بما بلغ منه الغم عليه. فسأل عن قاض يوليه قاضي القضاة في العراق بعد ذلك، فرفعت إليه تسمية عشرة رجال من خيار الناس وعلمائهم وأشرافهم، فلما رفعت إليه التسمية، أمر بهم فأدخلوا عليه رجلا رجلا، ليتفرس فيهم من يوليه القضاء، فنظر إلى رجل منهم توسم فيه الخير والعلم فأمر به فقدم إليه. فلما صار بين يديه، قال له: ما اسمك؟ قال: معشوق. قال: فما كنيتك؟ قال: أبو الهوى. قال: فما نقش خاتمك؟ قال: دام الحب دام، وعلى الله التمام. فقال له: قم لا قمت. ثم دعا بالآخر، وكان قد تفرس فيه ما تفرس في صاحبه فقال له: ما نقش خاتمك؟ فقال: ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين فقال له أخرج. فدعا الرشيد بيحيى بن خالد بن برمك، وكان ممن رفع إليه أسماءهم، فعنفه بهم، وقال: رفعت إلي أسماء المجانين. قال له: والله ما في العراقيين أعقل من الرجلين اللذين سألت، ولا أفضل منهما. فقال: ويحك إني اختبرت منهما جنونا. قال يحيى: إنهما والله كانا كارهين لما دعوتهما إليه وإنما أرادا التخلص منك. قال: ويحك، أعدهما علي، فطلبا فلم يوجدا.

 ذكر الأعرابي مع هارون الرشيد

 قال: وذكروا أن أعرابيا قدم على هارون الرشيد مستجديا، فأراد الدخول عليه، فلم يمكنه ذلك، فلما رأى أنه لم يؤذن له، أتى عبد الله بن الفضل الحاجب، فقال له: توصل كتابي هذا إلى أمير المؤمنين، وكان الرشيد قد عهد إلى حاجبه أن لا يحبس عنه كتاب أحد قرب أو بعد، فأعطاه الأعرابي كتابا فيه أربعة أسطر. السطر الأول فيه: الضرورة والأمل قاداني إليك. والثاني العدم

ص 220

يمنع من الصبر. والثالث: الانقلاب عنك بلا فائدة شماتة الأعداء. والرابع: فإما نعم مثمرة! وإما لا مريحة (1). فلما وصل الكتاب إلى الرشيد قال: هذا رجل قد ساقته الحاجة، ووصلت إليه الفاقة، فليدخل، فدخل فقال له الرشيد (2): ارفع حاجتك يا أعرابي. فقال الأعرابي: إن مع الحاجة حويجات. فقال له الرشيد: ارفع حاجتك وحويجاتك تقض كلها. قال الأعرابي: تأمر لي يا أمير المؤمنين بكلب أصيد به، فضحك الرشيد ثم قال له: قد أمرنا لك بكلب تصيد به. فقال: تأمر لي يا أمير المؤمنين بدابة أركبها. فقال الرشيد: قد أمرنا لك بدابة تركبها. فقال: تأمر لي يا أمير المؤمنين بغلام يخدم الدابة. فقال له الرشيد: قد أمرنا لك بغلام. قال الأعرابي: تأمر لي يا أمير المؤمنين بجارية تطبخ لنا الصيد، وتطعمنا منه، فقال الرشيد: قد أمرنا لك بجاريتين، جارية تؤنسك وجارية تخدمك. فقال الأعرابي: لا بد لهؤلاء، من دار يسكنونها فقال له الرشيد: قد أمرنا لك بدار، فقال الأعرابي: يا أمير المؤمنين يصيرون فيها عالة على الناس، وعلي كلالة، لا بد لهم من ضيعة تقيمهم. فقال له الرشيد: قد أقتطعتك مئة جريب (3) عامرة ومئة جريب غامرة (4)، فقال الأعرابي: ما الغامرة يا أمير المؤمنين؟ قال الرشيد: غير معمورة تأمر بعمارتها. فقال الأعرابي: أنا أقطعتك ألف ألف (5) جريب من أرض أخوالي بني أسد بالحجاز تأمر بعمارتها، فضحك الرشيد وقال: قد أقطعتكها عامرة كلها. ثم قال الرشيد: تمت حويجاتك كلها يا أعرابي؟ فقال: نعم، وبقيت حاجتي العظمى. فقال له الرشيد: ارفعها تقض. فقال أقبل رأسك (6) يا أمير المؤمنين، فقال له الرشيد: هذا لا سبيل إليه. فقال

(هامش)

(1) الخبر في عيون الأخبار 3 / 126 بين بعض الحكماء وبعض ملوك العجم والعقد الفريد 1 / 100. قال في عيون الأخبار: فلما قرأها وقع على كل سطر زه، فأعطي ستة عشر ألف مثقال فضة وفي العقد: فلما قرأها وقع تحت كل سطر منها ألف مثقال وأمر له بها. (2) هذا خبر جديد مستقل عن الذي قبله وقد ورد هذا الخبر في العقد الفريد 1 / 263 بين أبي دلامة الشاعر والمهدي. وذكرت الرواية في الأغاني بين أبي دلامة والمنصور، وقيل كانت بينه وبين السفاح (ترجمة أبي دلامة 10 / 236. وفيهما باختلاف السياق عما هنا وانظر عيون الأخبار 3 / 128). (3) في العقد ألفي جريب والجريب من الأرض ثلاثة آلاف وستمئة ذراع، وقيل: عشرة آلاف ذراع. (4) الغامرة، المغمورة المجهولة. وفي الأغاني: ما لا نبات فيه. (5) في الأغاني: خمسمئة ألف وفي العقد. خمسين ألفا. (6) في الأغاني: أقبل يدك. (*)

ص 221

الأعرابي: أتمنعني حقا هو لي، وتدفعني عما بذلت لي يا أمير المؤمنين! فقال الرشيد: هذا الأمر لا يكون يا أعرابي، ولا سبيل إلى مثل هذا. فقال الأعرابي: لا بد من أن أصل إلى حقي، إلا أن أغصبه. فقال له الرشيد: يا أعرابي أشتري منك هذا الحق الذي وجب لك. فقال له الأعرابي: هذا الحق مما لا يشترى، وهل في الأرض من المال ما يكون ثمنا لهذا أو عوضا منه؟ لا والذي نفسي بيده ما في الدنيا صفراء ولا بيضاء يشترى بها هذا. فقال الرشيد: تبيعه ببعض ما تراه من الثمن: فإنه لا يكون ولا يتوصل إليه. فقال له الأعرابي: فإذا قد أبيت فأعطني مما أعطك الله، فأمر له بمئة ألف دينار، فأتي بها إليه. فقال الأعرابي: ما هذه؟ فقيل له: هذه مئة ألف دينار تأخذها. فقال الأعرابي: هي للغرماء (1) علي، وهم أولى بها مني، فضحك الرشيد، ثم أمر له بمئة ألف أخرى. فقال: ما هذه؟ فقيل له: مئة ألف ثانية، والأولى للغرماء، وهذه لك. فقال الأعرابي: هذه لضعفاء أهلي، يصلهم بها أمير المؤمنين، فبم أوسع على نفسي؟ فأمر له الرشيد بمئة ألف ثالثة. فقيل له: هذه مئة ألف ثالثة، توسع بها على نفسك في معيشتك، أرضيت يا أعرابي؟ فقال نعم رضيت، فرضي الله عنك يا أمير المؤمنين، وابني فضالة يقرأ السلام عليك، ويسألك مئة ألف، يستعين بها في نكاحه، ويتزين بها في دنياه، وإنه قد جمع القرآن وعرف شرائعه وأحكامه، وعلم ناسخه ومنسوخه، وتفنن في ضروب من العلم، وأحكم أنواع الأدب، وقد جمع الدواوين والكتب، وتبحر في فهم الحديث والأثر، قد أخذ من كل علم أهذبه ومن كل ضرب أمحضه إلى لب لبيب، وعقل رصين، وعلم ثابت، ونظر عجيب، وفضل ودين، يصوم النهار كله، ويقوم الليل أكثره، وقد صار في كثير من الأهل والعيال، وعدد من البنين والصبيان. فقال الرشيد: أو لست تذكر يا أعرابي أنه يريد الاستعانة على النكاح، والتوسع في المعاش، ثم أراك تصفه بكثرة العيال، وعدد البنين والصبيان؟ فقال الأعرابي: يا أمير المؤمنين إنه ذو ثلاث نسوة من حرائر النساء، وتسعة من سرائر الإماء، وهو ذو خمسة من الولد من كل حرة، وذو سبع بنات من كل أمة، ويبتغي نكاح الرابعة الحرة استتماما لما أمر الله به في التنزيل المحكم، وأباح في كتابه الناطق، بكلامه الصادق. فقال الرشيد: يا أعرابي لقد سألت كثيرا، فهلا سألت مئة ألف درهم فتعطاها؟

(هامش)

(1) الغرماء: جمع غريم. المدينين المخاصمين. (*)

ص 222

قال الأعرابي: فأعطه يا أمير المؤمنين تسعين ألف دينار، واحطط عنك عشرة آلاف دينار. فقال الرشيد: والله لقد سألت كثيرا، وحططت قليلا. قال الأعرابي: إنما سألتك يا أمير المؤمنين على قدرك، وحططت على قدري، فاختر ما شئت. فقال الرشيد: يا أعرابي إنما تريد مغالبتي، لا غلبتني اليوم، فأمر له بمئة ألف دينار ذهبا. فقال له أمير المؤمنين: أرضيت يا أعرابي؟ فقال: ما بقي لي شيء يا أمير المؤمنين إلا الحملان والكسوة، وطرائف الكوفة، وتحف البصرة، وجوائز الضيافة وحقها. فقال الرشيد: وما يصلح لك من الحملان يا أعرابي؟ فقال: أقصد ما يكون دابة للجمال، وأخرى للحملان وثلاثة للاسترحال، ولابني مثل ذلك، ومن الكسوة ما لا بد منه من ثياب المهنة والاستشعار، وما لا غنى عنه من الوطاء والدثار، مع رائع الثياب التي تكون للجمال والجماعات والأعياد، ولابني وبني ابني مثل ذلك. فدعا الرشيد بجعفر بن يحيى وقال: أرحني من هذا، وأمر له بما سأل من الحملان، وما أراد به من ثياب المهنة والجمال، وأغدق عليه من التحف والطرائف ما ترضيه به، وأخرجه عني، فخرج جعفر فأمر له بما سأل وأعطاه ما أراد. ثم انصرف الأعرابي راجعا إلى الحجاز بأموال عظيمة، لا يوصف أكثرها، ولا يعرف أقلها، وكل هذا يقل عندما عرف من جود الرشيد وسخائه، وجزيل عطائه.

قتل جعفر بن يحيى بن برمك

 قال عمرو بن بحر الجاحظ: حدثني سهل بن هارون، قال (1): والله إن كان سجاعو الخطب، ومحبرو القريض لعيالا على يحيى بن خالد بن برمك وجعفر بن يحيى، ولو كان كلام يتصور درا، ويحيله المنطق السري جوهرا، لكان كلامهما، والمنتقى من لفظهما، ولقد كانا مع هذا عند كلام الرشيد، في بديهته، وتوقيعاته في أسافل كتبه، عيين، وجاهلين أميين، ولقد عبرت (2) معهم، وأدركت طبقة المتكلمين في أيامهم، وهم يرون أن البلاغة لم تستكمل إلا فيهم، ولم تكن مقصورة إلا عليهم، ولا انقادت إلا لهم، وأنهم محض الأنام،

(هامش)

