بينات من الآيات
فاذا الذي استنصره يستصرخه [ 18] [ فأصبح في المدينة خائفا يترقب ]
لقد كان موسى (ع) مطلوبا عند السلطة باعتباره معارضا لها ، فكيف وقد قتل شخصا منهم ؟!
ان الخوف الذي تشير له الآية الكريمة هو الخوف الإيجابي الذي يدعو صاحبه للتفكير في العمل ضمن الظروف الصعبة ، لا الخوف السلبي الذي يدعو للتوقف عن التحرك و الخنوع ، و فرق بين الأول الذي ينعكس على أسلوب العمل ، و الآخر الذي ينعكس على ذات العمل .
ان موسى (ع) لم يتوقف لحظة عن الجهاد في سبيل الله ، ولكنه صار يتحرك بحذر ، و الترقب : من المراقبة ، و توقع ردات فعل السلطة . الأمر الذي يدعو للإعداد الوقائي لأية ردة فعل من قبلها .
و عندما تدخل الحركة الرسالية في ظروف العمل السري يتوجب عليها ان تحسب الف حساب لتحركاتها ، و ان تختار الوقت المناسب لتوجيه أية ضربة للنظام ، وأن لا تفجر الصراع بشكل شامل و معلن الا بعد نضجها و نضج الساحة الجماهيرية ، وضمن خطة مدروسة آنفا ، وإلا فإنمصيرها سيكون الفشل .
و مجموع هذه الحسابات هي التي دعت موسى (ع) للغضب على الاسرائيلي لما تقاتل مع القبطي الآخر ، و لو لم يكن يستنجد بموسى ، و بالتالي يكشفه أمام الناس ،ربما لم يتخذ منه هذا الموقف .
[ فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه ]
و قد عبر القرآن عن المرة الثانية بالاستصراخ ، و لم يقل يستنصره - كما كان في حديثه عن الأمس - و ربما ذلك ليبين ان موقف الإسرائيلي كان فاضحا ، و لعل هذا كان مما دعى موسى (ع) للغضب عليه .
[ قال له موسى إنك لغوي مبين ]
انك تعرف الطريق الصحيح ، وانه من غير المناسب تفجير الصراع في مثل هذه الظروف ، و لكنك تتنكب عن الطريق بشكل بين و واضح ، و ذلك ان موسى (ع) - كما يبدو - كان قد بين له في المرة الأولى الخطأ " قال هذا من عمل الشيطان انه عدو مضل مبين " (1) لكنهخالف القيادة فاستحق العتاب بل التأديب كما في الرواية التي مر ذكرها .
و مع كل ذلك صمم موسى (ع) على البطش بالقبطي ، لأنه أخذ على نفسه عهدا بان لا يكون ظهيرا للمجرمين .
[ 19] [ فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما ]
هو و الاسرائيلي - بعد ان لام الذي من شيعته على خطئه - و حيث ان كلمات موسى كانت قد أثرت أثرها في نفس الاسرائيلي ، فأراد الثأر لنفسه :
[ قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين ](1) القصص / 15 .
هكذا تبين ان الرجل كان غويا مبينا ، وان صراعه مع الأقباط كان مجردا عن المضمون الرسالي . اذ بمجرد خشيته من غضبة قائده و منقذه انقلب عليه ، و اتهمه بانه يريد ان يتجبر في الارض - يتسلط على الناس بغير الحق - وان ادعاءه بالسعي وراء الإصلاح ليس بصحيح ، ولعله كان من نمط المارقين الذين خرجوا على الامام علي - عليه السلام - و هذا النمط من الثوريين هم المتطرفون ، المعجبون بأنفسهم ، ضعاف الولاء لقيادتهم ، و مهما يكن نمط هذا الشخص فقد أذاع سرا هاما من أسرار الحركة .
و يلاحظ في احاديث أهل البيت (ع) أنهم اعتبروا افشاء السر أو اذاعة الامر - حسب التعبير الاسلامي - من اعظم المحرمات ، قال الامام الصادق (ع) :
" يا أبن النعمان ! اني لأحدث الرجل منكم بحديث فيتحدث به عني ، فاستحل بذلك لعنته و البراءة منه ، يا ابن النعمان ! إن المذيع ليس كقاتلنا بسيفه بل هم أعظم وزرا ، بل هو أعظم وزرا ، بل هو أعظم وزرا " (1)قال (ع) :
" و الله ما الناصب لنا حربا بأشد علينا مؤنة من الناطق علينا بما نكره " (2)وقال (ع) :
" من أذاع علينا شيئا من أمرنا فهو كمن قتلنا عمدا ولم يقتلنا خطأ " (3)وعندما نقارن بين موقف موسى (ع) من الاسرائيلي في المرتين ، نجد التالي :
(1) بحار الانوار / ج 78 / ص 287 .
(2) المصدر / ج 75 / ص 74 .
(3) المصدر / ص 87 .
1 - انه في المرة الاولى قتل القبطي ، ثم بين له الخطأ : " فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان انه عدو مضل مبين " أما في المرة الثانية ، فانه تكلم ضد الإسرائيلي أولا : " قال له موسى انك لغوي مبين " ثم توجه للبطش بالقبطي : " فلما أراد ان يبطش بالذي هو عدو لهما ... " و لعل ذلك ليبين لنا القرآن حقيقة طالما أكد عليها ائمة الهدى في احاديثهم و هي : ان الاسرائيلي في المرة الثانية حيث خالف أمن الحركة كان أحق باللوم و التأديب ، فموسى بدأ بالقبطي تلك المرة لأن تأديبههو الأهم ، بينما بدأ بالاسرائيلي هذه المرة لأن ردعه عن تصرفاته الخاطئة هذه أهم بالنسبة للحركة الرسالية من قتل القبطي . بل ان بعض الروايات قالت : ان موسى اراد ان يبطش بالاسرائيلي لا بالقبطي ، قال الامام الرضا (ع) في تفسيرة الآية :
" فاذا الذي استنصره بالآمس يستصرخه " على آخر " قال له موسى انك لغوي مبين " قاتلت رجلا بالامس و تقاتل هذا اليوم لأ أدبنك و أراد ان يبطش به " فلما أراد ان يبطش بالذي هو عدو لهما " و هو من شيعته " قال تريد ان تقتلني.. الآية " (1)
2 - في المرة الاولى قال القرآن عن لسان موسى و هو يخاطب الاسرائيلي لدخوله في الصراع مع القبطي : " قال هذا من عمل الشيطان انه عدو مضل مبين " و قد نسب العداوة و الضلال المبين للشيطان ، بينما قال في المرة الثانية : " قال موسى انك لغوي مبين " ناسبا الغواية الواضحة و المتعمدة للإسرائيلي ، و بالمقارنة نصل الى هذه النتيجة : ان الاسرائيل وقع في حبائل الشيطان ، و صار عدوا لموسى من حيث لا يشعر ، وهكذا كل من يخالف أوامر قيادته الرسالية ، لتصوراته و مواقفه الشخصية .
(1) نور الثقلين / ج 4 / ص 119 .
|