بينات من الآيات [ 36] [ والى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله و ارجوا اليوم الأخر ولا تعثوا في الأرض مفسدين ]بعث شعيب (ع) الى مدين من اجل الاصلاح ، و قد كانوا مفسدين ، و ذكرهم شعيب (ع) بثلاث مسائل :
1 / عبادة الله ، و التي تعني إخلاص العبودية له ، و التوجه إليه .
2 / وارجوا اليوم الآخر الذي يعني الخوف من النار و الرجاء للجنة ، بمعنى ان يضعوا اليوم الآخر في حسبانهم ، يعرفوا انهم محاسبون على اعمالهم ، و متى ما عرف الانسان ذلك صلحت أعماله .
3 / ولا تعثوا في الارض مفسدين ، و في آي القرآن الكريم في سورتي الأعرافو الشعراء فسادهم الاقتصادي .
[ 37] [ فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين ]كعادة سائر الاقوام كذبت مدين نبيها شعيبا ، و جرت فيهم سنة الله سبحانه ، اذ أخذهم بالرجفة ، فأصبحوا جاثمين في بيوتهم ، بعد ان صرعهم العذاب .
و هنا سبحانه يختصر السياق ببيان الصراع بين نبي الله و بينهم ، الذي فصل القول فيه في سور مختلفة ن فقال سبحانه : " فكذبوه " و لكنه في المقابل يصف عذابه و صفا بليغا ، و لعل ذلك للاستخفاف بتكذيبهم ، و ان تكذيبهم لم يكن ليضر الله ، أو ينقص فيحكمه ، و بيان ان الله سبحانه عندما ينتقم فان انتقامه سيكون رهيبا .
[ 38] ولم يكن العذاب ليحيق بمدين أو قوم لوط فحسب ، بل ان العذاب على من كذب و تولى .
[ و عادا و ثمودا و قد تبين لكم من مساكنهم ]
انظروا الى مساكنهم و آثارهم ، لتعرفوا رهبة العذاب ، و قدرة الله سبحانه و تعالى ، و في المقابل انظروا الى أي مدى و صلوا في التحضر ، و هل كل ذاك التمدن منع عنهم عذابه .
[ و زين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل ]
عبادة الشيطان كان السبب الرئيسي في ضلالهم ، فقد زين لهم اعمال السوء التي كانوا يعملون ، و صدهم عن السبيل ، و قد أخذ الله سبحانه من البشر عهدا بعدم عبادة الشيطان عندما قال لهم : " الم اعهد اليكم يا بني آدم ان لاتعبدوا الشيطان انه لكم عدو مبين *وان اعبدوني هذا صراط مستقيم " (1)
(1) يس / 60 - 61 .
و لكنهم نكثوا عهدهم مع الله فحاق بهم نكثهم .
[ و كانوا مستبصرين ]
و لعل الآية تهدينا الى ان استبصار الامم عند نشوئها لا يشفع لهم عند الله اذا انحرفوا ، و ان على الامم المستبصرة ألا تستهين بمكر الشيطان الذي يزين اعمال السوء في أعين الغافلين و يصدهم عن السبيل .
و هنا فكرة أخرى نستوحيها من هذه الخاتمة هي فكرة الدورات الحضارية ، و ان الأمم الفتية يغلب صلاحها على فسادها ، إلا أنها لا تلبث ان يتغلب عليها جانب الفساد ، و ان الله سبحانه يبعث الرسل لمنع تدهورها ، الا ان كثيرا منها تتخذ طريقها الى النهاية المدمرة.
[ 39] و كما سائر الأقوام كذلك قارون و فرعون و هامان الذين استكبروا ، و لكن هل كانوا قادرين على مواجهة عذاب الله ؟!
[ و قارون و فرعون و هامان و لقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين ]تشير الآية الى الاعمدة الثلاث للفساد و هي :
1 - السلطة الاقتصادية ( قارون ) .
2 - السلطة السياسية ( فرعون ) .
3 - السلطة الاعلامية ( هامان ) .
فقد كان يمثل قارون الفساد الاقتصادي - الاحتكار ، عدم دفعالاستحقاقات ، الطغيان على المجتمع ، اتهام القيادة - بينما كان فرعون يجسد الارهاب السيــاسي و العســكري ، أما هامان فقد كان المستشار الاعلامي لفرعون و موضع سره ، و لا يتجسد الفساد في المال ، أو السلطتين السياسية و العسكرية ولا في الاعلام ، فهي مجرد وسائط اجتماعية ، و انما الفساد في الرؤوس المدبرة لهذه السلطات الثلاث .
[ 40] لقد كان حصيلة تمسك هؤلاء بالفساد استكبارا في الارض الدمار ، و لم يكن هلاكهم بدعا أو صدفة ، انما كان سنة جارية تكررت في مختلف الظروف ، و عند أمم متباينة تأريخيا و قوميا و فسادا .
[ فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا و منهم من أخذته الصيحة ]و هذا جزاء قوم عاد و ثمود .
[ و منهم من خسفنا به الأرض ]
قارون .
[ و منهم من أغرقنا ]
فرعون و هامان .
[ و ما كان الله ليظلمهم و لكن كانوا أنفسهم يظلمون ]لم يكن الله ليظلم عباده ، بيد ان عذابه للكافرين تجسيد لأعمالهم أنفسهم ، و ظلمهم لها ، و ان عذاب الله انما هو صورة لعدل الله سبحانه .
و نحــن نعــرف ان الجزاء من جنس العمل ، و عذاب الله سبحانه - دنيا و آخرة - انما هو صورة أخرى لافعالهم ، فمن قدس الماء غرق فيه ، و من حفر الصخر عذب به .. و هكذا .
قال الحجاج لسعيد بن جبير ( رض ) لما أراد قتله : اختر قتلتك ، فاجابه سعيد بكل ثقة و اطمئنان : بل اختر انت قتلتك التي سأقتلك بها في الآخرة .
[ 41] [ مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا و إن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ]ان من اعتمد على غير الله ، فان حضارته كبيت العنكبوت ، و ان أوهن البيوت لبيت العنكبوت .
فمهما كانت قوة الانسان و قدرته ، فانها لن تجدي نفعا امام قدرة الله ، بيد ان الضمان الوحيد لاستمرار الطاقات ، و نمو الحضارات هو تبلور المفاهيم التوحيدية في الواقع، و أداء واجب الشكر ، و حق الطاعة ، و اقتلاع جذور الشرك و العبودية لغير الله .
[ 42] [ إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء و هو العزيز الحكيم ]ان الله يعلم حقائق الشرك الخفية في النفوس ، و مصاديقها في الواقع ، مهما تعددت اشكالها ، و تنوعت حقائقها ، و الله عزيز قادر على الأخذ كيفما يشاء متى يشاء ، ولكنه حكيم لالا يأخذهم حتى يتم الحجة عليهم .
[ 43] [ و تلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ]وجود القابلية للهداية و الرغبة فيها ، و التحذر من مواطن السيئات التي وقع فيها من قبلنا شرط أساسي للإستفادة من عبر التاريخ .
و تعقل هذه البصائر لا يتم الا من العلماء لان اكثر الناس لا يعقلون .
|