(1) في العقد الفريد 5 / 58 والله إن كانوا سجعوا للخطب، وقرضوا القريض لعيال. (2) في العقد: عمرت. (*)

ص 223

ولباب الكرام، وملح الأيام، عتق منظر، وجودة مخبر، وجزالة منطق، وسهولة لفظ، ونزاهة أنفس (1)، واكتمال خصال، حتى لو فاخرت الدنيا بقليل أيامهم، والمأثور من خصالهم كثير أيام من سواهم، من لدن آدم أبيهم إلى نفخ الصور، وانبعاث أهل القبور، حاشا أنبياء الله المكرمين، وأهل وحيه المراسلين، لما باهت إلا بهم، ولا عولت في الفخر إلا عليهم، ولقد كانوا مع تهذيب أخلاقهم، وكريم أعراقهم، وسعة آفاقهم، ورفق ميثاقهم (2)، ومعسول مذاقهم، وسني (3) إشراقهم، ونقاوة أعراضهم، وطيب أغراضهم، واكتمال خلال الخير فيهم إلى مل ء الأرض مثلهم، في جنب محاسن المأمون كالنفثة في البحر، وكالخردلة في المهمة القفر. قال سهل: إني لمحصل أرزاق العامة بين يدي يحيى بن خالد في داخل سرادقه، وهو مع الرشيد بالرقة، وهو يعقدها جملا بكفه، إذ غشيته سآمة، وأخذته سنة، فغلبته عيناه. فقال: ويحك يا سهل، طرق النوم شفري عيني، فأظلمت وأكلت السنة خواطري (4)، فما ذاك؟ قلت: طيف كريم، إن أقصيته أدركك، وإن غالبته غلبك، وإن قربته روحك، وإن منعته عنتك، وإن طردته طلبك. فنام أقل من فواق بكية (5) أو نزح ركية (6)، ثم انتبه مذعورا، فقال: يا سهل، لأمر ما كان، ذهب والله ملكنا، وذل عزنا، وانقطعت أيام دولتنا. فقلت: وما ذاك أصلح الله الوزير. قال: كأن منشدا أنشدني: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا * أنيس ولم يسمر بمكة سامر (7) فأجبته عن غير روية ولا إجالة فكر: بلى نحن كنا أهلها فأبادنا * صروف الليالي والجدود العواثر (8)

(هامش)

(1) في العقد: نفس. (2) في العقد: ورونق سياقهم. (3) في العقد: وبهاء... وتهذيب أغراضهم. (4) في العقد: وحلت السنة جفني. (5) الفواق: بالضم والفتح، ما بين الحلبتين من الوقت. أو ما بين يدك وقبضها على الضرع. والبكيئة (بكية: بعد أن سهلت الهمزة وادغمت الياء بالياء) القليلة اللبن. (6) في العقد: أو نزع من ركية، والركية: البئر. (7) الحجون: جبل بأعلى مكة. (8) البيتان في معجم البلدان (حجون) من أبيات قالها مضاض بن عمرو الجرهمي يتشوق إلى مكة بعد أن أجلتهم عنها خزاعة. (*)

ص 224

فوالله ما زلت أعرفها فيه، وأراها ظاهرة منه إلى الثالث من يومه ذلك، فإني لفي مقعدي ذلك بين يديه، أكتب توقيعات في أسافل كتبه لطلاب الحاجات إليه، فقد كلفني إكمال معانيها بإقامة الوزن فيها، إذ وجدت رجلا ساعيا إليه، حتى ارتمى مكبا عليه، فرفع رأسه وقال: مهلا ويحك، ما اكتتم خير، ولا استتر سر (1). قال له: قتل أمير المؤمنين الساعة جعفرا. قال: أو فعل؟ قال: نعم، فما زاد أن رمى بالقلم من يده، وقال: هكذا تقوم الساعة بغتة. قال سهل: فلو انكفأت السماء على الأرض ما تبرأ منهم الحميم، أو استبعد عن نسبهم القريب، وجحد ولاءهم المولى، واستعبرت (2) لفقدهم الدنيا، فلا لسان يخطر بذكرهم، ولا طرف ناظر يشير إليهم، وضم يحيى وبقية ولده الفضل، ومحمدا وخالدا بنيه، وعبد الملك ويحيى وخالدا بني جعفر بن يحيى، والعاصي ويزيد (3)، ومعمرا بني الفضل بن يحيى، ويحيى وجعفرا وزيدا، بني محمد بن يحيى، وإبراهيم ومالكا وجعفرا وعمرا بني خالد بن يحيى، ومن لف لفهم، أو هجس بنفسه أمل فيهم. قال سهل: وبعث إلي الرشيد فوالله لقد أعجلت عن النظر، فدخلت ولبست ثياب أحزاني، وأعظم رغبتي إلى الله الإراحة بالسيف، وإلا نعيت كما نعي جعفر (4) فلما دخلت عليه، ومثلت بين يديه، عرف الذعر في تجريض (5) ريقي، والتمايد في طريقي، وشخوصي إلى السيف المشهور ببصري. فقال هارون: إيها يا سهل، من غمط نعمتي، واعتدى (6) وصيتي، وجانب موافقتي أعجلته عقوبتي. فوالله ما وجدت جوابها حتى قال: ليفرخ روعك، وليسكن جأشك، ولتطب نفسك، ولتطمئن حواسك. فإن الحاجة إليك قربت منك، وأبقت عليك بما يبسط منقبضك، ويطلق معقولك، فاقتصر (7) على الإشارة قبل اللسان، فإنه الحاكم الفاصل، والحسام الناصل، وأشار إلى مصرع جعفر وهو يقول:

(هامش)

(1) في العقد: شر. (2) في العقد: ولقد اعتبرت. (3) في العقد: ومزيدا . (4) في العقد: وألا يعبث بي عبث جعفر. (5) في العقد: تجرض تجرض الريق ذهاب. (6) في العقد: وتعدى. (7) في العقد: فما اقتصر على الإشارة دون اللسان. (*)

ص 225

من لم يؤدبه الجميل * ففي عقوبته صلاحه قال سهل: فوالله ما أعلمني أني عييت بجواب أحد قط غير جواب الرشيد يومئذ، فما عولت في شكره والثناء عليه، إلا على تقبيل يديه، وباطن رجليه. ثم قال لي: اذهب فقد أحللتك محل يحيى بن خالد، ووهبتك ما ضمته أبنيته (1)، وحوى سرادقه، فاقبض الدواوين، وأحص حباءه، وحباء جعفر لنأمرك بقبضه إن شاء الله. قال سهل: فكنت كمن نشر عن كفن وأخرج من حبس، فأحصيت حباءهما فوجدت عشرين ألف ألف دينار ثم قفل إلى بغداد راجعا، وفرق البرد إلى الأمصار بقبض أموالهم وغلاتهم، وأمر بجيفة جعفر، فنصبت مفصله على ثلاثة جذوع، رأسه في جذع على رأس الجسر مستقبل الفرات (2)، وبعض جسده في جذع آخر في آخر الجسر الأول وأول الجسر الثاني، مما يلي بغداد، قال سهل: فلما دنونا من بغداد، طلع الجسر الذي فيه وجه جعفر لنا أولا، واستقبلنا وجهه، واستقبلته الشمس، فوالله لخلتها تطلع من بين حاجبيه، وأنا عن يمينه، وعبد الملك بن الفضل عن يساره. فلما نظر إليه الرشيد، كأنه قنئ شعره، وطلي بنور بشره، واربد وجهه، وأغضى بصره. قال عبد الملك بن الفضل: لقد عظم ذنب لم يسعه عفو أمير المؤمنين. فقال الرشيد، واغرورقت عيناه حتى لعرفنا الجهش في صدره: من يرد غير مائه يصدر بمثل دائه، ومن أراد فهم ذنبه يوشك أن يقوم على مثل راحلته. علي بالنضاحات (3). قال سهل: فنضح عليها حتى احترقت عن آخرها، وهو يقول: أما والله لئن ذهب أثرك، لقد بقي خبرك ولئن حط قدرك لقد علا ذكرك. قال سهل: وأمر بضم أموالهم، فوجد من العشرين ألفا (4) التي كانت مبلغ حبائهم اثنى عشر ألف ألف مكتوبا على بدرها صكوك مختومة، بتفسيرها وفيمن حبوا بها، فما كان منها حباء على غريبة أو استطراف ملحة تصدق يحيى بها، وأثبت ذلك في ديوانها على تواريخ أيامها، وساعات أعطياتها، فكان ديوان إنفاق، واكتساب فائدة، وقبض من سائر أموالهم ثلاثين ألف ألف وست مئة

(هامش)

(1) في العقد: أفنيته. (2) في العقد: الصراة . والصراة: نهر بالعراق. (3) النضاحات جمع نضاحة، وهي آلة تسوى من نحاس أو الصفر للنفط وزرقه. (4) في العقد: ألف ألف. (*)

ص 226

ألف (1) وستين ألفا إلى سائر ضياعهم وغلاتهم ودورهم ورباعهم ورياشهم، والدقيق والجليل من مواعينهم، فإنه لا يصف أقله، ولا يعرف أكثره إلا من أحصى الأعمال، وعرف منتهى الآجال. وأبرزت حرمه إلى دار البانوقة ابنة المهدي، فوالله ما علمته عاش ولا عشن إلا من صدقات من لم يزل متصدقا عليه، وصار (2) من موجدة الرشيد فيما لم يعلم من ملك قبله على آخر ملكه.

 وكانت أم جعفر بن يحيى

 [وهي] فاطمة بنت محمد بن الحسن بن الحسن بن قحطبة بن شبيب قد أرضعت الرشيد مع جعفر، وكان ربي في حجرها، وغذي برسلها، لأن أمه ماتت عن مهده، فكان الرشيد يشاورها مظهرا لإكرامها، والتبرك برأيها، وكان قد إلى على نفسه، وهو في كفالتها أن لا يحجبها، وأن لا تستشفعه لأحد إلا شفعها، وآلت عليه أم جعفر أن لا دخلت عليه إلا مأذونا لها، ولا تشفعت لأحد لغرض دنيا. قال سهل: فكم أسير فكت، ومبهم عنده فتحت، ومستغلق منه فرجت. قال: واحتجب الرشيد بعد قدومه، فطلبت الإذن عليه من دار البانوقة، ومتت بوسائلها إليه، فلم يأذن لها ولا أمر بشيء فيها، فلما طال ذلك بها خرجت كاشفة وجهها، واضعة لثامها، محتفية في مشيتها، حتى صارت بباب قصر الرشيد فدخل عبد الملك بن الفضل الحاجب، فقال ظئر (3) أمير المؤمنين بالباب، في حالة تقلب شماتة الحاسد إلى حنين الولد وشفقة أم الواحد، فقال له الرشيد: ويحك يا بن الفضل: أو ساعية؟ فقال: نعم أصلح الله الأمير حافية. فقال: أدخلها يا عبد الملك، فرب كبد كريم غذتها، وكربة فرجتها، وعورة سترتها. قال سهل: فوالله ما شككت في شيء قط ما شككت يومئذ في إجابة طلابها وإسعافها بحاجتها. فلما دخلت ونظر إليها داخلة محتفية قام محتفيا حتى تلقاها بين عمد المجلس، فأكب على تقبيل رأسها ومواضع ثديها (4)، ثم أجلسها معه. فقالت: يا أمير المؤمنين، أيعدو علينا الزمان، ويجفونا خوفا لك الإخوان (5)، يحردك بنا البهتان، ويوسوس لك

(هامش)

(1) في العقد: وستة وسبعين ألفا. (2) في العقد: وما رأوا مثل موجدة الرشيد فيما يعلم... (3) الظئر: العاطفة على غير ولدها المرضعة له من الناس والإبل، الذكر والأنثى في ذلك سواء. (4) في العقد: ثدييها. (5) في العقد: الأعوان. (*)

ص 227

بأذانا الشيطان، وقد ربيتك وأخذت برضاعي لك الأمان من دهري. فقال لها: وما ذلك يا أم الرشيد؟ قال سهل: فآيسني من رأفته بتركه كنيتها آخرا ما كان أطمعني منه في بره بها أولا. قالت له: ظئرك يحيى وأبوك بعد أبيك، ولا أرشحه (1) بأكثر مما عرفه به أمير المؤمنين من نصيحته له، وإشفاقه عليه، وتعرضه للحتف في شأن موسى أخيه. فقال: يا أم الرشيد، قدر سبق، وقضاء حم، وغضب من الله نزل. قالت: يا أمير المؤمنين: يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب. فقال الرشيد: صدقت، فهذا مما لا يمحوه الله. فقالت: الغيب محجوب عن النبيين، فكيف عنك يا أمير المؤمنين؟ فأطرق الرشيد يسيرا ثم قال: وإذا المنية أنشبت أظفارها * ألفيت كل تميمة لا تنفع (2) فقال بغير روية: ما أنا ليحيى بتميمة يا أمير المؤمنين. وقد قيل: وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد * ذخرا يكون كصالح الأعمال (3) هذا بعد قول الله: (والكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس، والله يحب المحسنين) [آل عمران: 134] فأطرق هارون قليلا ثم قال: إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد * إليه بوجه آخر الدهر تقبل فقالت: يا أمير المؤمنين وهو يقول: ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني * يمينك فانظر إي كف تبدل؟ قال الرشيد: رضيت. فقالت: يا أمير المؤمنين، فهبه (4) لله تعالى، فقد قال رسول الله صلى عليه وسلم: من ترك شيئا لله لم يوجده الله، فأكب الرشيد مليا، ثم رفع رأسه وهو يقول: لله الأمر من قبل ومن بعد. قالت: يا أمير المؤمنين: (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم) [الروم: 5]. واذكر يا أمير المؤمنين أليتك: ما استشفعت إلا شفعتني.

(هامش)

(1) في العقد: ولا أصفه. (2) البيت لأبي ذؤيب. ديوان الهذليين 1 / 3، المفضليات ص 422. (3) البيت للأخطل (ذكره المبرد في الكامل ص 525 للخليل بن أحمد) وهو في ديوانه 1 / 140. طبقات النحويين ص 40. (4) قي العقد: فهبه لي يا أمير المؤمنين. (*)

ص 228

قال: واذكري يا أم الرشيد أليتك: أن لا شفعت لمقترف ذنبا. قال سهل بن هارون: فلما رأته صرح بمنعها، ولاذ من مطلبها، أخرجت له حقا من زمردة (1) خضراء، فوضعته بين يديه، فقال الرشيد: ما هذا؟ ففتحت عنه قفلا من ذهب، فأخرجت منه خفضه (2) وذوائبه وثناياه، قد غمست جميع ذلك في المسك. فقالت: يا أمير المؤمنين: أستشفع إليك، وأستعين بالله عليك، وبما صار معي من كريم جسدك، وطيب جوارحك، ليحيى عبدك. فأخذ هارون ذلك فلثمه، ثم استعبر وبكى بكاء شديدا. وبكى أهل المجلس، ومر البشير إلى يحيى، وهو لا يظن إلا أن البكاء رحمة له، ورجوع عنه. فلما أفاق رمى جميع ذلك في الحق، وقال لها: لحسن ما حفظت الوديعة. قالت: وأهل للمكافأة أنت يا أمير المؤمنين. فسكت، وطبع (3) الحق، ودفعه إليها، وقال: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) [النساء: 58]، قالت: يا أمير المؤمنين وقال عز وجل: (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) [النساء: 58]، وقال تعالى: (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم) [النحل: 91]، فقال لها: وما ذاك يا أم الرشيد؟ قالت: ما أقسمت لي به يا أمير المؤمنين، أن لا يحجبك عني حاجب (4). فقال لها: يا أم الرشيد، أحب أن تشتريه محكمة فيه. قالت: أنصفت يا أمير المؤمنين، وقد فعلت غير مستقيلة لك، ولا راجعة عنك. قال: بكم؟ قالت: برضاك عمن لم يسخطك. قال: يا أم الرشيد، أمالي عليك من الحق مثل الذي لهم؟ قالت: بلى يا أمير المؤمنين، إنك لأعز علي، وهم أحب إلي، قال: إذا فتحكمي في ثمنه بغيرهم. قالت: بلى وقد وهبتكه وجعلتك في حل منه، وقامت عنه، فبقي الرشيد مبهوتا، ما يحير لفظة. قال سهل: وخرجت عنه فلم تعد إليه، ولا والله إن رأيت عيني لعينها عبرة، ولا سمعت أذني لنعيها أنة. قال سهل: وكان الأمين رضيع يحيى بن جعفر، فمت إليه يحيى بن خالد بذلك، فوعده استيهاب أمه إياهم، ثم شغله اللهو عنهم، فكتب إليه يحيى،

(هامش)

(1) في العقد: زبرجدة. (2) في العقد: قميصه. (3) في العقد: وقفل. (4) في العقد: أن لا تحجبني ولا تجبهني. (*)

