فخسفنا به وبداره الأرض [ 79] كان قارون يسعى لفرض سلطته على الناس من خلال ثروته ، مما كان يدفعه للتباهي و الظهور بمظهر العظمة ، وقد ورد في الأخبار : انه لم يكن يخرج إلا مع اربعين فارسا ، قد لبسوا زيا واحدا .
و في الأثر أيضا : و خرج على موسى (ع) في زينته على بغلة شهباء ، و معه اربعة آلاف مقاتل ، و ثلاثمائة وصيفة عليهن الحلي . (1)و في خبر ثالث : خرج على براذين بيض عليها سروج الأرجوان ، و عليهم المعصفرات . (2)[ فخرج على قومه في زينته ]
ولا شك ان في المجتمع من تقع هذه المظاهر الدنيوية موقعا في نفسه لضعف ايمانه ، ولأنه يلتقي مع أمثال قارون في نقطة واحدة هي حب الدنيا .
[ قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم ]هكذا أفسد قارون بالثروة المجتمع الاسرائيلي ، حيث ضللهم عن قيم الرسالة الى القيم المادية .
[ 80] أما المؤمنون الذين ينظرون للحياة من خلال بصيرة الإيمان ، فقد تحملوا مسؤوليتهم تجاه هذا الإنحراف ، فبادروا الى النهي عن المنكر .
[ و قال الذين أوتوا العلم ]
و بالتالي عبروا الظواهر إلى ألبابها ، و الدنيا الى الآخرة ، بل وعرفوا عاقبة هذا الموقف ، و هكذا ينبغي للمؤمن ان يتحمل مسؤوليته حينما يتأثر الناس بمظاهر الثروة الباذخة .
(1) بحار الانوار / ج 13 / ص 253 .
(2) المصدر / ص 254 .
[ و يلكم ثواب الله خير لمن ءامن و عمل صالحا ]
هؤلاء لم يتأثروا بزينة الحياة لأن هدفهم هو الآخرة التي لا تقاس بالدنيا ، و هذه الكلمات تكشف عن النفسية العالية التي تتحدى إغراءات الدنيا بقوة الايمان ، و لا ريب ان هذا التحدي يحتاج الى الصبر ، أو ليس الصبر ينمي في الانسان النظرة المستقبلية ؟!
[ ولا يلقاها إلا الصابرون ]
لقد تقدم في الدروس السابقة : ان من مشاكل النفس البشرية هي العجلة ، و الميل لما هو حاضر ، و حتى يتجاوز الإنسان هذه المشاكل ، فانه بحاجة الى الصبر حتى يحصل على ما في المستقبــل و هــو العاقــبة الحسنة في الدنيا ، و الجنة في الآخرة .
[ 81] [ فخسفنا به وبداره الأرض ]
و لكن لماذا يخسف الله بداره الارض ؟
لعل ذلك حتى لا تغر بما فيها من زينة أحد غيره .
ان مقام الظالمين يكتسب نحوسته منهم فيستحق الهلاك ، هكذا أهلك الله القرى لما ظلم أهلها .
[ فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله ]
حتى الذين تجمعوا حوله ، كانوا يريدون شيئا من دنياه ، أما و قد ذهبت من يده فهو لا يسوى عندهم شيئا ، بل لو حاولوا نصره لما استطاعوا أبدا .
[ و ما كان من المنتصرين ]
و هذه الآية مثل على الحقيقة الآنفة " أو لم يعلم ان الله أهلك من قبله من القرون " .
و قد نهى النبي (ص) ان يختال الرجل في مشيته فقال :
(3) " من لبس ثوبا فاختال فيه خسف الله به من شفير جهنم ، و كان قرين قارون ، لأنه أول من اختال فخسف الله به و بداره الأرض " (1)[ 82] و بعد ما خسف بقارون ، و انتهى كل ملكه تبينت للذين تمنوا مكانه حقيقتان :
الاولى : عرفوا كذب ما قاله لهم قارون من ان هذه الاموال من عنده ، منكرا أن أن الله هو الذي يوسع و يضيق على من يشاء ، و الدليل أن الله هو الذي سلب منه ماله ، و الذي يقدر على سلب المال بهذه الكيفية لهو قادر على إعطائه .
[ و أصبح الذين تمنوا مكانه بالامس يقولون و يكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده و يقدر ]ثم حمدوا الله انهم ما انجرفوا مع قارون ، والا لشملهم العذاب .
[ لولا أن من الله علينا لخسف بنا ]
الثانية : عرفوا أن الكافر الذي يكابر الله ، ولا يستفيد من نعمه في أهدافها الحقيقية يفشل في الحياة ، و أن المفلح هو المؤمن الذي يعمل الصالحات ، كما أكد على ذلك أهل العلم الإلهي في الآية (80) .
(1) نور الثقلين / ج 4 / ص 140 .
[ و يكأنه ]
أي و يل لك يا قارون انه ...
[ لا يفلح الكافرون ]
و العاقبة للمتقين .
[ 83] و جاءت في خاتمة الدرس آية توجز عبرها و حكمها : ان رسالات الله نزلت حتى تزكي أفئدة الناس من دنس الاستكبار و الفساد ، و تطهر جنبات المجتمع من المستكبرين و المفسدين ، فهذا فرعون علا في الأرض واستكبر ، فقصم الله ظهره حين بعث موسى برسالاته و آياته، ثم نبذ فرعون و جنوده في اليم ، و قارون اذ بغى على بني جلدته ، ففسد في الأرض خسف الله به و بداره الأرض بدعوة موسى (ع) .
ان فرعون لهو الامثولة الظاهرة للاستكبار ، و ان قارون لهو الأحدوثة البينة للفساد .
و اذ يضرب الله بهما مثلا فلان الأمثال تضرب بأوضح المصاديق ، و اشدها إثارة ، بينما تتسع عبرتها لكل من يكون مثلهما بنسبة وجود صفتهما فيه .
ان القلب الذي ينزع نحو العلو في الارض ينطوي على فرعون صغير ، و الفؤاد الذي يهوى الفساد يحمل في ذاته قارونا بقدره ، و رد في الحديث :
" طوبى لمن اطاع موسى تقواه ، و عصى فرعون هواه "و كما ان النار تحرق ما حولها بقدرها ، كذلك الانحراف يؤثر بقدره ، ولا يمكنان ننكر طبيعة الحرق في النار حتى ولو كانت قبسا ، كذلك لا يجوز ان نستهين بخطر الإستكبار و الفساد حتى ولو كان بقدر ذرة ، و الدنيا دار ابتلاء و تمحيص ، ولابد أن يتطهر القلب من أثار التكبر و الفساد حتى يضحى أهلا للجنة . دار ضيافة الله ، و مقام كرامته ، وماوى اوليائه و احبائه .
[ تلك الدار الأخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ]أما الطغاة و اولياؤهم فان لهم دارا أخرى ، حيث يساقون الى النار و ساءت مصيرا .
و أي امتحان عسير يتعرض له أهل الولاية و السياسة ، حيث يطالبهم الرب بان ينزعوا عن قلوبهم رداء التكبر ، و يعيشوا للناس و مع الناس ، و في مستوى المحرومين من الناس ؟! واين تجد مثل هؤلاء ؟!
بلى ، كان ذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) حيث يروي عنه راذان :
" انه كان يمشي في الاسواق و هو وال يرشد الضال ، و يعين الضعيف ، و يمر بالبياع و البقال ، فيفتح عليه القرآن و يقرأ هذه الآية ، و يقول : نزلت هذه الآية في أهل العدل و التواضع من الولاة ، و أهل القدرة من سائر الناس " (1)و كل من طلب الرئاسة بغير حقها في كل حقل حتى ولو كان ضمن قيادة حزب أو تجمع أو هيئة ، بل و حتى رئاسة عشيرته و أسرته تشمله هذه الآية .
يقول الامام علي (ع) : و هو يصف الذين شقوا عصى الأمة في عصره ، و فرقوها يقول :
(1) نور الثقلين / ج 4 / ص 144 .
" فلما نهضت بالامر نكثت طائفة ، و مرقت أخرى ، و فسق آخرون ، كأنهم لم يسمعوا الله سبحانه اذ يقول : " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين " بلى .. والله لقد سمعوها و وعوها ، و لكنهم حليت الدنيا في أعينهم ، و راقهم زبرجها " (1)
و نقرأ حديثا يجعل كل حب للإستعلاء حاجزا بين الانسان و دخول الجنة ، يقول الامام علي (ع) :
" الرجل يعجبه شراك نعله ، فيدخل في هذه الآية " (2)[ ولا فسادا ]
إن اجلى مصاديقه : تخريب قيم المجتمع و محاولة السيطرة عليه عبر الثروة ، و السعي وراء افساد ضمير أبنائه بالرشوة .
و من مصاديقه : إفساد اقتصاده بالغش ، و سرقة جهود الفقراء بوسائل غير شريفة ، و التلاعب بأرزاق العباد بالإحتكار ، و لكن لا يتوقف الفساد عند هذا الحد ، بل شهوات الدنيا جميعا تدعوك الى الفساد اذا لم تضبطها في حدود العقل و الشرع . أوليس الإسراف في استهلاك الموارد الطبيعية ينشر الفساد فيها ، كذلك الإكثار في الطعام و الجنس يرهق جسمك ، و هو بدوره يعتبر ضربا من الفساد ؟!
أو ليس طلب المزيد من الحقوق في مقابل القليل من الواجبات يرجح كفة الفساد في حياتك ؟! بلى .. لذلك جاء في الحديث في صفة المؤمن :
(1) المصدر / ص 143 .
(2) المصدر / ص 144 .
" المؤمن حسن المعونة ، خفيف المؤنة "
واقولها بصراحة : ان منهج الاستهلاك و الشره و الحرص على الدنيا في ابناء المجتمع هو الذي يؤدي - بالتالي - الى سيطرة المترفين من أولي الثروة علينا ، و من خلالهم تحكمنا الإمبريالية الدولية . ان المترفين هم الجزء الظاهر من جبل الثلج في فساد الاقتصاد . انهم فروع شجرة ضربت بعروقها بعيدا في أعراض المجتمع .
ان الركض وراء الربح السريع ، و التهاون في العمل ، و البحث عن الرفاه و الرخاء المجانيين ، و ترك الإتقان ، و التطفيف في العمل . كل هذه عوامل للإنحطاط الإقتصادي ، الذي يؤدي بدوره الى الفقر و التبعية .
متع الدنيا وسائل بلوغ الآخرة ، و افضل المناهج للتحرز من الفساد الزهد في الدنيا ، دعنا نتلوا معا الحديث التالي في تفسير الآية ، و بيان المصاديق الخفية منه الحديث يقول :
روى حفص بن غياث قال ابو عبد الله (ع) :
" ما منزلة الدنيا من نفسي الا بمنزلة الميتة . اذ اضطررت اليها أكلت منها ، يا حفص ! ان الله تبارك و تعالى علم ما العباد عاملون ، وإلى ما هم صائرون ، فحلم عنهم عند أعمالهم السيئة لعلمه السابق فيهم ، فلا يغرنك حسن الطلب ممن لا يخاف الفوت ، ثم تلاقوله : " تلك الدار الآخرة ..." الآية ، و جعل يبكي و يقول : ذهبت - و الله - الأماني عند هذه الآية "قلت جعلت فداك ، فما حد الزهد في الدنيا ؟
فقال :
" قد حد الله - عز وجل - في كتابه فقال : " لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما اتاكم " (1)واذا كان الامام الصادق (ع) يبكي عند تلاوة هذه الآية خشية الا يكون ممن تشملهم فكيف بمثلي ممن استبد بقلبه حب الدنيا ، و حليت في عينه الضيقة ، و استهوته الرئاسات و طلبها بكل و سيلة ؟! اعاذنا الله جميعا منها و من شرورها .
[ و العاقبة للمتقين ]
الذين يحفظون أنفسهم من نار جهنم بالتزام نهج الحق ، و تعاليم الشرع في كل صغيرة و كبيرة .
(1) نور الثقلين / ج 4 / ص 143 .
|