فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


عندما يتصور البشر ربه
[60] يتساءل الكفار : " و ما الرحمن " ؟ عندما يؤمرون بالسجود له ظنا منهم بأن الرسول يريد من وراء ذلك تعظيم نفسه ، و هذا سبب رفضهم الخضوع لله .

[ و إذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا و ما الرحمن أنسجد لما تأمرنا ]أي هل تريد التأمر علينا بفرض السجود ؟

إن المجتمع الجاهلي القائم في علاقاته الاجتماعية على أسس فاسدة ، كالعنف و الاستغلال لا يمكنه أن يؤمن برحمانية الله ، و هو يحسب ان العلاقات القائمة في الكون تشبه العلاقات القائمة بين أبناء البشر ، فالمجتمع الجاهلي إذا تصور الله فانما يتصوره حسب مزاجه النفسي المستوحى من الخيال ، أو من الوضع الاجتماعي القائم .

فعندما أراد المجتمع اليوناني تصور الله بادر مفكروه يضعون آلهة من التماثيل الحجرية و اللوحات الفنية المتضاربة ، فلكل إله جيش و شعب ، و عنده حدود و اقليم ، و يستخدم شعبه و جيشه في محاربة الآلهات الأخر .


و هذا الخيال يعكس التضارب القائم في ذلك المجتمع الاغريقي القديم ، فلأن وضعهم مليء بالصراع ، و علاقاتهم مشحونة بالبغضاء ، تصوروا الله كذلك يشاركهم في المزاج و الشعور ( تعالى الله عما يصفون ) .

و هكذا كان يصنع المجتمع العربي قبل الاسلام فكل حزب بما لديهم فرحون ، لذا جاء في الحديث المروي عن الامام الصادق (ع) :

" لو ان النملة تصورت ربها لتصورت له قرنين "فمادامت القضية لا تتجاوز التصور ، فان النملة تمتلك القدرة على تصور الرب ، و لكن من واقعها و شعورها .

و قد وقع بعض البسطاء من المسلمين في ذات الخطأ ، فقالوا : ان الله شخص عنده لحية بيضاء طويلة ، و يركب الحمار لينزل الى الارض في ليالي الجمع ، فكان بعضهم يضــــع حزمــــة علف علــى سطح بيته في كل ليلة جمعة ، حتى يأكل ما فيها حمار الله . ( سبحانه و تعالى عن الامثال ) .

و سبب هذه التخيلات خضوع الانسان لخياله المحدود عند تصور الله ، فيتصوره تارة مـن واقعه و طبيعته كانسان فيحسبه كذلك ، أو من واقع المجتمع و طبيعته تارة أخرى ، فينعكس الوضع الاجتماعي على تصوره لله ايضا ، فلأن علاقة المجتمع الجاهلي بالتجمع الايمانــي مادية فهي صلفة ، فانهم لم يكن بمقدورهم تصور الرحمة صفة من صفات الله ، فـــلا عجب ان يرفضوا أمر الرسول لهم بالسجود للرحمن . فقالوا : " و ما الرحمن " ؟

فهذا اسم جديد على واقعهم ليس بعيدا أن يستغربوا منه ، فواقعهم مشبع بالخوف والارهاب وما الى ذلك من الصفات المشينة .


[ و زادهم نفورا ]

لم يكن أمر الرسول لهم بالسجود لله الا لجمع شتاتهم . كي تشرق عليهم شمس الرحمة ، و تلفهم غمامة اللطف الالهي ، و لكنهم لعمق الاحساس بالارهاب و الخوف و ما أشبه من الصفات الرذيلة نفروا حتى من هذه الكلمة كما تنفر الابل المذعورة .

و يعبر هذا النفور عن مدى الجهل الغارقين فيه ، و الذي لا يزال جاهليي العصر يغرقون فيه أيضا ، و لا فرق بين الجاهليتين الا أن احداهما حديثة و الاخرى قديمة .

فلو نهض رسالي يدعو الشرق الملحد ، و الغرب المشرك للسجود للرحمن ، و اشاعة السلام و العدل في ارجاء المعمورة لردوا " و ما الرحمن " ؟ أيضا ، و ما ظلمهم الله و لكن أنفسهم يظلمون .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس