بينات من الآيات [ 213] توحيد الله صبغة رسالاته ، فهو في السياسة : العدل ، و الاحسان ، و الشــورى ، و الأمن ، و الحرية ، و هو في الاقتصاد الانصاف ، و القوام ، وفي السلوك : الفضيلة ، و التقوى ، و في الثقافة : التثبت ، و اتباع احسن القول ، و الاستماع الى الناطق عن الله دون الناطق عن الشيطان .
ومن شواهد صدق رسالة النبي (ص) دعوته الخالصة للرب ، و حبه الشديد ، و تفانيه في سبيل الله .
[ فلا تدع مع الله إلها ءاخر فتكون من المعذبين ]
[ 214] ومن خصائص الرسول و شواهد صدقه تعاليه عن الضغط من أي مصدر يأتي ، و لذلك فهو يؤمر بانذار عشيرته أولا .
[ وأنذر عشيرتك الأقربين ]
و هكذا فعل الرسول و تحدى أول ما تحدى عشيرته الأقربين ، كما فعل إبراهيم (ع) إذ واجه برسالة الله أباه أولا . دعنا نستمع الى حديثين في هذا الشأن :
عن أمير المؤمنين (ع) قال :
" لما نزلت : " و أنذر عشيرتك الأقربين " أي رهطك المخلصين ، دعا رسول الله (ص) بني عبد المطلب و هم إذ ذاك أربعون رجلا - يزيدون رجلا أو ينقصون رجلا - فقال أيكم يكون أخي ، و وارثي ، و وزيري ، و وصيي ، و خليفتي فيكم بعدي ؟ فعرض عليهم ذلكرجلا رجلا ، كلهم يأبى ذلك ، حتى أتى علي فقلت : انا يا رسول الله ، فقـــال : يا بني عبد المطلب ! هذا وارثي ، و وزيري ، و خليفتي فيكم من بعدي ، فقام القوم يضحك بعضهم الى بعض ، ويقولون لأبي طالب : قد أمرك ان تسمع و تطيع لهذا الغلام " (1)وفي رواية أخرى :
" انه لما نزلت هذه الآية " و أنذر عشيرتك الأقربين " صعد رسول الله (ص) الصفا فقال : يا صباحا ! فاجتمعت اليه قريش ، فقالوا : مالك ؟! فقال أرأيتكم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم او ممسيكم ما كنتم تصدقونني ؟ فقالوا : بلى . قال : فإني لكم نذير بين يدي عذاب شديد ، قال أبو لهب : تبا لك ألهذا جمعتنا ، فأنزل الله : " تبت يدا أبي لهب و تب " (2)و نستوحي من هذه الآية أن عامل الرسالة الإلهية لايعتمد على أية قوة أرضية في إبلاغ رسالات ربه ، إنما يتوكل على الله ، لذلك يستطيع ان يتحدى انحرافات الناس جميعا ، حتى ولو كانوا عشيرته الأقربين .
كما تشير الآية الى أن مجرد القرابة من رسول الله لا يخلص الانسان من نار جهنم . بالرغم من أن النبي (ص) يشفع في امته ، و قد قال له الرب سبحانه : " و لسوف يعطيك ربك فترضى " أي من الشفاعة .
(1) علل الشرائع / الشيخ الصدوق ، ص 170 .
(2) تفسير مجمع البيان / ج 7 / ص 204 .
جاء في خبر مأثور عن أبي أمامة ، فيما أخرجه الطبراني و أبي مردويه قال : " لما نزلــت " و أنذر عشيرتك الأقربين " جمع رسول الله بني هاشم فاجلسهم على الباب ، و جمع نساءه و أهله ، فأجلسهم في البيت ، ثم اطلع عليهم ، فقال :
" يا بني هاشم ! اشتروا أنفسكم من النار ، و اسعوا في فكاك رقابكم ، و افتكوها بأنفسكم من الله ، فإني لا أملك لكم من الله شيئا "ثم أقبل على أهل بيته فقال :
" يا عائشة بنت أبي بكر ، و يا حفصة بنت عمر ، و يا أم سلمة ، و يا فاطمة بنت محمد ، و يا أم الزبير عمة رسول الله ! اشتروا أنفسكم من الله ، و اسعوا في فكاك رقابكم فإني لا أملك لكم من الله شيئا ولا أغني .. "[ 215] و في الوقت الذي ينذر عشيرته الذين هم أقرب الناس اليه ، يؤمر بالرحمة للمؤمنين ، حتى ولو كانوا بعيدين عنه ، فهو كالطائر الذي يخفض جناحيه لأولاده الصغار .
[ و اخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ]
ان هــذا السلوك يساهم في صنع المجتمع المبدئي المتسامي عن العلاقات المادية ، و نســـتوحي من هذه الآية أهمية التواضع و بالذات عند من يحمل رسالة ربه .
جاء في كتاب مصباح الشريعة المنسوب الى الامام الصادق (ع) :
" و قــد أمــر الله أعز خلقه ، و سيد بريته محمد (ص) بالتواضع ، فقال عز وجل :
(1) تفسير الميزان / ج 15 / ص 334 .
" و اخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين " و التواضع مزرعة الخشوع ، و الخشية ، و الحياء ، و أنهن لا تتبين إلا منها وفيها ، ولا يسلم الشرف التام الحقيقي الا للتواضع في ذات الله " (1)[ 216] و تتجلى مبدئية الموقف في التبرء ممن يخالف الشرع الإلهي .
[ فإن عصوك فقل إني برىء مما تعملون ]
ان الرسول لا يقدم تنازلات أمام رسالات ربه ، و قد كان (ص) شديدا اذا عصي الله ، و كان يغضب بشدة على من يحاول أن يشفع عنده في حد .
و كذلك كان خلفاؤه الراشدون ، فهذا أمير المؤمنين (ع) يقدم عليه أشراف قومه ، و قيادات جيشه ، يعرضون عليه العفو عمن ارتكب منه ما يستحق الحد ، فيعدهم بأن يعطيهم ما يملك ، ثم يقدمه و يضر به الحد ، و حين يسألونه يقول : هذا مما لا أملكه .
[ 217] و لكي يتابع مسيرة الإصلاح بحزم و استقامة يتوكل الرسول على ربه الذي يؤيد بقوته المؤمنين على الكافرين .
[ و توكل على العزيز الرحيم ]
ان التوكل على الله لب استراتيجية أصحاب الرسالة ، و كلما كان إيمانهم برسالتهم أعمق ، كلما كان للتوكل على الله في استراتيجيتهم نصيب أكبر .
و من الواضح أن إسمي " العزيز الرحيم " ذكرا في فاتحة هذه السورة ، و أيضا بعد بيان كل قصة من حياة النبيين (ع) .
(1) تفسير نور الثقلين / ج 4 / ص 69 .
[ 218] لقد جاء الجواب و اضحا عندما عدد موسى (ع) عند نزول تباشير الوحي على الله لاصعوبات ، و تبعهم فرعون و جنده " قالوا انا لمدركون " جاء الجواب قويا و قال موسى لهم : " كلا ان معي ربي سيهدين " .
وهنا حين أمر الله رسوله بالتوكل على العزيز الرحيم أنبأه بأنه مهيمن عليه ، يراه حين يقوم للتبتل اليه ، و حين يقدم بمهامه الرسالية .
[ الذي يراك حين تقوم ]
[ 219] و هكذا يراه حين يقوم للصلاة .
[ و تقلبك في الساجدين ]
جاء في حديث مأثور عن الامام الباقر - عليه السلام - في تفسير هذه الآية : "في أصلاب النبيين صلوات الله عليهم " (1)
و اعتمادا على هذه الرواية فان الآية توحي بطهارة مولد الرسول و ابائه و أمهاته ، فقد اختار الله لنور محمد (ص) انقى الأصلاب ، و أطهر الأرحام ، ايمانا و شرفا و فضيلة .
|