فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الايات
رسالة الله بين التجديد و التكامل :

[ 15] جاءت الرسالة الاسلامية مجددة لرسالة الانبياء من قبل و مكملة لها ، أما التجديد فلأن أهل الكتاب الذين استأمنهم الله على رسالته خانوا الأمانة ، وأخفوا كثيرا من بنود الرسالة التي خالفت مصالحهم ، فجاءت الرسالة لتجديد التأكيد على تلك البنود لأنها كانت ضرورة اجتماعية لسائر الافراد .

فمثلا : أن يكون العالم الديني المطاع ، زاهدا في الدنيا ، راغبا فيما عند الله . إن هذا الأمر أخفاه علماء أهل الكتاب عن الجماهير ، لأنه كان يتناقض مع مصالحهم العاجلة فجاء القرآن يوضح هذا الأمر و يجدد التأكيد عليه ، وان على الناس التمرد على السلطان الجائر أمرآخر أخفاه أهل الكتاب ، فجاء الاسلام يظهره إظهارا .

وجاءت الرسالة مكملة ، حيث ألغت بعض الأمور الهامشية ، التي إقتضى تشريعها ظروف خاصة مثل تحريم اقسام من اللحم كان يعقوب قد حرمها على نفسه ، فحرمها الله على بني إسرائيل مرحليا ، لمجرد التأسي بيعقوب أو لتأديببني إسرائيل ، فجاء الاسلام ليعفو عن هذا التحريم .

[ يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب و يعفو عن كثير ]رسالة الله الكنز الأعظم :

و الرسالة السماوية نور و كتاب ، نور لأنها توقد في ضمير البشر مشعل العقل فيمشي في ظلمات الحياة بصيرا سويا .

إن رسالات السماء تذكر الانسان بربه ، و تفتح نوافذ بصيرته على آيات الله في الكون ، إنها تذكره بعقله ، و تحذره من الهوى و الشهوات و الغضب و الغفلة ، و بالتالي من كل ما يسد عليه أبواب المعرفة ، و يحجب عنه أنوار العقل .

وإذا فتح عقل الانسان ، واستثيرت بصيرته ، فإنه سيعرف الكثير من خفايا الحياة ، سواء تلك التي أوضحتها الرسالة السماوية و فصلتها ، أم لا .

بيد ان الله لا يكتفي بإعطاء البشر نورا ، بل يكمل عليهم النعمة ، بأن يرسم لهم خريطة متكاملة لدروب الحياة ، و يوضح لهم المسالك المهلكة ، و الصراط المستقيم ، وذلك عبر تشريعات مفصلة ، و واضحة يسميها القرآن - بـ ( الكتاب ) و يقول :

[ قد جاءكم من الله نور و كتاب مبين ]


كيف تستحق هدى الله ؟

[ 16] بيد أن نور الله و كتابه ، و بالتالي رسالته ، لا تنفع إلا الذين يتبعونمناهج الله التي فيها رضوانه ، فالذي يتولى عنها سوف لا تعطيه رسالة الله نورا في القلب ، ولا شريعة في الحياة .

إن عقل الانسان يتبع إرادته ، فلو أراد الانسان أن يفهم ، لتحرك نحو أسباب الفهم و لفتح عينه و سمعه و قلبه ، و لبحث عن وسائل المعرفة .

أما الذي لا يريد أن يفهم ، فإن عقله يدس في تراب الجهل ، و يخبت نوره الى الأبد .

والذي يريد الفهم عليه ان يجهد في سبيل ذلك ، بأن يبحث عن العلم ، فإذا وجده عمل به ، وكلما زاد عمل الإنسان في شيء زاد علمه فيه .

أما من علم علما فلم يأبه به ، ولم يعمل بهداه ، فإن العلم سيرتحل عنه بلا توديع ، وقد جاء في الحديث :

" العلم يهتف بالعمل ، فإن اجابه والا ارتحل "لذلك فإن هدى الله لا يعطي الا لمن عمل به ، و استعد ليذل الجهد في سبيل تطبيقه ، فإذا فعل البشر ذلك ، فسوف تتوضح له دروب السلامة في مختلف حقول الحياة ، درب السلامة في : الاجتماع ، و درب السلامة في السياسة ، وفي الاقتصاد و هكذا ..

ذلك لأن لكل حقل دربا سليما ، و دروبا مهلكة ، تنتهي بسالكها الى المأساة ، وهذه الدروب لا يهتدي اليها الا العاملون فقط ..

[ يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ]

إن الذين يتبعون مناهج الله ، يهديهم ربهم للطرق السالمة في الحياة بعيدا عنالطرق المهلكة .

[ ويخرجهم من الظلمات الى النور بإذنه ]

أي إن الله لا يكتفي بأن يرسم للبشر خريطة للحياة توضح لهم دروب السلامة بل ويعطيهم مشعل العقل و الايمان ، حتى يكتشفوا هم بانفسهم هذه الدروب ، ويتسوضحوا ما خفي عنهم منها .

[ ويهديهم الى صراط مستقيم ]

أي ان سبل السلام تنتهي بالتالي الى صراط واحد مستقيم لا عوج فيه ولا انحراف ينتهي بصاحبه الى الجنة .


لقد كفر الذين قالوا :

[ 17 ] وأبرز معالم الصراط المستقيم الذي هدى الله عباده اليه ، وزودهم بنور العقل للمشي فيه ، انه صراط التوحيد الخالص ، بينما الطرق الأخرى إنما هي سبل الشرك ، و الانحراف ، وقد احتاجت البشرية جميعا ، وبالذات اليهود و النصارى لهداية الله ، وتجديد رسالته لهم لانهم انحرفوا عن هذا الصراط المستقيم فقالوا أقوالا كافرة على أنبيائهم فمثلا قالت النصارى ( أو طائفة منهم ) : إن الله قد حل في المسيح حلولا ، فأصبح المسيح هو الله ؟!

انها كلمة كفر ، و صراط أعوج . أن يكون العبد العاجز الذي لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ، الها يملك السموات و الارض ؟!

أية ضلالة أكبر من هذه الضلالة ! ان يتصور البشر أن واحدا مثلهم ياكل و يشرب و يمشي في الأسواق و تعتريه أسباب الضعف و العجز هو إله يملك الشمسو القمر و النجوم و الكواكب ؟!

[ لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد ان يهلك المسيح ابن مريم وامه ومن في الأرض جميعا ]هل يملك المسيح القدرة على منع الله من إهلاكه وإهلاك أمه ، و الناس الذين يقولون عنه انه إله ؟! كلا .. ان المسيح أعجز من ذلك ، فكيف يدعي انه إله سبحانه الله وهل يفهم الذين يزعمون ان المسيح هو الله ، هل يفهمون ما يقولون ؟ هل يعرفون مقام الألوهية .. وأن الله يملك السموات و الأرض وانه يخلق ، وانه قادر على كل شيء ؟!

انهم لو تصوروا قليلا ضخامة السموات و الارض لصغرت في أعينهم شخصية المسيح على عظمته ، واعادوه الى مرتبة عبودية الله .

هــذه الارض الواسعة بما فيها من قفار شاسعة ، و بحار عظيمة ، وجبال راسية ، و انهار و احياء مختلفة ، هل يملكها المسيح ( من دون الله ) أبدا هذا غير معقول !

وهذه الشمس العملاقة التي لو وضعت أرضنا فيها لضاعت كما تضيع حلقة صغيرة في صحراء واسعة !!!

هذه المجرات التي تحتوي على ألوف الملايين من الشموس بعضها أكبر من شمسنا بحيث لو وضعت فيها شمسنا لضاعت كما تضيع حبة الرمل في الصحراء .

وهذه الملايين من المجرات التي تسبح في الفضاء اللامتناهي ، التي تضيع فيها مجرتنا على ضخامتها .

كل هذه يملكها الله ، أم المسيح البشر الضعيف الذي لا يكاد يملأ حيزا منالأرض ؟! ومن هو الجدير بالالوهية الله أم المسيح بن مريم ؟!

[ و لله ملك السموات و الأرض وما بينهما ]

إن أحد الأسباب الرئيسية للكفر أو الشرك هو جهل عظمة الله ، وعدم معرفة سلطانه الواسع ، و ملكوته العظيمة ، ولذلك كلما تحدث القرآن عن الشرك بين جانبا من قدرته لينتزع من قلب الانسان أهم أسباب الشرك به .

[ يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير ]

[ 18] وحين قالت النصارى : ان المسيح إبن الله ، أو إنه هو الله ، فإن دافعهم النفسي كان التملص من مسؤوليتهم كبشر .

انهــم قالــوا : ان المسيح هو الله ، ونحن اتباعه المقربون اليه ، فهو لن يعذبنا ، بل سوف يقف حاجزا بين رب العرش و بيننا حتى لا نعذب بذنوبنا .

وهذه هي الضلالة الكبرى التي يقع فيها البشر ، فماذا ترجو من بشر لا يرى نفسه مسؤولة عن الخطيئات التي يرتكبها ؟ افترجو منه سوى الجريمة و العدوان ؟

[ وقالت اليهود و النصارى نحن ابناء الله و أحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل انتم بشر ممن خلق ]انظر كيف ان الله فضحهم و أكذب أحدوثتهم رأسا ، وبلا مقدمات ، فلم يناقش مسألة أنهم ابناؤه أم لا ، بل ناقش قضية المسؤولية مباشرة فقال :

ان الهدف الذي تبغونه من وراء هذه الدعاوى هو الخلاص من مسؤولية أعمالكم .. كلا .. إنكم مسؤولون عنها ، وأبسط دليل على ذلك مسؤوليتكم في الدنيا عن اعمالكم . إن الواحد منكم يشرب الخمر فيسكر و يجرح نفسه ، أويمرض و يموت أو ليست هذه مسؤولية مباشرة لعمل شرب الخمر ، والاخر منكم ياكل الميتة وهي حرام ، فيموت متأثرا بالجراثيم التي كانت فيها أو ليست هذه مسؤولية لحقت به جراء عمله إذا فأنتم مسؤولون عن أعمالكم ، معذبون بسيئاتكم ، وهذا أبسط دليل على انكم كسائر البشرخلقكم الله .

[ يغفر لمن يشاء و يعذب من يشاء ]

بلا حتم عليه من قبل الناس انفسهم .

وعاد القرآن و ذكرنا بقدرة الله ، و ملكوته ، لعلنا نتذكر استحالة إتخاذ الله لبعض عباده ابناء له .

[ و لله ملك السموات والأرض وما بينهما ]

ثم ذكرنا مرة اخرى بالمسؤولية أمامه ، تجاه اعمالنا قائلا :

[ وإليه المصير ]

وهناك يعذب من يشاء و يغفر لمن يشاء .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس