فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
الجهاد الكبير

[51] [ ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا ]

ان الله قادر على ان يبعث نذيرا في كل قرية ، و لكنه بالحكمة جعله واحدا لكلالبشر ، و ليس هذا دليل على عدم عظمة النذير ، و لا هو دليل ايضا على عدم أهمية الفئة القليلة الملتفة حوله من المؤمنين ، بل لعله يدل على العكس تماما .. و اذا كان القلب طاهرا و الأذن واعية يكفي نذير واحد للعالمين ، أما اذا كان في الآذان صمم و على القلوبرين فلا ينفع وجود المنذرين في كل قرية بل ولا في كل بيت .

[52] الكثير من المؤمنين يفقدون احساسهم بشخصيتهم ، و ثقتهم بذاتهم إذا وجدوا أنفسهم فئة قليلة ، فينهارون أمام ضغوط الكفار ، و هنا يحذر الله الرسول من هذه السلبية إذ يقول :

[ فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا ]

اي جاهد الكفار بسلاح القرآن جهادا لا هوادة فيه . و قد قال بعض المفسرين ان الجهاد الاكبر هنا هو جهاد الكلمة و الحجة ، و لكن السياق لا يدل على هذا التفسير ، لان التعبير في هذا المورد اشمل من ان يدل على جهاد الكلمة فحسب ، لان المؤمن حينما يرفض طاعة الكفار أو الاستسلام لأفكارهم و ضغوطهم ، فذلك يجره لخوض المعارك معهم مما يجعله يدخل الصراع بجهاد أكبر ، و من جميع الانواع و في مختلف الجبهات ، و لابد ان يعرف الكفار أن مخالفتهم للرسالة تعرضهم للخطر من موقعين ، من عند الله و من عند رسوله و المؤمنين . فلايحسبوا ان النعم التي خشوا زوالها بالايمان سوف تستمر لهم إن هم كفروا بالوحي ، كلا .. سوف يعلن الرسول جهادا كبيرا عليهم سواء بالكلمة الصاعقة أو بالسيف الصارم أو بوسائل ضاغطة أخرى .

و نتساءل ماذا تعني كلمة " به " هنا ؟ الجواب : ان القرآن ذاته نهج الجهاد الثقافي و السياسي و الاقتصادي و العسكري ، فالجهاد يتم بالقرآن شاملا متكاملا مستمرا .


[53] ولقد حذرنا الرب نفسه ، و ابلغنا واسع قدرته ، و ذكرنا بآياته في الخلق . افلا نخشاه ؟! دعنا نقرأ في كتاب الطبيعة اسماء ربنا العزيز المقتدر .. دعنا نخرق حجب الظاهر الى غيب الحقائق .. هذه المياه التي اقرب ما تكون الى الإمتزاج بها ، يجريها الرب فيمجاريها بحرين مختلفين هذا عذب فرات ، و هذا ملح أجاج ، و يجعل بينهما فاصلا يحجز هذا عن ذاك . أوليست تلك علامات القدرة و شواهد الحكمة ؟! فما اكثر من يتحدى ربا هذه آياته و تلك هي أسماؤه الحسنى .

[ و هو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات و هذا ملح أجاج و جعل بينهما برزخا و حجرا محجورا ]العذب هو الماء الحلو ، و الفرات هو احلى المياه ، و الملح هو الماء المالح ، و الاجاج هــو اشد المياه ملوحة ، و البرزخ هو السد الذي يمنع المائين من الاختلاط ببعضهما .

[54] [ و هو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا و صهرا و كان ربك قديرا ]و كما جعل الله الاختلاف في المياه ، جعل ذلك في بني البشر ، فالناس كلهم من ماء واحد ، و ارض واحدة ، الا أنهم يختلفون بالنسب و الصهر عن بعضهم ، فالبعض ينتسب الى الآخرين عبر النسب كالاب و الاخ و الابن .. الخ ، و بعضهم ينتسب للآخرين عبر التصاهر بالزواج .

[55] [ و يعبدون من دون الله مالا ينفعهم و لا يضرهم ]و تسأل : و هل عبادة الانسان للاصنام تضره أم لا ؟

بالطبع أنها تضره ، و لكن القرآن يقول : " و يعبدون من دون الله مالا ينفعهم و لا يضرهم " ذلك ان ما يضرالانسان عبادته للاصنام و ليس الاصنام ذاتها ،فالطغاة من الحكام ، و المترفون ، و المؤسسات الثقافية المضلة .. كل اولئك أصنام ، و الانسان هو الذي يلحق الضرر بنفسه عندما يخضع لهم ، و يؤيد الشيطان و الكفار .

ولولا خضوع البسطاء من الناس و استسلام اصحاب المصالح لما قامت للظلم قائمة . دعنا نقرأ معا حديثا حكيما في ذلك :

عن علي بن أبي حمزة قال : كان لي صديق من كتاب بني أمية فقال لي : استأذن لي على أبي عبد الله فاستأذنت له ، فلما دخل سلم و جلس ثم قال : جعلت فداك إني كنت في ديوان هؤلاء القوم ، فأصبت من دنياهم مالا كثيرا و أغمضت في مطالبه ، فقال أبو عبد الله (ع) : لولا أن بني أمية وجدوا من يكتب لهم ، و يجبي لهم الفيء ، و يقاتل عنهم ، و يشهد جماعتهم ، لما سلبونا حقنا ، و لو تركهم الناس و ما في أيديهم ما وجدوا شيئا إلا ما وقع في أيديهم ، فقال الفتى : جعلت فداك فهل لي من مخرج منه ؟ قال : إن قلت لك تفعل ؟ قال : أفعل، قال : أخرج من جميع ما كسبت في دواوينهم ، فمن عرفت منهم رددت عليه ماله ، و من لم تعرف تصدقت به ، و أنا أضمن لك على الله الجنة ، قال : فأطرق الفتى طويلا فقال : قد فعلت جعلت فداك . قال ابن أبي حمزة : فرجع الفتى معنا إلى الكـوفة فما ترك شيئا على وجه الأرض إلا خرج منــه حتـى ثيابه التي كانت على بدنه ، قال : فقسمنا له قسمة ، و اشترينا له ثيابا ، و بعثنا له بنفقة (1) .

[ و كان الكافر على ربه ظهيرا ]

ان من يعبد الطاغوت بخضوعه يظاهره و يعاونه ضد الحق ، و الا فبمن استطاع الطغاة التسلط على رقاب الناس ؟!


(1) بح / ج 75 - ص 375


1 - اليس بالصحفيين المأجورين و امثالهم ، ممن يتسكعون على عتبات القصور من أجـــل فتــات الخبز و فضالة الطعام ، ثم يلمعون اوجه الطغاة القبيحة بمقالاتهم السخيفة ؟!

2 - أوليس بالجنود المجندة من الشباب الذين يصرفون طاقاتهم في خدمة الطغاة ، بدلا من ان يكون كل واحد منهم قائدا في مجتمعه ؟!

3 - أوليــــس بالموظفين الذين أذلوا أنفسهم في دوائر السلطة كي يشبعوا بطونهم ؟!

4 - ثم الأهم من كل ذلك ؛ اليس بسكوت الناس عنهم ، و خنوعهم عن المواجة و الثورة ضدهم ؟!

اذن فالجريمة ليست من الطغاة وحدهم ، بل للشعوب المستسلمة نصيب وافر من المسؤولية أيضا .

[56] الرسول ينذر و يبشر و الناس يتحملون مسؤوليتهم . و اذا ساد الظلام أمة من الناس ينتمون ظاهرا الى رسالة الهية فلا يعني أبدا أن في رسالات الله نقصا .. بل أنهم هم المسؤولون لأنهم تركوا العمل الجاد بها ، و تحمل مسؤولية الثورة ضد الطغاة .

[ و ما أرسلناك إلا مبشرا و نذيرا ]

اذا تسلط الطاغوت ، فان البعض يحاول ان يلقي باللوم و المسؤولية على كاهل الحركة الاسلامية العاملة ، ثم ينتظرها تخلصه من هذه الازمة كلا و هذا خطأ .

فكما ليس من الصحيح ان ينتظر الناس الرسول أن يجاهد الطاغوت وحده ،ليس من الصحيح ايضا ان تنتظر الامة الاسلامية اليوم ، الطليعة الرسالية أن تقوم بهذا الدور ، ذلك ان دور الرسل كما الحركات الرسالية هو قيادة النضال و توجيهه ، لا القتال نيابة عن الناس ، كما كان بنو إسرائيل ينتظرون من نبيهم موسى (ع) فلما جاءهم و حملهم مسؤولية الجهاد " قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا و من بعد ما جئتنا " (1) .

فاعضاء الحركة الاسلامية يبذلون أقصى الجهود ، من كتابة ، و توزيع ، و مؤتمرات ، لفضح الطواغيت بابراز اعمالهم الاجرامية ، متحملين في سبيل ذلك التبعات ، من السجن و التعذيب و الاعدام ، حتى هتك الاعراض و الحرمات ، و لكن لا يجوز للناس ان يتفرجوا و ينتظروا الانتصار .

لان مسؤولية الطليعة من حملة الرسالة هي مسؤولية الرسول نفسها ، اي تبليغ الرسالة للناس و قيادة المعركة و على الناس المقاومة و الثورة ضد الفساد و الانحراف .

[57] [ قل ما أسئلكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ الى ربه سبيلا ]إن الرسل و من يمثلهم عبر التاريخ لا يطالبون الناس أجرا مقابل بما يقدمون لهم من خدمة البشارة و الانذار ، هذا فيما يخص الناس .

[58] أما فيما يخص الرسول و حملة الرسالة فان واجبهم السير في الطريق رغم الصعاب ، بالتوكل على الحي القيوم ، دون إلتفات لقلة الانصار حولهم ، أو مدى الطاعة و الرفض من قبل الناس .

[ و توكل على الحي الذي لا يموت ]


(1) الاعراف / 129


فاذا اعتمد البعض على قوة بشرية فان المؤمن يعتمد على الله الذي لا يموت وحده ، و لا يعتمد حتى على الانصار و الاصحاب ، فقد تزل قدم هؤلاء أو تعثر فييأس و يترك الجهاد .

[ و سبح بحمده ]

ان القيادة أو الطليعة الرسالية هم الاقلية في بدء الانطلاق ، و هم الغرباء عن واقعهم ، اذ يشعرون بالوحشة و هيبة الطريق ، كما يتحسسون الفراغ الاجتماعي ، و لكي يقاوموا هذه السلبيات فان عليهم التعويض عن كل ذلك بالارتباط المتين و العميق بالله سبحانه وتعالى ، لان ذلك يثلج صدورهم ، و يسكن روع قلوبهم ، فيعطيهم الثبات و الطمأنينة .

[ و كفى به بذنوب عباده خبيرا ]

يعني ان الله قادر على احصاء ذنوب الذين يتركون المؤمنين الحاملين للرسالة ، فلا تشغل الفئة المؤمنة نفسها باحصاء سلبيات و ذنوب الآخرين من المخالفين ، و لا تفكر في رفض الناس لها و لرسالتها ، وانما عليها المضي قدما على خطها ، تاركة ما يجري حولها الى الله ، فهو الذي يحصي ذنوب الناس و كفى به خبيرا بها .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس