فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


ربي انصرني بما كذبون
هدى من الآيات

في سياق الحديث عن الايمان في هذه السورة يحدثنا هذا الدرس عن عاقبة الذين استكبروا على الله ، و لم يؤمنوا بالرسالة الإلهية او من يمثلها ، و يأتي هذا الدرس بعد تذكير القرآن بآيات الله ، بهدف تذليل العقبات التي تعترض طريق الايمان بالله ، و ابرزها الاستكبار ، و كان يمثل الولاية في الارض آنئذ رسول الله نوح (ع) حيث استكبر قومه فلم يسمعوا له ، زاعمين بانه مادام بشرا ، فلا يمكن الخضوع له ، و علوا في الارض ، فماذا كانت عاقبتهم ؟

لقد أمـــر الله نوحا ان يصنع الفلك ، فلما اكتملت جرى الطوفان ، فأنجى الله من في السفينة ، و اغرق الباقين ، و قد تجلى علم الله ، و قدرته على يد نوح في الأرض ، و هذا يكفي دليلا على انه يمثل ولاية الله الحق .

اذن لا داعي للاستكبار على من يمثل هذه الولاية ، و لا نعتقد يوما ان رفضنا له سيغير من الواقع شيئا . اذ سيبقى وليا قبلنا أم رفضنا ، و اذا لم نقبل بولايته تشريعيابالطوع . فسنقبلها تكوينيا بالاكراه ، و لنا في الماضين عبرة .

ان ولاية نوح لم تكن ذاتية ، و انما كانت بأمر الله و قدرته ، لذلك دعا ربه ان ينزله منزلا مباركا . فيه الخير و الامان .

و تكررت قصة نوح مع آخرين بعدهم ، اذ لم يتعظوا بمن قبلهم - و هذه سنة الهية عامـــة - فقد اهلكهم الله لانهم كذبوا بالرسول ، و استكبروا على الرسالة ، و الاسباب هــي :

1 - انهـــم كانوا ينظرون للرسول نظرة مادية . حيث أرادوه صاحب مال و منصب ، أما ان يكون مثلهم ، فقد زعموا انهم سوف يخسرون لو اطاعوه ، و غاب عنهم ان القيمة الحقيقية للانسان هي بما يملك من قيم و سلوك صالح ، و بالتالي اذن الله .

2 - كانت تلك عقبة الاستكبار ، و العقبة الثانية في طريق الايمان بالرسالات ، الريب فـــي البعث ، فقالوا : انه يعدكم بالنشور بعد ان تموتوا ، و تصبحوا ترابا ، و عظاما . انه وعد بعيد ، ثم قالوا : بل هو وعد كاذب ، و انما هي الحياة الدنيا نموت و نحيا فيها .

و تمادوا في غيهم ، فكذبوه ، و قالوا : انه مفتر على الله ، و عقدوا العزم على عدم الايمان به أبدا .

لقد كان التكذيب عظيما على قلب نوح (ع) ذلك العبد الصالح ، الذي غمرت معرفة الرب ارجاء قلبه الخاشع ، و لم يجد لنفسه من نفسه قوة ، فدعا ربه قائلا : " رب انصرني بما كذبون " .


بينات من الآيات :

[23] في آيات آنفة راينا نعم الله على البشر ، و لكن لماذا نجد الانسان بالرغممن تجلي الله له في كل شيء ، يكفر به ، و يجعل بينه وبين معرفته حجبا زائفة ، معرضا عن آياته تعالى .

[ و لقد أرسلنا نوحا الى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون ]ان خضوع الانسان لقوى اخرى هو الذي يبعده عن معرفة الله ، و الطاعة له ، و الآية تبين مشكلة قوم نوح انهم كانوا يخضعون لقوى أخرى ، و تتعرض الآية التالية الى اثنتين منها :

[24] الاولى : تقديس الذات الذي يقودهم الى التكبر على الحق .

[ فقال الملؤا الذين كفروا من قومه ما هذا الا بشر مثلكم يريد ان يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ]و لو كان الانسان يجعل الحق هو المقياس لا ذاته ، لما همه لمن يخضع مادام يمثل الحق رسالة و سلوكا .

الثانية : تقليد الآباء .

[ ما سمعنا بهذا في ءابائنا الأولين ]

[25] و هذان السببان هما اللذان حملاهم على اتهام نبي الله نوح (ع) بالجنون .

[ إن هو الا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين ]

ان المعـــرفة قريبة من الانسان ، و ميسرة له ، و لكنه قد يبتلي بالكبر أو التقليد الاعمى ، فيكون ابعد ما يكون عن الايمان و المعرفة ، و حتى نخلق الايمان في نفوسنا يلزم ان ننبذ الكبر ، و ان نغير طائفة من عاداتنا و تقاليدنا السلبية التي درج عليهاالأولون ، بل و حتى بعض العادات الجيدة قد لا يكون الأنسب توارثها تباعا لاختلاف الظروف بل الأنسب تطويرها أو تقديم غيرها عليها .

و بقي شيء لابد من ذكره من خلال قصة نوح و قومه هو : انهم حينما ارادوا انكار القيادة الالهية العادلة انكروا الله من الأصل ، و لكي يكتمل الايمان لابد من الالتزام بقيادة الهية ، و لذلك قال رسول الله (ص) :

" من مات و لم يعرف امام زمانه ، فقد مات ميتة جاهلية "و صدق الامام علي (ع) اذ قال :

" هلك من لم يكن له حكيم يرشده "

و الذين ينكرون القيادة الالهية منحرفون ، و عليهم ان يشككوا في ايمانهم ، لانهم لو كانوا مؤمنين حقا لخضعوا لمن وضعه الله عليهم ، و لبرمجوا حياتهم حسب ما أمر الله ، لا حسب الالتزام بالماضي ، فالاصالة جيدة و لكن ليس على حساب الابداع في حدود موضوعية حقة .

[26] [ قال رب انصرني بما كذبون ]

ان اطمئنان الرسول بحتمية نصره ، و تأييده من قبل الله هو الذي يدفعه نحو هذا الدعاء ، و ان دل هذا على شيء فانما يدل على الايمان المطلق بالله لدى الرسل و الانبياء و الاولياء .

[27] [ حينما احس نوح من قومه الكفر و الجحود ، طلب من الله النصر ليتبين لهم انه بالفعل يمثل الولاية الالهية ، فجاءه النصر ، و هذا يدل على انه كلما ازدادت الضغوط على الرسالي و هو يؤدي مسؤوليته في الاصلاح كلما قرب النصر ، و نصر الله قريب ممن لم تنصرهالعوامل الذاتية ، و المادية شرط ان يبذل قصارى جهده .


ان نصر الله لا يأتي دائما على هيئة صيحات و زلازل ، بل يجري قسم منه على يد المؤمنين ، أو لم يكن الرب الذي أمر السماء و الارض ان تتفجر طوفانا هائلا في لحظات بقادر على ان يخلق لنوح سفينة ، ثم يأمره بالصعود ؟ بلى . و لكنه أراد ان يشارك هو في نجاة نفسهو من آمن معه .

و في الاحاديث انه بعد ان دعا نوح ربه جاءه جبرائيل بنواة تمر ، و قال له : نجاتك في هذه ، ازرعها ، فزرعها حتى صارت نخلا ، و بعد ثلاثن سنة أمره ان يأكل الثمر و يزرع النوى ، و هكذا مرة ثانية ، ثم أمره ان يقطع جذوع النخل و يصنع السفينة ، و عندما بدأ بصنعها كان الله يرعاه بعلمه ، و قدرته ، و كان قومه يستهزؤون به عندما يمرون عليه ، لانه كان يصنع السفينة في بلاد لا بحر فيها .

[ فأوحينا إليه إن اصنع الفلك بأعيننا و وحينا ]

نحن قريبون منك ننظر اليك ، و نساعدك .

و أما قولنا : تحت عين الله فيعني تحت رعايته و ظله ، أما الوحي : فاشارة الى العلم و المعرفة التي زود الله بها نوحا (ع) .

[ فإذا جاء أمرنا و فار التنور ]

روي في نور الثقلين " انه قيل لنوح : اذا رايت الماء يفور من التنور ، فاركب انت ومن معك في السفينة ، فلما نبع الماء أخبرته امرأته فركب " . (1)و لعل التنور كان يوضع في مكان مرتفع ، فاذا فار ماء دل على ان أمرا خارقا للقوانين الطبيعية قد وقع ، و لذلك جعل ذلك علامة لنوح (ع) ببدء الطوفان .

[ فاسلك فيها من كل زوجين اثنين و أهلك الا من سبق عليه(1) نور الثقلين / ج 3 - ص 543


القول منهم ]

فانهم سيغرقون .

[ و لا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ]

و هذه اشارة لحب نوح الى قومه ، و كيف انه كان يأمل هدايتهم ، و لكن الله نهاه ان يخاطبه في الظالمين .

[28] [ فإذا استويت أنت و من معك على الفلك ]

أي السفينة .

[ فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين ]

حينما يأتي نصر الله يجب ان نشكره ، و نذكر ان النصر ليسث من ذواتنا ، و ذلك حتى لا نصاب بالغرور ، و قد امر الله نوحا ان يحمده حتى لا يتصور قومه انه إله ، و انه هو الذي أنقذهم .

[29] [ و قل رب أنزلني منزلا مباركا و أنت خير المنزلين ]فلا تفكر ان حاجتك الى الله قد انتهت ، فانت تحتاجه في كل لحظة ، فقد ترسوا هذه السفينة في منطقة قاحلة ، لا زرع فيها ، و لا ضرع ، و كلمة البركة تدل عى ما تدل عليه كلمتي التكامل و التنامي باضافة مفاهيم و ايحاءات أخرى ، و حينما ندعوا الله ان يبارك لنافي شيء ، و يكمل حياتنا به ، فلندعه ان يعطينا التكامل في أبعاد الحياة .

و سؤال نوح ربه بالمنزل المبارك دعاء بان لا يجعل نزوله على الارض نهاية لنعم الله عليـــه ، بل بداية لذلك ، و بالفعل حينما نزلوا الى الارض شرعوا في بناء حضارة ،لا ليأكلوا على حساب ميراث السابقين ، و المؤمنون حينما ينتصرون ، و يسقطون الطاغوت يعرفون بأنها نقطة البداية ، و آنئذ تبدا مسؤوليتهم الاصعب في البناء الحضاري و التكامل .

[30] [ إن في ذلك لأيات و ان كنا لمبتلين ]

الدنيا ليست على شاكلة واحدة ، فهي مليئة بالمصاعب و المشاكل ، و مسؤوليتنا الاستعداد لهذه الحياة، لا ان نفقد عزيمتنا ، أو تخور ارادتنا امام الشدائد .

وقوله : " وان كنا لمبتلين " فيه تأكيدات على البلاء .

[31] [ ثم أنشأنا من بعدهم قرنا ءاخرين ]

القرن في تعبير القرآن هو الجيل أو الامة . اذ يعاصر بعضهم بعضا ، و يقرن اليه ، و لا ندري من هم هؤلاء ، فلعلهم كانوا قوم ثمود ، فهم الذين اهلكوا بالصيحة ، و لعلهم قوم عاد ، اذ هم اقرب تاريخيا الى عصر نوح .

و لعل اخفاء اسمهم كان بهدف جعلهم اقرب الى واقعنا ، و ان عذاب المكذبين سنة الهية ، لا تختص بقوم دون قوم ، و لا عصر دون عصر ، لذلك قال أمير المؤمنين - عليه السلام - و هو ينصح قومه :

" ايهــا الناس : ان الله قد أعاذكم من ان يجور عليكم ، و لم يعــذكم من ان يبتليكم ، و قد قال جل من قائل : ان في ذلك لآيات و ان كنا لمبتلين " . (1)فالله لا يجور علينا ، و لكنه يبتلينا ، و علينا ان نخشاه أبدا ، لانه لا يخص قوما دون قوم في الابتلاء .


(1) المصدر / ص 544


[32] [ فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله مالكم من إله غيره أفلا تتقون "و نؤكد مرة بعد مرة : ان دعوة الانبياء لم تكن مجردة أو ناقصة ، بل كانت دعوة ذات وجهين : الاول : اسقاط الطغاة ، و الثاني : اقامة حكم الله ، تحت ولاية اوليائه ، و يدل على ذلك جواب قومهم ..

[33] [ و قال الملأ من قومه ]

الاشراف الذين كانت سلطتهم على الناس مهددة ، و الذين يسميهم القرآن بالملا ، هم الذين كانوا يعارضون الرسل قبل غيرهم ، و لماذا كانوا يعارضون ؟ يقول القرآن :

[ الذين كفروا و كذبوا بلقاء الآخرة و أترفناهم في الحياة الدنيا ]فالاسباب ثلاثة :

1 - كفرهم ، و حجبهم انفسهم عن الحقيقة .

2 - تكذيبهم بالآخرة .

3 - ترفهم في الحياة الدنيا ، و بطرهم ، و غرورهم بنعمها . حيث كان ترفهم مهددا بهــذه الدعوة ، لانه قائم على الظلم ، و الابتزاز ، و الاستغلال و الرسالات تعارض كل ذلــك .

[ ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه و يشرب مما تشربون ]اي ان هذا من طبقتكم ، و طبيعتكم ، فلا تطيعوه ، و اذا عرفنا ان اكثر الطغاة كانوا يضللون الناس البسطاء بأن عنصرهم افضل من عنصر الناس ، و أنهم متميزون عنهم ذاتيـــا و وراثيا ، و لانهم الأقوى و الأغنى . إذن عرفنا بعدا من أبعاد مثل هذه الآية ، و كان الملأ يقولون للناس : بانهم اولى بالطاعة من الأنبياء ، لان الانبياء من طبقة المحرومين ، يأكلون مثلهم ، و يشربون مثلهم ، فهم لا يستحقون القيادة ، بينما هم - اي الطغاة - يتميزون عن الناس في مأكلهم و مشربهم .

[34] [ و لئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون ]

عندما ندرس حياة الانبياء قد نتصور أنهم رجال ضخام ، و نتخيلهم ضمن هالة من القيم المادية ، اما اذا تصورناهم رعاة للغنم ، ثيابهم خلقة .. و يأتي أحدهم الى فرعون و هو جالس في قصره ، تحيط به الجنود ، و شهرته طبقت الافاق ، و يطلب منه ان يطيعه ، و يسلم الأمر اليه ، فاننا نعرف مدى صعوبة الايمان بهم .

[35] [ أيعدكم أنكم إذا متم و كنتم ترابا و عظاما أنكم مخرجون ]هل من الممكن ان يعود الرميم ، و تصير العظام البالية بشرا ؟!

[36] [ هيهات هيهات لما توعدون ]

اي بعيد ان يتحقق ما يعده الرسل ، و ان يعود الانسان ثانية بعد الموت ، و هنا احتمال آخر لهذه الكلمة هو : ان الكفار كانوا يسوفون ، فحتى لو كان البعث حقا ، فانه سيكون في زمان بعيد جدا ، و هكذا يسوف أهل المعاصي ، و جاء في الدعاء : " فاعني بالبكاءعلى نفسي ، فقد افنيت بالتسويف و الآمال عمري " و جاء في الحديث ان اكثر ما يشكو منه أهل النار " سوف " .

[37] [ إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت و نحيا و ما نحن بمبعوثين ]و هذه الفكرة منبعها الكفر بالله و التشكيك في قدرته تعالى .

[38] ثم وجهوا التهمة لشخص الرسول ، ففي البداية قالوا انه رجل مثلكم ، ثم ادعوا ان افكاره خاطئة ، و الآن ينسبون اليه الافتراء .

[ إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا و ما نحن له بمؤمنين ]الايمان حق ، و يوم الآخرة حق ، و لكن ماذا ينفع كل هذا ، من دون ان يتجسد عملا صالحا ، و نظاما اجتماعيا في الحياة الدنيا ؟!

هؤلاء بخبثهم ، و مكرهم شأنهم شأن كل المضللين عبر التاريخ ، حاولوا أن يفصلوا الدين عن الدنيا ، بين الايمان بالله من جهة ، و بين تطبيق نظام ديني قائم على الارض من جهة ثانية ، فقالوا : ان الله حق ، و لكن هذا الرجل لا يمثله في الارض ، و لا يملك ولايته.

[39] و عندما يئس منهم نبيهم دعا ربه :

[ قال رب انصرني بما كذبون ]

و هي نفس الكلمة التي قالها نوح (ع) و قد تركت من الآثار ما هو آية للناس على مر الزمان ، و هكذا ينصر الله كل من يجسد قيمه على نفسه .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس