بينات من الآيات
اخلاقيات المهاجر [ 25] المهاجر باعتباره غريبا عن بلد الهجرة ، يجب ان يكون متساميا في الأدب ، لأنه لا يعرف البلد ، ولا يعرف خصائصه الاجتماعية ، و ربما يوجد فيه منيعتقد بانه ثقيل الظل ، فيحاول الضغط عليه ، و من هنا يجب على المهاجر تفجير طاقاته المعنوية و المادية ليستوعبه أهل المدينة ، و أول عمل قام به موسى (ع) أنه أعان العائلة الفقيرة ، و هكذا نجد حياة الأنبياء و الرساليين عبر التأريخ ، فرسول الله (ًص) دخل المدينة مهاجرا من مكة ، و دخلت معه البركات اليها بسبب نشاطه وقيمه الرسالية ، و أول ما وصل إليها بنى مسجدا فيها و هو مسجد ( قباء ) و ردم الحفر و المستشفيات التي انتشرت حولها - حسب بعض التواريخ - و التي كانت باعثا على الامراض ، ثم إنه (ص) لم يكن كلا على أهلها ، بل كان يعمل بنفسه ، و يكد من عرق جبينه ، أو ربما دفع الامام علي للقيام بهذا الدور ، و مثل هذا السلوك يجعل المهاجر محبوبا في المجتمع ، و هذا ما حدث فعلا لموسى - عليه السلام - إذ بعث اليه شعيب - عليه السلام - لما أنبأته ابنتاه بأنه قوي أمين ، و قدأحسن اليهما بالسقي لمواشيهما .
[ فجاءتــه إحدهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا ]و هنا اشارة الى ان الأديان الآلهية عموما لا تعارض دخول المرأة الى الواقع الاجتماعي ، و تعاملها مع الآخرين ، و لكن بشرط ان يكون تعاملها محاطا بالأدب و الحياء ، فهذه ابنة شعيب و هو أحد الانبياء بعثها أبوها في أمر يجده ضروريا ، و حين لبت كانت متسربلةبالعفة و الحياء .
و استجاب موسى (ع) لهذه الدعوة لا ليأخذ أجر السقاية ، و انما ليجد له موقعا في هذا البلد الغريب . إذ ينبغي للمهاجر الرسالي ان يبني شبكة من العلاقات الإجتماعية بمختلف الأسباب المشروعة ، و لمختلف الجهات في المجتمع حتى يستفيد منها في سبيل أهدافه الحق ،و حينما مشى موسى مع امراة غريبة مشى بأدب
وحشمة ، فقد أمرها ان تسير خلفه و تدله على الطريق بحصاة ترميها يمينا أو يسارا ، لانه ربما يرى شكلها و هي تسير أمامه .
وفي الحديث :
" فقام موسى معها و مشت أمامه ، فسفقتها الرياح فبان عجزها ، فقال لها موسى : تأخري ودليني على الطريق بحصاة تلقينها أمامي اتبعها ، فانا من قوم لا ينظرون في ادبار النساء " (1)[ فلما جاءه و قص عليه القصص ]
روى له ما جرى عليه في بلاده التي يسيطر عليها فرعون و جلاوزته .
[ قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين ]
واول ما دخل عليه موسى امر له بطعام ، فرفض أن ياكله و هو جائع ، فلما سأله شعيب عن السبب ، قال نحن من أهل بيت لا نأخذ أجرا على خدمتنا للآخرين لانه لوجه الله ، و بقي مصرا على ذلك ، حتى أوضح له شعيب ان هذا ما نقدمه لكل ضيف يحل علينا .
و يبين لنا هذا الموقف احدى صفات المهاجرين الرساليين و خلفياتهم ، اذ يجب علي المهاجر ان يحصن نفسه ضد الذلة ، و يحافظ على قيمه التي جاء بها للمهجر ، فالكثير من المهاجرين ، سواءا كانوا عمالا أو مجاهدين حينما ينتقلون الى بلاد الشرق أو الغرب تنمحي قيمهممن أذهانهم ، و تنعكس على شخصياتهم قيم و سلوكيات مجتمع المهجر ، لأن المجتمع قوي ، و هم لا يجدون ما يحصنهم أمام تياراته ، فيذوبون(1) نور الثقلين / ج4 / ص 122 .
فيه .
و على المهاجر ان يفكر في الحفاظ على قيمه ، و تحصين شخصيته قبل التفكير في توفير مأكله و مشربه ، فقد رفض موسى (ع) ان ياكل الا بعد ما تأكد من ان هذا الطعام لا تستتبعه ذلة ولا انتماء معينا .
[ 26] [ قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين ]و هذا الاقتراح يكشف لنا عن أمرين :
الاول : أحساس المرأة بالحاجة الى رجل يقوم بمهام البيت ، و ان ما يشبع طموح المرأة في الرجل ان يكون قويا يجبر ضعفها ، و أمينا تطمئن للعيش في كنفه . هذا من الناحية الخاصة - بالنظر الى المرأة كامرأة - أما من الناحية العامة حيث الظروف المحيطة ببيت شعيبفهاتان الصفتان مهمتان ، فمن الضروري ان يكون قويا حتى يؤدي المهام و الاعمال بشكل أفضل ، و أمينا حفظا لعرض البيت .
قال الامام علي (ع) :
" لما قالت المرأة هذا ، قال شعيب (ع) : وما علمك بأمانته و قوته ؟ قالت : أما قوته فانه رفع الحجر الذي لا يرفعه كذا بكذا ، و أما أمانته فانه قال لي : امشي خلفي فأنا أكره أن تصيب الريح ثيابك ، فتصف لي جسدك " (1)الثاني : ربما يكشف هذا الاقتراح عن رغبتها في الزواج منه ، فقد ورد في الروايات أن التي تزوجها موسى هي صاحبة الإقتراح ، بل وإنها هي التي اشارت(1) المصدر / ص 123 .
على أبيها بالزواج منه ، و الذي يدل على هذا الأمر الآية اللاحقة ، حيث يطرح فيها شعيب موضوع الزواج على موسى (ع) لقاء عمله معه ثمان أو عشر سنوات ، مما يدل على وجود بحث مسبق ، في هذا الموضوع بينه و بين أبنته ، ولا ريب انها كانت تعرف بأن أجور عمله هو الزواج .
[ 27] و قبل شعيب باقتراح ابنته فاقبل على موسى (عليه السلام ) .
[ قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين ]
و اشترط عليه العمل ثماني سنين .
[ على أن تأجرني ثماني حجج ]
الزاما ، و خيره في سنتين اذا أراد هو .
[ فإن أتممت عشرا فمن عندك ]
باختيارك و ارادتك ، و احسانا منك .
[ و ما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين ][ 28] فأجابه موسى :
[ قال ذلك بيني و بينك إيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل ]و بقي موسى (ع) يعمل عند شعيب (ع) و قد جعل الله ذلك كرامة لنبيه شعيب لما هو عليه من التقوى و الزهد .
قال رسول الله (ص) :
" بكى شعيب (ع) من حب الله عز وجل حتى عمي ، فرد الله عز وجل عليه بصره ، ثم بكى حتى عمي ، فرد الله عليه بصره ، ثم بكى حتى عمي فرد الله عليه بصره ، فلما كانت الرابعة أوحى الله اليه : يا شعيب ! الى متى يكون هذا أبدا منك ؟ إن يكن هذا خوفا من النارفقد اجرتك ، و ان يكن شوقا الى الجنة فقد ابحتك ، فقال : إلهي و سيدي أنت تعلم أني ما بكيت خوفا من نارك ، ولا شوقا إلى جنتك ، و لكن عقد حبك على قلبي فلست أصبر أو أراك ، فأوحى الله جل جلاله إليه : أما إذا كان هذا هكذا فمن أجل هذا سأخدمك كليمي موسى ابن عمران " (1)
و هكذا كان حيث زوج شعيب ابنته لموسى لقاء العمل عنده لمدة ثمان سنوات أو عشر ، وعلى هامش هذا الزواج هناك حقائق نشير اليها :
الاولى : من الممكن ان تختار المرأة الزوج المناسب لها ، لأن الزواج قضية مصيرية ، ذات أثر عميق على حياة المرأة و مستقبلها ، و لكن هذا الإختيار يجب ان يكون بطريقة لائقة ، تتناسب مع حشمة المرأة ، و القيم الآلهية ، فهذه بنت شعيب انما اختارت موسى لما وجدت فيه من الصفات و المؤهلات ، من قوة وامانة ، و التزام بمفاهيم الرسالة ، ثم عرضت اختيارها بأدب على أبيها .
الثانية : قبل ان تقدم موسى (ع) بطلب الزواج ، بادر شعيب الى ذلك ، حيث وجده كفوءا ، و وجد في زواجه من ابنته ضمانا لمستقبلها ، و سعادة لها في الحياة ، و هذا خلاف ما نجده الآن في المجتمعات التي صار فيها عرض الأب بناته للزواج ممن يجده أهلا لها عيبا كبيرا .
(1) المصدرص / ص 124 .
الثالثة : ان البنت الصغرى هي التي تزوجت و ليست الكبرى . على عكس بعض التقاليد الخاطئة التي ترى ضرورة زواج الكبرى أولا .
[29] و بقي موسى عند نبي الله شعيب (ع) عشر سنوات ، و هي أقصى الاجلين قبل ان يقرر العودة من جديد .
[ فلما قضى موسى الأجل و سار بأهله ]
و كان هذا إيذانا بدخول الحركة الرسالية مرحلة جديدة ، هي مرحلة العودة للتحرير ، و قد سبق أن أشرنا بأن الهجرة عند الرساليين لا تعني الهروب من الواقع و تحمل المسؤولية ، إنما تعني الإعداد الأفضل لخوض الصراع الحاسم ، ولا ريب ان موسى كان يفكر في مستقبل شعبه ، و يخطط للمعركة القادمة و هو في طريق العودة .
كان الوقت ليلا ، و الفصل شتاءا ، و المسير في صحراء مترامية الأطراف ، و لم تكن هذه الطريق معهودة عند موسى ، فضاع و ماتت مواشيه ، فصار يلتمس عونا له على هذه الظروف ، و في هذه الاثناء :
[ ءانس من جانب الطور ]
وهو الجبل .
[ نارا قال لأهله أمكثوا إني ءانست نارا ]
وآنس من الاستئناس ، و بالفعل أعطت هذه الشعلة شيئا من الأمل للنبي موسى و هو يعاني تلك الظروف القاسية ، فأمر أهله بالبقاء ، حيث ابقاهم في مكانهم ريثما يعود ، و كانت أصعبها عليه الضياع ، و بقاء أهله في البرد ، كذلك قال :
[ لعلي ءاتيكم منها بخبر ]
كان يتصور (ع) ان بجانب النار جماعة ما ، يسألهم عن الطريق ، و يعود لأهله بخبر مفيد .
[ أوجذوه من النار لعلكم تصطلون ]
و الاصطلاء : هو التدفؤ .
[ 30] كان هذا أبعد ما ذهب اليه موسى حينما رأى النار ، و لكنه كان يحمل في داخله هما أكبر من ذلك كله ، هم تحرير شعبه و سوقه نحو توحيد الله و عبادته ، بعيدا عن العبوديات المزيفة ، ولو وصل في هذا المضمار الى نتيجة لابد انه كان ينسى كل شيء سوى ذلك الهم.
[ فلما اتاها نودي من شاطيء الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين ]وفي غمرة هذا القرب الالهي امره الله ان يقطع عنه كل علاقاته الأخرى ، و ينسى أهله و ضياعه ، و هلاك مواشيه ، لانه وجد ربه ، و هنا التفاتة مهمة تعني المجاهدين أكثر من غيرهم وهي : ان عليهم الإطمئنان الى نصر الله و عونه ، و ان ذلك كله لا يتأتى لأحد إلا بعد السعي و الجهاد : " و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ان الله لمع المحسنين " (1)و ثمة فكرة نجدها في تفسير الامام الصادق (ع) لهذه الآية . إذ يقول :
(1) العنكبوت / 69 .
" كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو ، فان موسى ابن عمران ذهب يقتبس نارا لأهله ، فانصرف إليهم وهو نبي مرسل " (1)(1) نور الثقلين / ج 4 / ص 127 .
|