فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[62] ان الاسلام يريد لمجتمعه ان يكون مجتمعا متكافلا متكاملا موحدا ، و القيادة هي الرابط الاجتماعي الذي يعصم المجتمع من الانهيار و التشتت ، و هنا تكمن اهمية الوحدة ، و عدم شق عصاها ، فلا يجوز للفرد ان يعتنق رأيا يفصله عن المسيرة العامة للأمة ، وهذا هو المقياس الصحيح لمدى ارتباط المسلم بالمجتمع الاسلامي و انتمائه الحقيقي له .

اما الافراد الذين يرسمون لانفسهم خططا ، يفرضونها على المجتمع ، شاءت القيادة أم ابت ، فلا يمكن ان يكونوا منتمين الى المجتمع ، و هؤلاء هم المنافقون في منطق القرآن الحكيم .

لذلك نجد التعبير القرآني يقول : " انما المؤمنون " للتأكيد على ان هؤلاء وحدهم الذين ينتمون الى مجتمع الايمان ، اما الآخرون فلا .

وهكذا يريد الاسلام ترسيخ الشعور بالمسؤولية في نفوس المؤمنين ، و يبدو منهذه الآيات ان بعض الناس كانوا يريدون التنصل من مسؤولياتهم .

و كثيرا ما ينفر الانسان من تحمل المسؤولية حينما يشعر بثقلها ، أو خطورتها على مصالحه ، و حتى يخفي هذا الشعور يصنع دثارا من المبررات لفنسه ، و لكي يعالج الاسلام هذه النزعة فقد فرض على الانسان المسلم ان يتحلى بصفتين اساسيتين هما :

1 - الطاعة و التسليم .

2 - التنفيذ الجاد لقرارات القيادة .

ولو عرف الانسان المسلم نوعية فكر القيادة الرسالية ، و كذلك توجهها ، فانه سيسلم نفسه لها تسليما عميقا يذوب بسببه كليا في خطها ، و لا يكتفي باتباع القرارات الظاهرة فقط ، بل سيتبع روح القرار و اهداف القيادة ، حتى من دون ان تحدد هي ذلك بالضبط ، وهناننقل قصة حدثت في ايران :

جاء رجل الى أحد قادة الثورة يستأذنه في قتل أحد افراد الساواك - و هي مؤسسة ارهابية تجسسية كانت تابعة للنظام الشاهنشاهي المقبور - فأجابه القائده بالنفي ، مما أثار اعجاب الجالسين ، فما كان منهم الا ان سألوه و لماذا و هو يستأذنك في قتل مجرم طالما قتلالناس و أفسد في الارض و فعل كذا و كذا ؟! فقال لهم : ان مثل هذا الانسان ليس لهذه المهمة ، لانه لو كان لها لما أتى يسالني اقتله ام لا !، و هو عاقل يعرف الاحكام الشرعية و التوجه العام لاحاديثي الجماهيرية .

وكذلك بنو اسرائيل لما قال لهم موسى (ع) ان الله يأمركم ان تذبحوا بقرة امطروه بوابل من الأسئلة : ما هذه البقرة ؟ ما لونها ؟ ما شكلها ؟ ما .. ما . الخ ؟

" فذبحوها و ما كادوا يفعلون " لان التسليم النفسي لم يكن موجودا عندهم بمافيه الكفاية ، فكانوا يريدون التنصل من المسؤولية بأية وسيلة كانت .

و لا يكتمل إيمان المؤمن حتى يذوب شخصيته في شخصية الامة ، و يبيع نفسه و توجهاته في الحياة للقيادة الرسالية ، بان يكون رهن أوامرها ، كما لا يكتفي بتنفيذ ظاهرها فقط ، و انما يغوص الى الاعماق ، ليكتشف أبعادها ، و يطبقها بالشكل الاكمل ، بخضوع قلبي تام ، و قد وصف القرآن المؤمنين بذلك حيث قال : " فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليما " ، و التسليم هو الانصياع النفسي التام .

[ إنما المؤمنون الذين ءامنوا بالله و رسوله ]

فلا يشكل الايمان بالله وحده قيمة حقيقية ما لم يكن مقترنا بالايمان بالرسول ، و ما يترتب على ذلك من تلقي الاوامر و التعليمات و التشريعات الالهية منه ، و هذا ما يميز المؤمن الحقيقي عن المؤمن الظاهري .

[ و إذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستئذنوه ]اي انهم لا يتصرفون وفق رغباتهم الشخصية ، انما يدعون القرار الحاسم بيد القيادة .

[ إن الذين يستئذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله و رسوله فإذا استئذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم ]قد تحتاج الى هذا الشخص فيجوز لك ان تأذن له .

[ و استغفر لهم الله إن الله غفور رحيم ]

لأن ذهابهم و ان كان بأمر الرسول الا انه نوع من الذنب ، لذلك ينبغي للرسولالاستغفار لهم حتى يغفر الله لهم من جهة ، و حتى يكون ذلك اشعارا للآخرين بأن لا يطلبوا أذنا مماثلا ، و بالتالي ينفض الناس شيئا فشيئا و يبقى الرسول وحيدا في الساحة .

و جاء في التاريخ : " ان هذه الآية نزلت في قوم كانوا اذا جمعهم رسول الله لأمر من الامور - في بعث يبعثه ، أو حرب قد حضرت - يتفرقون بغير اذنه ، فنهاهم الله عز و جل عن ذلك " . (1)و جاء في نص آخر : " ان الآية نزلت في حنظلة بن ابي عياش و ذلك انه تزوج في الليلة التي كان في صبيحتها حرب أحد ، فاستأذن رسول الله ، ان يقيم عند أهله ، فانزل الله عز و جل هذه الآية " فاذن لمن شئت منهم " فاقام عند أهله ، ثم أصبح و هو جنب ، فحضر القتال و استشهد ، فقال رسول الله ، رأيت الملائكة تغسل حنظلة بماء المزن في صحائف فضة بين السماء و الارض فكان يسمى غسيل الملائكة " . (2)[63] ان احترام القيادة في قراراتها يجب ان ينعكس على احترامها في الظاهر ايضا ، فلو نطقت باسم الرسول ، أو باسم قيادتك كما تنطق باسـم الآخريــن دون اي احترام ، او اذا جلست الى الرسول ترفع صوتك أمامه ، كما ترفعه أمام الآخرين أو تناديه من وراء الحجراتكما تنــادي الآخرين ، فانك لن تكون مستعدا بعد ذلك لتلقي أوامره و من ثم تنفيذها ، اذا لابد من اعداد نفسي كامل سلفا ، لتلقي أوامر الرسول أو القيادة الرسالية التي تمثله على الواقع ، كأن يتوضأ الفرد قبل الذهاب الى مجلس الرسول ، أو يغتسل ان كان عليه غسل ،ثم يجلس في محضره مجلس المستفيد ، ليقتبس من علمه بتركيز تفكيره في كلامه ، و تفريغ نفسه لتطبيق تعاليمه .. و هكذا(1) المصدر / ص 628 نقلا عن تفسير علي بن ابراهيم

(2) المصدر


حتى ينتهي الأمر به الى تنفيذ أوامر القيادة بشكل دقيق جدا .

فحينما تحترم القيادة تطبق أوامرها و توجيهاتها ، و على العكس فانك تأخذ أوامرها و توجيهاتها مأخذ الهزل لو لم تكن تحترمها .

[ لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ]

و لهذا المقطع من الآية وجهان : احدهما ظاهر و الآخر باطن .

أما الظاهر فهو : ان لا يسمي الانسان رسول الله باسمه الخاص ، بل بكنيته ، و حينما جاءت هذه الآية حرم على المسلمين ان ينادوا رسول الله بإسمه ، فأخذوا ينادونه يا رسول الله أي بإسمه القيادي .

واما الوجه الباطن فهو : ضرورة تهيئ المسلم نفسيا لتقبل قيادة الرسول (ص) و كل من جلس مجلسه و حكم باسمه ، و لا يقول هذا انسان و انا انسان ، بلى انه بشر ، و لكنه يمتلك صفة اعتبارية أنت لا تملكها ، هي جلوسه مجلس الرسول ، لذلك قال كثير من فقهائنا : ( اذا حكم ولـي الأمــر المجتهــد الجامــع للشرائــط بحكم ما ، وجب على الناس - سواء منهم المقلدون لهذا المجتهد أو غيرهم - اتباع حكمه ، بل و حتى على المجتهدين ان يتبعـــوه في حكمه ) ، لأنه حينما يحكم فإنه يحكم باسم منصبه ، و اهانة حكمه اهانة لمركزه ، و الاهانة لمركزه اهانة للدين ، و بالتالي لله سبحانه و تعالى ، و كما يقول الحديث في حق الائمة :

" الراد عليهم كالراد علينا و الراد علينا كالراد على الله "[ قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا ]

اي يتسللون خلسة دون ان يشعر بهم الرسول او يراهم و هـم يخرجون من مجلسه .


[ فليحذر الذين يخالفون عن أمره ]

ان المقصود من " الذين يخالفون عن امره " ليس فقط مخالفة الاوامر الظاهرة ، بل ايضا مخالفة روح القيادة .

أنهم استطاعوا ان يتسللوا لواذا و ان يهربوا خلسة ، و لكن هل اصبحوا في مأمن كما يزعمون ؟!

كلا .. بل إنهم يعرضون أنفسهم للفتنة ، و للعذاب الاليم ، فاذا استدعاهم الرسول في يوم ما ، و أصدر اليهم أوامرا مباشرة بحمل السلاح ، و التوجه الى الغزو مثلا ، فانهم في هذه الحالة أمام موقفين ، فإما الانصياع الى الأوامر ، و هذا خلاف ما يريدون ، و أماالرفض فيخرجون - بذلك - ظاهرا و باطنا عن الاسلام ، و يضعون أنفسهم تحت طائلة العقاب الشرعي في الدنيا و في الآخرة .

وعلى فـــرض أنهم اختاروا الامر الاول ، فانهم سيجدون صعوبة بالغة في تنفيذ الأوامر ، لان الذي لم يرب نفسه على تنفيذ الأوامر الصغيرة لا يستطيع ذلك في القضايا الكبيــرة ، و الذي يهرب اليوم من الحر و البرد ، و سهر الليل و مشاكل التدريب و ما اشبه ، كيفلا يهرب غدا من الحرب و القتال ؟!

اذن فعلى الانسان ان يربي نفسه على الطاعة و الانضباط و تحمل الصعاب حتى يكون على أتم الاستعداد نفسيا و بدنيا لتطبيق الأوامر الهامة .

[ أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ]

جاء في حديث مأثور عن الامام الصادق عليه السلام :

" يسلط عليهم سلطانا جائرا ، أو عذابا أليما في الآخرة " (1)(1) المصدر / ص 629


و الواقع : ان هناك رابطة وثيقة بين سيطرة الطغاة و بين مخالفة أوامر القيادة الشرعية .

[64] [ ألا إن لله ما في السموات و الارض قد يعلم ما أنتم عليه ]أي ان الله و بكل تأكيد يعلم بكل ما تفعلونه ، و هو قادر على محاسبتكم و مجازاتكم لانه مالك الكون و الوجود .

[ و يوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا و الله بكل شيء عليم ]و غدا يخبركم بكل ما فعلتم ، لان علمه محيط بالانسان ، و معرفة الانسان بهذه الحقيقة تجعلــه مســؤولا عن أقواله و أعماله ، فيعمل على اصلاحها و تحسينها ، ليكسب ثواب الله ، و يتجنب عقابه .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس