فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


الطاعة المصلحية الدواعي و النتائج
هدى من الآيات

يبصرنا الرب بملكه و اقتداره عبر تذكيرنا بخلقه الاحياء ، الم يخلق كل شيء من ماء ؟ و لكن انظر الى مدى التباين بين الدواب ، فمنهم من يمشي على بطنه كالحيات و منهم من يمشي على رجلين و منهم من يمشي على أربع ، هكذا ينشىء المليك المقتدر ما يريد ، ليعرفنابواسع قدرته المحيطة بكل شيء .

وهذه آيات القرآن تبين لنا و تذكرنا بالرب و يهدي الله من يشاء الى صراط مستقيم .

و الهداية لا تعني مجـرد الاعتـــراف اللساني بل لابد ان تصدقه الطاعة عند القضاء ، فهنالك من يدعي الطاعة فاذا خالف الحق هواه أو مصالحه تولى . كلا .. ليس هؤلاء بالمؤمنن فليس الايمان هو الاذعان عند توافق المصلحة و التولي عند مخالفتها ، و لكن لماذا هذاالتفريق ؟ هل في قلوبهم مرض الجسد و الحقد و حب الدنيا أم هم في ريب من صدق الرسالة ؟ أم يخافون من ان يظلمهم الرب في الحكمالذي يصدره الرسول ؟ الواقع أنهم يظلمون أنفسهم حين يتولون عن العدالة الالهية .

ماهي علامة الايمان ؟ انها الطاعة عندما يدعوهم الرسول ليحكم بينهم ، و هذا يوفر لهم الفلاح و الفوز ايضا ان هم اطاعوا الله و رسوله و خافوا الله و اتقوه .

و يبقى السؤال التالي :

ما هي علاقة هذه الآيات بالمحور الرئيسي لسورة النور ( الذي كان الاسرة و ما يدور حولها من قضايا اجتماعية و تربوية ) ؟

و للاجابة على هذا السؤال يمكننا أن نقول :

أولا : ان القرآن لا يكتفي ببيان المعالجات التي ترفع الانحرافات الاجتماعية ، بل هو بذاته علاج لها و شفاء لما في الصدور ، و هدى و رحمة للمؤمنين و لا يكتفي القرآن باعطاء العلاجات الفوقية ، بل يسعى لعلاج الانحرافات جذريا ، من هنا نجد ان الآية القرآنيةالواحدة تذكرنا بالحكم الشرعي ، كما تذكرنا بعقوبة الله أو بثوابه .

فالحكم بيان للعلاج ، و لكن التهديد بالعقاب و الترغيب في الثواب هو ذاته علاج ، لان كلا من الترغيب و الترهيب يعطي النفس البشرية سحنة من الارادة القوية التي تقاوم الانحراف .

وفي هذه السورة بالذات يحدثنا القرآن عن الاسرة الفاضلة و التي من ميزاتها انها تؤمن بالله ، و ان البيت الذي يحويها هو بيت الايمان الذي يذكر فيه اسم الله كثيرا .. و هذا علاج للانحراف الذي قد يقع في الاسرة داخل المجتمع ، و العلاج هو : ان الانحرافات البشرية يجب ان يزيلها الايمان بالله مع الذكر و التسبيح .


بيد ان القرآن لا يكتفي بذلك ، بل يقوم باعطاء العلاج ذاته عبر بث روح الايمان في قلب الناس ، فنراه يحدثنا طويلا عن الايمان بالله ، و عن التذكرة بالقيم الحقيقية ، و عن التوجه الى رب السماوات و الارض .. الخ .

ثانيا : ان كل انحراف في البشر نابع من انحراف آخر ، و تتسلسل الانحرافات الواحدة تلو الاخرى ، حتى تصل الى الانحرافة الكبرى في حياة الانسان و هي الكفر بالله ، و الابتعاد عن هداه ، و ذلك هو الضلال البعيد .

و فــي الوقت الذي يعالج القرآن تلك الانحرافات الفرعية يعالج الضلال البعيد ذاته ( و هو الكفر ) ، لذلك نجد القرآن - سوره و آياته و دروسه و عبره - تبتدئ بذكر الله ، و تختتم به ، لانه المحور الحقيقي الذي تدور حوله كل القضايا .

ثالثا : ان اهم صفة من صفات الانسان في الاسرة الفاضلة ، و التي يجب على الاسرة أن تسعى من أجل تركيزها و تنميتها في ابنائها ، هي صفة الطاعــة المستقيمة للحــق .

ذلك ان الانسان في الطاعة مختلف :

أ- فقد ينمو الاسنان متمردا على النظام و على اية سلطة حتى و لو كانت السلطة سلطة شرعية ، بل و يتمرد ضد اية نصيحة مما يجعله اشبه ما يكون بالوحش الهائج .

ب - و قد ينمو ذليلا يعطـــي القيادة لاي كان ، و يخضع لكل الناس و لكل الانظمة ، و يصغي لكل الاوامر و التعليمات ، و هذا اشبه ما يكون بالبضاعة يشتريها من أراد ..

ج - و قد ينمو الانسان و يتربى على طاعة الاهواء و الشهوات و بالتالي طاعة كل من يشبع فهم رغباته ، بغض النظر عن استقامته او انحرافه ، و عدالته أو ظلمه ،و اكثر الناس في الواقع هم من هذا النموذج ، اذ يطيعون من بيده المال أو السلطة ، و هؤلاء ايضا فاسدون كغيرهم .

د - انما الفريق الرابع فهو الذي يطيع ، و لكن لا للشهوات و المصالح ، و لا حبا في االطاعة العمياء ، و انما يطيع القيم ، فطاعته لاي أحد نابعة من ولائه للحق ، و ايمانه بالقيم السامية ، و هذا هو الانسان الذي يجب ان تسعى الاسرة الفاضلة من أجل تربيته و تنمية مواهبه ، و بلورة شخصيته .

و يحدثنا القرآن الحكيم في منتصف هذه السورة عن ضرورة الطاعة ، و انها يجب ان تكون لله لا للمصالح ، و ليس خوفا من ارهاب اي سلطة بشرية ، و هذه هي النقطة المحورية لبناء الانسان الفاضل في الاسرة الفاضلة ..

ثم ان الاسرة الفاضلة تبتدئ من الانسان المطيع لله ، و تنتهي اليه ، فالاب الذي لا يخضع لشهواته العاجلة ، و لا لمصالحه الخادعة ، و لا للشركاء من دون الله كسلطان الجور ، و اصحاب المال : انه هو الذي يستطيع تربية ابنائه على شاكلته ، اما الآخر الذي تمتلئحياته بالطاعة العمياء ، للمال و لاصحاب المال ، أو السلطة و لاصحاب السلطة ، أو للارهاب ، فانه لا يستطيع تربية أبنائه احرارا ، يقاومون انحراف النفس و المجتمع .

رابعا - لو بحثنا بعمق عن الاسباب الحقيقية للانحرافات البشرية ، لوجدناها تنطلق من طاعة الانسان للشهوات ، فالذي لا يطيع شهواته لا يسرق ، لان من يسرق انما يسرق لكي يصبح اكثر ثراء من غيره ، أوليست هذه شهوة ؟

وهكذا يكذب الانسان و يظلم أو يخاف من الناس ، و هو يعلم ان كل ذلك طريق للانحدار و التردي .

و اذا ما عالج الانسان هذا المرض عنده فان سائر الانحرافات التي يعاني منهاستشفى طبيعيا تباعا لعلاج الجذر .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس