فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس

لهذه الآية تفسيران
الأول : هو أن موسى (ع) بشر كسائر الناس ، من حيث الذات و البنية الجسدية و النفسية ، و لذلك ساوره الخوف ، و الملاحظ أنه كلما تحدث القرآن الحكيم عن معجزات الأنبياء ، تحدث في ذات الوقت عن جانب من ضعفهم البشري ، كالخوف و العجلة و الجزع و الميل في اتجاهالضغوط ، إلا أن هذا الجانب سرعان ما يتلاشى بتاييد الله .

و ذلك حتى لا يظن البشر أن الاعجاز نابع من ذاتهم ، فيقدسونهم ويؤلهونهم ولكي يكونوا حجة على الناس و يقطع عنهم سبل الأعذار .

الثاني : إن موسى (ع) لم يكن خائفا على نفسه ، بل خشي أن يستأثر السحرة بقلوب الحاضرين فلا ينفعهم بعد ذلك إعجازه شيئا .

[ 68] [ قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى ]

و تدل هذه الآية على التفسير الثاني بما تحمل من تطمين لموسى بانه هو الغالب ، و هذا النوع من التخوف موجود لدى كل الرساليين ، فهم يخشون من وسائل الاعلام و الثقافة المضللة أن تفسد الناس ، ولكن عليهم أن يتغلبوا على خشيتهم بذكر الله سبحانه و تعالى ، وانيثقوا بأن أقلامهم النظيفة التي تبين الحقيقة تعادل ملايين الأقلام التي تكتب الزيف و الباطل ، لأن الحقيقة قوة تبتلع سحر المبطلين .

[ 69] [ و ألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا ]

و تقوم عصاك بابتلاع حبالهم ، و عصيهم التي صنعوها بما لها من وجود مادي وآثار نفسية .

[ إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث اتى ]

فكل الذي قاموا به لا يعدو ان يكون مجموعة من الخطط الماكرة الباطلة ، التي لا تلبث أن تنتهي بوهج الحقيقة ، كما الظلام ينهزم أمام النور ، و باستطاعة الانسان المتصل بالله أن يتجاوز تأثُيرات السحر الوهمية ، وهكذا فالسحر لا يؤثر فيمن يؤمن بالله حقا ، وقد قال عنه تعالى : " وما هم بضارين به من أحد إلا باذن الله " (1) ، كما إن ذات الساحر لا يفلح ، لأن عمله هذا يكرس فيه الانحراف عن خط الفطرة و الحياة في الدنيا ، و يسبب له العذاب في الآخرة .

[ 70] صحيح ان عاقبة الساحر هي الخسار ولكن متى ، مادام متمسكا بسحره و انحرافه ، أما اذا تاب و تمسك بالحق و الرسالة ، فان عاقبته ستكون الى خير ، وهذا يدلنا على إن عاقبة الانسان ، رهينة عمله ، لا لونه ولا جنسه .

وقد طلب موسى (ع) الى السحرة أن يكونوا أول الملقين ، حتى يكون أثر إنتصاره على فرعون عميقا في أنفس الجميع حتى السحرة ، حيث يصبح ذلك السحر الذي أكبروه قبل لحظات هباء منثورا .


(1) البقرة / 102 .


و بالفعل فقد جاءت النتيجة عظيمة إذ تجاوز الأثر الناس الى أعماق السحرة .

[ فألقى السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون و موسى ]

لقد كان التاثير بالغا ، بحيث وقع السحرة سجدا منهارين أمام نور الحقيقة ، فكأنهم ألقوا بغير ارادتهم ، وفي الآية إشارة الى هداية الله بأنها العامل الحاسم في سجودهم .

و السجود هو قمة العبودية و الخضوع أمام الله ، و لم يكن هذا السجود هيكليا إذ احتوى أسمى معانيه ، وهو الاعتراف بالعبودية لله .

و السؤال : لماذا يذكر الله هارون في هذه الحادثة ، مع أن موسى هو الذي واجه السحرة مباشرة ، وكان الحديث حتى الآن عنه وحده ؟

هناك سببان رئيسيان ؟

الأول : إن هــارون كان الناطق باسم موسى ، و هو معروف في أوساط المجتمع .

الثاني : هناك دائما قيادات ثانية تتمثل في الأوصياء و الصالحين ، و يقتضي الموقف السليم ، أن تبرزها القيادات العليا في اللحظات الحاسمة ، كلحظة الانتصار ، حتى يتأكد دورها في المجتمع ، و هكذا نجد في تاريخ الرسالة الإسلامية أن النبي (ص) أعطى الراية لعلي (ع) حتى حين دخلوا مكة فقال (ع) : " اليوم يوم المرحمة اليوم تصان الحرمة " ، كما إنه (ص) رفض دخول المدينة حتى يأتي علي (ع) ، و ذلك ليعرف دوره في أداء الرسالة .

[71] ولكن هل كان فرعون يقبل بالحق أو يعترف بالهزيمة ، أو حتى يسمح للآخرين بذلك ؟

كلا ..

[ قال آمنتم له قبل أن آذن لكم ]

لقد كان نظام فرعون قائما على الديكتاتورية المطلقة ، و نرى كيف أن الطغيان بلغ بفرعون حدا سلب الناس حريتهم في معتقداتهم .

ولكن الإيمان بالله يقاوم الدكتاتورية ، و يعطي الاستقلال ، فالتبعية التي وقع فيها السحرة إنتهت بمجرد إيمانهم بالله تعالى ، و الانسان إنما يكون تابعا بسبب إحساسه بالضعة ، فيعتقد أنه يقوي نفسه و يصبح عظيما حينما يربط مصيره بالطغاة و أصحاب القدرة ، ولكنه يثق بنفسه حينما يتصل بنبع الإيمان ، إذ يعطيه الإيمان العزة و روح الاستقلال .

و حينما أحس فرعون بانفصال السحرة عنه ، حاول أن ينتقم منهم ، فأخذ يبحث عن مبرر للانتقام فقال :

[ إنه لكبيركم الذي علمكم السحر ]

وهذا ديدن الطغاة مع المؤمنين ، و سائر أطراف المعارضة الحقيقية ، إنهم يلصقون بهم التهم الرخيصة ، لتبرر تعسفهم و ممارساتهم الجائرة بحقهم .

[ فلا قطعن أيديكم و ارجلكم من خلاف و لأصلبنكم في جذوع النخل و لتعلمن اينا أشد عذابا و أبقى ]وكان الصلب قديما يتم - فيما يبدو - بمد يدي الانسان على خشبة ، ثم يدقون فيها المسامير ، و هكذا أرجله و مواضع أخرى من بدنه ، و يظل على هذا الحال حتى يموت .

إلا إن فرعون هدد بقطع أرجلهم و أيديهم من خلاف ، زيادة في التعذيب ، وربما أراد التنكيل بعوائلهم ، و تشويه سمعتهم بعد موتهم ، إذ قال : " و لتعلمن أينا أشد عذابا و ابقى " .

[ 72] ولكنهم صمدوا امامه بصلابة الايمان ، و هكذا ينبغي أن يكون المؤمن أمام الطغاة صلبا شديدا .

[ قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات ]

أي أكتشفنا الحقيقة ، ومن يكتشفها يعشقها ، و أقسموا :

[ والذي فطرنا ]

تأكيد لقرارهم و دعما لموقفهم ، وإنه الموقف الحاسم ، و أضافوا ردا على تهديداته :

[ فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا ]

و هكذا يجب أن يكون المؤمن مستعدا لتحمل تبعات إيمانه و إستقلاله .

ولكن السؤال : كيف بلغ هؤلاء السحرة و بهذة السرعة الى هذه القمة السامقة من الإيمان و الجهاد ، حيث ألقوا بكلمة الحق أمام السلطان الجائر ، و حيث ءامنوا ذلك الإيمان العميق بالآخرة ؟؟!


و الإجابة كالتالي :

أولا : إن الحقائق تبقى غامضة إلى أن يتصل القلب بالحقيقة الكبرى في هذه الحياة ، و التي تتجلى في معرفة الرب ، فاذا عرف الانسان ربه ، ذابت عن قلبه جبال الجليد المتراكمة فوق قلبه ، فرأى الحقائق بوضوح كاف .

أوليس الله سبحانه خالق السماوات و الأرض ، و مبدىء الخلائق جميعا ؟ كذلك معرفته أول كل علم و ينبوع كل معرفة .

و هــؤلاء السحــرة حينــما آمنــوا باللــه صار بديهيا أن يتيقنوا بالبعث و الجزاء و .. و ..

ثانيا : عندما يكون طريقه للإيمان بحقيقة معينة مليئا بالعقبات و الضغوط ، و لكن يصر الانسان على تجاوزها فيختصر المسافة الى الإيمان الخالص ، الذي يصعب الحصول عليه في الظروف الطبيعية .

و السحرة ، حينما آمنوا بالله ، كانوا قد اسقطوا حواجز الإغراء و الارهاب الفرعونــي ، و تنازلــوا عــن المكانــة الاجتماعية ، و اقتلعوا أنفسهم من حضيض الدنيا ، و .. و ..

وبالتالي و صلوا الى هذه المرتبة العليا ، بلى إن مجرد إيمانهم في تلك الظروف كان يعني تحديا لسلطات الشهوة و القوة ، بكل أبعادهما ، فطوؤا كل المراحل في لحظة عظيمة تجلى الرب فيها لقلوبهم ، بعد أن استعدوا للتضحية بكل شيء لله ، و للحق الذي شاهدوه بأعينهم .

ثالثا : لأنهم عبدوا الطاغوت لبعض الوقت ، و لعلهم كانوا قد عرفوا ، بوحي ضميرهم ، و دلالة عقولهم : إنهم مجرمون ، لانهم يؤيدون مجرما قذرا جبارا في الأرض ، فكانت عقدة الذنب تلاحقهم ، فلما آمنوا كانوا يبحثنون عما يطهرهم و يغسل ذنبوبهم الكبيرة ، و يشهدعلى هذا التفسير الثالث ، السياق ، و هكذا حينما تجلت الحقيقة في عصا موسى (ع) لم يتمالك السحرة أنفسهم فألقوا ساجدين ، نعم .. لقد آمنوا بالآخرة و تيقنوا من البعث و الحساب فاستهانوا بالدنيا ، حتى صار تنازلهم في سبيل القيم أمرا هينا ، ثم استدركوا :

[ 73] [ إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا ]

ولو كان هذا الإيمان ، و هذه الأمنية بالغفران ، يكلفنا العذاب و الصلب ، وهذا هو الإيمان الحقيقي ، الإيمان الذي يستعد صاحبه لكل شيء إلا التنازل عنه .

و مع إنهم يطلبون الغفران بشكل عام ، إلا أنهم يخصصون خطيئة السحر ، لانهم أدركوا أبعادها السيئة أن يخدم الانسان نظاما فاسدا ، و يكون و سيلة له لمواجهة الرسالة و المؤمنين ؛ قالوا :

[ وما أكرهتنا عليه من السحر ]

بسبب إغراءاتك و تهديداتك ، و خططك الماكرة .

[ و الله خير و أبقى ]

ردا على مقولة فرعون تحديا : " أينا أشد عذابا و أبقى " .

قالوا : كلا .. الله - و لست أنت - خير و أبقى .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس