فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[ 57] ترى بعض النظريات ان المدنية تورث الخوف لأن أهلها يريدون الإحتفاظ بمكتسباتها ، فيقدمون التنازلات لدرء الاخطار عن أنفسهم ، و لعل أهل مكة كانوا في هذه المرحلة . اذ كانوا يخشون من الاصطدام مع قبائل العرب حتى لا يخسروا مكتسباتهم ، و كانت القضية التي يتوقع انها تثير العرب ضدهم هي ايمانهم بالرسالة الجديدة ، فكفروا بها و قالوا : نخشى ان تزول حالة الأمن التي نعيشها لو أننا آمنا ، فتطفق العرب باقتحام بلدنا ، و اختطافنا من الارض .

[ و قالوا ان نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا ]

و في هذا الحديث اعتراف منهم بان سبــب كفــرهم بالرسالة ليس في نقص الادلة ، بل اتباعهم الهوى المتمثل في مصالحهم الخاصة ، و قد رد الله عليهم :

1/ ان مصدر هذه النعم هو الله ، و ليس الناس حتى يتصوروا ان الاختلاف معهم سوف يؤدي الى زوالها ، فالله هو الذي جعل الكعبة محلا آمنا ، و فرض على الناس جميعا و من فيهم العرب - من الناحية التشريعية الدينية - الإلتزام بحرمتها و الا لما كانت مكة بلدا آمنافي عرف قوم شعارهم الخوف ، و دثارهم السيف ،


ولهجموا عليها ، وحطموا الحضارة الناشئة فيها .

و لو كان ثمة قانون يمنعهم من ذلك لمنعهم من التقاتل . ان الذي يمنعهم هو القانون الإلهي منذ أيام إبراهيم (ع) بحيث لو التجأ الصيد الى الحرم ما كانوا يصطادونه احتراما للكعبة ، حتى قال شاعرهم :

و المؤمن العائذات الطير يمسحها ركبان مكة بين العيل و السلميعني قسما بالله الذي أعطى الأمان للطيور التي تستعيذ بالحرم ، حتى ان القوافل التي تذهب الى مكة ليمس على ظهرها ، و لكن قريش لم يعقلوا هذا العامل الأساسي ، لما يتمتعون به من أمن و رفاه ، لذلك لم يشكروا الله ، و لم يؤمنوا برسالة الإسلام ، و لو أنهم فعلوا ذلك لاستزادوا من الامن و البركة .

[ أولم نمكن لهم حرما ءامنا يجبى إليه ثمرات كل شيء ]ان أهم النعم لدى أهل مكة كانت هي : الأمن الآتي من حرمة الكعبة ، و الرفاه بسبب سيطرة أهلها على التجارة ، و بسبب توافد الحجاج الى البيت الحرام . كانوا يحملون معهم خيرات الأرض بالرغم من أن مكة كانت بين جبال و عرة ، و أراض جرداء .

[ رزقا من لدنا و لكن أكثرهم لا يعلمون ]

لقد ذكرنا مرة ان هناك فرقا بين الرزق و الكسب ، فالرزق هو ما يعطيه الله للانسان هبة و عطاء ، و ربما بدون سعي ، بينما الكسب هو ما يعطيه الله له بعد السعي ، و الآية تبين ان نعمتي الآمن و الرخاء التي كانت و لا تزال لأهل مكة ، لم يسع أهلها من أجلها سعيا، و انما الله هو الذي تفضل عليهم بهما ، و عدم إدراكهملهذا العامل - الذي جاءت بسببه هاتان النعمتان - هو الذي جعلهم يبطرون بالنعمة ، و يكفــرون بالرســالة ، بدل أن يشكروا الله عبر الإيمان برسالته ، و طاعة القيادة التي فرضها .

و لعل الآية تشير إلى أهمية التشريعات الرشيدة في بناء الحضارات ، و ان القيم الالهية هي السبب في بركتي الأمن و الرخاء للناس .

[ 58] 2 / قد تضحى النعمة نقمة على أصحابها ، و ذلك اذا صــارت هدفا بذاتها ، بينما ينبغي للانسان ان يشكر ربه عليها ، و ان شكر أهل مكة الله على نعمتي الأمن و الرخاء يتمثل في الايمان برسوله ، و هذا هو السبيل الأوحد للحفاظ على النعم و منع تحويلها الى نقمة ، و هكذا يبقى الضمان الوحيد لاستمرار الحضارات اتباع رسالات الله و رسله ، و من ابرز فوائد الرسالات كبح جماح الانسان من الاسترسال مع النعم الى حد البطر والطغيان و الغرور ، حتى ينسى الحدود ، و يتجاهل الحقوق ، و يندفع في اتباع اللذات الى أبعد مدى .


[ و كم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها ]

و الله لا يدمر القرى لمجرد انها مرفهة ، و كيف يكون ذلك و قد خلق البشر ليرحمهم ؟ كلا .. إنه هو الذي و فر النعم للناس ، و يخطىء أولئك الذين يصورون الدين بأنه يعارض النعم بذاتها ، مفسرين الآيات و الروايات التي تتناول موضوع الزهد : بان الدين لا يجتمع مع الدنيا ، أو السياسة . كلا .. إنما دمرها لأنها بطرت بالنعم ، و أصابها الغرور ، و لم تصل بالنعم الى اهدافها .

[ فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا و كنا نحن الوارثين ]لقد سكنت من بعدهم تلك المساكن و لكن قليلا ، لأنها كانت لا تزال منحوسة ، مما جعل ساكنيها الجدد يرحلون عنها سريعا ، و لعل الآية تشير الى سنة إلهية هي : ان البلاد المدمرة بالعذاب لا تبقى فيها مقومات الحضارة ، و هكذا لا نجد الحضارة قد تجددت في ذات المواقع التي دمرت ، مما تجعل نتائج البطر بالمعيشة تمتد الى المستقبل البعيد .

[ 59] ثم يبين الله - و خلافا لنظرية الحتمية التأريخية التي تتصور الدورات الحضارية مرهونة بالزمن ذاته - ان العامل الاول في الدورات الحضارية بعد ارادة الله هي ارادة الانسان ، فلو بقيت أمة تسير في الخط السليم ، فستبقى تتقدم و تتطور أكثر فأكثر ، و لن يؤثر فيها الزمن بذاته ، و الله لا يسلب حضارة قوم أو يهلكهم هلاكا ماديا ، إلا بعد تحقق أمرين :

فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس