فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


تعالى الله عما يشركون
هدى من الآيات

في هذه الآيات نجد خلاصة للعبر التي استوحيناها من قصص السورة ، وهي التذكرة بالحق ، ففي القسم الأول يذكرنا الله بنفسه ، بينما يذكرنا في القسم الآخر بيوم القيامة ، ولكي نعرف الحقائق لا يكفي أن نثير عقولنا فقط ، بل يجب أيضا استثارة الوجدان ، لأن العقليحجب أحيانا بالغفلة و العناد ، أما حين يهتز الوجدان فإن الحجب تتساقط عنه ، ويعود الانسان الى ربه ، من هنا كان علينا عند تلاوة آيات الذكر الحكيم أن نتفاعل معها نفسيا لكي نصل إلى معرفة الله حقا ، وفي ذات الوقت يجب أن نعرض كل ذلك على العقل ، إذ من الخطأتصديق أي فكرة دون عرضها على العقل ، ذلك أن الذي يستسلم دون العودة للعقل قد يستسلم للباطل ، و هكذا يجب على الانسان أن يستثير عقله و وجدانه عند كل قضية حتى يتعرف على الحق أو الباطل فيها ، و المقصود بالموجدان تلك الجوانب الخيرة من نفس الانسان فهو - مثلا- يحب من أحسن اليه ، و يخشى من هو عظيم ، و الذي بيدهنفعه و ضره ، فعندما نعبد الله فلأننا نجد فيه مصدر العظمة و القوة ، و إنه حسبنا الذي نأنس إليه ، وفي الوقت ذاته يجب أن نخشاه لأنه شديد العقاب و الإنتقام ، و يمكن أن يصل إلينا من عنده عذاب عظيم .

وإن طبيعة الإنسان إبعاد الحقائق الكبرى عن ذهنه ، فكما أنه لا يستطيع التركيز بنظره و لفترة طويلة في قرص الشمس كذلك لا يستطيع أن يركز فكره و عقله في الحقائق الكبرى كالتفكير في الله أو الموت أو القيامة ، وعندما يجلس الانسان في مجالس الذكر فيستمع إلى هذه الحقائق أو يقرأ كتابا يذكره بها فإنه يخشع قلبه ، و يتذكر القيامة ، و لكنه لا يبقى على هذا الحال طويلا ، فبعد فترة تجده وقد أنساه الشيطان تلك الحقائق و عاد إلى الغفلة مرة أخرى ، وهكذا يبقى الإنسان في جدل مع نفسه ، فتارة يتذكر الحقيقة و تارة يبتعد عنها ، و لذلك سمي مكان الصلاة محرابا ( بينما المحراب هو موقع الحرب ) لأنه يبقى في صراع باطن مع الاهواء و الشيطان ، و يشبه في مسيره إلى معرفة الله الطائرة حين تحلق في السماء ، فبمجرد أن تعطب المحركات تهبط و ربما تتحطم ، و هكذا يسقط البشر في وحل الرذيلةو الشقاء حين يغفل عن الله و الحق .

و الآخرة باعتبارها مستقبلا وليس حاضرا ، ولكونها مرحلة أخرى من حياة الإنسان ، فإن علمه يصطدم بجدارها ، كما يجتمع الماء خلف السد ، و هكذا يتجمع علم البشر خلف هذا الجدار فيدرك الواحد الآخر ، و لأن أمامه حواجز من الشك و الجحود و الكفر بالآخرة فإن علمهيتوقف عند حدود الدنيا ، اما المؤمن فإن علمه ينفذ من الدنيا إلى الآخرة ، و لعلنا نفهم حواجز الوصول إلى الحقائق من خلال التدبر في نهايات الآيات ، يقول تعالى في الآية (60) : " بل هم قوم يعدلون " وفي الآية (61) : " بل أكثرهم لا يعقلون " وفي الآية ( 62) : " قليلا ما تذكرون " وفي الآية (64) : " قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين " و في الآية (66) : " بل اداركعلمهــم " فأولــى مصيباتهم أنهم يعدلون بغيره ، و تختلط عندهم مقاييس الحق و الباطل ، بالرغــم مــن أن أعظم صفات العقل تمييز الحق عن الباطل ، و الخير عن الشر ، والنفع عن الضرر ، أما المصيبة الثانية : الجهل و عدم العلم ، و جهلهم آت من غفلتهم ، وعدمتذكرهم ذلك ، و الطريق إلى العلم هو التذكر ، و الإنسان إما يحصل عليه عن طريق الآخرين وإما عن طريق التجارب ، و الذي لا يتذكر لا يستطيع الحصول على العلم لا من الآخرين ولا عبر التجارب ، ثم يطالبنا القرآن الكريم بالبرهان ، و من لا يملك البرهان لا يتمكن أن يقول شيئا ، و أخيرا يبين لنا أن علمهم قد توقف عند حدود الدنيا .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس