بينات من الآيات
فسأل به خبيرا [59] يحدثنا القرآن الكريم في هذه المجموعة من الآيات عن أمرين متقاربين :
الأول : الايمان بالله .
الثاني : كيف يتجلى الايمان في سلوك الانسان الصادق . لتوضيح هذا الأمر لابد أن نتذكر أن هناك فرقا بين الايمان بالله و بين معرفته - حقا - لأن هناك درجات في مسيرة التوحيد و هناك مفارقات ينبغي ان نعرفها و هي كما يلي :
1 - فقد يكون الايمان اجماليا ، كما لو عرف الانسان أن وراء الاكمة أشجارا ، أو ان وراء الجبل غابة ، و ربما يؤمن بذلك عن طريق العلم بكثافة الامطار وراء الاكمة ، أو وجود الحيوانات المختلفة الآتية من وراء الجبل ، أو عن طريق مخبر صادق يثق به .
و قد يكون الايمان عرفانيا ، و ذلك حينما يدخل الغابة أو يشرف عليها من قريب ، و يزداد هذا العرفان كلما أحاط بما في الغابة من جزئيات .
2 - الذين يؤمنون بالله عبر آية واحدة من آياته ، قد لا يندفعون إلى السلوكالمتكامل الذي يصوغ الايمان العرفاني به شخصية المؤمنين . عبر معرفتهم بآيات الله المختلفة التي يرونها .
3 - اذا أراد الانسان اكتشاف حقيقة ايمانه ، و هل وصل الى درجة العرفان ، أم لايزال ايمانه بسيطا يخرجه عن حدود الجحود و الكفر فقط ، فان عليه أن يبحث عن آثار الايمان الصادق ، فاذا كانت موجودة بصورة كاملة على سلوكه و تصرفاته كان و إلا فلا .
لذا نجد القرآن يربط بين من يؤمن بالله إيمانا كاملا - و الذي ينعكس في صورة توكل علـــى الحي الذي لا يموت - و بين سلوكيات عباد الرحمن كما تصفهم الآيات الكريمة .
4 - كلما عرف الانسان ربه بالتقرب إليه من خلال العبادة ، كلما عرف نفسه بصورة أكمل ، فهاتان معرفتان متقابلتان ، و سبب المقابلة إن الله هو خالق الانسان ، فايمانه بالإله الخالق يدعوه للايمان بالعبد المخلوق . مما يجعله عارفا بمدى عبوديته و ضعفه ، أو محدوديته و ضيق أفقه ، و بين الأمرين ( معرفة الله ، و معرفة النفس ) تتنامى نحو التكامل الشخصية الايمانية لدى الانسان المؤمن .
كذلك يبصرنا القرآن بآيات ربنا المبثوثة في الآفاق ذكرى من بعد ذكرى فيقول تعالى :
[ الذي خلق السموات وما بينهما في ستة أيام ]
حينما يقف الانسان على ربوة تل ، فيرمي ببصره نحو الأرض الممتدة من تحته ، أو السماء الواسعة من فوقه ، فانه ينبهر بكل ذلك ، و هنا و في لحظات الانبهار بالذات ، عليه ان يجعل الانبهار سبيلا الى الايمان بالله ، فكلما وجد عظمة و قدرةو جمالا و روعة تتجلى في الخلق ، كلما تعمق ايمانه بعظمة الخالق .
و لعل خلق الله السماوات و الأرض في ستة أيام ، دليل على أنه يطورهما باستمرار ، حتى وصلت الى ما هي عليه الآن ، و هذا لا يدل على عجز الله ، بل يشير الى استمرار الهيمنة الالهية عليهما ، فلم يتركهما بعد الخلق لشأنهما سدى .
[ ثم استوى على العرش ]
وعلى هذا فهناك علاقة سياقية بين كلمتي " في ستة ايام " و " ثم استوى على العرش " حيث تشير الآية الى ان الذي خلق السماوات و الأرض يشرف عليهما و يدبر أمرهما .
و " ثم استوى " : أي هيمن على العرش ، و هو رمز التدبير بعد التقدير و الإمضاء بعد القضاء .
[ الرحمن ]
تتكرر كلمة الرحمن في مواضع كثيرة من هذه السورة ، و لعل الحكمة في ذلك ان الرسالة الالهية هي أعظم منة من ربنا علينا ، و ان السبيل الى الايمان بها يمر عبر الايمان بأن الله هو الرحمن ، و ان آيات رحمته في الخلق تجعلنا نثق بل نوقن انه لن يترك عباده في بؤر الجهل و الضلالة . تتجاذبهم شهوات المترفيـن ، و نــزوات المستكبريــن .
إذا فلنؤمن برسالته التي يشكل ارسالها أكبر شاهد على رحمته .
[ فسئل به خبيرا ]
أي فاسأل بهذا الأمر ( خلق السماوات و الارض و على مراحل متتابعةو متكاملة ) خبيرا ينبؤك به ، وهو - كما نعرف - من خلال الآية ، الله و جبرائيل (ع) فتكون هذه الآية مختصة بالنبي محمد (ص) .
و لعل المراد من الخبير كل عالم من علماء الفلك و الفيزياء و الكيمياء و غيرهم ممن توصلوا الى الاكتشافات العلمية التي تعرفنا بآثار رحمة ربنا سبحانه ، و بالتالي يكون هذا استشهاد بالعلم ، حيث يأخذ بأعناق المثقفين و المفكرين للايمان بآيات الله و الاعترافبالرسالة .
|