بينات من الآيات
ما هي العصمة ؟ [24] هل الانبياء معصومون بذاتهم أم بارادة الله و روح الارادة ؟
لأن الانبياء بشر يميلون بطبعهم نحو الرذيلة كأي بشر آخر ، يذوق جسدهم ألم الجوع و الارهاق و الضرب و العذاب ، كما تتحسس قلوبهم بالم الغربة و بضغط الشهوات المكبوتة ، و لكن لأنهم موقنون و يعصمهم الله بروحه فانهم يتجاوزون انفسهم بسرعة ، و آيات القرآن التي تعكس هذه المفارقة في حياة الانبياء كثيرة ، و لا يكاد نبي مذكور اسمه في الكتاب يخلو عن حالة صعبة اجتازها بتوفيق الله ، و لولاه و لولا روح الايمان لتردى كأي بشر آخر - حاشا لله - و يوسف واحد من هؤلاء البشر الكرام ، المعصومين بروح الله ، فلأنه انسان مكتمل الشخصية البشرية كان يهم بها ، و لأنه موقن و معصوم فقد رأى برهان ربه .
و من هنا نعلم ان هم يوسف لم يتم عمليا بل كان هما بالقوة ، فلولا برهان ربه المانع من همه بالمعصية لكان قد هم بها ، و التعبير القرآني يبين بلطف عجيب هذه المفارقة في آية اخرى حيث يقول ربنا عن النبي محمد صلى الله عليه و آله : " و لولا أن ثبتناك لقد كدت تركن اليهم شيئا قليلا " . (1)
(1) الاسراء / 74
و هنا يشير التعبير بدقة الى ذلك حيث يقول ربنا :
[ و لقد همت به و هم بها لو لا أن رأى برهان ربه ]
فبرهان ربه الذي رآه ببصيرته منعه من إرادة المعصية ، و لكنه من دون هذا البرهان كان يهم بها و يريدها و أساسا الهم : هو العزم على الفعل ، كما قال ربنا : " إذ هم قوم أن يبسطوا اليكم أيديهم " . (1)و ربما يستخدم الهم في الأمر الذي يريده الانسان و يجد امامه مانع منه ، كما قال الشاعر :
هممت و لم أفعل و كدت و ليتني تركت على عثمان تبكي حلائلهو منه قوله تعالى : " إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا و الله وليهما " . (2)و يبقى السؤال : ماذا رأى يوسف حتى تجاوز الفحشاء ، و بتعبير آخر : ما هو برهان ربه ؟
أولا : البرهان هو السلطان ، ويراد به السبب المقيد لليقين لتسلطه على القلوب كالمعجزة قال تعالى : " فذانك برهانان من ربك الى فرعون و ملأه " . (3)و قال : " يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم ". (4)(1) المائدة / 11
(2) آل عمران / 122
(3) القصص / 32
(4) النساء / 174
و قال : " أ إله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين " . (1)" و هو الحجة اليقينية التي تجلي الحق و لا تدع ريبا لمرتاب " على حد تعبير تفسير الميزان .
ثانيا : ان يوسف عليه السلام ، كان صديقا ايقن قلبه ان جماله من الله ، و هو الذي أعطاه القوة و مكنه في الأرض ، و أن من كفر بأنعم الله لا يفلح ، و بسبب إيمانه الصادق بهذه الحقائق أدركه في ساعة المحنة ايمانه ، و بلورت المعاناة شخصيته التي عجنت بروح الايمان و التقوى ، فظهر له برهان ربه و حجته البالغة في تلك اللحظة الشديدة من صراعه مع طبيعته و مع مجتمعه المتمثل في قوة ربة بيته ، فكان كمن قد رأى البرهان واضحا أمامه .
و هكذا المؤمنون الصادقون يتذكرون ربهم كلما مر بهم طائف من الشيطان ، و تعرضوا لتجربة صعبة فيتركون المعصية ، بينما يغط غيرهم في غفلة شاملة .
ان اللحظات الصعبة في حياة الفرد تستخرج دفائن نفسه ، و خبايا ذاته ، و سرائر عزيمته ، فالمؤمن يزداد ايمانا ، بينما غيره يفشل في التجربة .
و من هنا كان على الفرد ان يعمل عملا صالحا ليزداد ايمانا فينتفع به في ساعات صراعه الحاسم مع الشهوات أو ضغوط المجتمع حيث لا ينفع المرء إلا ذخائر إيمانه .
[ كذلك لنصرف عنه السوء و الفحشاء إنه من عبادنا المخلصين ]وقد جاء في الحديث : " ان برهان ربه كانت النبوة " كما جاء في حديث(1) النمل / 64
آخر : " ان زليخا قامت و ألقت ثوبا على صنم كان في البيت استعدادا لفعل الفحشاء ، فقال يوسف لها : ان كنت تستحين من الصنم ، فانا أحق أن أستحي من الواحد القهار " . (1)المفاجأة :
[25] و تسابقا نحو الباب ، و أخذت زليخا قميص يوسف تمنعه ، و اشتد يوسف فشق قميصه من خلفه ، و عند الباب كانت المفاجأة حيث دخل العزيز و هو سيدها المفروض عليها طاعته كزوج ، فاختلقت تهمة و نسبتها اليه .
[ و استبقا الباب و قدت قميصه من دبر و ألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم ]أي هل جزاء المعتدي على شرف أهلك غير السجن و التعذيب .
[26] و رد يوسف التهمة بقوة .
[ قال هي روادتني عن نفسي ] .
فهي التي طلبت مني الفاحشة فلم استجب ، و كان هناك شخص ثالث من أهل المرأة عرف القصة و قضى بأنه لو كان شق القميص من خلف فهي المسؤولة لانها التي أخذت قميصه من الخلف و الا فهو المسؤول .
[ و شهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت و هو من الكاذبين ](1) البرهان ج 2 ص 421
[27] و إن كان قميصه قد من دبر فكذبت و هو من الصادقين ]أي انها هي الكاذبة وهو الصادق .
[28] و نظر السيد فاذا القميص قد شق من خلف .
[ فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم ]أي ان الذي حدث إبتدأ من النساء باعتبار انهن ذوات كيد عظيم .
و الكيد هو طلب الشيء بما يكرهه ، كما طلبت المرأة يوسف بما يكرهه و يبدو أن في الآية إشارة الى أن ابتداء الفاحشة من المرأة ، إذ أنها فتنة للرجل ، و عليها ألا تظهر فتنتها عليه .
[29] ثم وجه العزيز خطابه الى يوسف (ع) و أمره بالسكوت و الاعراض عن القضية و عدم فضح امرأته بما فعلت ، و اكتفى بدعوتها بالاستغفار لخطئها .
[ يوسف أعرض عن هذا و استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين ]و يبدو من هذه الآيات ان الفاحشة كانت شائعة في ذلك البلد ، و انها لم تكن قبيحة الى تلك الدرجة بسبب سلب الغيرة منهم ، و إلا فكيف يسكت الزوج عما رآه من زوجته رأي العين من مراودة فتاها ، بل يأمر الفتى بالاعراض عن الأمر و عدم مطالبتها بعقابها .
|