الأفاكون و الشعراء [ 220] كما لرسالات الله خصائصها و معالمها و شواهدها كذلك الثقافات المادية ، و الأفكار الجاهلية ، و إذا تبصر الإنسان بسمات هذه و تلك اهتدي الصراط السوي ، إذ أضحى قادرا بتوفيق الله و نوره ان يميز بين فكرة خاطئة يوحي بها(1) المصدر / .
الشيطان ، و حقيقة يهتدي اليها بالوحي و العقل .
و الحق و الباطل يختلطان في الدنيا لتكون الدنيا دار ابتلاء ، ليس فقط لإرادة البشر ، و انما أيضا لوعيه ، فمن عرف كيف يميزها عن بعضهما آمن شر الضلالة ، و أكثر الناس يضلون باهوائهم .
دعنا نشرع من أصل تكون الفكرة و مصدرها : القلب كصفحة بيضاء تنعكس عليها حقائق الخلق بما اعطاه الله من نور العقل و العلم ، و لكن قد يتراءى للقلب أشياء و لكن من دون ان تكون لها - أساسا - حقيقة خارجية . كيف يتم ذلك ؟
دعنا نضرب مثلا : انك تعلم أن العين ترى الأشياء عبر الضياء ، و لكن هل حدث لك ان صطدمت بشيء فتراءى لعينك بريق شديد ، أو هل داخ رأسك فرأت عينك مثل الانجم . ما هذه ؟ انها ارتعاشة اعصاب العين ، و ليست أشعة الاشياء تنعكس عليها ، أنها - بالتالي - حركة ذاتية للعين ترى حركتها الداخلية . أليس كذلك ؟!
ومثل آخر : هل اصبت بنزلة برد ، و هل حدثت لديك قشعريرة شديدة ؟ إن مصدرها الاعصاب في الداخل ، و ليست عاصفة ثلجية في الخارج .
و هؤلاء الذين يستخدمون المخدرات يرون أشياء كثيرة ليس لها واقع . انما هي حركة أعصابهم من الداخل ، كذلك في داخل القلب مصدران للأفكار لا يمتان إلى الحقائق بصلة :
أولا : الأهواء : حيث ان السماح للهوى باحتلال كل القلب يجعله اسودا لا يبصر نورا ، انما يبتدع الأفكار ابتداعا ، و هذا هو الإفك بذاته .
ثانيا : الخيال : الذي هو بدوره حركة ذاتية للقلب ، لا شأن لها بالواقعالخارجي ، إلا أنه أخف وطأة من الإفك .
و لعل الســياق يشير الى هاتين الطائفتين في فاتحة حديثه عن إيحاءات الشيطان ، يقول ربنا :
[ هل انبئكم على من تنزل الشياطين ]
الشيطان كما يبدو من التدبر في سياق الآيات - التي ذكر فيها - هو كل غاو يغوي البشر ، سواء كان من الجن أو الإنس . قال تعالى : " و كذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الانس و الجن " . (1)وجاء في آية كريمة : " يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان " . (2)وقــال الله تعالى : " وإذا خلو إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤون " . (3)[ 221] [ تنزل على كل أفاك أثيم ]
قال العلامة الطبري : الأفاك الكذاب ، و أصل الإفك القلب ، و الأفاك الكثير القلب للخبر ، من جهة الصدق الى جهة الكذب ، و الأثيم : الفاعل للقبيح ، يقال : انه يأثم إثما إذا ارتكب القبيح . (4)(1) الانعام / 112 .
(2) البقرة / 20 .
(3) البقرة / 14 .
(4) مجمع البيان / ج 7 / ص 207 .
[ 222] [ يلقون السمع ]
أي يلقون الافكار المسموعة في قلب الأفاكين الآثمين .
[ 223] [ و أكثرهم كاذبون ]
و يبدو ان الأفاكين هم أئمة الكفر ، و قادة فتات الضلال ، و هم المغضوب عليهم ، الذين نسأل الله الا يجعلنا منهم ، و هم الغاوون الذين يصفون العدل ولا يطبقونه ، و هم بالتالي صانعوا القرار في معسكر المستكبرين .
إن مصدر أفكارهم اهواؤهم التي يعبدونها ، و انحرافهم و فسادهم انما هو بوعي منهم ، و سابق اصرار ، و الشياطين يوحون إلى هؤلاء لأنهم اولياؤهم .
جاء في الحديث المأثور عن الامام الباقر (ع) :
" انه ليس من يوم و ليلة إلا و جميع الجن و الشياطين تزور أئمة الضلال ، و يزور إمام الهدى عددهم من الملائكة " (1)و بالرغم من وجود بعض الصدق في أقٌوالهم إلا أن الصفة العامة لأحاديثهم هي الكذب .
وهكذا نعرف طبيعة هؤلاء بأمرين :
الاول : قلبهم للحقائق .
الثاني : ارتكابهم الإثم .
(1) تفسير نور الثقلين / ج 4 / ص 70 .
[ 224] و الفئة الضالة الثانية هم الشعراء ، الذين يستوحون خيالهم و تصوراتهم استيحاء .
يقول ربنا عنهم :
[ والشعراء يتبعهم الغاوون ]
و لعل تسمية هذه الفئة بالشعراء جاءت :
اولا : لأن طبقة الشعراء في ذلك العهد و أكثرهم في العصور التالية كانوا من هذه الفئة الضالة .
ثانيا : لأن الشعر يعتمد على الخيال و التصور .
حقا ان المراد من الشعراء في هذه الآية ليس خصوص من انشد شعرا ، انما يشمل كل من أتبع خياله و ترك وحي الله ، و كان من هذه الفئة الضالة : فلاسفة اليونان و تابعوهم الذين اعتمدوا على تصوراتهم في معرفة حقائق الكون ، دون إثارة من علم أو اتباع لإمام حق .
و العرفاء و المتصوفة ، و طائفة من المتكلمين ، و بعض المتفقهين من علماء السوء - انصاف المثقفين - الذين يتبعون أهواءهم و اهواء من يدفع لهم ، و يشتري اقلامهم . كل أولئك و غيرهم من فئة الشعراء ، و قد جاءت النصوص الاسلامية تترى في وصفهم ، و البراءة منهم:
1 - " نزلت في الذين غيروا دين الله ، و خالفوا أمر الله - عز وجل - هل رأيت شاعرا قط يتبعه أحد ؟! انما عني بذلك الذين وضعوا دينهم بآرائهم ،فيتبعهم الناس على ذلك " (1)
2 - عن الامام الباقر (ع) في تفسير هذه الآية قال :
" هل رأيت شاعرا يتبعه أحد ؟"!" إنما هم قوم تفقهوا لغير الدين فضلوا و اضلوا " (2)3 - و روي عن الامام الصادق (ع) قال :
" هم قوم تعلموا - أو تفقهوا - بغير علم . فضلوا و اضَلوا " (3)4 - و في حديث آخر عنه (ع) انه قال :
" هم القصاص " (4)
ومــن هنا نعرف ان الذين يقولون الشعر دفاعا عن الحق ليسوا ضمن هذا الإطار ، فقد أثر عن الرسول (ص) انه قال لحسان بن ثابت ( الشاعر ) :
" أهجهم أو هاجهم و روح القدس معك " (5)
[ 225] و من خصائص هؤلاء : استرسالهم في الكلام دون التقيد بحدود المعرفة أو المصلحة .
[ ألم تر أنهم في كل واد يهيمون ]
(1) المصدر / ص 70 نقلا عن علي بن ابراهيم .
(2) المصدر / .
(3) المصدر / .
(4) المصدر / ص 71 .
(5) المصدر / .
و الهائمة الضالة التي تمشي على غير هدى ، و لعل الآية تدل على أنهم لا يملكون نهجا محددا في مسيرتهم .
[ 226] و من علاماتهم : أنهم يستعيضون الكلام عن العمل ، و أن قولهم غير مسؤول .
[ و أنهم يقولون مالا يفعلون ]
ان دغدغة الأماني ، و إثارة الخيال ، و صنع الأحلام الوردية ، كل ذلك من طبيعة الثقافات المادية ، و عادة ما يكون أصحاب هذه الثقافات أقل الناس التزاما بما يقولون ، و السبب أن الكلام هو بديل عن العمل في تصورهم .
[ 227] وفي الايات الاخيرة من هذه السورة يبين ربنا صفات صاحب الرسالة حقا ، فيقول :
[ إلا الذين ءامنوا و عملوا الصالحات و ذكروا الله كثيرا ]ان صاحب الرسالة يتعرض لضغط التيارات الثقافية ، و القوى الإجتماعية المختلفة ، و عليه أن يذكر الله كثيرا لكي لا تخور عزيمته ، و لا تشوش رؤيته ، بل يبقى نافذ البصيرة برغم الشبهات و الدعايات ، و صامدا برغم همزات الشياطين ، و ذكر الله حقا هو ذكره في القلب عندما يعرض عليه الحرام فيجتنبه ، و الحلال فينتفع به .
يقول الامام أمير المؤمنين (ع) :
" من ذكر الله عز وجل في السر فقد ذكر الله كثيرا . إن المنافقين كانوا يذكرون الله علانية ، ولا يذكرونه في السر ، فقال الله عز وجل : " يراؤن الناس ولايذكرون الله الا قليلا " (1)
و لعل اظهر سمات صاحب الدعوة الإلهية تحمله مسؤولية الجهاد ضد الظلم ، كما أن أبرز سمات الشعراء : أنهم يقولون مالا يفعلون .
[ و انتصروا من بعد ما ظلموا ]
ان مقاومة الظلم و عدم الاستسلام للظالمين تلازم الرسالي الصادق ، الذي يتخذ من رسالته سلاحا ضد المنحرفين .
[ و سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ]
هكذا تختم سورة الشعراء بشحنة أمل مباركة تعطيها للمظلومين ، و صعقة إنذار شديد يخوف بها الضالمين ، ليبقى قلب المؤمن مستقيما بين الأمل و الخوف ، بين اسمي الرحمة و العزة لرب العالمين .
و قد تحققت هذه الآية الكريمة في حق ظالمي آل محمد (ص) اجمعين ، حيث أهلك الله الظالمين ، و رفع ذكر أهل البيت عاليا عبر العصور .
(1) المصدر / ص 73 .
|