ص 229

وقيل: إنها لسليمان الأعمى أخي مسلم بن الوليد: يا ملاذي وعصمتي وعمادي * ومجيري من الخطوب الشداد بك قام الرجاء في كل قلب * زاد فيه البلاء كل مزاد إنما أنت نعمة أعقبتها * أنعم نفعها لكل العباد وعد مولاك أتممته (1) فأبهى الدر * ما زين حسنه بانعقاد ما أظلت سحائب اليأس إلا * خلت (2) في كشفها عليك اعتمادي إن تراخت يداك عني فواقا * أكلتني الأيام أكل الجراد وبعث بها إليه، فبعثها الأمين إلى أمه زبيدة، فأعطتها الرشيد وهو في موضع لذاته، وفي إقبال من أريحيته، وتهيأت للاستشفاع لهم، وهيأت جواريها ومغنياتها، وأمرتهن بالقيام إليه معها. فلما فرغ الرشيد من قراءتها لم ينقض حبوته حتى وقع في أسفلها: عظيم ذنبك أمات خواطر العفو عنك. ورمى بها إلى زبيدة، فلما رأت توقيعه علمت أنه لا يرجع عنه. قال: واعتل يحيى، فلما شفي دعا برقعة فكتب في عنوانها: ينفذ أمير المؤمنين أبقاه الله عهد مولاه يحيى بن خالد، وفيه: بسم الله الرحمن الرحيم، قد تقدم الخصم لموضع الفصل (3)، وأنت على الأثر، والله الحكم العدل. فلما ثقل قال للسجان: هذا عهدي، توصله إلى أمير المؤمنين، فإنه ولي نعمتي، وأحق من نفذ وصيتي فلما مات أوصل السجان عهد يحيى إلى الرشيد. فلما قرأه استمد، فكتب، ولا أدري لمن الرقعة. فقلت: يا أمير المؤمنين، ألا أكفيك؟ قال: كلا، إني أخاف عادة الراحة أن يقوى سلطان العجزة فيحكم الغفلة، ويقضي بالبلادة. قال سهل: فوقع فيه: الحكم الذى رضيت به في الآخرة لك، هو أعدى الخصوم عليك في الدنيا، وهو من لا ينقض حكمه، ولا يرد قضاؤه (4)، ثم رمى الكتاب إلي، فلما رأيته علمت أنه ليحيى، وأن الرشيد أراد أن يؤثر الجواب عنه.

(هامش)

(1) في العقد: أتممنه. (2) في العقد: كان. (3) في العقد 5 / 69 إلى موقف الفصل. (4) ذكر اليعقوبي في تاريخه 2 / 423 أن يحيى كتب إلى الرشيد يستعطفه.. فوقع على ظهر رقعته: إنما مثلك يا يحيى ما قال الله عز وجل: (وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون). (*)

ص 230

قال سهل: قلت لبعض من أثق بوفائه، وأعتقد صدق إخائه من خصيان القصر المتقدمين عند أمير المؤمنين، والمتمكنين من كل ما يكون لديه. ما الذي نعى جعفر بن يحيى وذويه عند أمير المؤمنين، وما كان من ذنبه الذي لم يسعه عفوه، ولم يأت عليه رضاه؟ فقال: لم يكن له جرم، ولا لديه ذنب، كان والله جعفر على ما عرفته عليه، وفهمته عنه من اكتمال خصال الخير، ونزاهة النفس من كل مكروه ومحذور، إلا أن القضاء السابق، والقدر النافذ لا بد منه. كان من أكرم الخلق على أمير المؤمنين، وأقربهم منه، وكان أعظمهم قدرا وأوجبهم حقا فلما علم ذلك من حسن رأي أمير المؤمنين فيه وشديد محبته له، استأذنته أخته، فاختة بنت المهدي وشقيقته في إتحاف جعفر ومهاداته، فأذن لها، وكانت قد استعدت له بالجواري الرائعات، والقينات الفاتنات، فتهدي له كل جمعة بكرا يفتضها، إلى ما يصنع له من ألوان الطعام والشراب والفاكهة، وأنواع الكسوة والطيب، كل ذلك بمعرفة أمير المؤمنين ورأيه، فاستمرت بذلك زمانا، ومضت به أعواما. فلما كانت جمعة من الجمع، دخل جعفر القصر الذي استعدت به، ولم يرع جعفر إلا بفاختة ابنة المهدي في القصر، كأنها جارية من الجواري اللاتي كن يهدين له، فأصاب منها لذته، وقضى منها حاجته، ولا علم له بذلك. فلما كان المساء، وهم بالانصراف، أعلمته بنفسها، وعرفته بأمرها، وأطلعته على شديد هواها، وإفراط محبتها له، فازداد بها كلفا، وبها حبا، ثم استعفاها من المعاودة إلى ذلك. وانقبض عما كان يناله من جواريها، واعتذر بالعلة والمرض، فأعلم جعفر أباه يحيى. فقال له: يا بني أعلم أمير المؤمنين ما كان معجلا، وإلا فأذن لي فأعلمه، فإني أخاف علينا يوم سوء إن تأخر هذا، وبلغه من غيرنا، وإعلامك له في هذا الوقت يسقط عنا ذلك الذنب، فهي أحق بالعقوبة منك قال جعفر: لا والله لا أعلمته به أبدا، فالموت علي أيسر منه، وأرجو الله أن لا يطلعه عليه، فقال له يحيى: لا تظن هذا يخفى عليه، فأطعني اليوم وأعلمه. فقال جعفر: والله لا أفعل هذا أبدا ولا أتكلم به، وبالله أستعين، فلم يرع الرشيد إلا أن رفعت إليه جارية من جواريها رقعة، وأعلمت ذلك فيها فاستحق ذلك عند الرشيد باستعفاء جعفر لما كان من إتحافها، واعتذاره بالعلة من غير مرض ينهكه، فغفل عنه الرشيد، ولم ير لذلك جفوة، ولا زاد له إلا كرامة، ولا لديه إلا حرمة ورفعة، حتى قرب وقت الهلاك، ودنا

ص 231

منقلب الحتف، والله أعلم (1). قد تم بعون الله تعالى ما به ابتدأنا، وكمل وصف ما قصصنا، من أيام خلفائنا وخير أئمتنا، وفتن زمانهم، وحروب أيامهم، وانتهينا إلى أيام الرشيد، ووقفنا عند انقضاء دولته، إذ لم يكن في اقتصاص أخبار من بعده، ونقل حديث ما دار على أيديهم، وما كان في زمانهم كبير منفعة، ولا عظيم فائدة، وذلك لما انقضى أمرهم، وصار ملكهم إلى صبية أغمار (2)، غلب عليهم زنادقة العراق، فصفوهم إلى كل جنون، وأدخلوهم إلى الكفر، فلم يكن لهم بالعلماء والسنن حاجة، واشتغلوا بلهوهم، واستغنوا برأيهم. وكان الرشيد مع عظم ملكه، وقدر شأنه، معظما للخير وأهله، محبا لله ورسوله،

 ولما دخلت عليه سنة تسعين ومئة

 أخذته الحمى (3) التي أخبر بها جده أبو جعفر المنصور، وهو في المهد صغيرا، فعرف أنه قد دنا أجله، وحان هلاكه، فاجتمع إليه أطباء العراق يعالجونه، ثم استعان بأطباء الروم والهند، واستجلبهم من الآفاق، فلم يزالوا يداوونه حتى مضت له ثلاثة أعوام، وما أقلعت عنه، ولم يزده العلاج إلا شدة. فلما دخلت

(هامش)

(1) كذا بالأصل، فاختة بنت المهدي، والمصادر تذكر العباسة أخت الرشيد بنت المهدي. وفي وفيات الأعيان أن يحيى بن خالد ضيق على عيال الرشيد في النفقة حتى شكت زبيدة إلى الرشيد ثم أفشت له سر العباسة فاستشاط غضبا. قال ابن كثير: ومن العلماء من ينكر ذلك (يعني أن سبب قتلهم هو ما ذكر عن قصة العباسة) وإن كان ابن جرير قد ذكره. والناس في سبب إيقاع الرشيد بالبرامكة مختلفون اختلافا كبيرا، وقد تناول المؤرخون كثيرا منها ولم يرجحوا أي منها، فكل من الأسباب جدير بالاهتمام. يرى بعضهم أن نكبتهم تعود إلى حوادث ليست فجائية وإنما هي أمور تتابعت، وأسباب متراكمة. وقد لعب أخصام البرامكة دورا هاما وقد استخدموا البطانة والشعراء والمغنين ليلعبوا على أعصاب الرشيد حتى استطاعوا، كما ذكر ابن خلدون في مقدمته: استثارة حفائظه لهم. ولعل السبب الأقوى ما رواه الفخري ص 190 أن الرشيد قال: استبد يحيى بالأمور دوني، فالخلافة على الحقيقة له، وليس لي منها إلا الاسم . وقد أنشده بعضهم ما يثير الحقد في نفسه ويغذي عامل المنافسة عنده: ليت هندا أنجزتنا ما تعد * وشفت أنفسنا مما تجد واستبدت مرة واحدة * إنما العاجز من لا يستبد أنظر الطبري وابن الأثير وابن كثير (حوادث سنة 187) وانظر مروج الذهب 3 / 451 وما بعدها وتاريخ اليعقوبي 2 / 422. (2) الأغمار جمع غمر الشاب قليل التجربة، قليل الحنكة السياسية ونحوها. (3) في علته التي مات بها قيل: كان مرضه بالدم، وقيل بالسل. (البداية والنهاية 10 / 240). (*)

ص 232

سنة أربع (1) وتسعين ومئة أثرت به، وأنهكت بدنه، واشتد ألمه، وتمادى به وجعه، فذكر البيعة لابنه المأمون. فلما سمعت بذلك زبيدة، وكان ابنها منه محمد الأمين، هجرته وتغاضت عنه، وأكربها ذلك وغمها، حتى ظهر ذلك عليها، وبدا أثر الغم في وجهها، ودخلت عليه تعاتبه في ذلك أشد المعاتبة، وتؤاخذه أعنف المؤاخذة. فقال لها الرشيد: ويحك! إنما هي أمة محمد، ورعاية من استرعاني الله تعالى مطوقا بعنقي وقد عرفت ما بين ابني وابنك، ليس ابنك يا زبيدة أهلا للخلافة، ولا يصلح للرعاية. قالت: ابني والله خير من ابنك، وأصلح لما تريد، ليس بكبير سفيه، ولا صغير فهيه، وأسخى من ابنك نفسا، وأشجع قلبا. فقال هارون: ويحك! إن ابنك قد زينه في عينك ما يزين الولد في عين الأبوين، فاتقي الله، فوالله إن ابنك لأحب إلي، إلا أن الخلافة لا تصلح إلا لمن كان لها أهلا، ولها مستحقا، ونحن مسؤولون عن هذا الخلق، ومأخوذون بهذا الأنام، فما أغنانا أن نلقى الله بوزرهم، وننقلب إليه بإثمها، فاقعدي حتى أعرض عليك ما بين ابني وابنك، فقعدت معه على الفراش، فدعا ابنه عبد الله المأمون، فلما صار بباب المجلس سلم على أبيه بالخلافة، فأذن له بالجلوس فجلس، وأمر له فتكلم، فحمد الله على ما من به عليه من رؤية أبيه، ورغب إليه في تعجيل الفرج مما به، ثم استأذن في الدنو من أبيه، فدنا منه، وجعل يلثم أسافل قدميه ويقبل باطن راحتيه، ثم انثنى ساعيا إلى زبيدة، فأقبل على تقبيل رأسها، ومواضع ثدييها، ثم انحنى إلى قدميها، ثم رجع إلى مجلسه. فقال الرشيد: يا بني إني أريد أن أعهد إليك عهد الإمامة، وأقعدك مقعد الخلافة، فإني قد رأيتك لها أهلا وبها حقيقا، فاستعبر عبد الله المأمون باكيا، وصاح منتحبا يسأل الله العافية من ذلك، ويرغب إليه أن لا يريه فقد أبيه. فقال له: يا بني إني أراني لما بي وأنت أحق، وسلم الأمر لله، وارض به، واسأله العون عليه، فلا بد من عهد يكون في يومي هذا. فقال عبد الله المأمون: يا أبتاه، أخي أحق مني وابن سيدتي، ولا إخال إلا أنه أقوى على هذا الأمر مني، ثم أذن له فقام خارجا. ثم دعا هارون بابنه محمد، فأقبل يجر ذيله، ويتبختر في مشيته، فمشى داخلا بنعليه قد نسي السلام، وذهل عن

(هامش)

(1) كذا بالأصل، أنظر بعد أسطر ما سنلاحظه في وقت وفاته. (*)

ص 233

الكلام، نخوة وتجبرا، وتعظما وإعجابا، فمشى حتى صار مستويا مع أبيه على الفراش. فقال هارون: ما تقول أي بني، فإني أريد أن أعهد إليك؟ فقال: يا أمير المؤمنين ومن أحق بذلك مني، وأنا أسن ولدك، وابن قرة عينك. فقال هارون: اخرج يا بني، ثم قال لزبيدة: كيف رأيت ما بين ابني وابنك؟ فقالت: ابنك أحق بما تريد، فكتب عهد عبد الله المأمون، ثم محمد الأمين بعده (1).

 فلما كان سنة خمس وتسعين مئة (2)،

 توفي الرشيد رحمه الله، وعبد الله المأمون خارج عن العراق (3)، وكان وجهه أبوه بالجيوش إلى بعض الفرس لشيء بلغه عنهم، فلظ (4) بمحمد الأمين قوم من شرار أهل العراق. فقيل له: معك الأموال والرجال والقصور، فادفع في نحر أخيك المأمون، فإنك أحق بهذا الأمر منه (5)، وأعانته على ذلك أمه زبيدة، فقدم أخوه عبد الله من بغداد (6)، ومعه

(هامش)

(1) كذا بالأصل، وهو تحريف ظاهر. وثمة اتفاق بين المؤرخين على أن الرشيد بايع لعبد الله المأمون بعد أخيه محمد الأمين، ثم بايع لابنه القاسم بولاية عهد المأمون. كان الرشيد يرى بالمأمون رجل الدولة الرصين، وقد قال فيه: إن فيه لحزم المنصور وشجاعة المنصور. وكان يقول في الأمين: إن وليت محمدا مع ركوبه هواه وانهماكه في اللهو واللذات خلط على الرعية، وضيع الأمر، حتى يطمع فيه الأقاصي من أهل البغي والمعاصي. وبعد مداولات بين الرشيد ومستشاريه وقواده وتدخل زبيدة الفاعل بايع محمدا بولاية عهده وتصيير عبد الله من بعده. وفي سنة 186 حج الرشيد، ولما وصل إلى مكة ومعه أولاده والفقهاء والقضاة والقواد كتب كتابا أشهد فيه على محمد الأمين بالوفاء للمأمون، وكتب كتابا للمأمون عليه الوفاء للأمين، وعلق الكتابين في الكعبة، وجدد العهود عليهما في الكعبة (نسخة الكتابين في الطبري 10 / 73 واليعقوبي 2 / 416. وانظر مروج الذهب 3 / 432 الأخبار الطوال ص 389 - 390 ابن الأثير 4 / 63 - 64). (2) ثمة إجماع في مصادر ترجمته على وفاته سنة 193. قال خليفة في تاريخه ص 460 مات بطوس من أرض خراسان ليلة السبت غرة جمادى الآخرة سنة 193 وهو ابن أربع وسبعين سنة. وبعد موت الرشيد بويع لمحمد الأمين، قال في مروج الذهب: في اليوم الذي مات فيه الرشيد. (3) كان المأمون بمرو، لما جاءه خبر موت الرشيد. (4) لظ به: اتصل به وتقرب إليه. (5) كذا بالأصل. (6) كذا بالأصل، وقد مر أن المأمون كان ببعض نواحي خراسان - مرو -. وقد ذكرت المصادر التاريخية أن الخلاف بين الأخوين الأمين والمأمون بدأ عندما أحس الرشيد من خلال علاقات ولديه ببعضهما البعض، وبطانة كل منهما بأن الحال لن يستقيم بينهما فعمد إلى تجديد العقود بينهما وكتابة العهود عليهما وتعليقها في الكعبة، وقد قال الناس يومذاك أنه قد ألقى بينهما شرا وحربا. وقد عبر رجل من هذيل عن تخوف الناس من شر العاقبة قال: (*)

ص 234

الجيوش قد أخذ بيعتهم، فنهض إليه الأمين قاصدا ومعه الجيوش، فلم يرجع ولم يمانع، ولم يختلف عليه أحد، ثم إنه غدر بأخيه الأمين لما بلغه عنه. فنهض المأمون إلى القصر فدخله، فأخذ أخاه وشد وثاقه وحبسه، وأشار إلى أمه لما أعانته عليه، فهرب محمد من الحبس، فبعث المأمون في طلبه، فأخذ وقتل (1) والله تعالى أعلم. [انتهى الجزء الثاني من كتاب الإمامة والسياسة]

(هامش)

= وبيعة قد نكثت أيمانها * وفتنة قد سعرت نيرانها وتفاقم الخلاف بينهما عندما هم الأمين بخلع المأمون من ولاية عهده. وكانت بينهما حروب (أنظر الطبري - وابن الأثير وابن كثير حوادث سنة 194 ومروج الذهب 3 / 476 - 477 والأخبار الطوال ص 394 - 395). انتهت بقتل الأمين. (1) وكان ذلك ليلة الأحد لخمس بقين من المحرم سنة 198 ه‍. (مروج الذهب 3 / 501). (*)

 

الصفحة السابقة

الإمامة والسياسة (ج2)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب