فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[50] ان الهدف من التجمع المؤمن ليس اشقاء الناس ، بل تزكيتهم ، و جعلهم صالحين لينتفعوا اكثر ، بنعم الله ، و بالتالي ليرحمهم الله ، و ذلك بأن يجسد افراده حياة عيسى و امه مريم (ع) ، اللذين جعل الله ربوة تحتضنهم ، و تسقيهم من معين سائغ شرابه ، و كذلكيريد الله للرسل و من يشكل امتدادا لخطهم من المؤمنين ، ان يأكلوا الطيبات ، و يعملوا الصالحات ، و يشكروا الله .

و حرام على انسان يأكل نعم الله ان يعصيه بعمل الخبائث ، كما لا يستطيع أكل الحرام ان يعمل الصالحات بصورة كاملة ، أو لم يقل ربنا سبحانه :

" و الذي خبث لا يخرج الا نكدا " ؟!

[ و جعلنا ابن مريم و أمه ءاية ]

فمريـم ولدت عيسى من غير زوج ، كما ان عيسى كلم الناس و هو في المهد صبيا .

[ وءاويناهما الى ربوة ذات قرار و معين ]


بعد ان كانا يفتقران الى المسكن ، وفر الله لهما الربوة ، و هي المرتفع من الارض ، و لها ميزات : انها بعيدة عن الهوام و الاسقام ، و هكذا عندما يأمر ربنا بالتيمم يقول :

" فتيمموا صعيدا طيبا " .

و من معاني الصعيد المرتفع من الارض ، و في علم طبقات الارض ان المرتفعات التي فيها الماء هي افضل المواقع . أمنيا و زراعيا و صحيا .

و يتسـاءل المفسرون : اين كانت هذه الربوة ؟ هل كانت مدينة الناصرة في فلسطين . حيث التجأت اليها مريم - عليها السلام - خشية اعداء ابنها عيسى - عليه السلام - من اليهود ؟

ام كـــانت منطقة خاصة في مصر . حيث عاشت مريم و ابنها هناك ردحا من الزمن ؟

ام انها كانت في ( دمشق ) ام مدينة ( رملة ) حيث عاشا فيهما ايضا فترة من الوقت ؟

ام انها لم تكن سوى ذلك الموقع الذي وضعت مريم ابنها فيه ، في اطراف بيت المقدس ذاته . (1)و في رواية مأثورة عن الامامين الباقر و الصادق - عليهما السلام - :

" ان الربوة : حيرة الكوفة ، و سوادها ، و القرار مسجد الكوفة ، و المعين الفرات " . (2)(1) راجع تفسير ( نمونه ) ص 252 - ج 14

(2) نور الثقلين / ج 3 - ص 544


و على اي حال : فان في الآية درسا في اختيار الموقع المناسب للمسكن ، كما ان الآية التالية تذكرنا : بضرورة اختيار الطيبات للطعام .

[51] و لم تكن هذه النعم الا لكي تقيم اود الانسان ، و لكن الهدف الابعد منها ان يستخدم جسده في خير نفسه و الناس ، من خلال الصالحات .

و قد كان هذا نداء الله لكل الرسل ، و من بعدهم للمؤمنين ، أن يأكلوا لا ليعيشوا أو يتلذذوا بالنعم - فحسب - بل ليعملوا الصالحات .

[ يا أيها الرسل كلوا من الطيبات و اعملوا صالحا إني بما تعملون عليم ]كمـا ان المهم في العمل ان يكون خالصا لوجه الله حتى يأتي بثماره - دنيا و آخرة - و هل يخلص لله الا الذين يتحسسون برقابته ، و علمه بهم ؟! و يجب على المؤمنين ان يعملوا بما يمليه عليهم الشرع و العقل دون ان ينتظروا رضى الناس .

و يبدو ان الاسلام يرجع الناس الى عقولهم . البعيدة عن الهوى و الضغوط ، و التي جعلها الله حجة بينه و بين العباد ، فتكون الطيبات التي تدعونا اليها هذه الآية هي التي يحكم بها العقل ، و هكذا العمل الصالح ، و انما الشرع يثير العقل و يبلوره . جاء في الحديث :

" العقل رسول باطن و الرسول عقل ظاهر "

[52] ان المقاييس الايمانية التي وضعها الله سبحانه ، هي التي تكشف حقيقة الكثير ممن يدعون الايمان ، اذ ان مقياس الايمان و حقيقته ليس ما يدعيه البشر أو يعتقد به ، بل ما يضعه الله سنة ، و ما يعلمه من واقع كل انسان و مجتمع .


و المشكلة ان الانسان الذي يغمره احساس ساذج بالايمان الصادق لا يكتشف خطا ادعائه الا بعــد فوات الاوان . حيث ينقله الموت من دار البلاء و العمل ، الى دار الحساب و الجزاء ، فلا يستطيع ان يغير من أمره شيئا .

اذن لابد ان نضع مقاييسنا الذاتية جانبا ، و نبحث عن الموازين الحق الالهية لتكون حجة بيننا و بين الله سبحانه ، عند الحساب و الجزاء . لا لكي نقنع الآخرين باننا مؤمنون ، لانهم يقتنعون منا ، بما يقتنعون من أنفسهم من ممارسة الشعائر الظاهرة ، ثم ماذا تجدي الانسان قناعة الناس سوى بعض المصالح المحدودة في الدنيا ؟ و لعله يظهر على حقيقته يوما عند الناس ايضا ان المهم هو ان يكون الله راضيا عنا .

و في هذه الآية يضع القرآن الحكيم المقياس الاجتماعي الذي يميز المنافق عن المؤمن ، و هو مقياس الوحدة الايمانية ، فلو ادعى جماعة انهم مؤمنون ، ثم تفرقوا أحزابا و شيعا . انطلاقا من أهوائهم و مصالحهم ، فان ادعاءهم سيكون باطلا و سخيفا ، لان المؤمنين تجمعهم كلمة واحدة هي كلمة التوحيد ، و ان التقوى هي محور نشاطهم ، و صبغة اعمالهم و حياتهم .

[ و إن هذه أمتكم أمة واحدة و أنا ربك فاتقون ]

[53] [ فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا ]

لكي نعرف المؤمنين ، لابد ان نعرف المنافقين الذين يتناقضون معهم ، فبينما يتجه المؤمنون للوحدة على أساس القيم و القيادة الرسالية . نرى هؤلاء في سعي حثيث للنيل من الوحدة بتمام معنى الكلمة ، و كلمة " فتقطعوا " مبالغة في التقطيع ، فهؤلاء يسيرون في نفق التقسيم ، و الفرقة . بحيث تنقسم كل جماعة على نفسها باستمرار .


[ كل حزب بما لديهم فرحون ]

ان الاساس في هذه الفرقة ، و هذا الانقسام هو اغترار كل بما لديه من رجال ، و مال ، و افكار ، بينما نجد المؤمنين مشفقين من خشية ربهم ، و الفرح هو آية الغرور ، و يبدو انه يعكس حالة الرضا عن النفس .

و ان الفرح هو السبب المباشر للتحزب . حيث ان قصر نظر الفرد ، و حرج صدره ، و ضيقه ، و تفاهة اهدافه ، و تحقيره لنفسه ، و لقدراتها . كل ذلك يجعله معجبا بنفسه ، و بما يملك ، و يزعم انه و ما يتصل به افضل مما سواه ، فيتقوقع على ذاته ، ولا يعترف للآخرين بفضل ، و لا يرى الأهداف العظيمة التي تحتاج الى الوحدة ، و تراكم الجهود .

[54] و يشبه القرآن هؤلاء حينما يطغى عليهم الاعجاب ، و الفرح بالغريق الذي يغمره الماء من كل ناحية .

[ فذرهم في غمرتهم حتى حين ]

فلا توقظهم الا صاعقة العذاب . تأتيهم بغتة .

[55 - 56] و السؤال لماذا يفرح هؤلاء ؟

لأن غاية ما يطمحون له ان يصبحوا اصحاب مال وبنين ، ولفرط حبهم لذاتهم ، و لما يتعلق بهم خاصة من مال و بنين تراهم يجعلونهما مقياسا للخير و الصلاح ، و يزعمون بأنه لو لم تكن افكارهم صائبة ، و لم يكن الله راضيا عنهم اذا لم يكونوا يحصلون على المال و البنين ، وبالتالي ان حصولهم عليهما في الدنيا دليل صلاحهم ، و حصولهم على الفلاح في الآخرة ، كما قال قائل منهم :


" و لئن رددت الى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا " .

و لا يزال العالم المادي اليوم يعتبر ميزان التقدم الدخل القومي ، و يزعم بعضهم ان الله معه ، لانه أصبح أشد بطشا و ارهابا في الارض ، و يكتب على دولاراته - بالاعتماد على الله ، ثم يتلاعب بمصير الشعوب بتلك الاموال - حاشا لله - انه لا يسلط الظالمين علىالبشرية ، و يرضى عنهم .

[ أيحسبون أنما نمدهم به من مال و بنين * نسارع لهم في الخيرات ]هل يتصور هؤلاء ان الخير و الكمال هو المال و الرجال ؟ و اننا حين نعطيهم ذلك يعتبر حبا منا لهم او رضى بهم ؟!

[ بل لا يشعرون ]

لان الخير الحقيقي هو فيما يقوله القرآن ، لا ما يملكون ، و هو أيضا ما يجسده الذين تتحدث عنهم الآيات التالية :

[57] [ إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون ]

فالمؤمنون يعملون ، و لكنهم لا يغترون بعطائهم ، بل يشفقون على أنفسهم ، لأنهم يعرفون أن هذه الأجساد لا تحتمل لهب النار ، فيبقى همهم و شغلهم الشاغل هو انقاذ أنفسهم من جهنم ، و تتكرر في الدعاء هذه العبارة : " و قنا عذاب النار " و في الآيةالقرآنية :

" فمن زحزح عن النار و أدخل الجنة فقد فاز " .

و تؤكد هذه الآية و ما بعدها على الفروق بين التجمع المؤمن ، و الآخر المصلحي8 + 195

القائم على أساس المال و الرجال ، و هي :

الف / الاشفاق من العمل ، فدائما ما يستقل المؤمنون اعمالهم ، و يساورهم هاجس التقصير ، بما يحسسهم انها قد لا تبلغ مرضاة الله ، مما يزيدهم عزيمة و اصرارا على العطاء الاكثر ، و الاخلاص الانقى ، أما المنافقون فانهم يفرحون بأعمالهم و يكبرونها ، فلا يقبلون الانتقاد بما يرونه في ذواتهم من كمال و عصمة ، بينما يرحب اولئك بكل انتقاد بناء . حيث أنهم يتهمون أنفسهم بالتقصير ، فلعلهم اخطأوا أو غفلوا ، و محور هذه المقارنة هو الخشية عند فريق دون الفريق الآخر ، فكلما عمل المؤمنون لا تزال فيهم بقية ارادة ، و عزيمة خشية التقصير ، و انهم لما يفكوا رقابهم من النار .

جاء في نهج البلاغة عن الامام علي - عليه السلام - و هو يصف المؤمنين :

" فلـو رخص الله في الكبر لأحد ، لرخص فيه لخاصة انبيائه ، و اوليائه ، و رسله ، و لكنه سبحانه كره لهم التكابر ، و رضي لهم التواضع ، فالصقوا بالارض خدودهم ، و عفروا في التراب وجوههم ، و خفضوا اجنحتهم للمؤمنين و كانوا قوما مستضعفين قد اختبرهــم الله بالمخمصة ، و ابتلاهم بالمجهدة ، و امتحنهم بالمخاوف ، و محصهم بالمكاره ، فلا تعتبروا الرضا و السخط بالمال و الولد . جهلا بمواقع الفتنة ، و الاختبار في موضع الغنى و الاقتصار " . (1)و قد نصح لقمان ابنه فقال له فيما قال :

" خف الله - جل و عز - خيفة لو جئته ببر الثقلين لعذبك ، و ارج الله رجاء لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك " . (2)(1) المصدر / ص 545

(2) المصدر / ص 547


و نحن نقرأ في سيرة اولياء الله ما يجعلنا نتصاغر في أنفسنا . اين نحن من واجبنا ، و الى متى نغفل عن مصيرنا ، و نحن لا نعلم هل خلقنا للجنة ، ام ان عاقبتنا النار ؟!

فهذا زيد بن علي بن الحسين - عليه السلام - يقص علينا سيرته سعيد بن جبير قال :

قلت لمحمد بن خالد : كيف زيد بن علي في قلوب أهل العراق ؟ فقال : لا أحدثك عن أهل العراق ، و لكن احدثك عن رجل يقال له النازلي بالمدينة قال : صحبت زيدا ما بين مكة و المدينة ، و كان يصلي الفريضة ثم يصلي ما بين الصلاة الى الصلاة ، و يصلي الليل كله ، و يكثر التسبيح ، و يردد :

" و جاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد " (1)فصلى بنا ليلة ، ثم ردد هذه الآية الى قريب من نصف الليل ، فانتبهت وهو رافع يده الى السماء و يقول : الهي عذاب الدنيا ايسر من عذاب الآخرة ، ثم انتحب ، فقمت اليه ، و قلت : يا ابن رسول الله لقد جزعت في ليلتك هذه جزعا ما كنت اعرفه ؟ قال : و يحك يا نازلي اني رأيت الليلة و انا في سجودي اذ رفع لي زمرة من الناس عليهم ثياب ما رأتــه الأبصــــار ، حتى احاطوا بي و انا ساجد ، فقال كبيرهم الذي يسمعون منه : اهو ذلك ؟ قالوا : نعم ، قال : أبشر يا زيد فانك مقتول في الله ، و مصلوب و محروق بالنار ، و لا تمسك النار بعدها أبدا فانتبهت و انا فزع ، و الله يا نازلي لوددت اني احرقت بالنار ، ثم احرقت بالنار ، و ان الله اصلح لهذه الامة أمرها " . (2)(1) سورة ق / آية 19

(2) بحار الانوار / ج 46 - ص 308


باء / الاستجابة للحق ، فلو كانوا على خطأ سرعان ما يتذكرون و يعودون عنه ، لانهم يجعلون الحق - و ليس ذواتهم - محور حياتهم ، لأنهم يعرفون خشوع الايمان ، و التسليم للحق في الدنيا خير من خشوع الذل في نار جهنم .

[58] [ و الذين هم بايات ربهم يؤمنون ]

فهم منفتحون على الحقائق التي يجدونها في آيات الله ، ولا يمنعون انفسهم خيرات الحق بالعصبيات و التقاليد و التحزب ، بل يبحثون عن الحق انى كان ، حتى لو خالف مصالحهم أو تقاليدهم أو عزة أنفسهم .

[59] [ و الذين هم بربهم لا يشركون ]

جيم / و تــوحيدهـــم لله يتجلى في سائر جوانب الحياة ، السياسية و الاجتماعية و .. و .. ، فاذا اختاروا قيادة فانما يختارونها بدافع ايمانهم لا بعامل الهوى ، فليس لان فلان من بلده ، أو حزبه ، او طائفته فاذن هو قائده ، كلا .. انما المقياس الوحيد عندهمهو ما يقوله الله و ما يرتضيه .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس