فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


عباد الرحمن بين السلوك و التطلعات
هدى من الآيات

في الغالب تلخص الآيات الأخيرة من السورة أفكارها ، لتزيدها ايضاحا و تبيانا ، و لتزرع في نفس القارئ ، خلاصة مركزة عما مر الحديث عنه .

وفي نهاية سورة الفرقان التي خصصت لبيان الرسالة و الوحي ، و الايمان بهما ، يوجز لنا الله عدة موضوعات هامة ذكرنا بها خلال السورة .

أولا : ليس الايمان بالرسالة كلمة تقال ، انما هو وقر عظيم و موقف حاسم يشعر كل فرد من افراد المجتمع بوطئه و خطورته .

ثانيا : ان المجتمع الذي تصنعه الرسالة بعيد عن السلطة ، فلا يتسلط فيه أحد على الآخر ، اذ لا خضوع لغير ولاية الله فيه ، اما الخضوع لولي أمر الله كالرسول أو الامام أو الفقيه العادل العارف فحقيقته خضوع و تسليم لله سبحانه . اذ لا يقدس المجتمع اشخاصهم ،و انما يقدس و يخضع للقيم التي يجسدونها .


ثالثا : ان هذا المجتمع تحكمه روح الاحترام المتبادل في العلاقة بين ابنائه ، فلا يقتلون النفس و لا يزنون .

و هناك علاقة بين قتل النفس من جهة ، و الزنا من جهة أخرى ، فكلاهما يعتبر نوعا من الاعتداء على كرامة الانسان ، و بالتالي فكلاهما قتل للنفس كما سنوضح ذلك في البينات .

وان الذين يفضلون سيادة سلطة غير الهية عليهم ، فلا يحترمون النفس البشرية ، و يفعلون الفاحشة سيلقون العذاب في الدنيا و الآخرة ، الى ان يتوبوا الى الله ربهم .

رابعا : في المجتمع الرحماني لا يظلم احد احدا ابدا .

و حتى لا يظلم الانسان غيره ، فان عليه الامتناع عن شهادة الزور ، و كثير من الذين يجدون جوا مناسبا للظلم تدفعهم شهواتهم و مصالحهم لارتكاب الجريمة ، و الاعتداء على حقوق الآخرين ، أما في المجمع الاسلامي فان الجو العام ، و القانون الالهي الحاكم لا يشجععلى الظلم أو البغي ، فلو فتش ظالم عمن يشهد في صالحه فسوف لن يبلغ مناه .

خامسا : الجدية من أهم مميزات المجتمع الايماني .

فهو بعيد عن اللغو ، الذي يكون عاملا من عوامل الانحرافات الاجتماعية الفكرية و غيرها ، كما اللامبالاة التي تعني العبثية و اللاهدف ، فيجب ان يكون المجتمع جديا في البحث عن اهدافه ، بعيدا عن اللغو واللامبالاة اللذان يجعلانه بعيدا عن الرحمانية ، قريبا من الجريمة و الانحراف .

وهذا المجتمع هو الذاكر الذي يتكامل بذكره لله ، إذ يجعل ذكره لخالقه معراجا لسموه المعنوي و المادي ايضا ، و بتعبير آخر هو الذي يجعله يعرج الى مستوى التحضرو التقدم ، فيصنع بذلك حضارة الايمان ، كما صنعها نبي الله سليمان منذ قبل .

سادسا : ان صفة التطلع من أبرز سمات المجتمع الاسلامي ، الذي يصفه القرآن في هذه السورة ، فبالرغم من اعتماد ابنائه على العناصر الفاضلة من الاسرة في تربيتهم ، الا أنهم لا ينسون تطلعاتهم الاجتماعية . اذ يطمحون لإمامة المتقين ، و تنتهي السورة بذكر الدعاء الذي هو رد التحية من البشر لرسالة الرب سبحانه .

يعني امامة افضل طبقة و فئة في المجتمع ، فقد يطمح الانسان ان يكون اماما و فقط ، اما عباد الرحمن فطموحهم قيادة الطليعة في المجتمع ، و هذا يدل على التطلع الواسع في البعد المستقبلي و الحاضر لأبناء المجتمع الإسلامي الرحماني .

فمن جهة يسعون لصياغة شخصية ابنائهم وفق المفاهيم الصادقة ، ليمتدوا عبر أولادهم كما أزواجهم عموديا في عمق الزمن .

ومن جهة أخرى فأنهم يسعون و جادين ايضا ليصبحوا قدوة لمن حولهم من الناس ، ليمتـــدوا أفقيـا عبر ابناء المجتمع ، الذي يعيشون فيه و في اوسع رقعة من المكان .

و هؤلاء بتطلعاتهم و سلوكهم هم الذين سيبنون حياة فاضلة في الدنيا ، و يجزون جزاء حسنا في الآخرة ، اذ يأمر الله الملائكة و الطبيعة ان يكونا مسلمين لهم ، و عندما تكون الملائكة و الطبيعة معا مسلمين لانسان ما ، فحينئذ لا يخشى هذا الانسان من شيء ، لانه يشعر و كأن رب الطبيعة و الملائكة و خالقها من جهة ، و ذات الطبيعة و الملائكة الموكلة بها من جهة أخرى ، يحبونه و يعينونه .

ذلك لان عباد الرحمن كانوا مسالمين مع أنفسهم ، و قد علموا ان دورهم بناء انسان رسالي فاضل انطلاقا من ذواتهم ، و أمة رسالية فاضلة انطلاقا من اسرتهم ،و حضارة اسلامية متقدمة انطلاقا من مجتمعهم ، و كل ذلك في اطار السنن و القوانين الرسالية الصحيحة .

و على العكس في كل ذلك من يرتكبون الجرائم و يقترفون الآثام ، فيضلوا أنفسهم و أسرهم و مجتمعهم ، ولا يصلون الى اهدافهم التي يطمحون اليها ، فتكون المعادلة عكسية انسان منحرف ، أمة متخلفة ، نهاية حضارة أو مدنية - كما وصل الى هذه النتيجة السابقون من الاقوام - قال تعالى :

" الم تر كيف فعل ربك بعاد * ارم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد * و ثمود الذين جابوا الصخر بالواد * و فرعون ذي الأوتاد * الذين طغوا في البلاد * فأكثروا فيها الفساد * فصب عليهم ربك سوط عذاب * ان ربك لبالمرصاد " (1) .

سابعا : في نهاية هذه السورة لفتة غريبة .

فســورة الفرقان التي بدأت بذكر القرآن معبرة عنه بالفرقان ، أي الميزان بين الحق و الباطـــل ، نجدها تنتهي بذكر الدعاء في قوله تعالى : " قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم " . فما هي العلاقة بين القرآن و الدعاء ؟

ربما يفسر هذه العلاقة حديث شريف يقول :

" اذا أردت ان يحدثك الله فاقرأ القرآن ، و اذا أردت ان تحدث الله فاقرأ الدعاء "فقبل ان ينتظر الانسان رسالة تنزل من الله عليه ، يجب ان يبعث رسالة الى الله(1) الفجر / 6 -14


عبر الدعاء ، فان الله يحب رسالة الانسان ، و يستمع اليها ، فهو الذي قال : " أمن يجيب المضطر اذا دعاه و يكشف السوء " و هو الذي قال : " و إذا سألك عبادي عني فاني قريب أجيب دعوة الداعي اذا دعان " و هو الذي يقول : " لبيك عبدي " اذا دعاه داع .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس