الصفحة السابقة الصفحة التالية

الإمامة والسياسة (ج2)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 181

الأمر الذي عزمت عليه، فكف عن ذلك. فسار إلى مكة حاجا وللموسم. وخرج أبو مسلم، فكان إذا كتب إلى أبي جعفر يبدأ بنفسه، ثم يكتب إليه: لا يهولنك ما في صدر الكتاب، فإني لك بحيث تحب، ولكني أحب أن يعلم أهل خراسان أن لي منزلة عند أمير المؤمنين.

 كتاب أبي مسلم إلى أبي جعفر وقد هم أن يخلع ويخالف

 قال: وذكروا أن أبا مسلم لما رجع من عند أبي العباس، وقد قيل له بالعراق إن القوم أرادوك، لولا توقعوا ممن معك من أهل خراسان، فلما كان في بعض الطريق كتب إلى أبي جعفر: أما بعد، فإني كنت اتخذت أخاك (1) إماما ودليلا على ما افترض الله على خلقه، وكان في محله من العلم، وقرابته من رسول الله صلى الله عليه وآله بحيث كان، فقمعني بالفتنة، واستجهلني بالقرآن، فحرفه عن مواضعه، طمعا في قليل قد نعاه (2) الله إلى خلقه، فمثل لي الضلالة في صورة الهدى، فكان كالذي دلي بغرور، حتى وترت (3) أهل الدين والدنيا في دينهم، واستحللت بما كان من ذلك من الله النقمة، وركبت المعصية في طاعتكم، وتوطئة سلطانكم، حتى عرفكم من كان يجهلكم، وأوطأت غيركم العشواء (4) بالظلم والعدوان، حتى بلغت في مشيئة الله ما أحب. ثم إن الله بمنه وكرمه أتاح لي الحسنة، وتداركني بالرحمة، واستنقذني بالتوبة، فإن يغفر فقديما عرف بذلك، وإن يعاقب فيما قدمت يداي، وما الله بظلام للعبيد (5). فكتب إليه أبو جعفر: يا عم (6)، أروم ما رمت، وأزول حيث زلت، ليس لي دونك مرمى، ولا عنك مقصر، الرأي ما رأيت، إن كنت أنكرت من سيرته شيئا، فأنت الموفق للصواب، والعالم بالرشاد، أنا من لا يعرف غير يدك، ولم يتقلب إلا في فضلك، فأنا غير كافر بنعمتك، ولا منكر لإحسانك لا تحمل علي إصر

(هامش)

(1) يعني إبراهيم الإمام وفي الطبري 7 / 483: رجلا. (2) في الطبري: تعافاه. (3) أي أصبت منهم شيئا يطلبونني به. (4) العشواء: الظلمة. أي جعلت غيركم في ظلام لا يدرون كيفية المخرج منه. (5) الكتاب في الطبري باختلاف وزيادة. (6) كان أبو العباس وأبو جعفر يناديان أبا مسلم: يا عم . (*)

ص 182

غيري، ولا تلحق ما جناه سواي بي، إن أمرتني أشخص إليك، وألحق بخراسان فعلت. الأمر أمرك. والسلطان سلطانك، والسلام.

 موت أبي العباس واستخلاف أبي جعفر

 قال: وذكروا أن أبا جعفر لما انقضى الموسم، وانصرف راجعا، جاءه موت أبي العباس وكان بينه وبين أبي مسلم مرحلة. فكتب إلى أبي مسلم: إنه قد حدث حدث ليس مثلك غائب عنه، فالعجل العجل. قال إسحاق بن مسلم: فقلت لأبي جعفر وأنا أسايره، ونحن مقبلون من مكة: أيها الرجل، لا ملك لك، ولا سلطان مع هذا العبد. فقال أبو جعفر: ظهر غشك، وبدا منك ما كنت تكتم، بأبي مسلم يفعل هذا؟ قلت: نعم، فإني أخاف عليك منه يوم سوء فقال: كذبت. قال إسحاق: فسكت ثم لقيته بعد ذلك من الغد، ولا والله ما عرفتها فيه، وعاودني بمثل كلامه الأول، فقلت له: أكثر أو أقل، إن لم تقتله والله يقتلك. قال: فهل شاورت في هذا أحدا؟ قلت: لا، قال: اسكت، فسكت. فقدم الكوفة، فإذا عيسى بن موسى قد سبقه إلى الأنبار، وغلب على المدينة والخزائن، وبيت الأموال والدواوين، وخلع عبد الله، وتوثب على أبي جعفر، ودعا أهل خراسان فألحقهم باليمن، وجعل لهم الجعائل (1) الجليلة، والعطايا الجزيلة، فلما قدم أبو جعفر، سلم الأمر لعيسى بن موسى (2)، وتوثب عبد الله بن علي على أهل خراسان بالشام (3)، فقتلهم ودعا إلى نفسه، وأتاه أبو غانم عبد الحميد بن ربعي فقال: إن أردت أن يصفو لك الأمر فاقتل أهل خراسان، وابدأ بي. فلما قدم أبو جعفر من مكة قال لأبي مسلم: إنما هو أنا وأنت، والأمر أمرك، فامض إلى عبد الله بن علي وأهل الشام. فلما سار إليه أبو مسلم، سار معه القواد وغيرهم، فلقي عبد الله بن علي وأهل الشام فهزمهم، وأسر عبد الله بن

(هامش)

(1) الجعائل جمع جعيلة، وهي العطايا والأرزاق. (2) كذا بالأصل. وفي الطبري: سلم عيسى بن موسى إلى أبي جعفر الأمر. وفي الأخبار الطوال أن عيسى بن موسى دعا الناس إلى بيعته وخلع ولاية العهد عن أبي جعفر.. فلما وافى أبو جعفر اعتذر إليه عيسى، وأعلمه أنه إنما أراد بذلك ضبط العسكر. فقبل منه أبو جعفر ذلك، ولم يؤاخذه بما كان منه. (3) ذكر المؤلف - خطأ - خروج عبد الله بن علي على أبي العباس قريبا، ثم يذكر هنا خبر خروجه على أبي جعفر وهذه هي الرواية الصحيحة عن خروجه وقد أشرنا إلى ذلك هناك. (*)

ص 183

علي (1)، وبعث به إلى أبي جعفر، فاستنكر أبو جعفر قعود أبي مسلم عنه، فبعث إليه يقطين بن موسى (2) ورجلا معه على القبض. فقال أبو مسلم: لا يوثق بي بهذا ونحوه فوثب وشتم، وقال قولا قبيحا. فقال له يقطين بن موسى: جعلت فداك، لا تدخل الغم على نفسك، إن أحببت رجعت إلى أمير المؤمنين، فإنه إن علم أن هذا يشق عليك لم يدخل عليك مكروها. ثم قدم أبو جعفر من الأنبار حتى قدم المدائن، وخرج أبو مسلم فأخذ طريق خراسان مخالفا لأبي جعفر. فكتب إليه أبو جعفر: قد أردت مذاكرتك في أشياء لم تحملها الكتب، فأقبل فإن مقامك عندنا قليل. فلم يلتفت أبو مسلم إلى كتابه. فبعث إليه أبو جعفر، جرير (3) بن يزيد بن جرير بن عبد الله البجلي، وكان أبو مسلم يعرفه. فقال له: أيها الأمير، ضربت الناس عن عرض لأهل هذا البيت، ثم تنصرف على مثل هذه الحال، إن الأمر عند أمير المؤمنين لم يبلغ ما تكره، ولا أرى أن تنصرف على هذه الحال، فيقول أبو مسلم: ويحك إني دليت بغرور (4)، وأخاف عدوه (5).

 قتل أبي مسلم

 قال: وذكروا أن جريرا لم يزل بأبي مسلم حتى أقبل به، وكان أبو مسلم يقول: والله لأقتلن في الروم، فأقبل منصرفا، فلما قدم على أبي جعفر وهو يومئذ بالرومية من المدائن، أمر الناس يتلقونه، وأذن له فدخل على دابته، ورحب به وعانقه، وأجلسه معه على السرير، وقال له: كدت أن تخرج ولم أفض إليك بما

(هامش)

(1) تقدم، أن عبد الله بن علي خلص في نفر من خواصه إلى البصرة واختفى عند سليمان بن علي وكان واليا عليها. (أنظر الطبري - مروج الذهب - الأخبار الطوال). (2) كذا بالأصل والأخبار الطوال ومروج الذهب، وفي الطبري وابن الأثير: أبا الخصيب مولى أبي جعفر. وفي تاريخ اليعقوبي 2 / 366: بعث أبو جعفر برسل منهم: إسحاق بن مسلم العقيلي ويقطين بن موسى، ومحمد بن عمرو النصيبي التغلبي. (3) في الأخبار الطوال: جرير بن يزيد بن عبد الله وفي تاريخ اليعقوبي: جرير بن عبد الله ، وفي تاريخ خليفة: سلمة بن سعيد بن جابر وكان صهر أبي مسلم، كانت خالته تحت مسلم. ويقال: جرير بن يزيد بن جرير بن عبد الله. (وهو ما قاله في مروج الذهب). (4) أي خدعت في الأمر. (5) أنظر مقابلة جرير لأبي مسلم في مروج الذهب 3 / 355. والطبري 7 / 483. (*)

ص 184

تريد. فقال: قد أتيت يا أمير المؤمنين، فليأمرني بأمره. قال: انصرف إلى منزلك، وضع ثيابك وادخل الحمام، ليذهب عنك كلال السفر، وجعل أبو جعفر ينتظر به الفرصة، فأقام أياما يأتي أبا جعفر كل يوم، فيريه من الاكرام ما لم يره قبل ذلك، حتى إذا مضت له أيام أقبل على التجني. فأتى أبو مسلم إلى عيسى بن موسى، فقال: اركب إلى أمير المؤمنين، فإني قد أردت عتابه بمحضرك. فقال عيسى: أنت في ذمتي، فأقبل أبو مسلم، فقيل له: ادخل. فلما صار إلى الزقاق الداخلي، قيل له إن أمير المؤمنين يتوضأ، فلو جلست؟ فجلس، وأبطأ عيسى بن موسى عليه، وقد هيأ له أبو جعفر عثمان بن نهيك، وهو على حرسه في عدة، فيهم شبيب بن رياح (1)، وأبو حنيفة حرب بن قيس، فتقدم أبو جعفر إلى عثمان فقال له: إذا عاتبته فعلا صوتي فلا تخرجوا. وجعل عثمان وأصحابه في ستر خلف أبي مسلم في قطعة من الحجرة، وقد قال أبو جعفر لعثمان بن نهيك: إذا صفقت بيدي فدونك يا عثمان. فقيل لأبي مسلم: أن قد جلس أمير المؤمنين، فقام ليدخل، فقيل له: انزع سيفك فقال: ما كان يصنع بي هذا. فقيل: وما عليك؟ فنزع سيفه، وعليه قباء أسود وتحته جبة خز، فدخل فسلم، وجلس على وسادة ليس في المجلس غيرها، وخلف ظهره القوم خلف ستر. فقال أبو مسلم: صنع بي يا أمير المؤمنين ما لم يصنع بأحد، نزع سيفي من عنقي. قال: ومن فعل ذلك قبحه الله؟ ثم أقبل يعاتبه، فعلت وفعلت، فقال: يا أمير المؤمنين، لا يقال مثل هذا لي على حسن بلائي، وما كان مني؟ فقال له أبو جعفر: يا بن الخبيثة، والله لو كانت أمة أو امرأة مكانك لبلغت ما بلغت في دولتنا، ولو كان ذلك إليك ما قطعت فتيلا. ألست الكاتب إلي تبدأ بنفسك، والكاتب إلي تخطب آمنة (2) ابنة علي ابن عمي، وتزعم أنك أبو مسلم بن سليط بن عبد الله بن العباس (3)، لقد ارتقيت، لا أم لك، مرتقى صعبا. قال: وأبو جعفر ترعد يده، فلما رأى أبو مسلم غضبه قال: يا أمير

(هامش)

(1) في الطبري: شبيب بن واج المروروذي. وفي مروج الذهب: شبيب بن رواح المروروذي. وفي الأخبار الطوال: شبث بن روح. (2) في الطبري أمينة، وفي مروج الذهب 3 / 357 وابن خلكان 3 / 154 آسية وفي الأخبار الطوال: عمتي آمنة بنت علي بن عبد الله وانظر تاريخ اليعقوبي 2 / 367. (3) زيد في الطبري 7 / 491 ما دعاك إلى قتل سليمان بن كثير مع أثره في دعوتنا وهو أحد نقبائنا. (أنظر مروج الذهب 3 / 357). (*)

ص 185

المؤمنين، لا تدخل على نفسك هذا الغم من أجلي، فإن قدري أصغر مما بلغ منك هذا. فصفق أبو جعفر بيده فخرج عثمان بن نهيك، فضربه ضربة خفيفة، فأومأ أبو مسلم إلى رجل أبي جعفر يقبلها ويقول: أنشدك الله يا أمير المؤمنين، استبقني لأعدائك، فدفعه برجله وضربه شبيب على حبل العاتق (1) فأسرعت فيه، فقال أبو مسلم: وانفساه: ألا قوة؟ ألا مغيث؟ وصاح أبو جعفر: أضرب لا أم لك، فاعتوره القوم بأسيافهم فقتلوه، فأمر به أبو جعفر، فكفن بمسح (2)، ثم وضع في ناحية، ثم قيل: إن عيسى بن موسى بالباب، فقال: أدخلوه. فلما دخل قال: يا أمير المؤمنين، فأين أبو مسلم؟ قال: كان هاهنا آنفا فخرج. فقال عيسى: يا أمير المؤمنين قد عرفت طاعته ومناصحته، ورأى إبراهيم الإمام فيه. قال له أبو جعفر: يا أنوك (3) والله ما أعرف عدوا أعدى لك منه، ها هوذا في البساط. فقال عيسى: إنا لله وإنا إليه راجعون، فأقبل إسحاق صاحب شرطته قال: إنما كان أبو مسلم عبد أمير المؤمنين وأمير المؤمنين أعلم بما صنع. فأمر أبو جعفر برأسه، فطرح إلى من بالباب من قواد أبي مسلم، فجالوا جولة، وهموا أن يبسطوا سيوفهم على الناس، ثم ردهم على ذلك انقطاعهم من بلادهم وتغربهم وإحاطة العدو بهم، فبعضهم اتكأ على سيفه فمات، وبعضهم ناصب وأراد القتال، فلما نظر أبو جعفر إلى ذلك، أمر بالعطاء لأصحاب أبي مسلم، وأجزل الصلات للقواد والرؤساء منهم، ثم عهد إليهم أن من أحب منكم أن يكون معنا هاهنا، نأمر بإلحاقه في الديوان، في ألف من العطاء، ومن أحب أن يلحق بخراسان كتبناه في خمس مئة ترد عليه في كل عام وهو قاعد في بيته. قال: فكأنها نار طفئت. فقالوا: رضينا يا أمير المؤمنين كل ما فعلت، فأنت الموفق. فمنهم من رضي بالمقام معه، ومنهم من لحق بخراسان.

ثورة عيسى بن زيد بن علي بن الحسين

 قال: وذكروا أن أبا جعفر لما قتل أبا مسلم، واستولى على ملك العراقين

(هامش)

(1) العاتق: الكتف. وحبله: عظمة الترقوة. وفي مروج الذهب: فقطع رجله. (2) المسح الثوب الخشن. وفي الأخبار الطوال: لف في بساط. وفي مروج الذهب: أدرج في بساط. (3) الأنوك: الأحمق. (*)

ص 186

والشام، والحجاز، وخراسان، ومصر، واليمن، ثار عليه عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فقاتله فيما بين الكوفة وبغداد، ولقيه في جموع كثيرة، نحوا من عشرين ومئة ألف، فأقام أياما يقاتله في كل يوم، حتى هم أبو جعفر بالهزيمة، وركب فرسه ليهرب، ثم جعل يشجع أصحابه، ويعدهم بالعطايا الواسعة، والصلات الجزيلة، فقاتلوا، ثم إن أبا جعفر غلبته عيناه وهو على فرسه، فرأى في نومه أنه يمد يديه ورجليه على الأرض. فاستيقظ ودعا عبارا كان معه، فأخبره بما رأى. فقال له: أبشر يا أمير المؤمنين، فإن سلطانك ثابت، وسيليه بعدك جماعة من ولدك، وهذا الرجل منهزم، فما كان بأسرع من أن نظر إلى عيسى بن زيد منهزما.

 هروب مالك بن الهيثم

وذكروا أن مالك بن الهيثم خرج هاربا حتى أتى همدان (1)، وعليها يومئذ زهير بن التركي مولى خزاعة، فكتب إليه أبو جعفر: إن الله مهرق دمك إن فاتك مالك، فجاء زهير بن التركي إلى مالك بن الهيثم، فقال له: جعلت فداك، قد أعددت لك طعاما، فلو أكرمتني بدخولك منزلي. فقال له: نعم، وكان قد هيأ له زهير أربعين رجلا، فلما دخل مالك قال لزهير: عجل طعامك، وقد توثق زهير من الباب وهيأ أصحابه، فخرج عليه الأربعون، فشدوه وثاقا، ثم وضعوا القيود في رجله، ثم قال: أبا نصر، جعلت فداك، والله ما عرفت هذه الدعوة حتى أدخلتني فيها ودعوتني إليها، فما الذي يخرجك منها، والله ما أخليك حتى تزور أبا جعفر، فبعث به إليه، فعفا عنه أبو جعفر، وولاه الموصل. قال الهيثم: وكان يقال: إن عبد الملك بن مروان كان أحزم بني أمية، وإن أبا جعفر كان أحزم بني العباس، وأشدهم بأسا، وأقواهم قلبا، ألا ترى أن عبد الملك قتل عمرو بن سعيد في داخل قصره، وأبوابه مغلقة، وأبو جعفر قتل أبا مسلم في داخل سرادقه، وليس بينه وبين أهل خراسان إلا خرقة؟

(هامش)

(1) وكان أبو جعفر قد كتب كتابا عن لسان أبي مسلم إلى أبي نصر يأمره فيه بحمل ثقله وما خلق عنده وأن يقدم. وختم الكتاب بخاتم أبي مسلم، فلما رأى أبو نصر الخاتم تاما علم أن أبا مسلم لم يكتب الكتاب (وكان أبو مسلم قد اتفق مع أبي نصر أنه إن جاءه منه كتابا مختوما بنصف خاتم فأنا كتبته، وأن أتاك بالخاتم كله فلم أكتبه: الطبري 7 / 489) فقال: فعلتموها وانحدر إلى همدان يريد خراسان (الطبري 7 / 493). (*)

ص 187

وقال الهيثم: ذكر ابن عياش أن أبا جعفر قال لحاجبه عيسى بن روضة تقدم إلى كل من دخل أن لا يذكر أبا مسلم في شيء من كلامه. قال ابن عياش فاغتممت لذلك، فوقفت له خلف ستر، ومر راكبا مع هشام بن عمرو وعبد الله، فلما طلع عمر بن عبد الرحمن صاحب شرطته وبيده الحربة ركبت. قال أبو الجراح مالك؟ فقلت: أسلم على أمير المؤمنين. قال: دونك فدنوت والنهر بيني وبينه. فقلت: يا أمير المؤمنين هنيئا لك وقفة أقعدت كل قائم. فقال بيده على فيه ولم يلتفت كالكاره لما سمع، وأقبل على صاحبيه. قال ابن عياش: وكان هذا في سنة خمس وأربعين ومئة، ثم انصرف أبو جعفر إلى الحيرة، ومعه عمه عبد الله بن علي في غير وثاق، وعليه الأحراس، وقد هيأ أبو جعفر بيتا، فحبسه فيه، فلما قدم به قيل: إنه سمه. قال الهيثم: بل كان أساس البيت الذي حبسه فيه من لبن، والحيرة كثيرة السواقي، ندية الأرض. فيقال: إنه أمر من الليل بجدول، فسرح حول البيت فتهدم عليه فمات (1). قال ابن عياش: أقبل رجل من همدان إلى أبي جعفر في وفد من العرب فدخلوا عليه، فلما خرجوا وفاتوا بصرة، قال للآذن: علي بالهمداني، فلما مثل بين يديه قال له: يا أخا همدان، أخبرني عن خليفة اسمه على عين قتل ثلاثة، أسماؤهم على عين. فقال الهمداني: نعم يا أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان قتل عمرو بن سعيد الأشدق، اسمه على عين، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن محمد الأشعث، وأنت يا أمير المؤمنين اسمك على عين، وقتلت عبد الرحمن بن مسلم أبا مسلم، أول اسمه على عين، وعبد الجبار (2) الخولاني، وسقط البيت على عمك عبد الله. فقال (3): وما يدخل سقوط البيت على عمي لا أم لك. ثم استعمل أبو جعفر على خراسان أسيد بن عبد الله الخزاعي، وأمره بتطلب عمال أبي مسلم ثم عفا عنهم، ثم عزل الخزاعي وولى أبا عون عبد الملك بن يزيد، ثم ولى بعد أبي عون حميد بن قحطبة، ثم ولى المسير بن زهير حتى مات أبو جعفر المنصور (4).

(هامش)

(1) مر قريبا خروج عبد الله بن علي وكيفية مقتله، وفي أي وقت قتل. (2) في مروج الذهب 3 / 374 عبد الجبار بن عبد الرحمن. (3) في مروج الذهب: قال: مما ذنبي إن كان سقط البيت عليه؟ قلت: لا ذنب لك. (4) قال خليفة في تاريخه ص 432 وإنه ولي على خراسان بعد أبي مسلم: أبو داود من بني ذهل (وهو = (*)

ص 188

قصة سابور ملك فارس

 قال: وذكروا أن أبا جعفر دعا إسحاق بن مسلم العقيلي، فقال له: حدثني عن الملك الذي كنت حدثتني عنه بحران. فقال: نعم أكرمك الله، أخبرني أبي عن حصين بن المنذر: أن ملكا من ملوك فارس يقال له سابور الأكبر، كان له وزير ناصح، قد أخذ أدبا من آداب الملوك، وشاب ذلك بفهم في الدين، فانتصف من أهلها فعلا ولسنا (1)، فوجهه سابور داعية إلى أهل خراسان، وكانوا قوما يعظمون الدنيا جهالة بالدين، واستكانة لحب الدنيا، وذلا لجبابرتها، فجمعهم على كلمة من الهدى يكيد بها مطالب الدنيا، واعتز بقتل ملوكهم، وتخوله إياهم (2)، وكان يقال: لكل ذليل دولة، ولكل ضعيف صولة. فلما استوثقت له البلاد، جعل إليه سابور أمرهم، وأحال عليه طاعتهم، فساس قوما لا يرامونه إلى ما سبق إليه قبلهم، فلم ينتصف سابور من طاعتهم، واستمالة أهوائهم، مع ما لا يأمن من زوال القلوب، وغدرات الوزراء، فاحتال على قطع رجائه عن قلوبهم، فصمم على قتله عند وروده عليه برؤوساء أهل خراسان وفرسانهم، فقتله، فلم يرعهم إلا ورأسه بين أيديهم، فوقف بهم بين الفرقة وتخطف الأعداء، ونأي الرجعة واليأس من صاحبهم، فرأوا أن يستتموا الدعوة بطاعة سابور، ويتعوضوه من الفتنة، فملكهم ثمانين عاما. فأطرق أبو جعفر مليا، ثم قال متمثلا: لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا * وما علم الإنسان إلا ليعلما

 خروج شريك بن عون على أبي جعفر وخلعه

 قال: وذكروا أن أبا جعفر لما استقامت له الأمور، واستولى على الملك، خرج عليه شريك بن عون الهمداني وقال: ما على هذا بايعتك، ولا بايعنا آل

(هامش)

= خالد بن إبراهيم) ثم عبد الجبار بن عبد الرحمن الأزدي، ثم خازم بن خزيمة بن ناجية (وقال ابن الأثير 3 / 551 أنه بعد مقتل عبد الجبار وليها المهدي وخليفته بها السري بن عبد الله)، وجبريل بن يحيى بن ناجية، ثم أسد بن عبد الله، ثم عبد الله بن مالك الخزاعي، ثم أبو عون الحمصي، ثم حميد بن قحطبة مات بها واستخلف أبنه عبد الله بن حميد. (1) اللسن: البلاغة. (2) أي جعلهم خولا: خدما وعبيدا. (*)

ص 189

محمد على أن تسفك الدماء وأن يعملوا بغير الحق، فخالف أبا جعفر، وتبعه أكثر من ثلاثين ألفا، فوجه إليه أبو جعفر زياد بن صالح الخزاعي، فقاتله شهورا، ونهى أبو جعفر أن يسب أحد منهم، أو يقتل أحد من رجالهم، لأنه كان فيهم قوم أخيار ورجال أشراف، وكان خروجهم ديانة وإنكارا للدماء، وللعمل بغير الحق، فلذلك لم يقتلوا. وكتب إليهم: وإن عدتم عدنا، وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا، وقد عفونا عنكم مرتكم هذه، فالله الله على دمائكم احقنوها.

 اجتماع شبيب بن شيبة مع أبي جعفر قبل ولايته وبعدها

 قال: وذكروا أن شبيب بن شيبة قال: حججت عام هلك هشام بن عبد الملك (1)، فبينما أنا مريح ناحية المسجد، إذ طلع علي من بعض أبوابه فتى أسمر، رقيق السمرة، موفر اللمة (2)، خفيف اللحية، رحب الجبهة (3)، كأن عينيه لسانان ناطقان، عليه أبهة الأملاك، في زي النساك، تقبله القلوب، وتتبعه العيون، يعرف الشرف في تواضعه، والعفو (4) في صورته، واللب في مشيته فما ملكت نفسي أن نهضت في أثره سائلا عن خبره، فتحرم بالطواف. فلما قضى طوافه قصد المقام ليركع، وأنا أرعاه ببصري، ثم نهض منصرفا، فكأن عينا أصابته، فكبا كبوة دميت منها أصبعه [فقعد لها القرفصاء]، فدنوت منه متوجعا لما ناله، متصلا به، أمسح عن رجله عفر التراب، فلا يمتنع علي، ثم شققت حاشية ثوبي، فعصبت على رجله، فلم ينكر ذلك، ثم نهض متوكئا علي، وانقدت له حتى أتى بناء (5) بأعلى مكة، فابتدره غلامان، تكاد صدورهما تنفرج من هيبته، ففتحا له الباب، فدخل واجتذبني، فدخلت بدخوله، فخلى يدي، وأقبل على القبلة فصلى ركعتين، ثم استوى في صدر مجلسه، فحمد الله وصلى على نبيه، ثم قال: لم يخف علي مكانك منذ اليوم، فمن تكون؟ فقلت: شبيب بن شيبة التميمي. فقال: الأهتمي؟ فقلت: نعم. فرحب وقرب، ووصف قومي بأبين وصف، وأفصح لسان. فقلت: أصلحك الله، أحب المعرفة، وأجل عن

(هامش)

(1) وذلك سنة 125 ه‍. (2) اللمة: الشعر الذي على أعلى القفا، يريد: كثيف وكثير اللمة. (3) زيد في العقد الفريد 5 / 106: أقنى بين القنى. (4) في بعض أصول العقد: والعتق. (5) في العقد: دارا. (*)

ص 190

المسألة: فتبسم وقال، بلطف أهل العراق، أنا عبد الله بن محمد بن علي بن [عبد الله بن] عباس، فقلت: بأبي أنت وأمي، ما أشبهك بنسبك، وأدلك على سلفك (1): وقد سبق إلى قلبي من محبتك ما لا أبلغه بوصفي لك. قال: فأحمد الله يا أخا تميم، فإنا قوم يسعد بحبنا من يحبنا، ويشقى ببغضنا من يبغضنا، ولن يصل الإيمان إلى قلب أحدكم حتى يحب الله ورسوله، ومهما ضعفنا عن جزائه قوى الله على أدائه. فقلت له: أنت توصف بالعلم، وأنا من حملته، وأيام الموسم ضيقة، وشغل أهله كثير، وفي نفسي أشياء أحب أن أسأل عنها، أفتأذن فيها جعلت فداك؟ قال: نحن من أكثر الناس مستوحشون، وأرجو أن تكون للسر موضعا، وللأمانة واعيا، فإن كنت على ما رجوت، فهات على بركة الله. فقدمت إليه من وثائق [القول و] الأيمان ما سكن إليه، فتلا قول الله: (قل أي شيء أكبر شهادة؟ قل الله شهيد بيني وبينكم) ثم قال: سل. فقلت: ما ترى في من على الموسم؟ وكان عليه يوسف بن محمد الثقفي، خال الوليد بن يزيد، فتنفس الصعداء، ثم قال: عن الصلاة خلفه تسأل، أم استنكرت أن يتأمر على آل الرسول من ليس منهم؟ قلت: عن كلا الأمرين أسأل. قال: إن هذا عند الله عظيم، أما الصلاة، ففرض الله على عباده، فأد فرضه عليك في كل وقت (2)، فإن الذي ندبك لحج بيته ومجاهدة عدوه، وحضور جماعته وأعياده، لم يخبرك في كتابه أنه لا يقبل منك نسكا إلا مع أكمل المؤمنين إيمانا رحمة لك، ولو فعل ذلك بك ضاق الأمر عليك، فأسمح (3) يسمح لك. ثم كررت عليه السؤال، فما احتجت إلى أن أسأل عن أمر ديني أحدا بعده. ثم قلت له: يزعم أهل العلم بالكتاب أنها ستكون لكم دولة (4) لا شك فيها، تطلع مطلع الشمس، وتظهر بظهورها، فأسأل الله خيرها، ونعوذ به من شرها. قال: فخذ بحظ لسانك ويدك منها إن أدركتها. قلت: أو يتخلف عنها أحد من العرب وأنتم سادتها؟ قال: نعم، قوم يأبون إلا الوفاء لمن اصطنعهم ونأبى إلا طلبا لحقنا، فننصر ويخذلون، كما نصر أولنا بأولهم، وخذل لمخالفتنا من خذل منهم، فاسترجعت.

(هامش)

(1) في العقد: منصبك. (2) زيد في العقد: مع كل أحد وعلى كل حال. (3) سمح ككرم، وأسمح: جاد وكرم. (4) في العقد: فقال: لا شك فيها.. (أي أن القول هنا لأبي جعفر وليس لشبيب). (*)

ص 191

قال: هون عليك الأمر، سنة الله التي قد خلت في عباده، ولن تجد لسنة الله تبديلا، وليس ما يكون منهم بحاجز لنا عن صلة أرحامهم، وحفظ أعقابهم (1) فقلت: كيف تسلم لهم قلوبكم، وقد قاتلوكم مع عدوكم؟ فقال: نحن قوم حبب إلينا الوفاء وإن كان علينا، وبغض إلينا الغدر وإن كان لنا، وإنما يشذ عنا منهم الأقل، فأما أنصار دولتنا، ونقباء شيعتنا، وأمراء جيوشنا فهم ومواليهم معنا، فإذا وضعت الحرب أوزارها صفحنا للمحسن عن المسئ، ووهب للرجل قومه ومن اتصل بأسبابه، فتذهب المثابرة (2)، وتخمد الفتنة، وتطمئن القلوب. فقلت: ويقال: إنه يبتلى بكم من أخلص لكم المحبة. فقال: قد روي أن البلاء أسرع إلى محبينا من الماء إلى قراره. قلت: لم أرد هذا. قال: فما الذي تريد؟ قلت: توقعون (3) بالولي وتحظون العدو. فقال: من يسعد بنا من الأولياء أكثر، ومن يسلم معنا من الأعداء أقل، إنما نحن بشر، ولا يعلم الغيب إلا الله، وربما استترت عنا الأمور، فنوقع (4) بمن لا نريد، وإن لنا لإحسانا يجازي الله به مداواة ما تكلم ورتق ما تثلم فنستغفر الله بما يعلم، وما أنكر من ألا يكون الأمر على ما بلغك، ومع الولي التعزز والإدلال، والثقة والاسترسال، ومع العدو التحرز والتذلل والاحتيال (5)، وإنك لمسؤول يا أخا بني تميم. قلت: إني أخاف ألا أراك بعد اليوم. قال: لكن أرجو أن أراك وتراني قريبا إن شاء الله. قلت: عجل الله ذلك، ووهب لي السلامة منكم، فإني محبكم. فتبسم وقال: لا بأس عليك ما أعاذك الله من ثلاثة. قلت: وما هي؟ قال: قدح في الدين، وهتك للملوك، وتهمة في حرمة، واحفظ عني ما أقول لك: اصدق وإن ضرك الصدق، وانصح وإن باعدك النصح، ولا تخالطن لنا عدوا وإن أحظيناه فإنه مخذول، ولا تخذلن وليا وإن أقصيناه وأصبحنا بترك المماكرة، وتواضع إذا رفعوك، وصل إذا قطعوك، ولا تستخف فيمقتوك، ولا تنقبض فيحتشموك، [ولا تبدأ حتى يبدؤك] ولا تخطب الأعمال، ولا تتعرض للأموال، وأنا رائح من عشيتي هذه، فهل من

(هامش)

(1) زيد في العقد: وتجديد الصنيعة عندهم. (2) كذا بالأصل، وفي العقد: النائرة وهي أصح. (3) في العقد: تعقون الولي. (4) كذا، وفي العقد: فنقع. (5) زيد في العقد: وربما أمل المدل. وأخل المسترسل، وتجانب المتقرب، ومع المقة تكون الثقة، على أن العاقبة لنا على عدونا، وهي لولينا. (*)

ص 192

حاجة؟ فنهضت لوداعه فودعته، ثم قلت: أوقت لظهور الأمر؟ ومتى؟ قال الله المؤقت والمنذر، فخرجت من عنده، فإذا مولى له يتبعني، فأتاني بكسوة من كسوته. وقال لي: يأمرك أبو جعفر أن تصلي في هذه، ثم افترقنا، فوالله ما رأيته إلا وحرسيان قابضان علي يدفعانني إلى بيعتي في جماعة من قومي لنبايعه. فلما نظر إلي أثبتني، وقال للحرسيين: خليا عمن صحت مودته، وتقدمت قبل اليوم حرمته، وأخذت بيعته، فأكبر الناس ذلك من قوله. ثم قال لي: أين كنت أيام أبي العباس أخي؟ فذهبت أعتذر. فقال: أمسك، فإن لكل شيء وقتا لا يعدوه، ولن يفوتك إن شاء الله حظ مودتك، وحق مشايعتك (1)، واختر مني رزقا يسعك، أو خطة ترفعك، أو عملا ينهضك. فقلت: أنا لوصيتك حافظ. فقال: وأنا لها أحفظ، إني إنما نهيتك أن تخطب الأعمال ولم أنهك عن قبولها إن عرضت عليك. فقلت: الرزق مع قرب أمير المؤمنين أحب إلى. فقال: وذلك أحب إلي لك، وهو أجم لقلبك وأودع لك، وأعفى إن شاء الله، فهل زدت أحدا في عيالك بعد. وقد كان سألني عنهم فعجبت من حفظه. فقلت: زدت الفرس والخادم، فقال: قد ألحقنا عيالك بعيالنا، وخادمك بخادمنا، ولو لم يسعني حملت لك على بيت المال، فهل تحملك مئتا دينار لكل غرة أو نزيدك؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، إن شطرها ليحملني العامين. قال فإنها لك في كل غرة فاقبضها من عاملي في أي بلد أحببت، وإن شئت فقد ضممتك إلى المهدي، فإنه أفرغ لك مني، وأرضاه لك إن شاء الله (2).

 حج أبي جعفر ولقائه مالك بن أنس وما قال له

ذكروا أن أبا جعفر أمير المؤمنين لما استقامت له الأمور، واستولى على السلطان خرج حاجا إلى مكة، وذلك في سنة ثمان وأربعين ومئة (3). فلما كان

(هامش)

(1) في العقد: مسابقتك. (2) الخبر في العقد الفريد 5 / 106 - 110 وما بين معكوفتين زيادة عن نص العقد، وهناك بعض الاختلاف لم نثبته لعدم أهميته، انظره هناك. (3) حج في هذه السنة جعفر بن سليمان (مروج الذهب - ابن الأثير) زيد في المروج: وقيل: حج أبو جعفر. (*)

ص 193

بمنى، أتاه الناس يسلمون عليه، ويهنئونه بما أنعم الله عليه، وجاءه رجال الحجاز من قريش وغيرهم، وفقهائهم وعلمائهم، ممن صاحبه وجامعه على طلب العلم ومذاكرة الفقه ورواية الحديث. فكان فمن دخل عليه منهم: مالك بن أنس. فقال له أبو جعفر: يا أبا عبد الله إني رأيت رؤيا. فقال مالك: يوفق الله أمير المؤمنين إلى الصواب من الرأي، ويلهمه الرشاد من القول، ويعينه على خير الفعل، فما رأي أمير المؤمنين؟ فقال أبو جعفر: رأيت أني أجلسك في هذا البيت، فتكون من عمار بيت الله الحرام، وأحمل الناس على علمك، وأعهد إلى أهل الأمصار يوفدون إليك وفدهم، ويرسلون إليك رسلهم في أيام حجهم، لتحملهم من أمر دينهم على الصواب والحق، إن شاء الله، وإنما العلم علم أهل المدينة، وأنت أعلمهم. فقال مالك: أمير المؤمنين أعلى عينا، وأرشد رأيا، وأعلم بما يأتي وما يذر، وإن أذن لي أقول قلت، فقال أبو جعفر: نعم، فحقيق أنت أن يسمع منك، ويصدر عن رأيك. فقال مالك: يا أمير المؤمنين إن أهل العراق قد قالوا قولا تعدوا فيه طورهم، ورأيت أني خاطرت بقولي لأنهم أهل ناحية، وأما أهل مكة فليس بها أحد، وإنما العلم علم أهل المدينة، كما قال الأمير، وإن لكل قوم سلفا وأئمة. فإن رأى أمير المؤمنين أعز الله نصره إقرارهم على حالهم فليفعل. فقال أبو جعفر: أما أهل العراق فلا يقبل أمير المؤمنين منهم صرفا ولا عدلا، وإنما العلم علم أهل المدينة، وقد علمنا أنك إنما أردت خلاص نفسك ونجاتها. فقال مالك: أجل يا أمير المؤمنين، فأعفني يعف الله عنك. فقال أبو جعفر: قد أعفاك أمير المؤمنين، وأيم الله ما أجد بعد أمير المؤمنين أعلم منك ولا أفقه.

 دخول سفيان الثوري وسليمان الخواص على أبي جعفر وما قالا له

 قال: وذكروا أنه لما كان أبو جعفر بمنى في العام الذي حج فيه سفيان الثوري وسليمان الخواص، قال أحدهما لصاحبه: ألا ندخل على هذا الطاغي الذي كان يزاحمنا بالأمس في مجالس العلم عند منصور (1) والزهري، فنكلمه،

(هامش)

(1) يريد منصور بن عمار. (*)

ص 194

ونأمره بحق، وننهاه عن باطل، فلعل أن يقع كلامنا منه موقعا ينفع الله به المسلمين، ويأجرنا عليه، فقال سليمان الخواص: إني لأخشى أن يأتي علينا منه يوم سوء. فقال الثوري: ما أخاف ذلك، فإن شئت فادخل، وإن شئت دخلت. فدخل سليمان الخواص، فأمره ونهاه، ووعظه وذكره الله، وما هو صائر إليه، ومسؤول عنه. فقال له أبو جعفر: أنت مقتول، ما تقول في كذا وكذا، لشيء سأله عنه من باب العلم؟ فأجابه، فلما خرج قال سفيان الثوري: ماذا صنعت؟ قال: أمرت ونهيت، ووعظت وذكرت فرضا كان في رقابنا أديناه مع أنه لا يقبل، وسألني عن مسألة فأجبته. قال سفيان: ما صنعت شيئا، فدخل سفيان الثوري فأمره ونهاه. فقال له: ها هنا أبا عبد إلي إلي، ادن مني. فقال: إني لا أطأ ما لا أملك ولا تملك. فقال أبو جعفر: يا غلام أدرج البساط، وارفع الوطاء، فتقدم سفيان فصار بين يديه وقعد، ليس بينه وبين الأرض شيء، وهو يقول: (منها خلقناكم، وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى) فدمعت عينا أبي جعفر. ثم تكلم سفيان دون أن يستأذن، فوعظ وأمر ونهى وذكر، وأغلظ في قوله. فقال له الحاجب: أيها الرجل، أنت مقتول. فقال سفيان: وإن كنت مقتولا فالساعة، فسأله أبو جعفر عن مسألة فأجابه، ثم قال سفيان: فما تقول أنت يا أمير المؤمنين فيما أنفقت من مال الله، ومال أمة محمد بغير إذنهم، وقد قال عمر في حجة حجها، وقد أنفق ستة عشر دينارا هو ومن معه: ما أرانا إلا وقد أجحفنا ببيت المال (1). وقد علمت ما حدثنا به منصور بن عمار، وأنت حاضر ذلك، وأول كاتب كتبه في المجلس عن إبراهيم، عن الأسود، عن علقمة، عن ابن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رب متخوض في مال الله ومال رسول الله فيما شاءت نفسه له النار غدا (2) فقال له أبو عبيدة الكاتب: أمير المؤمنين يستقبل بمثل هذا؟ فقال له سفيان: أسكت، فإنما أهلك فرعون هامان، وهامان فرعون. ثم خرج سفيان، فقال أبو عبيدة الكاتب: ألا تأمر بقتل هذا الرجل؟ فوالله ما أعلم أحدا أحق بالقتل منه. فقال أبو جعفر: اسكت

(هامش)

(1) في حلية الأولياء 6 / 376 أن هذا القول قاله سفيان للمهدي وقد كان قدم للحج. (2) متخوض: قال في النهاية: أصل الخوض المشي في الماء وتحريكه، ثم استعمل في التلبيس بالأمر والتصرف فيه، أي رب متصرف في مال الله تعالى بما لا يرضاه الله. وقيل هو التخليط في تحصيله من غير وجهه كيف أمكن (النهاية: خوض). (*)

ص 195

يا أنوك، فوالله ما بقي على الأرض أحد اليوم يستحيا منه غير هذا، ومالك بن أنس. دخول ابن أبي ذؤيب (1) ومالك بن أنس وابن سمعان (2) على أبي جعفر قال: وذكروا عن مالك بن أنس قال: لما ولي أبو جعفر الخلافة، وافى إليه الملاقون (3) المشاؤون بالنميمة عني بكلام كان قد حفظ علي، فأتاني رسوله ليلا ونحن بمنى، قال: أجب أمير المؤمنين، وذلك بعد مفارقتي له، وخروجي عنه، فلم أشك أنه للقتل، ففرغت من عهدي (4)، واغتسلت وتوضأت ولبست ثياب كفني وتحنطت، ثم نهضت فدخلت عليه في السرادق، وهو قاعد على فراش قد نظم بالدر الأبيض، والياقوت الأحمر، والزمرد الأخضر، حكى له أنه كان من فرش هشام بن عبد الملك كان قد أهداه إليه صاحب القسطنطينية، لا يعلم ثمنه، ولا يدرى ما قيمته، والشمع يحترق بين يديه، وابن أبي ذؤيب وابن سمعان قاعدان بين يديه، وهو ينظر في صحيفة في يده. فلما صرت بين يديه سلمت، فرفع رأسه، فنظر إلي، وتبسم تبسم المغضب، ثم رمى بالصحيفة، وأشار لي إلى موضع عن يمينه أقعد فيه. فلما قعدت وأخذت مقعدي، وسكن روعي، رفعت رأسي أنظر تلقائي، فإذا أنا بواقف عليه درع، وبيده سيف قد شهره، ويلمع له ما حوله، فالتفت عن يميني، فإذا أنا بواقف بيده جرز من حديد، ثم ألتفت عن يساري فإذا أنا بواقف عليه درع، وبيده سيف قد شهره، وهم أجمعون قد أصغوا إليه، ورمقوه بأبصارهم خوفا من أن يأمر في أحد أمرا فيجده غافلا. ثم التفت إلينا وقال: أما بعد معشر الفقهاء، فقد بلغ أمير المؤمنين عنكم ما أخشن صدره، وضاق به ذرعه وكنتم أحق الناس بالكف من ألسنتكم،

(هامش)

(1) هو إسماعيل بن عبد الرحمن بن ذويب، وقيل ابن أبي ذويب الأسدي، روى عن ابن عمر وعطاء بن يسار، وعنه ابن أبي نجيح، وسعيد بن خالد القارظي. ثقة. (ترجم له في التهذيب 1 / 312). (2) هو عبد الله بن زياد بن سمعان المدني الفقيه. روى عن مجاهد والأعرج ترجم له ابن حجر في التهذيب. (3) الملاقون جمع ملاق وهو المتملق المنافق. (4) العهد هنا الوصية. (*)

ص 196

والأخذ بما يشبهكم، وأولى الناس بلزوم الطاعة، والمناصحة في السر والعلانية لمن استخلفه الله عليكم. قال مالك: فقلت: يا أمير المؤمنين، قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) فقال أبو جعفر: على ذلكم أي الرجال أنا عندكم؟ أمن أئمة العدل، أم من أئمة الجور؟ فقال مالك: فقلت: يا أمير المؤمنين، أنا متوسل إليك بالله تعالى، وأتشفع إليك بمحمد صلى الله عليه وسلم وبقرابتك منه، إلا ما أعفيتني من الكلام في هذا. قال: قد أعفاك أمير المؤمنين. ثم التفت إلى ابن سمعان فقال له: أيها القاضي ناشدتك الله تعالى، أي الرجال أنا عندك؟ فقال ابن سمعان: أنت والله خير الرجال يا أمير المؤمنين، تحج بيت الله الحرام، وتجاهد العدو، وتؤمن السبل، ويأمن الضعيف بك أن يأكله القوي، وبك قوام الدين، فأنت خير الرجال، وأعدل الأئمة. ثم التفت إلى ابن أبي ذؤيب فقال له: ناشدك الله، أي الرجال أنا عندك؟ قال: أنت والله عندي شر الرجال، استأثرت بمال الله ورسوله، وسهم ذوي القربى واليتامى والمساكين، وأهلكت الضعيف، وأتعبت القوي، وأمسكت أموالهم، فما حجتك غدا بين يدي الله؟ فقال له أبو جعفر: ويحك، ما تقول؟ أتعقل؟ انظر ما أمامك. قال: نعم، قد رأيت أسيافا، وإنما هو الموت، ولا بد منه، عاجله خير من آجله. ثم خرجا وجلست. قال: إني لأجد رائحة الحنوط عليك. قلت: أجل، لما نمي إليك عني ما نمي، وجاءني رسولك في الليل، ظننته القتل، فاغتسلت وتطيبت، ولبست ثياب كفني. فقال أبو جعفر: سبحان الله ما كنت لأثلم (1) الإسلام، وأسعى في نقضه أو ما تراني أسعى في أود الإسلام، وإعزاز الدين. عائذا بالله مما قلت يا أبا عبد الله، انصرف إلى مصرك راشدا مهديا، وإن أحببت ما عندنا، فنحن ممن لا يؤثر عليك أحدا، ولا يعدل بك مخلوقا. فقلت: إن يجبرني أمير المؤمنين على ذلك فسمعا وطاعة، وإن يخيرني أمير المؤمنين اخترت العافية. فقال: ما كنت لأجبرك، ولا أكرهك، انقلب معافى مكلوءا. قال: فبت ليلتي، فلما أصبحنا أمر أبو جعفر بصرر دنانير، في كل صرة خمسة آلاف دينار، ثم دعا برجل من شرطته فقال له: تقبض هذا المال، وتدفع لكل

(هامش)

(1) أثلم: أكسر، أو أجعل في الإسلام شرخا أو ثلما بقتلك. (*)

ص 197

رجل منهم صرة، أما مالك بن أنس إن أخذها فبسبيله، وإن ردها لا جناح عليه فيما فعل، وإن أخذها ابن أبي ذؤيب فأتني برأسه. وإن ردها عليك فبسبيله، لا جناح عليه، وإن يكن ابن سمعان ردها فأتني برأسه، وإن أخذها فهي عافيته. فنهض بها إلى القوم، فأما ابن سمعان فأخذها فسلم، وأما ابن أبي ذؤيب فردها فسلم، وأما أنا فكنت والله محتاجا إليها فأخذتها. ثم رحل أبو جعفر متوجها إلى العراق.

 كتاب عبيد الله العمري إلى أبي جعفر

قال: وذكروا أن أبا جعفر لما قفل من حجه سنة ثمان وأربعين ومئة (1)، سأل عن عبيد الله بن عمرو بن حفص بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وهو الفقيه المعروف بالعمري. فقيل له: إنه لم يحج العام يا أمير المؤمنين، ولو حج لكان أول داخل عليك، فلا تقبل عليه أحدا يا أمير المؤمنين، ولا يقدح فيه عندك إلا باطلي أو كذاب، فإنه من علمت. فقال أبو جعفر: والله ما تخلف عن الحج في عامه هذا إلا علما منه بأني حاج، فلذلك تخلف، ولا والله ما زاده ذلك عندي إلا شرفا ورفعة، وإني من التوقير له والإجلال بحال لا إخال أحدا من الناس بذلك لشرفه في قريش، وعظيم منزلته من هذا الأمر، والموضع الذي جعله الله فيه، والمكان الذي أنزله به. فلما قدم أبو جعفر بغداد، ورد عليه كتاب عبيد الله العمري، فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله أبي جعفر أمير المؤمنين، من عبيد الله بن عمر. سلام الله عليك، ورحمة الله التي اتسعت فوسعت من شاء. أما بعد: فإني عهدتك، وأمر نفسك لك مهم، وقد أصبحت وقد وليت أمر هذه الأمة، أحمرها وأسودها وأبيضها، وشريفها، ووضيعها، يجلس بين يديك العدو والصديق، والشريف والوضيع، ولكل حصته من العدل، ونصيبه من الحق، فانظر كيف أنت عند الله يا أبا جعفر، وإني أحذرك يوما تفنى فيه الوجوه والقلوب، وتنقطع فيه الحجة،

(هامش)

(1) كذا بالأصل. وقد ذكر أن عبيد الله بن عمر بن حفص مات سنة 147 ه‍ بالمدينة وقيل سنة 144 وقيل سنة 145، (أنظر التهذيب الجزء السابع ترجمته - البداية والنهاية سنة 147) وهو أحد فقهاء المدينة السبعة. (*)

ص 198

لملك قد قهرهم بجبروته، وأذلهم بسلطانه والخلق داخرون (2) له، يرجون رحمته ويخافون عذابه وعقابه. وإنا كنا نتحدث أن أمر هذه الأمة سيرجع في آخر زمانها، أن يكون إخوان العلانية أعداء السريرة، وإني أعوذ بالله أن تنزل كتابي سوء المنزل، فإني إنما كتبت به نصيحة، والسلام. فأجابه أبو جعفر المنصور من عبد الله بن محمد أمير المؤمنين، إلى عبيد الله بن عمر بن حفص: سلام عليك، أما بعد، فإنك كتبت إلي تذكر أنك عهدتني وأمر نفسي لي مهم، فأصبحت وقد وليت أمر هذه الأمة بأسرها، وكتبت تذكر أنه بلغك أن أمر هذه الأمة سيرجع في آخر زمانها، أن يكون إخوان العلانية، أعداء السريرة، ولست إن شاء الله من أولئك، وليس هذا زمان ذلك، إنما ذلك زمان تظهر فيه الرغبة، والرغبة تكون رغبة بعض الناس إلى بعض، صلاح دنياهم أحب إليهم من صلاح دينهم، وكتبت تحذرني ما حذرت به الأمم من قبلي، وقدما كان يقال: اختلاف الليل والنهار يقربان كل بعيد، ويبليان كل جديد، ويأتيان بكل موعود حتى يصير الناس إلى منازلهم من الجنة والنار. وكتبت تتعوذ بالله أن ننزل كتابك سوء المنزل، وأنك إنما كتبت به نصيحة فصدقت وبررت، فلا تدع الكتب إلي. فإنه لا غنى بي عن ذلك، والسلام.

 اجتماع أبي جعفر مع عبد الله بن مرزوق

قال: وذكروا أن أبا جعفر المنصور أمير المؤمنين لما حج ودخل في الطواف بالبيت الحرام، أمر الناس فنحوا عن البيت، ثم طاف أسبوعه، فوثب إليه عبد الله بن مرزوق، وقال: من جرأك على هذا؟ فليبه بردائه وهزه. ثم قال له: من جعلك أحق بهذا البيت من الناس، تحول بينه وبينهم، وتنحيهم عنه؟ فنظر أبو جعفر في وجهه، فعرفه، فقال: عبد الله بن مرزوق؟ قال: نعم. فقال: من جرأك على هذا؟ ومن أقدمك عليه؟ فقال عبد الله بن مرزوق: وما تصنع بي؟ بيدك ضر أو نفع؟ والله ما أخاف ضرك، ولا أرجو نفعك حتى يكون الله عز وجل

(هامش)

(1) أي أذلاء له، ضعفاء أمامه. (*)

ص 199

يأذن لك فيه، ويلهمك إلى فعله. فقال له أبو جعفر: إنك أحللت بنفسك وأهلكتها. فقال عبد الله بن مرزوق: اللهم إن كان بيد أبي جعفر ضري فلا تدع من الضر شيئا إلا أنزلته علي، وإن كان بيده منفعتي فاقطع عني كل منفعة منه، أنت يا رب بيدك كل شيء، ومليك كل شيء، فأمر به أبو جعفر فحمل إلى بغداد فسجنه بها. وكان يسجنه بالنهار، ويبعث إليه بالليل يبيت عنده ويسامره، يلبث نهاره أجمع بالسجن، ثم يسامره بالليل ليظهر للناس أنه سجن أول من اعترض عليه، لئلا يجترئ الجاهل فيقول: قد وسع عفو أمير المؤمنين فلانا، أفلا يسعني؟ فكان دأبه هذا معه زمانا طويلا حتى نسي أمره، وانقطع خبره، ثم خلى سبيله، فلحق بمكة، فلم يزل بها حتى مات أبو جعفر، وولي ابنه المهدي، فلما حج المهدي، فعل مثل ذلك، ففعل به عبد الله بن مرزوق مثل ذلك أيضا، فأراد قتله. فقيل له: يا أمير المؤمنين إنه قد فعل هذا بأبيك، فكان من صنيعه أن حمله إلى بغداد، فسجنه بالنهار، وسامره بالليل، وأنت أحق من أخذ بهديه، واحتذى على مثاله، وورث أكروماته، فحمله المهدي معه، فمات ببغداد، رحمه الله (1).

ذكر ما نال مالك بن أنس من جعفر بن سليمان

 قال: وذكروا أنه هاج بالمدينة هيج في ابتداء أيام أبي جعفر (2)، فبعث إليها أبو جعفر ابن عمه جعفر بن سليمان بن العباس، ليسكن هيجها وفتنها، ويجدد بيعة أهلها فقدمها وهو يتوقد نارا على أهل الخلاف لهم، فأظهر الغلظة والشدة، وسطا (3) بكل من ألحد في سلطانهم، وأشار إلى المنازعة لهم، وأخذ الناس بالبيعة، وكان مالك بن أنس رحمه الله لم يزل صغيرا وكبيرا محسدا، وكذلك كل من عظمت نعمة الله عليه في علمه أو عمله، أو فهمه أو ورعه، فكيف بمن

(هامش)

(1) مات ببغداد سنة 196 ه‍، كان وزيرا للرشيد ثم تزهد وانقطع للعبادة. أوصى عند موته أن يدفن على مزبلة، قال: لعله يرى مكاني فيرحمني. (صفة الصفوة 2 / 317 البداية والنهاية حوادث سنة 196). (2) ولي جعفر بن سليمان المدينة سنة 146 بعد عزل عبد الله بن الربيع، فقدمها في شهر ربيع الأول. وجاءت ولايته بعد ظهور محمد بن عبد الله. وذلك بعد تسع سنوات من ولاية أبي جعفر المنصور. (3) أي تسلط على الذين نكثوا بيعة أبي جعفر، وسلطان بني العباس. (*)

ص 200

جمع الله ذلك فيه، ولم يزل منذ نشأ كذلك قد منحه الله تعالى العلم والعمل، والفهم واللب والنبل، ووصل له ذلك بالدين والفضل، عرف منه ذلك صغيرا، وظهر فيه كبيرا، واستلب الرياسة ممن كان قد سبقه إليها، بظهور نعمة الله عليه، وسموها به على كل سام، فاستدعى ذلك منهم الحسد له، وألجأهم ذلك إلى البغي عليه، فدسوا إلى جعفر بن سليمان من قال له: إن مالكا يفتي الناس بأن أيمان البيعة لا تحل، ولا تلزمهم لمخالفتك، واستكراهك إياهم عليها (1)، وزعموا أنه يفتي بذلك أهل المدينة أجمعين، لحديث رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه (2) فعظم ذلك على جعفر واشتد عليه وخاف أن ينحل عليه ما أبرم من بيعة أهل المدينة، وهم أن يبدر فيه بما عافاه الله منه، وأنعم على المسلمين ببقائه. فقيل له: لا تبدر فيه ببادرة فإنه من أكرم الناس على أمير المؤمنين، وآثرهم عنده، ولا بأس عليك منه، فلا تحدث شيئا إلا بأمر أمير المؤمنين، أو يستحق ذلك عندنا بأمر لا يخفى على أهل المدينة. فدس إليه جعفر بن سليمان بعض من لم يكن مالك يخشى أن يؤتى من قبله، ومن مأمنه يؤتى الحذر (3)، فسأله عن الأيمان في البيعة فأفتاه مالك بذلك طمأنينة إليه، وحسبة فيه. فلم يشعر مالك إلا ورسول جعفر بن سليمان يأتيه، فأتوا به إليه منتهك الحرية، مزال الهبية، فأمر به فضرب سبعين سوطا، فلما سكن الهيج بالمدينة، وتمت له البيعة، بلغ بمالك ألم الضرب حتى أضجعه.

 إنكار أبي جعفر المنصور لضرب مالك

 قال: وذكروا أنه لما بلغ أبا جعفر ضرب مالك بن أنس، وما أنزل به جعفر بن سليمان أعظم ذلك إعظاما شديدا، وأنكره ولم يرضه، وكتب بعزل

(هامش)

(1) قال ابن الأثير إن مالك أفتى أهل المدينة أنهم إنما بايعوا مكرهين وليس على مكره يمين فأسرع الناس إلى بيعة محمد بن عبد الله. (الكامل 3 / 565). وانظر وفيات الأعيان. 4 / 137 وابن الجوزي في شذور العقود وذكر الحادثة سنة 147. (2) رواه في الحلية 6 / 352 وقال: غريب من حديث مالك تفرد عنه ابن مصفى عن الوليد بن مسلم. (3) مثل عربي، يعني أن الضرر يأتي الشخص من الجهة التي يأمن إليها كثيرا ويطمئن بها (الميداني 2 / 177). (*)

ص 201

جعفر بن سليمان عن المدينة (1)، وأمر أن يؤتى به إلى بغداد على قتب. وولى على المدينة رجلا من قريش من بني مخزوم، وكان يوصف بدين وعقل وحزم وذكاء، وذلك في شهر رمضان، من سنة إحدى وستين ومائة (2). وكتب أبو جعفر إلى مالك بن أنس، ليستقدمه إلى نفسه ببغداد، فأبى مالك، وكتب إلى أبي جعفر يستعفيه من ذلك، ويعتذر له ببعض العذر إليه، فكتب أبو جعفر إليه: أن وافني بالموسم العام القابل إن شاء الله فإني خارج إلى الموسم.

دخول مالك على أبي جعفر بمنى

 قال: وذكروا أن مالكا حج سنة ثلاث وستين ومائة (3)، ثم وافى أبا جعفر بمنى أيام منى، فذكروا أن مطرفا أخبرهم، وكان من كبار أصحاب مالك. قال: قال لي مالك: لما صرت بمنى أتيت السرادقات، فأذنت بنفسي، فأذن لي، ثم خرج إلي الآذن من عنده فأدخلني. فقلت للآذن: إذا انتهيت بي إلى القبة التي يكون فيها أمير المؤمنين فأعلمني، فمر بي من سرداق إلى سرداق، ومن قبة إلى أخرى، في كلها أصناف من الرجال بأيديهم السيوف المشهورة، والأجرزة المرفوعة، حتى قال لي الآذن: هو في تلك القبة ثم تركني الآذن وتأخر عني، فمشيت حتى انتهيت إلى القبة التي هو فيها فإذا هو قد نزل عن مجلسه الذي يكون فيه إلى البساط الذي دونه، وإذا هو قد لبس ثيابا قصدة (4)، لا تشبه ثياب مثله، تواضعا لدخولي عليه، وليس معه في القبة إلا قائم على رأسه بسيف صليت، فلما دنوت منه، رحب بي وقرب، ثم قال: ها هنا إلي، فأوميت للجلوس. فقال: ها هنا، فلم يزل يدنيني حتى أجلسني إليه، ولصقت ركبتي

(هامش)

(1) تقدم أن أبا جعفر لم يحج عام 148 ه‍، وقد روى ابن الجوزي أن حادثة ضرب مالك حصلت سنة 147. وقد جرى عزل جعفر بن سليمان عن المدينة سنة 150 قال الطبري: وولى المنصور مكانه الحسن بن زيد بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب العلوي (ج 8 / 32) وفي تاريخ خليفة ص 430: عزله سنة 149 وولى مكانه عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب. ويذكر الطبري أن عبد الصمد ولي المدينة بعد عزل الحسن بن زيد عنها سنة 155. (2) كذا بالأصل، وهو خطأ فاحش، والمعروف أن أبا جعفر مات سنة 158. لعله يريد سنة 151، أو حرفت من الناسخ. (3) أنظر الحاشية السابقة. (4) أي بسيطة رخيصة الثمن. (*)

ص 202

بركبتيه. ثم كان أول ما تكلم به أن قال: والله الذي لا إله إلا هو يا أبا عبد الله ما أمرت بالذي كان، ولا علمته قبل أن يكون، ولا رضيته إد بلغني (يعني الضرب). قال مالك: فحمدت الله تعالى على كل حال، وصليت على الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم نزهته عن الأمر بذلك، والرضا به. ثم قال: يا أبا عبد الله، لا يزال أهل الحرمين بخير ما كنت بين أظهرهم، وإني إخالك أمانا لهم من عذاب الله وسطوته، ولقد دفع الله بك عنهم وقعة عظيمة، فإنهم ما علمت أسرع الناس إلى الفتن، وأضعفهم عنها، قاتلهم الله أنى يؤفكون، وقد أمرت أن يؤتى بعدو الله من المدينة على قتب (1)، وأمرت بضيق مجلسه، والمبالغة في امتهانه، ولا بد أن أنزل به من العقوبة أضعاف ما نالك منه. فقلت له: عافى الله أمير المؤمنين، وأكرم مثواه، قد عفوت عنه، لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم منك. قال أبو جعفر: وأنت فعفى الله عنك ووصلك. قال مالك: ثم فاتحني فيمن مضى من السلف والعلماء، فوجدته أعلم الناس بالناس، ثم فاتحني في العلم والفقه، فوجدته أعلم الناس بما اجتمعوا عليه، وأعرفهم بما اختلفوا فيه، حافظا لما روي، واعيا لما سمع، ثم قال لي: يا أبا عبد الله ضع هذا العلم ودونه، ودون منه كتبا، وتجنب شدائد عبد الله بن عمر ورخص عبد الله بن عباس، وشواذ ابن مسعود، واقصد إلى أواسط الأمور، وما اجتمع عليه الأئمة والصحابة رضي الله عنهم، لنحمل الناس إن شاء الله على علمك وكتبك، ونبثها في الأمصار، ونعهد إليهم أن لا يخالفوها، ولا يقضوا بسواها، فقلت له: أصلح الله الأمير، إن أهل العراق لا يرضون علمنا، ولا يرون في عملهم رأينا. فقال أبو جعفر: يحملون عليه، ونضرب عليه هاماتهم بالسيف، ونقطع طي ظهورهم بالسياط، فتعجل بذلك وضعها، فسيأتيك محمد المهدي ابني العام القابل إن شاء الله إلى المدينة، ليسمعها منك، فيجدك وقد فرغت من ذلك إن شاء الله وقال مالك: فبينما نحن قعود إذ طلع بني له صغير من قبة، بظهر القبة التي كنا فيها. فلما نظر إلي الصبي فزع، ثم تقهقر فلم يتقدم. فقال له أبو جعفر: تقدم يا حبيبي، إنما هو أبو عبد الله فقيه أهل الحجاز، ثم التفت إلي فقال: يا أبا عبد الله، أتدري لم فزع الصبي ولم يتقدم؟ فقلت:

(هامش)

(1) القتب: بفتح القاف والتاء، البرذعة الصغيرة على قدر سنام البعير وهي مهينة، يريد أنه أهانه واستخف به. (*)

ص 203

لا. فقال: والله استنكر قرب مجلسك مني إذ لم ير به أحدا غيرك قط، فلذلك قهقر. قال مالك: ثم أمر لي بألف دينار عينا ذهبا، وكسوة عظيمة، وأمر لابني بألف دينار، ثم استأذنته فأذن لي، فقمت فودعني ودعا لي، ثم مشيت منطلقا، فلحقني الخصي بالكسوة فوضعها على منكبي، وكذلك يفعلون بمن كسوه، وإن عظم قدره، فيخرج بالكسوة على الناس فيحملها، ثم يسلمها إلى غلامه، فلما وضع الخصي الكسوة على منكبي انحنيت عنها بمنكبي، كراهة احتمالها، وتبرؤا من ذلك، فناداه أبو جعفر: بلغها رحل أبي عبد الله.

 ما قال أبو جعفر لعبد العزيز بن أبي رواد (1).

 قال: وذكروا أن أبا جعفر لما دخل في الطواف بالبيت لقي عبد العزيز بن أبي رواد في الطواف، فقبض على يده، ثم قال له: أتعرفني؟ قال: لا. إلا أن قبضتك قبضة جبار (2). فقال له: أنا أبو جعفر أمير المؤمنين، فسلني من حوائجك ما شئت أقضها. قال: أسألك برب هذا البيت أن لا ترسل إلي بشيء حتى آتيك طوعا. فقال له أبو جعفر: ذلك لك، فأقبل يمشي بمشيته في طوافه، وكان شيخا كبيرا ضعيفا. فتأنف بقربه، وثقل عليه كلامه. فقال: أسألك بحرمة هذا البيت إلا تنحيت عني، فتنحى عنه أبو جعفر وخلى سبيله. وكان عبد العزيز بن أبي رواد هذا لا يرفع رأسه إلى السماء، تخشعا لله، فأقام كذلك أربعين سنة.

 قدوم المهدي إلى المدينة

قال: وذكروا أن مالك بن أنس لما أخذ في تدوين كتبه، ووضع علمه قدم عليه المهدي بن أبي جعفر، فسأله عما صنع فيما أمره به أبو جعفر، فأتاه بالكتب وهي كتب الموطأ، فأمر المهدي بانتساخها، وقرئت على مالك. فلما أتم قراءتها: أمر له بأربعة آلاف دينار، ولابنه بألف دينار.

(هامش)

(1) هو مولى المغيرة بن المهلب بن أبي صفرة، ذهب بصره عشرين سنة ولم يعلم به أهله وأولاده. سمع من كبار التابعين ومات سنة 159 (صفة الصفوة 2 / 229). (2) الخبر في صفة الصفوة 2 / 229 باختلاف. وفي العقد الفريد 3 / 165 بين أبي جعفر وسفيان الثوري. أيضا باختلاف وزيادة. (*)

ص 204

موت أبي جعفر المنصور واستخلاف المهدي

قال: وذكروا أنه لما كانت سنة ست وستين ومائة (1) قدم أبو جعفر مكة، فلما قضى حجة احتضر ثلاثة أيام (2)، ثم توفي في اليوم الرابع، وولى ابنه محمد المهدي وكان معه يومئذ بمكة وأخوه جعفر ببغداد، وكان قد عهد إليه أبو جعفر. فلما قفل المهدي إلى بغداد أتاه رجل فقال له: أدرك أخاك جعفرا (2)، فإنه قد هم بمنازعتك، وهو يريد خلعك، فأخذ في السير، ومعه الجنود والأموال، وصناديد الرجال من العراق، ورجال العرب، ووجوه قريش. فلما قدم العراق اعتذر إليه جعفر مما رفع إليه عنه، وحلف له أنه ما نوى ولا أراد منازعته، ولا أشار إلى خلافه، ولا هم به، فقبل منه المهدي ذلك، وعفا عنه، وكان كريما سخيا حليما، فلما كان سنة سبع وستين ومائة قدم حاجا، فدخل المدينة زائرا لقبر النبي صلى الله عليه وآله، فدخل عليه مالك، فحضه على الاحسان إلى أهل المدينة، وحدثه بفضلها وفضل أهلها، ويقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها: أمرت بقرية تأكل القرى، يقولون يثرب (وهي المدينة) تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد، ثم قال يا أمير المؤمنين: أفليس هؤلاء أهلا أن يعانوا على الصبر عليها وعلى جوار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال المهدي: بلى والله يا أبا عبد الله، حتى لا أجد إلا مثل هذا، ومد يده ليأخذ من الأرض شيئا فلم يجده. ثم قال صدقت فيهم وبررت، وحضضت على الرشد، فأنت أهل أن يطاع أمرك، ويسمع قولك، فأمر بخمسة أبيات مال، والبيت عندهم خمسمائة ألف، وأمر مالكا أن يختار من تلامذته رجالا يثق بهم، ويعتمد عليهم، يقسمونها على أهل المدينة، ويؤثرون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأهل بيت أبي بكر وعمر وعثمان، ثم أهل بيوت المهاجرين والأنصار، ثم الذين اتبعوهم بإحسان، ففعل فأغنى أهل المدينة عامهم ذلك.

(هامش)

(1) كذا بالأصل، وقد تقدم أن أبا جعفر مات سنة 158 على المشهور. (2) مات عند وصوله إلى بئر ميمون (الطبري - ابن الأثير) وفي مروج الذهب: في الموضع المعروف ببستان بني عامر من جادة العراق وقيل: مات بالبطحاء عند بئر ميمون وكانت وفاته ليلة السبت لست خلون من ذي الحجة. (3) في الطبري 8 / 32 مات جعفر بن أبي جعفر الأكبر سنة 150 وانظر ابن الأثير 3 / 605. (*)

ص 205

ذكر استخلاف هارون الرشيد

 قال: وذكروا أنه لما كانت سنة ثلاث وسبعين ومائة توفي المهدي، وذلك أنه خرج يوما إلى بعض المنازل (1)، ومعه أهله وبعض بنيه (2)، وكان قد ذكر أن يستخلف ابنه عبد الله بعده، ثم غفل عن ذلك وتركه، فحمل عبد الله الحرص والطيش إلى أن دس على أبيه بعض الجواري المتمكنات منه بسمه (3)، وبذل لها على ذلك الأموال، ومناها أماني الغرور. فلما سمته، ووصل إليه السم، عرف المهدي أنه قد قتل، فدعا كاتبه فقال له: عجل واكتب عهد هارون الرشيد، وخذ بيعة الجند، وأمراء الأجناد، واكتب بذلك إلى ولاة الأمصار، وكان الرشيد أصغر بينه، وكان ابن أمة، لا يطمع في خلافة، ولا يظن بها، فأدخله على نفسه وهو يجود بها، والرشيد لا يعلم أنه مستخلف. فقال له المهدي: أي بني، والله ما أردت استخلافك، ولا هممت به لحداثة سنك، وقد كان قال لي جدك أبو جعفر، وأنت يومئذ قد ترعرعت في أول رؤية رآك: إن ابني هذا الأعين (4) سيلي هذا الأمر، ويسير فيه سيرة صالحة، فقلت: يا أبت، أتظن ذلك؟ قال: ما هو بالظن، ولكنه اليقين، ويكون ملكا بضعا وعشرين سنة، وتقتله الحمى الربع (5)، فاندفع الرشيد باكيا فقال له: ما يبكيك يا فتى؟ قال: يا أبت، إنك والله نعيت لي نفسي، وعرفتني متى أموت، ومم أموت؟ قال: هو ذاك، فشمر، واجتهد

(هامش)

(1) في مروج الذهب 3 / 377 مات بقرية يقال لها ردين وهي من قرى ماسبذان. وكان موته على المشهور سنة 169. قال في المروج: ليلة الخميس لسبع بقين من المحرم. (2) كان معه ابنه هارون الرشيد، وكان موسى الهادي قد خرج إلى جرجان. (3) في سبب موته أقوال: - أنه خرج يصيد، فاقتحم به فرسه باب خربة فصدمه ومات (الطبري - تاريخ اليعقوبي). - قيل إنه مات مسموما بقطائف أكلها (مروج الذهب). - قيل إنه مات بكمثرتين إحداهما مسمومة سممتها جارية له كانت تقصد قتل وصيفة لها فمرت أمام المهدي وهي تحمل الكمثري - وكان يحب الكمثري فدعا بالجارية التي تحملها وتناول إحداهما - المسمومة - فمات (الطبري) وقال ابن الأثير 4 / 5 في سبب خروجه إلى ماسبذان، أنه قد عزم على خلع موسى الهادي والبيعة للرشيد بولاية العهد وتقديمه على الهادي فبعث إليه، وهو بجرجان في المعنى فلم يفعل، فبعث إليه في القدوم عليه... وامتنع.. فسار المهدي يريده. (وكان موته هناك على ما ذكرنا). (4) الأعين: شديد سواد العين، واسعها. (5) الحمى الربع: التي تأتي المريض يوما وتسكت يومين ثم تأتي في اليوم الرابع (القانون في الطب لابن سينا). (*)

ص 206

وجد، وخذ بالحزم والكرم، ودع الإحن، وانظر أخاك عبد الله فلا يناله منك مكروه، فقد عفوت عنه، فقال الرشيد: يا أبت، وتعفو عنه، وقد أتى ما ذكرت، وصنع ما وصفت؟ قال يا بني: وما علي أن أعفو عمن أكرمني الله على يديه، وأرجو أن يغفر لي بصنيعته بي إن شاء الله. عليك يا بني بتقوى الله العظيم وطاعته، فاتخذها بضاعة يأتيك الربح من غير تجارة، وأوصيك بإخوتك خيرا، وأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أقبل حسناتهم، وتجاوز عن سيئاتهم، واغفر زلاتهم، وأوصيك بأهل الحرمين خيرا، فقد علمت من هم، وأبناء من هم، أجزل لهم العطاء، وأحسن لهم الجزاء، يكافئك الله في الآخرة والأولى. ثم توفي المهدي من يومه ذاك، واستخلف الرشيد (1)، وخرج إلى الناس يبايعهم بوجه طلق ولسان سلط، فبايعوه ببغداد، وذلك يوم الخميس من المحرم سنة ثلاث وسبعين ومائة (2)، وتمت له البيعة يوم الجمعة في المسجد الجامع، فلم يختلف عليه أحد. ولا كره خلافته مخلوق، فأحسن السيرة، وأحكم أمر الرعية، وكان أوحد أهل بيته، ولم يشبهه أحد من الخلفاء من أهله، رحمه الله.

قدوم هارون الرشيد المدينة

 قال: وذكروا أنه لما كانت سنة أربع وسبعين ومائة، خرج هارون حاجا إلى مكة، فقدم المدينة زائرا قبر النبي عليه الصلاة والسلام، فبعث إلى مالك بن أنس، فأتاه، فسمع منه كتابه الموطأ، وحضر ذلك يومئذ فقهاء الحجاز والعراق والشام واليمن، ولم يتخلف منهم أحد إلا حضر ذلك الموسم مع الرشيد وسمع وسمعوا من مالك موطأه الذي وضع، وكان قارئه يومئذ حبيب كاتب الرشيد.

(هامش)

(1) كذا بالأصل، وهو خطأ فاحش، فالمعروف أن المهدي - وإن كان حسب رواية ابن الأثير يريد عزل الهادي عن ولاية عهده وتقديم الرشيد - كان قد كتب بولاية عهده لابنه موسى الهادي ومن بعده لابنه هارون الرشيد. وبعدما مات المهدي بويع للهادي، وهو بجرجان، ثم وافى بغداد لعشر بقين من صفر سنة 169 (أنظر الطبري - اليعقوبي - خليفة - مروج الذهب - ابن الأثير - البداية والنهاية - الأخبار الطوال) ومات موسى الهادي بعيساباذ نحو مدينة السلام سنة سبعين لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول. وكانت خلافته سنة وثلاثة شهور (مروج الذهب 3 / 397). (2) تقدم أن المهدي مات سنة 169 ه‍. (*)

 

الصفحة السابقة الصفحة التالية

الإمامة والسياسة (ج2)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب