فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[52] تعالج آيات هذا الدرس الكريم ثلاثة مواقف للانسان تلقاء الذكر الحكيم :

الف : موقف التحدي و المعاجزة .

باء : موقف التمني .

جيم : موقف التسليم .

و المواقفان الاولان خاطئان ، و هما متطرفان ذات اليمين و ذات الشمال و المحجة السالمة ، الموقف الثالث .

ان علـى الانسان ان يسلم نفسه للحق كله ، و يؤمن بحلوه و مره ، ثوابه و عقابه ، سهله و صعبه ، و يكيف - بالتالي - واقعه له انى كان .

و من الناس من يصارع الحق و يسعون في آيات الله معاجزين متحدين . و منهم من يتمني فيخلط بين الحقائق و الاحلام ، بين ما هو حق و واقع ، و بين ما يصبو اليه و يتطلع نحوه .

و لعل العلاقة بين المعاجزة و التمني ، هي ان كلا الموقفين نابعان من عدم التسليم للحق كما هو ، مع فارق في الطريقة ، فاصحاب المعاجزة يتحدون الى الحق ، و يكفرون به ، بينما اولي التمني يرفضون طريقة تحقيق الحق ، و تكريسه ، منالسعي و الاجتهاد و القتال .. ثم القبول بالنتائج .

و لا ينبغي ان يسترسل المؤمن مع زخم امنياته فيذهب مع رياح الاحلام ، انى اتجهت ، و حتى الانبياء العظام ، و الرسل الكرام لو تمنوا بطبعهم البشرى ، تمنوا مثلا ان لو هدى الله الناس جميعا ، او اهلك الظالمين فورا ، او اسعد الخلق بوافر نعمائه بلا سعي و لاعسر ، او اخلد الصالحين و لم ينزل عليهم مصيبة الموت ، أو ما الى ذلك من احلام تنبع من فرط حسم للخلق و للقيم الرسالية ، فان الشيطان يلقي في امنياتهم ، الا ان الله يعصمهم و يحكم آياته في واقعهم .

و لكن على المؤمنين ان يعرضوا هذه التمنيات على الحق الذي انزله الله في آيات الكتاب فيلزموا انفسهم حقائق الكتاب و يعرفوا ان الله قد خلق الدنيا دار ابتلاء ، و لم يجعلها دار جزاء ، حتى يعجل للكفار العذاب ، أو للمؤمنين بالثواب !

و ان الهداية ليست كرها على الناس ، و ان الله قد فرض القتال على المؤمنين لحكمة بالرغم من انهم له كارهون .

و هكذا جاء في الأحاديث - اضافة حكمة و لا محدث ، و لعله للدلالة على ان الربانيين من العلماء هم بدورهم معصومون من القاءات الشيطان ، مؤيدون بروح الايمان .

[ و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ]و يبدو ان معنى ذلك : ان النبي و الرسول و الامام المحدث يكاد يتمنى ، و لكنه لا يتمنى لقوله سبحانه :

[ فينسخ الله ما يلقي الشيطان ]


في روع الرسول لمقامه البشري الضعيف لو لا تأييد الله و نصره .

[ ثم يحكم الله ءاياته ]

بالعصمة التي تجعل الرسول لا ينطق عن الهوى بل هو وحي يوحى .

[ و الله عليم حكيم ]

فهو يحيط علما بالقلب البشري ، و القاءات الشيطان فيه و هو ينسخها من ضمير المؤيدين كالنبي و الرسول و المحدث بحكمته . و هذه الآية اكبر شاهد على عصمة انبياء الله و ائمة الهدى . ذلك لان الله لا يسمح للشيطان بأن يوسوس اليهم في صدورهم ، بل يعصم عزائمهم ،و امنياتهم و افكارهم من القاءات الشيطان . و تشبه هذه الآية آيات اخرى في القرآن الحكيم ، كقوله سبحانه :

" و لقد همت به و هم بها لو لا ان رأى برهان ربه " حيث تدل على ان يوسف عليه السلام تعرض لطائف من الشيطان فعصمه الله رأسا ، و قوله تعالى :

" و لو لا ان ثبتناك لقد كدت تركن اليهم شيئا قليلا "حيث ان الله لم يدع الضغوط الجاهلية تؤثر على مسيرة النبي المستقيمة .

ومن المفارقات الغريبة اننا نجد تلفيقات من القاءات الشيطان حول هذه الآية .

حيث جاء في بعض الاخبار المروية : ان رسول الله صلى الله عليه وآله جلس في أحد نـــوادي مكـــة ، و قـرأ على المشركين سورة ( النجم ) حتى اذا بلغ قوله تعالى : " افرأيتم اللات و العزى و مناة الثالثة الاخرى " اضاف اليها : و انهن لهن الغرانيق العلا و ان شفاعتهن لهي التي ترتجى و مضى في قراءة السورة حتى انتهى الى السجدة في آخرها فسجد و سجد المشركون معه ، و لم يتخلف منهم احد ، فاعلنت قريشرضاها ..!!!

و في بعض الروايات ان رسول الله صلى الله عليه و آله كان يقرأ سورة النجم في الصلاة ، فعندما كان يقرؤها فاذا بأحد خلفه يردد آيات الغرانيق فرددها الرسول عدة مرات على غفلة منه ، فنزلت هذه الآية .

و ان هذه الرواية و امثالها لا تحتمل التصديق لان سورة الجن نزلت في مكة و سورة الحج نزلت في المدينة ، عوضا عن ان الرسول يعلم علم اليقين ان سورة النجم التي تحتوي على سجدة واجبة لا تقرأ في الصلاة .

المهم جاءت هذه الآية لتؤكد بان شفاعة هذه الغرانيق لا ترتجى ، و ان هذه القصة ليس سوى امنيات القاها الشيطان ليختبر بها الله عباده المؤمنين ، فما هي الا اسطورة لا اكثر و لا اقــل . لان الرسول أرفع من ان ينزل الى مستوى الجهل بأهم اصل من اصول رسالته ،الذي يعتبر الركيزة الاولى التي قام عليها الدين بأكمله و هي التوحيد ، فحتى لو اغمضنا العين بقول ان رسل الله معصومون عن الذنب ، و الخطأ و السهو النسيان و بالذات رسول الله محمد خاتم النبيين صلى الله عليه و آله الذي يقول عنه الرب سبحانه : " و ما ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى " . ان هذه الآية نقرأها في سورة النجم بالذات التي حولها هذه الاسطورة ثم هل من الممكن ان نتصور رسولا يبعثه الله لابلاغ رسالة التوحيد ثم ينسى هذه الحقيقة ، و يبدلها بخرافة الشرك ؟!

ان هذا الحديث الذي يقول عنه ابو بكر الزار لا نعلمه يروى عن النبي باسناد متصل يجوز ذكره ، انما تقوله الجاهليون الحاقدون على الرسول نكاية به ، و تناقله الجاهلون الذين لم يعرفوا رسول الله بل لم يعرفوا رسالات الله .

و لو افترضنا - جدلا - صحة هذه الرواية فلابد ان يكون هذا الكلام منالقاءات الشيطان في قلوب المشركين ، التي اضافوها الى الآيات ، و اشاعوها بين الناس ، ليشبهوا على الناس ، الا ان الله سبحانه - الذي وعد بحفظ القرآن عن عبث العابثين و تحريف المبطلين - احكم آياته ، و فضح القاءات الشيطان ، و قد ذكر كثير من المفسرين هذا الاحتمال في هذه الرواية التاريخية .

[53] ان قلوب الناس على ثلاثة انواع : السليم ، و المريض ، و القاسي ، و القلب السليم يعصمه الله عما يلقي الشيطان في امنياته ، بينما القلب المريض و القاسي يلقيان ما يلقيــــه الشيطان ، و يصبح بالنسبة اليهما فتنة تستهويهما و يصعب عليهما التخلص منهــا.

[ ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض و القاسية قلوبهم ]ما هو القلب المريض و القاسي ؟

لعل امراض القلب هي تلك العقد النفسية ، التي تظهر في الصفات الرذيلة كالحسد و الحقد و الكبر و اليأس ، و حب الرئاسة ، و الجدل في الله بغير حق .

و اما قسوة القلب فهي التي تنشأ بسبب تراكم اثار الذنوب عليه ، فاذا به لا يستجيب للحق ، ولا يهتز للانذار و التبشير ، و لا يعتبر بمصير المجرمين ، و لا ينتفع بآيات الله في الافاق .

و كيف تصبح القاءات الشيطان بالنسبة إليهما فتنة ؟

لان القلب المريض او القاسي يبحث ابدا عما يتوافق معه ، فأنه يستجيب سريعا لوساوس الشيطان و يكون مثله مثل الجسم المريض الذي تكاثرت فيه الجراثيم، و ضعفت مناعته الذاتية ، فاذا به يتلقف الجراثيم الجديدة بسهولة ، انمقاومة هذا الجسم للمرض ضعيفة ، فخطر المرض عليه شديد ، كذلك القلب المريض أو القاسي ، يصعب عليه مقاومة الاشاعات الشيطانية التي تنتشر و تلقى هوى في النفس .

مثلا : انك ترى قلوب الجاهليين المريضة بحب " الغرانيق العلى " ، والتي تراكمت عليها أثار عبادة الاصنام ، و تحن الى ايام الصبا حيث كانوا يتساقطون امام الاصنام المزخرفة ، و يسحرون على وقع الاناشيد و الطبول ، و في احتفالات اللعب و اللهو و بانتظار موائد الطعام و الشرب و المسكرات ، و مع صبايا الحي الجميلات و الصبيان الحسان .

انك تراها اليوم تتلهف الى اشاعـة تــروج في مكة ، بان النبي قد مدح هذه الاصنام ، و وقع ساجدا لها ، و اعطى الشرعية من جديد لها ، و تتناقل الافواه هذه الشائعة المفضوحة بشوق عظيم ، و اذا بها تصبح مادة اعلامية لكل من سولت نفسه النيل من مقام سيد البشر ومنار الهداة و قدوة الصالحين محمد بن عبد الله الطهر الطاهر المطهر ، الذي عصمه الله من كل ذنب ، صلى الله عليه و على آله المعصومين .

و تستمر الافواه تتناقلها حتى اليوم حيث تتلقفها اقلام المستشرقين و تنسج حولها بيوت العنكبوت و من راجع كلمات المستشرقين و محاور تركيزهم وجدها تدور في الاغلب حول تلك الاشاعات الكاذبة التي روجتها افواه الحاقدين على الرسول (ص) ، ثم دخلت في كتب التاريخاما بسهو أو عبر اصحاب القلوب المريضة الذين تظاهروا بالاسلام ، و هم ينوون النيل من الاسلام كبني أمية ، و احزابهم .

و مع الأسف استرسلت اقلام بعض المفسرين مع هذه التقولات الكاذبة حتى صنعت من الرسول شخصية مفروزة ، و لم تلتفت الى الحديث المجمع عليه و المأثورعن النبي صلى الله عليه و آله : ( ستكثر من بعدي القالة ) و لم تلتفت الى حذر اصحاب الرسول من بعده عن قبول الاحاديث الا اذا شهد عليها شاهدان ، و قد طردوا بعض الرواة و ضربوهم بالدرة ، لانهم اكثروا من نقل الحديث غثة و سمينة .

و قد تصدى ائمة اهل البيت بحزم لهذه الظاهرة الخطيرة و اصروا بان يعرض كلام الرسول و كلامهم ايضا على كتاب الله . فما وافق كتاب الله أخذ و ما خالف كتاب الله ضرب به عرض الحائط ، و استطاعوا ان يفندوا الكثير من الاشاعات الضالة بهذا المقياس الرشيد .

[ و إن الظالمين لفي شقاق بعيد ]

ان الذين ظلموا انفسهم بارتكاب المعاصي ، حتى مرضت قلوبهم و قست و استجابت لفتنة الشيطان انهم بعيدون عن الحق كثيرا .

و يستوحي من الآية الكريمة : ان قسوة القلب مرحلة تالية لمرضة ، و ان ما يسبب مرض القلب هو الظلم فاذا فحش و ازداد قسى القلب .

[54] [ و ليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم ]يتميــز الذين اوتوا العلم ، بأن موقفهم اخذ في التكامل فمن العلم الى الايمان الى الاخبات ، ذلك لان العلم هو اكتشاف الحقيقة و الايمان هو الاعتراف بها ، و الاخبات هو ان تتبعها بكل كيانك .

و هذا التكامل يتم عبر الصراط المستقيم الذين كلما مشى فيه الانسان ظهرت له معالم الحق ، و الله هو الذي يهدي المؤمنين الى هذا الصراط ، و لا احد سواه قادر على الهداية اليه .


[ و إن الله لهاد الذين ءامنوا إلى صراط مستقيم ]

[55] اما الذين كفروا فهم باقون اسارى شكهم النابع من جهلهم . و لا يمكنهم التخلص من هذا الشك الى اليقين بسبب كفرهم .

[ و لا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم ]الساعة هي يوم القيامة ، اما العذاب العقيم فهو العقاب في الدنيا .

[56] هنالك عند قيام الساعة ، يتجلى ملكوت الرب ، و قضاؤه الفصل و جزاؤه العادل ، فهو الملك و الحاكم و المدبر .

[ الملك يومئذ لله ]

فله السلطان الظاهر ، حيث يطوي بعزته سلطات الجور التي نشرها الشيطان ، و امهلها الله بحكمته الى اجل مسمى .

[ يحكم بينهم ]

فلا احد يستطيع رد حكمه ، و الادعاء كذبا بانه على حق كما هو اليوم في الدنيا .

[ فالذين ءامنوا و عملوا الصالحات في جنات النعيم ][57] ذلك هو مصير المؤمنين العاملين للباقيات الصالحات ، اما مصير الكافرين فهو العذاب المهين .


[ و الذين كفروا و كذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين ]كلمة المهين توحي بان اهم العوامل التي تدعو الانسان للشك و اتباع الاماني هو التكبر ، و الاهانة هي العذاب النفسي الذي يصيب المتكبرين . و لعله أشد ألما من العذاب المادي .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس