فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
الوفاء بالعقود :

[ 1] يجب الوفاء بالعقد أي تطبيقه تطبيقا تاما ، حسب ما تراضى عليه و تعاهدا به الطرفان و العقد : هو العهد و الميثاق أو هو الالتزام المتبادل حيث يلتزم كل طرف بشيء في مقابل التزام الطرف الثاني بما يقابله .

و مبدأ وجوب الوفاء بالعقد وجوبا شرعيا ، لانه يلزم صاحبه حقا من حقوق المجتمع . ان هذا المبدأ يجعل كل عقد مشروعا سواء كان تجاريا أو غيره ، وسواء كان عقدا معروفا بين الناس في عهد الاسلام الاول أم لا ، كما يجعل هذا المبدأ التشريع الاسلامي يواكب تطوراتالزمن .


[ يا أيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود ]

ولعلنا لانجد في كتب القانون و الفقه كلمة موجزة كهذه الكلمة تفيض بعشرات الاحكام و القوانين العامة ، وربما جاء التعبير بـ " يا أيها الذين ءامنوا ".

للايحاء بأن الوفاء بالعقود يدخل ضمن ركائز المجتمع المؤمن ، وكأنه يقول : أيها المجتمع المؤمن عليك الوفاء بالعقود .

و مبدأ الوفاء بالعقود يوحي بحرية التجارة الا ان بقية الاية تحدد هذه الحرية باطار التشريع الاسلامي العام الذي يحل اشياء ، و يحرم اخرى .

[ أحلت لكم بهيمة الانعام ]

أي الانعام التي لا تفهم شيئا ، هي حلال عموما إلا بعض المستثنيات .

[ إلا ما يتلى عليكم ]

ومن هذه الاستثناءات :

[ غير محلي الصيد وانتم حرم ]

أي الاصطياد في حالة الاحرام ، أما الصيد في غيرها فهو جائز و يوجب الملكية .

[ ان الله يحكم ما يريد ]

وعلينا الا نتصور أننا أحرار في شؤوننا نختار النظم التي تعجبنا .. كلا . فالحاكم هو الله وحده .


اذا هناك حرية و انطلاق في الاسلام . في حرية التعامل التجاري و حيازة المباحات ، ولكن في حدود الارادة العليا لخالق الكون ، و المصلحة العليا للانسانية وفي الايات تفصيل مبين لهذه القضايا .


أنواع الأحكام :

[ 2] ما هو الحكم الذي يفرضه الله حسبما يريد ؟

يضــرب الله لنا مــثلا واقعيا لهذا الحكم فيقول : ان أحكام الله الاجتماعية نوعان :

الف / هناك أحكام تحافظ على أمن الناس ، و تصون حريتهم ، و تعطي لكل انسان فرصة للانطلاق وذلك مثل اقامة أماكن حرة تنحسر عنها الاعتداءات بأي مبرر كان فلقد جعل الله - الكعبة البيت الحرام - و فرض فيه السلام و الأمن ، و أعطى الحرمة و الحصانة لكل من دخله لكي يستطيع القادمون من تبادل التجارة و تداول الافكار و التعارف على بعضهم ، و بالتالي التعاون في سبيل الخير .

ان الهدف من هذا النوع من الأحكام هو حفظ الناس من شرور بعضهم و فسح المجال أمام كل الطاقات ان يساهم في بناء المجتمع .

باء / وهناك نوع من الاحكام تنظم علاقة الانسان بالطبيعة و الهدف منها صيانة البشر من أضرار الطبيعة ، وذلك مثل حرمة الميتة و الدم و لحم الخنزير وما أشبه .

وعن النوع الاول يحدثنا الله سبحانه قائلا :


[ يا أيها الذين ءامنوا لا تحلوا شعائر الله ]

أي لا تجلعوا الشعيرة التي جعلها الله حراما ، احلالا و الشعيرة هي البهائم التي تساق الى بيت الله يحرم الاعتداء عليها بالسرقة أو النهب ، أو انها الحج نفسه وفيما يلي توضيح ذلك .

[ ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ]

أي لا يعتدي بعضكم على بعض في الشهر الحرام ، ولا يسرق أو ينهب أحدكم الهدي الذي أختص بالكعبة ، ولا تأكلوا البهائم التي تقلد برقابها قلادة للدلالة على انها تساق الى بيت الله .

غرض كل هذه الاحكام هو تبين حرمة الكعبة على الناس ، وهي مقدمة لفرض جو من السلام على ربوع تلك البلاد المقدسة ، وعلى الطرق المؤدية اليها من كل أفق بعيد ، لذلك قال الله بعدئذ :

[ ولا آمين البيت الحرام ]

أي الذين يقصدون زيارة البيت الحرام ، فلا تعتدوا عليهم ولا تحلوا حرمتهم ذلك لانهم يهدفون رزق الله ورضاه .

[ يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا ]

أي انهم لا يريدون سلب أموال الناس ولا إلاعتداء على حقوقهم ، بل يريدون الحصول على رحمة الله المتمثلة في حيازة المباحات ، أو التبادل التجاري ، كما أنهم لا يهدفون الخروج على الانظمة الاسلامية بالحصول على مكاسب غير مشروعة بل يبتغون رضوانا من الله ، منهنا نعرف ان الذين يقصدون من وراء


الحج أكل أموال الناس بالباطل أو مخالفة أحكام الله فإنهم لا حرمة لهم .

ان الطبيعة واسعة وبأمكان الجميع ان ينتفعوا بها دون مزاحمة الاخرين ، واذا استل من قلــوب الناس الاحقــاد و روح الاعتداء ، استطاع الجميع الاستفادة من نعم الله . بيد ان هذه الاحقاد تاتي عادة بسبب ردة الفعل ، فكل طرف يتصور أنه ليس هو المبتدء بالاعتداءوانما يقتص ممن أعتدوا عليه باعتداء مماثل وهذا هو الذي يقف حاجزا أمام تعاون الجميع .

وعلى الجميع ألا يدفعهم الاعتداء على مضاعفة الرد ( الصاع بصاعين ) ، ولا ان يخرجهم من حدود العدالة ، وانئذ فقط يمكن للجميع أن يتعاونوا .

[ واذا حللتم فاصطادوا ]

ان الله جاء بهذا التمهيد لتوجيه الانسان الى نعم الله الواسعة ، وإبعادهم عن النظر الى أموال بعضهم ولذلك لم يلبث ان قال :

[ ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام ان تعتدوا ]أي لا يحتم عليكم اعتداء الاخرين عليكم مقابلتهم بالمثل ، وذلك بأن تعتدوا عليهم قصاصا على أنهم منعوكم عن المسجد الحرام ردحا من الزمن . كلا .. ان شنآن هؤلاء و عداوتهم لكم يجب الا تخرجكم من اطار العدل بل العكس من ذلك . عليكم ان تهدفوا تحقيق التعاون .



التكتل الايماني :

[ وتعاونوا على البر و التقوى ولا تعاونوا على الإثم و العدوان ]هنالك تكتلات عدوانية الهدف منها ظلم الناس واستغلالهم مثل تكتل التجار المحتكرين ضد المستهلكين ، وتعاون الانظمة الجائرة ضد الشعوب المستضعفة ، وهذه لعنة سوداء ..

وهناك تكتلات تهدف إشاعة الخير ، وتطبيق النظام . أما إشاعة الخير - فهي البر - وليس البر أن تسعد على حساب غيرك ، بل أن تسعد و يسعد الجميع معك .

وأما النظام وتطبيقه فهو التقوى اذ هو الحذر من الله ، واتقاء بلائه ، وهو لا يكون إلا بتطبيق نظامه الذي أوحى به الى رسله ، ومراعاة سننه التي أركزها في الطبيعة ، و بتعبير اخر يجب ان يكون الهدف من التعاون اشاعة الخير و مقاومة الشر انى كان مصدرهما .


ويضع القرآن في مقابل البر الاثم ، وفي مقابل التقوى العدوان فالاثم هو دالحصول على أموال الناس بالخديعة ( الغش - السرقة - الاحتكار - التعاون مع السلطات الجائرة - الحلف الكاذب ) .

بينما العدوان : هو الاستيلاء على حقوق الناس بالقوة ، وبلا أي غطاء .

[ واتقوا الله ان الله شديد العقاب ]

ومن أنواع عقابه الشديد أن يضرب بعضكم ، بعضا ، ويشعل بعضكم نار حرب بعض على بعض فيحترق الجميع .

أو إنكم بتحالفاتكم العدوانية يخشى بعضكم بعضا ، فيتوجه الجميع الى صناعة السلاح و يضع الميزانيات الرهيبة لغرض التدمير ، فتمتص ميزانيات التسلح ثرواتكم وتحرق جذور السعادة و الرفاه ، فتصبحون على ما فعلتم نادمين .


أوليس هذا بعض ما يعيش فيه العالم ؟!

افلا يرجعون الى هدى الله ؟! والى متى ؟!

[ 3] لكي يسعد المجتمع لابد ان تنظم علاقاته ببعضه على أساس ثابت من العدل و التعاون ، كما لابد أن تنظم علاقته بالطبيعة بحيث لا تضره شرورها . وقد بين القرآن في هذه الاية جانبا من تنظيم علاقة الانسان بالطبيعة ، و بالذات جانبا من العادات المحرمة التي كانت شائعة في المجتمع الجاهلي انئذ فقال :

[ حرمت عليكم الميتة و الدم و لحم الخنزير ]

لانها كلها تضر بصحة الانسان .

[ وما أهل لغير الله به ]

أي كل ذبيحة ذبحت على غير إسم الله .

[ والمنخنقة ]

الذبيحة التي قتلت خنقا وليس ذبحا .

[ و الموقوذة ]

وهي التي ضربت بآلة غير حادة حتى ماتت ( كأن ضربت بصخرة ) .

[ والمتردية ]

التي وقعت من عال فماتت .

[ والنطيحة ]


التي نطحتها البهائم حتى ماتت .

[ وما أكل السبع الا اما ذكيتم ]

وما تبقى من فضلاته الا اذا جرحها السبع وقبل ان تموت استطعتم ذبحها بالطريقة الشرعية .

[ وما ذبح على النصب ]

من أجل إرضاء الاصنام التي لا تضر ولا تنفع فعليكم اجتنابه لانه يمتزج بعبادة الاصنام ، و بالتالي بالشرك .

[ وأن تستقسموا بالأزلام ]

تلك العادة التي كانت في الجاهلية حيث كان يجتمع طائفة من الناس و يساهمون في شراء شاة ثم يقسمونها بينهم لا حسب سهامهم بل حسب الأزلام حيث توضع أخشاب مختلفة في كيس أو في بطن صنم ثم يسحب كل واحد نصيبه ، فإذا خرجة له خشبة معينة يأخذ نصف الذبيحة ، واذا خرجت اخرى لا يأخذ منها شيئا ، أو يأخذ الرأس فقط ، وهذا نوع من أنواع القمار المحرم .

ان الذبيحة تحرم في هذه الحالة اذا كانت قد ذبحت باسم الصنم الذي يقترع في بطنه على نصيب كل واحد من المشركين .

[ ذلكم فسق ]

وعمل محرم يخرج الانسان عن حدود التقوى ، بل عن حدود الايمان اذا كان بهدف التقرب الى الاصنام ، و بالتالي اذا كان العمل ذا خلفية شركية .


وإذا كان الجاهليــون قد تعــودوا على هذه العادات السيئة فعلينا مقاومتهم وٍإياها ، و عدم التنازل لهم فيها ، ذلك لأن خطا واضحا قد رسم بيننا وبينهم فقد يئسوا منا ونحن بدورنا لا يجب أن نداهنهم ، ولا نتنازل عن بعض واجباتنا استسلاما لهم .

علينا ان نعرف ان ديننا كامل لا نقص فيه ، فلماذا نرجع للعادات الجاهلية للاخذ منها .

[ اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم و اخشون اليوم أكملت لكم دينكم و أتمت عليكم نعمتي و رضيت لكم الاسلام دينا ]الاسلام هنا بمعناه اللغوي الذي استخدمه القرآن في سائر الايات بمعنى التسليم لله و لمناهجــه وانه دين الله الذي ارتضاه لنا و يتجسد في تقوى الله ، واتباع مناهجه ، وفي طاعة رسول الله و أولي الامر من بعده الذين يشكلون الامتداد الرسالي و الطبيعي لخط اللهو الرسول .

وبما ان سورة المائدة جاءت بعد سور القرآن كلها ، فان قضية تكميل الدين طرحت فيها ، و بالطبع تكون قضية القيادة الاسلامية هي أبرز و أهم القضايا المعلقة التي كمل بها الدين بعد نزول سورة المائدة ، وعرف الناس ان الائمة المعصومين عليهم السلام هم القادة الرساليون للأمة سواء حكموا البلاد سياسيا أم لا .. وسواء قاموا بمصالح الأمة العليا أم لم يقوموا .

بيد أن القيادة لا تعني شيئا في منطق الاسلام لو لم تنفصل عن رواسب الجاهلية ، بل لو لم تتحد الجاهلية بشجاعة ومن دون خشية ، وتطبق تعاليم الاسلام .


لذلك جاءت الاشارة الى القيادة ضمن الحديث عن طائفة من عادات الجاهلية التي نسفها الاسلام ليعطي للقيادة بعدها الرسالي بحيث يجعلها لا تنفصل عن مناهج الدين ، فلا يعترف الاسلام بقيادة لا تطبق هذه المناهج وان اختفت تحت غطاء كثيف من الكلمات الدينية و الشعارات الرسالية .

[ فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فان الله غفور رحيم ]أي ٍإن الحالة الواحدة التي يجوز فيها الاكل من البهائم الميتة المحرمة هي حالة الاضطرار ، حين تعم المجاعة البلاد ، فيجوز الاكل منها بقدر الاضطرار بحيث لا يجوز ان يميل الى أكل الميتة ميلا نفسيا ، بل يظل يعرف ان الاضطرار هو السبب في أكل الميتة فمتى رفعالاضطرار استطاع بسهولة ان يقلع عن أكلها الميتة ، لانه لم يتعود ( لا اقل نفسيا ) عليها .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس