فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[101] [ فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ]

حيث تتلاشى العلاقات النسبية ، فلا يعرف أحد أحدا ، و كل ينادي نفسي نفسي الا المؤمنين قال تعالى :


" الاخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو الا المتقين " ( الزخرف / 67 )[ و لا يتساءلون ]

عن انساب بعضهم ، لهول الموقف ، و لعدم فائدة ذلك ، اذ يكون لكل منهم شأن يغنيه عن شؤون الآخرين .

لقد كان ائمة الهدى عليهم السلام يجهدون أنفسهم بالعبادة بالرغم من صلتهم القريبة الى رســول الله (ص) ، و اذا سالهم احد عن ذلك تلو عليه هذه الآية ، يقول طاووس الفقيه : " رأيته - أي زين العابدين (ع) يطوف من العشاء الى سحر و يتعبد ، فلما لم ير أحدا رمق السماء بطرفه ، و قال : " الهي غارت تجوم سماواتك ، و هجعت عيون أنامك ، و أبوابك مفتحات للسائلين ، جئتك لتغفر لي و ترحمني و تريني وجه جدي محمد (ص) في عرصات القيامة ، ثم بكى و قال : و عزتك و جلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك ، و ما عصيتك اذ عصيتــك و انا بك شاك ، و لا بنكالك جاهل ، ولا لعقوبتك متعرض ، و لكن سولت لي نفسي ، و اعانني على ذلك سترك المرخى به علي ، فالآن من عذابك من يستنقذني ؟! و بحبل من اعتصم ان قطعت حبلك عني ؟! فواسوأتاه غدا من الوقوف بين يديك ، اذا قيل للمخفين جوزوا و للمثقلينحطوا ، أمع المخفين اجوز ؟! ام مع المثقلين أحط ؟! و يلي كلما طال عمري كثرت خطاياي و لم أتب ، اما آن لي ان استحي من ربي ؟! ثم بكى و انشأ يقول :

اتحرقني بالنار يا غاية المنى فأيــن رجائــي ثم ايــن محبتــــــيأتيت باعمـــال قبــاح رزيــة و ما في الورى خلق جنى كجنايتيثم بكى وقال : سبحانك تعصى كأنك لا ترى ، و تحلم كأنك لم تعص ، تتوددالى خلقك بحسن الصنيع كأن بك الحاجة اليهم ، و انت يا سيدي الغني عنهم ، ثم خر الى الارض ساجدا ، قال : فدنوت منه ، و شلت برأسه و وضعته على ركبتي ، و بكيت حتى جرت دموعي على خده ، فاستوى جالسا ، و قال : من الذي اشغلني عن ذكر ربي ؟! فقلت : انا طاووس يا ابن رسول الله . ما هذا الجزع و الفزع ؟! و نحن يلزمنا ان نفعل مثل هذا و نحن عاصون جانون ، ابوك الحسين بن علي و امك فاطمة الزهراء ، و جدك رسول الله (ص) ؟! قال : فالتفت اليه و قال : هيهات هيهات يا طاووس دع عني حديث ابي و امي و جدي ، خلق الله الجنة لمن أطاعه و أحسن ، و لو كان عبدا حبشيا ، و خلق النار لمن عصاه و لو كان ولدا قرشيا ، أما سمعت قوله تعالى : " فاذا نفخ في الصور فلا انساب بينهم يومئذ و لا يتساءلون " ؟! و الله لا ينفعك غدا الا تقدمة تقدمها من عمل صالح " . (1)[102] الجميع يقف امام الميزان و يده على قلبه ينتظر النتيجة ، اما الى الجنة و اما الى النار ، و لعل أصدق الموازين و انفذها حجج الله على خلقه ، الذين يجسدون في الدنيا قيم الرسالة و هم الرسل و الائمة .

[ فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ]

اذ يصيرون الى نعيم الجنة ، و أهم من ذلك يصيرون الى رضوان الله .

[103] [ و من خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون ]و لعل معنى خسروا أنفسهم انهم خسروا فرصتهم الوحيدة في الدنيا .

[104] و أي عذاب يناله هؤلاء ؟


(1) بحار الانوار / ج 46 - ص 81


[ تلفح وجوههم النار ]

و اللفــح هو ضربة السيف الشديدة ، ففي الآخرة تضرب النار وجوههم كأنها حد السيف .

[ و هم فيها كالحون ]

اي مكشرين عن أسنانهم بسبب احتراق شفاههم و انكماشها باللفح .

[105] و يأتي النداء لاصحاب النار حينما يستغيثون من النار :

[ ألم تكن ءاياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون ]

[106] [ قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا و كنا قوما ضالين ]لقد شقوا بأعمالهم و لا يخلق الله شخصا شقيا بطبعه .

[107] و يضيفون :

[ ربنا أخرجنا منها فان عدنا فإنا ظالمون ]

إعطنا فرصة أخرى ، و جربنا مرة ثانية ، فاذا عدنا فاننا ظالمون فعلا .

[108] [ قال اخسئوا فيها و لا تكلمون ]

اخسأوا : بمعنى عودوا ، و هي كلمة يقولها للكلب صاحبه ، حينما يتبع أحدا ليؤذيه أو غير ذلك ، و يقولها الله لهم إهانة و تحقيرا ، و الواقع إن تحقيرهم أنفسهم في الدنيا هو الذي أهانهم في الآخرة ، اذ لم يرتفعوا الى مستوى تطبيق آيات الله ، و هبطوا الى حضيضاتباع الشيطان الرجيم المطرود من رحمة الله .


[109] [ إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا ءامنا فاغفر لنا و ارحمنا و انت خير الراحمين ]لقد كانت جماعة منكم ، و بين ظهرانيكم ، يدعون ربهم و يؤمنون به ، لقد آمنوا ثم اعترفوا بالتقصير ، و سعوا نحو مرضاة الرب .

[110] [ فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري و كنتم منهم تضحكون ]ان الاستهزاء من المؤمنين يحمل في طياته السخرية من مبادئهم ، و لكنه يحول الصراع الى صراع شخصي ، حيث يعادي الكفار اشخاص المؤمنين و يسقطون هيبتهم من أنفسهم ، و يحقرون كل أفعالهم و تصرفاتهم ، و بالتالي ، يصبح حاجزا نفسيا دون التفكير في المبادئ التي يدعون اليها ، و لعل ذلك هو ما اشار اليه القرآن هنا بقوله : " حتى انسوكم ذكري " .

اما قوله : " و كنتم منهم تضحكون " فهو الجانب السلوكي و العملي لحالتهم النفسية حيث كانوا يتخذونهم سخريا .

[111] لقد كان المؤمنون في الدنيا عرضة لالوان البلاء و المشاكل ، من السخرية و الضحك و .. و لكنهم استقاموا و صبروا فكان جزاؤهم الجنة .

[ إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون ]

و يبدو من الآية ان من أعظم الصبر الصبر على تجريح الشخصية ، و لذلك نجد ابرز صفات المؤمنين حقا انهم لا يأبهون باللوم و لا يخافونه .

[112] ثم يسألهم الله :


[ قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين ]

لنرى كيف كانت الدنيا التي بعتم الآخرة بها ؟!

[113] فيأتي الجواب :

[ قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فسئل العادين ]

و هذا التقدير يأتي نتيجة الفرق بين الآخرة و الدنيا من زاوية الزمان .

[114] [ قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون ]لو كنتم تعرفون بأن الحياة الحقيقية و الخالدة تبدأ بعد الدنيا .

أن وعــــي الزمن و امتداد نظر الانسان الى أبعد نقطة في المستقبل شرط أساسي للتكامل ، و لأن أسمى التكامل الايمان فان المؤمن يقدر الزمن في الدنيا بميزان الخلود الأبدي في الآخرة ، و لذلك يفوز بالصبر لأنه سبق و أن احسن التقدير .

ويبدو ان النظر الى الزمن و مقدار وعيه يشكل أساس الايمان بالآخرة ، و القرآن الحكيم يعالج هذه الناحية من نفسية البشر ، فلو كانوا يعلمون لعرفوا ان كل الفترة التي يقضونها في الدنيا قليلة في حساب الآخرة ، فلماذا خسارة الآخرة بهذه الفترة القليلة ؟!!


[115] [ أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا و أنكم إلينا لا ترجعون ]هل كانت حياتكم الدنيا بلا هدف ؟!

أم هل من الحكمة ان يخلق الانسان للأكل و الشرب ثم يموت ؟!


[116] [ فتعالى الله الملك الحق ]

ان الله أنزه من ان يخلق الانسان بلا هدف . ثم اذا كان كل جزء في الانسان يؤدي هدفا معينا فالعين تبصر ، و الاذن تسمع ، و الجوارح تقوم بأدوارها المحددة ، و الاعضاء الداخلية تقوم بمهامها ، و الغدد و الاجهزة و كل خلية تؤدي وظيفة خلقت لها ، و حتى الزائدةالدودية التي سماها كذلك الطب في أيام طفولتهم تقوم بدور محدد ، فهل من المعقول ان يكون خلق الانسان عبثا و بلا هدف محدد ؟! و نحن حين ننظر الى ما حولنا من اشعة الشمس و ضوء القمر و حركة الارض و نشاط الاحياء فيها ، و انظمة سائر الموجودات نجدها جميعا تخدموجود البشر ، و كذلك خلقت بهدف محدد ، فهل خلق الانسان نفسه لغير هدف ؟! سبحان الله !! و من هنا يسال أحدهم الامام الصادق (ع) : لم خلــق الله الخلق ؟ فيقول : " ان الله تبارك و تعالى لم يخلق خلقه عبثا ، و لم يتركهم سدى ، بل خلقهم لاخطار قدرته و ليكلفهم طاعته " .

[ لا إله الا هو رب العرش الكريم ]

فالله هو رب السلطة ، و لكنه السلطة الكريمة و الحكيمة و ليست العبثية حتى يخلقنا بلا هدف .

[117] [ و من يدع مع الله إلها ءاخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه ]فحتى لو عبد غير الله فانه لن يخرج بذلك عن سلطته و هيمنته و سيكون حسابه و جزاؤه عنده .

[ إنه لا يفلح الكافرون ]


ذلك الجزاء من الآية يتحدث عن الحساب ، بينما يتحدث هذا المقطع عن الجزاء ، و هنا نجد المعادلة بين اول السورة الذي يقول ( قد افلح المؤمنون ) و بين آخرها الذي ينفي الفلاح عن الكافرين .

و الشرك ليس بالضرورة ان يتصور الانسان وجود خالق غير الله ، بل قد يكون بطاعة الأشخاص ، من اصحاب المال و السلطة من دون حجة من الله .

[118] ان الانسان بطبيعته الترابية ، ينجذب الى أرض الشرك ، و التفكير بأن من يرزقه هو أبوه و أمه ، و بأن من يحكمه هو السلطة السياسية القائمة في بلده ، و بأن من يهديه هو الإذاعة و التلفزيون ، و لكن الانسان بعقله و إرادته و إيمانه يستطيع ان يقتلع نفسهعن هذه الطبيعة اقتلاعا ، و يحلق بها عاليا في سماء التوحيد ، حتى يرى كل الأمور بيد الله الذي يسلم هو له .

و من مشاكل الانسان ان هذه الطبيعة تبقى معه حتى اذا صار مؤمنا ، فتارة يستجيب لها و تارة أخرى يتحداها و يتغلب عليها ، و الشرك الذي يصيب البشر قد يكون خفيا فلا يخلو قلب من الشرك ، و لكن الله يعطي الانسان المؤمن برنامجا لمواجهة هذه المشكلة فيقول :


[ و قل رب اغفر و ارحم و أنت خير الراحمين ]

ان وقود الانسان المؤمن هو الاستغفار و قرن الاستغفار بالرحمة - في الآية - لكي لا نيأس فنترك الاستغفار و التوبة حين الذنب كبيرا كان او صغيرا .

و نحن بدورنا نسأله ان يرحمنا و يجعلنا من المؤمنين الفائزين بالفلاح .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس