فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
خط الرسالة :

[ 74] رسالات الله تشكل خطا مستمرا عبر العصور ، كما ان الجاهلية التي تقف امام الرسالات تشكل خطا ثابتا في جوهره ، و علينا البحث عن خط الرسالات الذي يجسد اليوم واقع الرسالات السابقة بجوهرها فننتمي اليه .

[ ثم بعثنا من بعده رسلا الى قومهم فجاؤهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل ]كما الرسالات خط ، فالجاهلية خط مستمر معها ، فان قوم نوح كذبوا رسالته ، و كذب قوم ابراهيم برسالته لماذا ؟

لأشتراكهم جميعا في دوافع التكذيب ومنها الاعتداء الذي هو تجاوز الحقوق ، و الاسراف في النعم ، والذي جاءت رسالات الله من اجل انقاذ البشر منه ، و كما جاء في آية قرآنية اخرى حيث قال سبحانه : " لقد ارسلنا رسلنا بالبينات * و انزلنا معهم الكتاب ليقومالناس بالقسط " (الحديد / 26) .

فاقامة القسط و العدالة في الأرض هدف الرسالات الالهية ، كما ان منع الاسراف في الشهوات و توجيه الغرائز ، و بالتالي مقاومة ما يسمى بالظلم الذاتي هدف آخر للرسالات ، و طبيعي في هذه الحالة ان يقف المعتدون الظالمون للناس أو لأنفسهم أمام الرسالة ، ذلك لأنالظلم ظلمان فظلم في القلب ، و ظلم في السلوك السيء ينعكس سلبيا على النفس ، و يحجب عنها نور العقل .

[ كذلك نطبع على قلوب المعتدين ]


فالمعتدون تنغلق قلوبهم عن الاهتداء ، و هذه سنة من سنن الله سبحانه .


موسى و فرعون النموذج البارز :

[ 75] وكمثل على هذه الحقيقة يستشهد به القرآن الحكيم ، ليعطينا رؤية واضحة تجاه ما يمكن ان يكرر يوميا في حياة الناس ، كمثل عليها قصة موسى و هارون (ع) الذين بعثهما الله برسالاته الى فرعون الطاغوت و ملأه ، أي كبار معاونيه المفسدين في الأرض ، ولكن بسبب ممارستهم الجريمة ، و الظلم و الاعتداء ، و بسبب انعكاس سلوكهم الفاسد على فكرهم ، استكبروا عن قبول الرسالة .

[ ثم بعثنا من بعدهم موسى و هارون الى فرعون و ملائه باياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين ][ 76] كيف أستكبروا ؟ وهل اعترفوا بالحقيقة وهي أٍن ظلمهم للناس ، هو سبب استكبارهم وضلالتهم ؟ كلا .. بل برروا رفضهم للرسالة بتبريرات باطلة ، مما يمكن ان يتكرر في كل عصر .

[ فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا ان هذا لسحر مبين ]انهم رفضوا التسليم للحق الذي هو من عند الله خالقهم ، والذي كان واضحا لا ريب فيه ، ونسبوا الحق الى السحر ، و الناس البسطاء لا يميزون بين السحر و الرسالة ، إذ كلاهما خارق لعاداتهم ولا يعرف الناس مغزاهما ، لذلك تلبس الامر على الناس ، وهكذا اضلوا الناس، وكذلك يمكن ان يتكرر الأمر مع الناس في كل عصر ، فالطاغوت و ملأه حين يخالفون الحق لا يعترفون بالدوافع الحقيقة لمخالفتهم من استكبارهم ، و تمرسهم بالجريمة و الظلم ، بل يتهمون الحق ببعض التهم التي تضلل الناس البسطاء و تفتنهم ، و تلبس الحق بالباطل و تشبهالرسالة بالسحر ، و الثورة


بالفوضى ، و الاصلاح بتعكير صفو الأمن ، و المطالبة بالحرية و المساواة بالهرطقة و التمرد على القيم هكذا .

فعلى الناس ان يتسلحوا بالوعي الكافي للتميز بين الاقوال التي ينطق بها أصحاب الرسالة ، او انصار الطاغوت ، ولا يرفضوا الرسالة ابالتأثر بالشبهات التي تثيرها اجهزة الطغاة ضدها ، وهذا من عبر القصص القرآنية حول الرسل .


الرد الرسالي :

[ 77] وكما كانت شبهة الطغاة حول الرسالة متناسبة مع بساطة الجماهير ، فان رد هذه الشبهة من طرف الرسل كان بلغة مفهومة لدى الجماهير الساذجة ايضا ، مما كشف زيف الشبهة لهم .

[ قال موسى اتقولون للحق لما جاءكم اسحر هذا ]

فلقد نفى موسى ان يكون كلامه سحرا ، و أوضح انه حق ، والحق واضح المعالم بعيدا عمن ينطق به ، فاذا جاءكم الحق سواء عن طريقي او بطريق اخر ، لابد لكم ان تقبلوه و تطيعون ، وربما تشير الاية الى ان الحق هذا كان مقبولا عندهم اذا بقي بعيدا عنهم ، فكل الناس حتى الطغاة منهم يتفوهون بالحق و يعتقدون به ، بل يطالبون الاخرين بتحقيقه ، فمن الذي لا ينطق بالعدالة ولا يطالب بالتقدم و التطوير ؟!

ولكن اذا جاءه الحق و عارض مصالحه ، رفضه و نسبه الى السحر ، بينما الحق نفسه لما كان عند غيره كان مقبولا ولا يسمى بالسحر ، اوليس هذا الدليل البسيط و المفهوم عند الناس كافيا لدحض شبهتهم ؟

ولم يكتف موسى بهذا الدليل بل تابع مضيفا :


[ ولا يفلح الساحرون ]

مؤكدا انه يرفض مهنة السحر ، بينما السحرة يفتخرون بها ، وهذا وحده كاف للدلالة على أنه غير ساحر ، ثم ان الساحر لا يبلغ اهدافه لأنه لا يتبع الحق ، بل يجري وراء مصالحه و تراه في صف الظالمين و الطغاة ، ولا يتسم سلوكه الشخصي بالقيم الانسانية ، بل تجده عادة متوغلا في الرذائل المنبوذة عند الناس ، و بالتالي تجد الساحر بسبب مواقفه السياسية و سلوكه الشخصي مكروها عند الناس ، ولا يقدر على تحقيق أهدافه من أمامة الناس ، و قيادة المجتمع ، بينما الرسول يدعو الى فطرة الحق ، و يقف الى جانب المستضعفين ، و يطبق تعاليم السماء في توجيه الناس الى الخير ، و سلوكه الشخصي سلوك مثالي ، مما يجعله قريبا الى قلوب الناس ، قريبا الى تحقيق اهدافه منتصرا سعيدا ، وهذا واضح للناس جميعا ، فالناس انى كانوا راوا أو سمعوا المصلحين وفي طليعتهم الرسل ، وعرفوا السحرة انئذ يمكنهم انيعرفوا الفرق بين هذين الطرازين من الناس ، بأدنى توجيه و تذكرة .


النخوة الجاهلية :

[ 78] و حــين زهق باطل الطغاة ، عاند القوم و اثاروا في الناس نخوة الجاهلية ، و الخوف من الاصلاح .

[ قالوا اجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه اباءنا ]

فنحن قوم متحضرون ذوو تقاليد قديمة كيف نؤمن بكم وانتم ضدها ؟!

[ وتكون لكما الكبرياء في الارض ]

فانتما لستما من رسل الحق بل من طلاب المنصب ، وهذه تهمة مباشرة للشخص ، بينما موسى كان يوجه الحديث الى محتوى الرسالة ، وهذا التغيير هو منعادة الطغاة ، حيث يحولون الصراع بينهم و بين أصحاب الدعوة الى صراع شخصي بينما هو صراع فكري لذلك .

[ وما نحن لكما بمؤمنين ]

وكأن موسى و هارون دعوا قومهما بالايمان بهما دون الرسالة .

وهكذا انتهت مرحلة البلاغ ، و جاء دور الصراع السياسي الذي نقرؤه في الدرس القادم بأذن الله تعالى .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس