بينات من الآيات
تدبير الله آية ملكه [41] يتجلى ملك الله و سلطانه الشامل في تدبيره لشؤون الوجود ، و التقلبات المستمرة التي نشاهدها فيه ، فالكون ليس ثابتا ، بل هو في حركة دائمة ، الليل يخلف النهار ، و النهار يغشاه الليل ، و السحب تأتي و تذهب و الامطار تتراوح بين الهطول و الانقطاع .
وهذه الحركة بذاتها دليل على من يحركها ، و النظام فيها دليل حكمته و واسع قدرته ، فمن الذي يسير السحاب في هذا الاتجاه أو ذاك ؟
و لماذا يتراكم على ارتفاعات ثابتة و لا يذهب الى اعماق الفضاء ؟ و لماذا لا تعود السحب الى المحيطات التي انطلقت منها فتمطر فيها بدل ان تتوجه الى الارض اليابسة فترويها ؟ ولماذا لا يحصل اضطراب فـي تعاقب الليل و النهار ؟ و لماذا .. و لماذا .. ؟ الخ .
ان هذه الظواهر الطبيعية ( و كثير غيرها ) دليل الحكمة البالغة للخالق المبدع سبحانه ، و لعل في قوله تعالى : " يقلب الله الليل و النهار " اشارة الى ضرورة ملاحظة تحولات الحياة ، و تقلباتها فلحظة الشروق .. لحظة الاصيل .. لحظات حلول الربيع و الخريف .. لحظات المطر .. و ما الى ذلك تهدي الانسان الى سر الحياة .
و هكذا التحولات الاجتماعية و السياسية الكبيرة ، كنشوب الحروب و سقوط دول و قيام أخرى ، تعكس سنن الله في المجتمع ، لأن قوانين الحياة و انظمتها انما تكتشف في هذه اللحظات ، فهل يعرف المنظرون السياسيون القوانين التي تحكم عالم السياسة الا من خلال الاحداث و التحولات الهامة ؟
ينزل المطر ، و تدب الحياة الى الارض الجرداء فتخضر ، و تغنى الطبيعة على اديمها و تنشط فيها الدواب و الطيور . ان هذه التحولات تفيض معاني جديدة على القلوب الطاهرة . فتسبح ربها و تكبره .
و حين يعلم الانسان زخارف الحياة و مباهجها تتغير باستمرار ، فلا ملك يدوم و لا ثروة تبقى و لا جاه يستمر فيها ، آنئذ لا يطمئن اليها ، بل يطمئن الى الحي الذي لا يموت ، فلو عقل الملك زوال الحكم ، و الغنى زوال الثروة ، لما استبد أو بخل ، و لما استكانت نفسه أو اطمأنت الا الى خالقه ، الحق الذي لا يتغير .
و هكذا يذكرنا الرب بسبحات الخلائق فيقول :
[ ألم تر أن الله يسبح له من في السموات و الارض و الطير صافات ]تسبح بحمد الله ، و هذه الآية تدل على ان كل مخلوق قادر على التسبيح ، و انما و صف الله غير ذوي العقول بوصف ذوي العقول ، ليدلنا على ان لكل حي شعور بقدره يسبح به ربه قال تعالى : " و ان من شيء الا يسبح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم " .
ان رهافة سمع اولي الابصار تجعلهم يسمعون تسبيح كل حي في السموات و الارض ، لانهم يتجاوزون المظهر الى اللب ، و يعبرون الدلالات الى الحق و الشواهد الى الغيب ، فبالنسبة اليهم لا تعني حركة الاسماك في البحار ، و لا صراع الـوحوش في الغابات ، و لا رفرفة الطيور في الفضاء ، مجرد نشاط عابث من أجل البقاء ، انما فيه ايضــا محتوى رباني ، و ابعاد فوق مادية ، انه تسبيح و صلاة و سعي نحو الاعلى ..
كيف لا يسبح ذلك القلب الزكي الذي لا يلتفت الى حي حتى يسمع منه التسبيح ، و يرى منه الصلاة و التبتل و اذا وجد بلاء يصيب واحدا من الاحياء عرف انما اصيب لانه نسي ذكر الله .
جاء في رواية عن ابي عبد الله الصادق عليه السلام :
" ما من طيــــر يصــاد في بر و لا بحر و لا يصاد شيء من الوحش الا بتضييعه التسبيــح " . (1)[ كل قد علم صلاته و تسبيحه و الله عليم بما يفعلون ](1) المصدر / ص 613
من الذكر و التسبيح و عموم العبادة و الافعال الصالحة الاخرى ، و هذا ما يدعو الانسان الى الاهتمام بالعبادة و التوجه الى رب العالمين .
وهكذا روي عن الامام ابي جعفر الباقر عليه السلام في تفسير هذه الآية :
" ان الله عز وجل ملكا على صورة ديك ابيض رأسه تحت العرش ، و رجلاه في تخوم الارض السابعة ، له جناح في المشرق و جناح في المغرب ، لا تصيح الديوك حتى يصيح ، فاذا صاح خفق بجناحيه ثم قال : سبحان الله ، سبحان الله ، سبحان الله العظيم الذي ليس كمثله شيء ، قال فيجيبه الله عز و جل فيقول : لا يحلف بي كاذبا من يعرف ما تقول " . (1)و تذكرنا هذه الآية بعلم الله المحيط بكل شيء حتى بخبايا نيية الطيور .
[42] [ و لله ملك السموات و الارض و إلى الله المصير ]فكما كانت منه البداية كذلك تكون النهاية اليه ، و في هذه الحقيقة - التي تقوم على اثباتها كل الشواهد العقلية ، و تظهر تجلياتها في كل الطبيعة - اعظم موعظة للمتدبر الذي لم يسمح لحجب الغفلة أو الشهوة ان تغطي بصره و بصيرته ، و اكبر دافع نحو توجهه الى العزيز الحكيم بأن يجعل عمله خالصا لوجه ربه الكريم ، لا يريد جزاء و لا شكورا من احد غيره ، و لا يخشى او يخاف احدا سواه .
و تهدينا الآية الى سلطان الله الفعلي على جوهر الاشياء . و انه الذي يمسك بقدرته ناصية الحقائق ان تزول و تنعدم .
[43] [ ألم تر أن الله يزجي سحابا ]
(1) المصدر
فلا موضع للصدفة التي هي اكذوبة الجاحدين ، و لا يمكن ان يكون هذا النظام بلا مدبر حكيم و هو الله الذي يحمل الرياح السحب التي تزن ملايين الاطنان ، تتحرك بكل خفة و سهولة في طبقات الجو العليا ..
[ ثم يؤلف بينه ]
فلــــولا تكاثف السحب لما هبط المطر ، ثم ان السحاب مؤلف من شحنات سالبة و موجبة ، و لولا ذلك لما نفع الزرع ، فالبرق الذي يفرز المواد الضرورية لنمو النباتات انما تؤلفه الامواج الكهربائية القوية التي يولدها الاحتكاك بين هذه الامواج .
[ ثم يجعله ركاما ]
كي ينزل المطر ، فبدون ان يتكثف السحاب لا ينزل المطر . و تكثفه لا يتم الا عبر قوانين يجريها الله سبحانه فيها .
[ فترى الودق يخرج من خلاله ]
و هو المطر حالة تكونه و خروجه ، من بين ثنايا السحاب .
[ و ينزل من السماء من جبال فيها من برد ]
فالسحب في الفضاء كما الجبال في الارض ، من حيث ضخامة كتلتها و تفاوت ارتفاعاتها ، و يمكن للانسان الاطلاع على هذه الحقيقة عندما يطير مسافرا من بلد لآخر فوق الغمام .
و لعل في الآية اشارة الى حقيقة يذكرها العلماء : ان طريقة تكون ( البرد ) هي ان قطرة من الماء تنزل من السحاب ، ثم تمر بطبقة باردة فتتجمد ، ثم تحمله الرياح الشديدة الى الاعلى من جديد . و تتقلب بين جبال السحب ، كلما مرت سحابةحملت قدرا أكبر من الماء ، فنزلت فحملتها الرياح - مرة أخرى - الى الاعلى حتى تثقل و تهبط الى الارض . و قد تنزل حبات البرد بحجم البيضة .
[ فيصيب به من يشاء و يصرفه عن من يشاء ]
من عباده ، و عموم خلقه ، اذن فليس ذلك بالصدفة .
[ يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ]
لشدة الوميض الخاطف الصادر عن تفريغ شحنات كهربائية هائلة بين السحاب .. و هكذا فاننا نجد في هذه الظاهرة الطبيعية بشارة خير بنزول رحمة الله ( المطر ) ، و انذارا صارما بعقاب الله الذي لو نزل فانه لا يبقي و لا يذر و لأفنى الاحياء .
|