بينات من الآيات [58] لتزكى اجواء المجتمع ، و يبقى الاحتشام و العفاف في البيئة الاسرية ، لا ينبغي السماح للعبيد و الاطفال باقتحام غرف النوم و الراحة من دون الاذن .
[ يا ايها الذين ءامنوا ليستئذنكم الذين ملكت ايمانكم ]من العبيد و الاماء .
[ و الذين لم يبلغوا الحلم منكم ]
و هـم الاطفال من العائلة ، اذ يجب علهيم استئذان اصحاب البيوت في اوقات معينة ، و هي :
[ ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر و حين تضعون ثيابكم من الظهيرة و من بعد صلاة العشاء ]لانها اوقات الراحة التي يتواجد الناس حينها في بيوتهم ، بعد ان يكونا قد حضروا صلاة الجماعة في المساجد ، أو قاموا باعمالهم المختلفة و نشاطاتهم المتنوعة لكسب الرزق ، و تحقيق المعاش ، و هكذا ينظم الاسلام الوقت بدقة ، فجزء لاجتماع المسلمين في المساجد كي يؤدوا الفرائض و يتبادلوا الافكار و الخبرات بينهم ، و جزء للسعي و العمل ، و جزء للراحة و الاستجمام ، حيث يستعيدوا القوة و النشاط و يكملوادورة الحياة .
[ ثلاث عورات لكم ]
احوال يجب ان لا يظهر عليها الآخرون ، لانها أوقات الراحة ، و كم يرتاح الانسان نفسيا حين يطمئن بأن لا أحد يدخل عليه اذ يضع عن نفسه الكلفة .
[ ليس عليكم و لا عليهم جناح بعدهن ]
و أما بعد هذه الاوقات فلا مؤاخذة عليكم و لا عليهم أي الاطفال و العبيد و الاماء أن يدخلوا عليكم دون استئذان .
[ طوافون عليكم بعضكم على بعض ]
اي تأخذ حركة الدخول و الزيارات مجراها عليكم بعد المنع و التوقف ، و بالطبع ان الدخول بلا استئذان يختص بالمتعلقين بالشخص دون الاجانب .
[ كذلك يبين الله لكم الايات و الله عليم حكيم ]
فهو عليم بمصالحكم ، و حكيم اذ يضع لكم هذه الاحكام الرشيدة ، و جاء في النص المروي عن الامام الباقر عليه السلام في تفسير الآية :
" فلا يلج على أمه و لا على أخته ، و لا على إبنته و لا على من سوى ذلك الا بإذن ، و لا يأذن لاحد حتى يسلم ، فان السلام طاعة الرحمن " . (1)فما هي فائدة هذا الحكم ؟
قبل ان نبين الاجابة على ذلك نورد ملاحظة هامة هي : ان الانسان قد يكون(1) نور الثقلين / ج 3 - ص 622
مهتما بحدود التنظيم الاجتماعي و قيوده ، دون ان يهتم بجوهره و محتواه ، و قد يعكس فيكون مهتما بجوهر التنظيم و هدفه ، و لكنه يتجاهل الحدود التي هي وسائل تحقيق الهدف و يعتقد بانها غير هامة أو قشرية .
بينما يريد الاسلام من ابنائه الاهتمام بجوهر التنظيم و بحدوده ، اي بهدفه و بالوسائل التي تحقق هذا الهدف .
ان جوهرالتنظيم الاجتماعي هو الطاعة الخالصة لله تعالى ، و البعيدة عن الاهواء و المصالح الآنية ، و كل انواع العصبيات الجاهلية ، و تبرز أعلى مظاهر الطاعة لله ، في الطاعة للقيادة الرسالية و تتدرج هابطا حتى تصـــل الى ولي الأمر الحاكم الشرعي ، و كذاولي الاسرة و رؤساء كافة التنظيمات الاجتماعية و السياسية الشرعية .
و الاسرة الفاضلة هي الاسرة القائمة على اساس التعاون البناء ، و لا يأتي ذلك الا عن طريق الطاعة السليمة للقيم الحق ، بحيث لا تكون هذه الطاعة خالية من قانون يحددها ، بل يجب ان تصب في قنوات قانونية ، فلا يكتفي الانسان المنظم بالطاعة لقيادته أو ولي أمره أو رب أسرته ، بل ان يلتزم ايضا بحدود القونين الاجتماعية المفروضة ، فقد لا تبدو هذه القوانين ذات اهمية ، و لكنها حينما تطبق في الحياة الاجتماعية تصبح ذات نفع عظيم ، مثلا حينما يلزم الاسلام المسلم الوفاء بالعهد و الالتزام بالوعد ، اتدري كم ينظم هذا الامر حياة المجتمع ، أو كم يحافظ على الوقت الذي يذهب هدرا ؟ و الى اي حد يحافظ على علاقات الناس متينة و طيبة ؟
و هكذا حين يفرض الاسلام تنظيم الوقت ، فلانه حاجة اجتماعية ، و ضرورة حياتية ، اذ لا يمكن للانسان العمل في أي وقت يريد ، أو التبضع متى شاء ، أو حتى النوم متى يرغب ، بل هناك أوقات محدودة لكل نشاطات الحياة و شؤونها ،و بالرغم من ان تنظيم الوقت يبدو لكثير من الناس عملا ثانويا ، الا انه اشبه ما يكون بالقناة التي تحافظ على مياه المطر من التشتت ، لانه يحافظ على طاقات الانسان من التشتت و يجمع طاقات الجماهير ليصبها في قناة واحدة .
من هنا نجد تأكيدا في هذه الآيات على ضرورة ملاحظة أوقات الراحة للانسان ، و التي عادة ما تكون قبل صلاة الفجر و عند الظهر ، و كذا بعد العشاء ، و بمعنى آخر ضرورة مراعاة أوقات الآخرين و برامجهم .
و حتى الاطفال يجب عليهم الاستئذان في هذه الفترات لتبقى البيوت محلا آمنا يستطيع الانسان الاستراحة فيه أنى شاء .
و لتنفصل أوقات الراحة عن أوقات العمل ، كي يكون هناك وقت للراحة ، كما ان هناك وقتا للسعي و الكدح ابتغاء فضل الله . و الذي يجد وقتا كافيا للراحة ، يستطيع الجد و الابداع عند العمل ، اذ يجب ان تكون أوقات الراحة - كالقيلولة في الظهر - منطلقا للتحرك نحوالعمل من جديد ، و بروح نشطة .
و هذا القانون يوفر على الانسان مزيدا من الوقت المنظم ، مما يعني مزيدا من التقدم الحضاري .
و كلمة اخيرة :
ان حكمة هذا التشريع الهام هي ابعاد الاطفال عن بعض المظاهر غير المناسبة المحتشمة في غرف النوم ، حيث تثيرهم و تزرع في نفوسهم حب الزنا ، أو حتى عداوة أحد الوالدين ، مما يتسبب في العقد الجنسية ، و ما تتبعها من نتائج خطيرة .
ولقد حذرت النصوص الشرعية من ذلك و اعتبرته نوعا من التشيجيع على الزنا ، اذ يسقط الحياء و تصبح المعاشرة الجنسية عملا عاديا عندهم ، و سوف يمارسونها عندأول بوادر الحاجة الفسيولوجية اليها .
حتى جاء في حديث مأثور عن النبي (ص) :
" اياكم و ان يجامع الرجل إمرأته ، و الصبي في المهد ينظر اليهما " . (1)اما غير الاطفال و العبيد فعليهم الاستئذان ، و قد سبق الحديث عن ذلك في آيات مضت و على الاطفال اذا بلغوا سن الرشد ان يتوقفوا عن دخول الغرف الا بإذن .
[59] [ و إذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستئذنوا ]
في الدخول .
[ كما استئذن الذين من قبلهم ]
من الاحرار .
[ كذلك يبين الله لكم ءاياته و الله عليم حكيم ]
وهذا التكــرار تأكيد على أهمية هذه الاوامر الالهية ، و انها ذات أثر عميق في المجتمع ، و ان لم يستطع الانسان الاحاطة علما بجميع أبعادها ، و آثارها الآنية ، و المستقبلية ، لقلة علمه و ضعف عقله ، مما يجعله يستهين بها ، فلا يبذل جهدا للالتزام بها و تطبيقها بدقة .
لهذا يجب ان تكون حكمة الله و علمه مقياسا لقوانين المجتمع البشري ، لا اهواء الانسان و تخرصاته .
[60] [ و القواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن(1) تفسير نمونه / ج 14 - ص 546 نقلا عن موسوعة بحار الانوار 103/ ص 295جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة ]
حيث يجيز الشارع المقدس للمرأة الكبيرة في السن ، ان تضع بعض ثيابها مثل جلبابها و خمارها مما يغطي رأسها ما دام لا يرغب أحد في نكاحها ، بشرط ان لا تتبرج باطهار مواضع زينتها ، و لكن الافضل ان تسود المجتمع الاسلامي كله حالة من العفاف و الاحتشام .
[ وان يستعففن خير لهن ]
فالمرأة و ان كبرت و بلغت سن اليأس ، فان الحجاب اكثر هيبة لها ، كما ان ذلك يشجع الشابات على ان يتمسكن بالحجاب .
[ و الله سميع عليم ]
فلا يجوز لها ان تقول كلامــا تثير به شهوة الرجال ، او تنوي القيام بحركة معينة حراما ، اذ ان الله سميع للقول الظاهر عليم بالنية الباطنة .
[61] [ ليس على الأعمى حرج و لا على الأعرج حرج و لا على المريض حرج ]قال بعض المفسرين : ان الناس كانوا يتحرجون من التعامل مع هذه الطوائف الثلاث في الجاهلية ، لانهم كانوا يعتقدون ان الله قد غضب على من ابتلي بهذه الحالات ، فيبتعدون عنهم ، و جاءت هذه الآية لتبين الحقيقة بأن الله لم يغضب على هؤلاء ، بل من الضروري معاشرتهم بالاحسان ، جاء في الرواية المأثورة عن الامام الباقر عليه السلام :
ان اهل المدينة قبل ان يسلموا كانوا يعزلون الاعمى و الاعرج و المريض ان يأكلوا معهم - كانوا لا يأكلون معهم - و كان الانصار فيهم تيه و تكرم : فقالوا انالأعمى لا يبصر الطعام ، و الأعرج لا يستطيع الزحام على الطعام ، و المريض لا يأكل مما يأكل الصحيح ، فعزلوا لهم طعامهم على ناحية ، و كانوا يرون عليهم في مؤاكلتهم جناح ، و كان الأعمى و الاعرج و المريض يقولون : لعلنا نؤذيهم اذا أكلنا معهم ، فاعتزلوا من مؤاكلتهم ، فلما قدم النبي سألوه عن ذلك فأنزل الله عز و جل : " ليس عليكم جناح ان تأكلوا جميعا أو اشتاتا " . (1)و لعلنا نستوحي من السياق ايضا ان نفي الحرج هنا يعني جواز الاكل ، فيكون المفهوم من الآية ليس على الاعمى حرج ، و لا على الاعرج حرج ، و لا على المريض حرج ، أن يأكــــل من بيوت الناس ، أما انتم فليس عليكم حرج ان تأكلوا من بيوتكم ، أو بيوت اقاربكــم .
و الحكمة في ذلك : ان هؤلاء هم العناصر الضعيفة الذين يعجزون عادة عن كسب رزقهم ، فعلى الاصحاء كفالتهم و السماح لهم بالدخول الى بيوتهم للطعام و برهم .
[ ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت ءابائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم ]تذكر هذه الآية بالتفصيل البيوت التي لا حرج على الانسان في دخولها و الاكل منها .
و يبدو انها ليست في مقام اعطاء الاذن فحسب ، بل في مقام التشجيع على ذلك ايضا ، فربما يتحرج الانسان من الدخول الى بيوت اقاربه أو معارفه من الاصدقاء ، فيرفع النص ، هذا الحرج ، لتنمو الالفة و المحبة بين الأسر المختلفة ، و كما يقول(1) نور الثقلين / ج 3 - ص 624
الحديث الشريف عن الائمة (ع) :
" احبكم الينا اكثركم أكلا في بيوتنا " .
لان الجلوس الى مائدة الطعام في البيت يفتح القلوب على بعضها ، و يمتن العلاقات ، و بالتالي يفتح طريق التعاون بين افراد المجتمع .
فكم من تعاون بدأ من جلسة طعام ، حتى الثورات الرسالية كثيرا ما تنطلق من مثل هذه المناسبات ، فحينما تقترب النفوس و ترتفع الحجب بين الانسان و اخيه و بعيدا عن انظار الناس و اسماعهم ، هنالك يبدأ الانسان بالحديث عما يعانيه ، فيبث همومه و مشاكله لاخيه وبالتالي تتوفر الاجواء الملائمة للمناقشة و تبادل الافكار مما يكون مناسبا لجمع الامكانات و الكفاءات المختلفة و ازالة الصعوبات ، فربما جلس اناس مؤمنون لبعضهم كي يأكلوا ، و لكنهم قاموا من على مائدة الطعام لينجزوا اعمالا عظيمة في سبيل الله .
إن التجمعات الأسرية في الاسلام هي اللبنات الاولى و الاساسية في صرح الصمود و التضحية في المجتمع الاسلامي ، فلا يستطيع الانسان الصمود أمام تحديات الزمن و عنجهية الطعاة ، و تحقيق النصر لوحده ، و لكنه يستطيع ذلك حينما يجلس الى اقاربه و معارفه و يتفاعلمعهم حيث يشعر بالقوة فيندفع بحماس لمواجهة كل التحديات .
ولما في الجلوس الى الموائد من فوائد اجتماعية عظيمة ، نجد الاسلام يشجع عليها ، و لو كانت العلاقات الاجتماعية في البلاد التي يحكمها الطاغوت متينة و فعالة لشل سيف الطغيان فيها ، لان الطاغوت حينئذ لا يضرب واحدا واحدا ، و انما يضرب اسرة اسرة ، و الاسرةالقوية المتفاعلة صخرة صماء لا تتفتت ، فلو وقف المجتمع بأسره المتعاونة مع بعضها عبر قياداتها لسقط الطاغوت المتسلط على رقابالناس .
ثم يبين القرآن الكريم حكما آخر يعطي العلاقات الاجتماعية حرارة و دفئا فيقول :
[ أو ما ملكتم مفاتحه ]
فاذا اعطى المالك مفتاح بيته لاحد ، يجوز له تناول الطعام الذي فيه - بالفحوى - لما ينبئ ذلك عن رضى قلبي .
جاء في التاريخ :
اذا بعث رسول الله احدا من أصحابه في غزاة أو سرية ، يدفع الرجل مفتاح بيته الى اخيه في الدين ( و هو الذي آخى النبي بينه و بينه ) ، و يقول له : خذ ما شئت و كل ما شئت ، فكانوا يمتنعون من ذلك حتى ربما فسد الطعام في البيت ، فأنزل الله هذه الآية . (1)
و اعطى الاسلام الصديق الوفي حكم القريب فقال :
[ أو صديقكم ]
و جاء في الحديث عن الامام الصادق (ع) :
" من عظم حرمة الصديق ان جعله من الانس و الثقة ، و الانبساط و طرح الحشمة ، بمنزلة النفس و الأب و الأخ و الإبن " (2)[ ليس عليكم جناح ان تأكلوا جميعا أو أشتاتا ]
(1) المصدر / ص 625
(2) المصدر / ص 626
فبإمكان الاسرة ان تجتمع بأكملها حول مائدة الطعام ، أو يحضر افراد منها فقط كأن يأكل الاخ مع أخيه و الصديق مع صديقه .
[ فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة ]يجب ان تكون القلوب متحابة متآلفة ، و مجندة في جيش واحد ، و السلام هو رمز تآلف القلوب ، و عندما يسلم المرء على اخيه ، فانه يربط نفسه معه برابطة المحبة و يتعهد بأن يكون مسالما له في حضوره و غيابه .
لذلك يؤكد القرآن قائلا : " فسلموا على أنفسكم " اي انكم تشكلون نفسا واحدة ، " تحية من عند الله " فحينما يقول الانسان لاخيه السلام عليكم يقول الله ايضا السلام عليك ايها المجتمع الذي يتسالم افراده و يتبادل أبناؤه السلام ، إني سوفامنحكم السلام تحية ، " مباركة طيبة " و هذا السلام يسبب البركة اي النمو الاجتماعي و المعنوي ، الذي يختلف عن النمو المادي الفاسد لدى المترفين أو الحكام الطغاة ، بل هو تكامل طيب و مستقبله عظيم .
[ كذلك يبين الله لكم الأيات لعلكم تعقلون ]
فكلما كانت الاحكام القرآنية حساسة و عميقة ، كلما وجدنا بعدها مباشرة مثل هذه الكلمات : لعلكم تعقلون ، لعلكم تتفكرون ، لحاجة الامر الى التعقل و التفكر حتى يعرف المؤمنون أهميته ، و انه لا يمكن فهم ذلك الا اذا استشار الانسان عقله ، و قدح زناد افكاره .
|