آنس من جانب الطور نارا
هدى من الآيات الهجرة مرحلة ضرورية لكل الرسالات و الحركات الرسالية السائرة على خطاها عبر الزمن ، فهي تنفع الانسان تزكية لنفسه ، و بلورة لشخصيته ، و استقامة على الحق بما فيها من ساعات صعبة حبلى بالمشاكل و الألم ، فالمهاجر يقتلع نفسه من مجتمعه ، و يعيش غريبا ، مجهول المصير ، و لعل تلك الساعة التي آوى فيها موسى الى ظل الشجرة كانت من تلك الساعات ، فهو الآن جائع و متعب من وعثاء السفر ، في بلد لا يعرف فيه أحدا ، بالإضافة الى هموم شعبه المستضعف ، و ربما كان خوف فرعون لا يزال يلاحقه ، و لم يتخلص منه نهائيا إلا بعد أناخبره شعيب بانه قد نجى - فعلا - من القوم الظالمين .
أما الوجه الآخر للهجرة ، فهي رحمة الله التي ترعى المجاهدين ، وفي هذه الآيات الكريمة نجد حديثا عن أبواب و الرحمة والبركة التي فتحها الى نبيه موسى (ع) فقدجاءته احدى الامرأتين اللتين سقى لهما ، و هي تدعوه الى بيتهم حتى يجزيه أبوها أجر السقاية ، و تتابعت عليه بركات الرب ، حيث أضحى و احدا من هذا البيت بعد ان كان غريبا في مدين ، و مستقرا بعد ان كان من دون ماوى ، و نقرأ بين السطور دروسا إلهية مهمة حول أخلاقيات المهاجر الرسالي .
و تتجلى الرحمة الإلهية مرة أخرى و بصورة أعظم حينما يرجع موسى بأهله الى وطنه و المشاكل تحوطه من كل جانب ، فالليل حالك الظلمة ، و البرد قارص ، و زوجته حامل ، و هم يسيرون في مفازة شاسعة ، دون معرفة بمعالم الطريق ، وفي الأثناء تموت مواشيه ، و هو لا يعرفماذا يصنع ، و اذا بيد الغيب تمتد اليه لا لكي تستنقذ موسى فقط ، و انما لكي تستنقذ معه بني اسرائيل ايضا .
في بادىء الأمر لما راى موسى النار لم يكن في خلده سوى الإستفادة من جذوتها للتدفئة ، و ممن حولها الاهتداء الى الطريق ، و لكن ما إن بلغها حتى سمع النداء : " أخلع نعليك انك بالواد المقدس طوى " و حينها انسلخ من كل الانتماءات المادية ، و نسي كلالهموم و الآلام ، و توجه الى ربه بكل عقله و عواطفه ، و هنا تتجلى عظمة الأنبياء ، فاذا بموسى (ع) لا يخلع نعليه و حسب ، بل يخلع كل انتماءات الأرض و التراب عن نفسه ، و يأتيه الوحي من طور سيناء ، دون ان يلتفت الى زوجته الحامل ، ولا مواشيه التي هلكت و التي كانت حصيلة عشر سنوات من العمل .
|