الاطار العام
يبدو ان سورة النازعات تنزع من نفس المهتدين بها طغيانها ، و لكن كيف ؟
اولا : بتلاحق كلمات القسم الصاعقة ، و بما هو مجهول عندنا ، من ملائكة لموت او حالة الموت او خيل الغزاة .
ثانيا : تنذر بيوم الراجفة و يوم الرادفة حيث تكون القلوب واجفة ، أبصارها خاشعة . من هم اولئك ؟ انهم الذين يقولون في الدنيا : انا لمردودون الى الحياة كما نحن الان حتى ولو كنا عظاما نخرة ؟ ! فيقول لهم القرآن : بلى و بزجرة واحدة تخرجكم الارض الى ظهرهاالمستوي ، لا يرون فيها أمتا و لا عوجا .
ثالثا : تقص علينا حديث موسى و فرعون ، و كيف ان فرعون طغى و لم يستمع الى انذار رسول الله اليه فأخذه الله نكال الآخرة و الدنيا .
رابعا : ترينا آيات الله في السماوات و الارض ، و حكمته البالغة التي تتجلى فينظام الخلقة . كيف مسك السماء و سواها كيف أغطش ليلها و اخرج ضحاها ، و كيف دحى الارض و اخرج منها ماءها و مرعاها ، و كيف أرسى جنباتها . كل ذلك لحياة الانسان و البهائم التي تساعد الانسان .
خامسا : بعد ذلك يذكرنا بالطامة الكبرى حيث يتذكر الانسان ما سعى ، و يبين ان حكمة الخلق تتجلى في الجزاء النهائي ، عندما يلقى في الجحيم من طغى ، بينما تكون الجنة مأوى الخائفين مقام ربهم .
و في خاتمة السورة يذكرنا السياق بتبرير يتشبث به الجاحدون عبثا حيث يتساءلون عن الساعة : أيان مرساها ؟ و لكن اين انت و الساعة ؟ ان علمها عند الله واليه منتهاها . انما انت منذر . دعنا نخشاها ، ففي ذلك اليوم تعم الحسرة كل ابعاد وجودنا لاننا نحتسب عمرنافي الدنيا عشية أو ضحاها .
و هكذا تحقق آيات السورة هدفها لمن يشاء ، وهو معالجة طغيان النفس و غرورها .
و عرفك عند الحاجة مواضع طلبك وارادتك ؟ ؟ " (1) ، و الملاحظ استخدام الامام في الافعال صيغة البناء للمجهول ( المنشأ ، بدئت ، وضعت ، اخرجت ) و كذلك هداك و عرفك ، و الهدف هو التأكيد على الارادة الالهية في الخلق .
ثم ان خلقة الانسان لا تتحرك في الفراغ و لا على أساس الصدفة ، انما هي قائمة على الحكمة الدقيقة ، و التدبير الالهي المتين ، حيث القوانين التي تجلي ارادة الله و حكمته للمتدبر ، فالجنين لا ينمو و لا يمكث بلا قدر و لا قانون في بطن امه ، بل كما وصف اللهتعالى :
[ الى قدر معلوم ]
و حيث يخرج يكون مهيئا لممارسة الحياة خارج الرحم ، و تكون امه مستعدة نفسيا و بدنيا لاستقباله و هكذا عائلته . قال الزمخشري : الى مقدار معلوم ، قد علمه الله و حكم به وهو تسعة أشهر او ما دونها او ما فوقها (2) ، و قال القمي : منتهى الاجل (3) . و حين يحلالاجل فان الام لا تستطيع ان توقف التحويل النفسي و البيولوجي الذي يحدث في كيانها و توقف حركة الجنين باتجاه الخروج ، كما لا يملك الجنين نفسه من أمره شيئا ، بل هي الارادة الالهية وحدها تصنع ما تشاء و تتسع كلمة القدر الى معاني عدة نجملها في اثنين :
الاول : المقدار و الحد ، فيكون المعنى ان الجنين من الناحية النفسية و العضوية و هكذا الزمنية محدد بمقادير و مقاييس إلهية حكيمة يعلمها عز وجل .
الثاني : القدر و المصير ، فقد جعل الماء في قرار مكين لكي ينتهي الى قدر الهي(1) نهج البلاغة / خ 163 .
(2) الكشاف / ج 4 / ص 679 .
(3) تفسير القمي / ج 2 / ص 400 .
يعلمه تعالى ، فقد يكون قدره ان يصبح ذكرا او انثى او بينهما ، او يخرج تاما او معيبا ، او حيا او ميتا ، ثم اذا خرج الى الحياة الدنيا فانه يتحرك وفق اقدار يعلمها الله ، و الى مصير محدد ، ربما يكون السعادة و الجنة ، و ربما يكون الشقاء و النار ، او يكون الفقر و الصحة ، او الغنى والمرض ، او .. او .. ، و لا تعني الآية ان كل انسان يأتي الى الحياة الدنيا ليعيش ضمن اقدار محددة يجبر عليها ، بل هي تكشف عن علم الله المطلق بما يؤول اليه من خير او شر . وقوله : " معلوم " يفيد التحديد من جهة ، و الاطلاقمن جهة ثانية ، فأما التحديد فان مسيرة الانسان في وضعها الطبيعي و النسبي محكومة بمعطيات و اقدار محددة يمكن لنا معرفتها عبر العلم و التجربة ، كميعاد الولادة و ما اشبه .. ، و اما الاطلاق فان العلم اليقين بكل شيء و بالذات بعض الامور فهو لله وحده يقدره ويعلمه ، بحيث لا يستطيع بشر تحديده و معرفته .
[ فقدرنا فنعم القادرون ]
قال ابن جرير : فملكنا فنعم المالكون ، و عن الضحاك قال: فخلقنا فنعم المالكون (1) ، و في التبيان : معناه فقدرنا من القدرة فنعم القادرون على تدبيره (2) ، و في مجمع البيان : اي قدرنا خلقه كيف يكون قصيرا او طويلا ، ذكرا أم اثنى ، فنعم المقدرون نحن ، و يجوز ان يكون المعنى اذا خفف ( لان المفسرين قرؤوها بالتخفيف و التثقيل ) من القدرة ، اي قدرنا على جميع ذلك فنعم القادرون على تدبير ذلك ، و على ما لا يقدر عليه احد الا نحن ، فحذف المخصوص بالمدح (3) ، و هذا ما احتمله العلامة الطباطبائي في الميزان و قال : من القدرة مقابل العجز ، و المراد فقدرنا على جميع ذلك (4) .
(1) الدر المنثور / ج 6 / ص 306 .
(2) التبيان / ج 10 / ص 228 .
(3) مجمع البيان / ج 10 / ص 417 .
(4) الميزان / ج 20 / ص 153 .
[ الم نجعل الارض كفاتا * احياء و أمواتا ]
و الكفات السكن والوعاء ، ففي الخبر نظر أمير المؤمنين ( ع ) في رجوعه من صفين الى المقابر فقال : " هذه كفات الاموات " اي مساكنهم ، ثم نظر الى بيوت الكوفةو الذي اختاره ان الكلمتين : " فقدرنا " و " القادرون " مشربتين اثنين من المعاني في ان واحد : احدهما التقدير بالحكمة و العلم ، و الآخر القدرة بالقوة و المشيئة ، و لعمري ان المتفكر في خلقة البشر يجد اسمي الحكيم و القادر متجليين فيها بما لا يقبل ذرة من الشك ، لولا ان الانسان يجعل بينه و بين الحقيقة حجاب التكذيب بالحق للهروب من المسؤولية ، فله الويل من الله اذا فعل ذلك .
[ و يل يومئذ للمكذبين ]
و في الآية ملاحظة لطيفة عند قوله " يومئذ " فتلك ينبغي ان تكون اشارة الى يوم الفصل الذي اشار اليه السياق في السورة ، و هو كذلك ، بالاضافة الى ايحاء الكلمة بمعنى آخر ، هو ان تلك الآيات الالهية المتجلية في الخلقة تهدينا الى ان الويل للمكذبين، فأي جريمة كبرى هي التكذيب بحقيقة عظمى كحقيقة الغيب و قدرته و حكمته ! و الاشارة الى ذلك بـ " يومئذ " هو ترتيب على تلك النتيجة الحاصلة ، اذ لا يعقل ان الخالق الحكيم لا يقدر آخرة بعد الدنيا و ذلك من مسلمات الحكمة الاولية .
[ 25 - 37] من التفكر في آفاق النفس الذي يقود الانسان الى التسليم لله و الايمان بيوم الفصل تنطلق الآيات موجهة ابصارنا الى آفاق الطبيعة من حولنا ، فهي الاخرى تعكس اسماء الله و آياته الهادية الى الحقائق .
فقال : " هذه كفات الاحياء " ثم تلا قوله : " الايتين " (1) ، و في مجمع البيان : كفت الشيء يكفته كفتا و كفاتا اذا ضمنه ، و منه الحديث : " اكفتوا صبيانكم " اي ضموهم الى انفسكم ، و يقال للوعاء : كفت و كفيت ، و قال ابو عبيده كفاتا : اي اوعية (2) ، و عن قتادة و مجاهد و الشعبي : اي تحوزهم و تضمهم (3) ، و الارض وعاء و سكن للخلائق تضم الناس و الاحياء و الاموات ، سواء بالمعنى الظاهر او بالمعنى المجازي للكلمة حيث المؤمنين و الكفار ، و العلماء و الجهلة .
[ و جعلنا فيها رواسي شامخات ]
قال القمي : جبال مرتفعة (4) ، و لعل الآية تبين حقيقة جيولوجية و هي ان للجبال قمتين : قمة راسية في اعماق الارض كقاعدة البناء ، و قمة صاعدة شامخة في آفاق السماء .
[ و اسقيناكم ماء فراتا ]
و هناك علاقة بين الحديث عن الجبال و بين الحديث عن الماء الفرات ، فان أفضل المياه و اعذبها ما تتفجر به ينابيع الجبال ، و ما ينحدر منها الى جوف الارض و سفوحها و انهارها .
قال الامام علي - عليه السلام - يصف الارض : " فلما سكن هيج الماء من تحت اكنافها ، و حمل شواهق الجبال الشمخ البذخ ( الطاغية في الارتفاع ) على اكتافها ، فجر ينابيع العيون من عرانين انوفها ( العرنين : ما صلب من عظم(1) تفسير القمي / ج 2 / ص 400 .
(2) مجمع البيان / ج 10 / ص 416 .
(3) المصدر / ص 417 .
(4) تفسير القمي / ج 2 / ص 132 .
الانف ، و المراد اعالي الجبال ) ، و فرقها في سهوب بيدها ( جمع بيداء و هي الصحاري ) و اخاديدها ، و عدل حركاتها ( يعني الارض ) بالراسيات من جلاميدها و ذوات الشناخيب ( القمم ) الشم من صياخيدها ، فسكنت من الميدان لرسوب الجبال في قطع اديمها ، و تغلغلها متسربة في جوبات خياشيمها ( الجوب : الحفر ، و الخياشيم : منفذ التنفس ) ، و ركوبها اعناق سهول الارضين و جراثيمها ( المنحدرات ) ، و فسح بين الجو و بينها ، ثم لم يدع جرز الارض التي تقصر مياه العيون عن روابيها ، و لا تجد جداول الانهار ذريعة الى بلوغها ، حتىانشأ لها ناشئة سحاب تحيي مواتها ، و تستخرج نباتها .. " (1) ، و قال الامام الصادق ( ع ) : " انظر يا مفضل الى هذه الجبال المركومة من الطين و الحجارة ، التي يحسبها الغافلون فاضلا لا حاجة اليها ، و المنافع فيها كثيرة ، فمن ذلك ان يسقط عليها الثلوج فيبقى في قلالها لمن يحتاج اليه ، و يذوب ما ذاب منه فتجري منه العيون الغزيرة التي تجتمع منها الانهار العظام .. " (2) .
و جعل الله الارض كفاتا ، و جعله فيها الجبال الراسية الشامخة ، و سقينا بها الماء الفرات من ينابيع مخازنها ، و ذوبان ما تقله من الثلوج ، كلها نعم الهية تستوجب الشكر و الحمد له ، و من شكره اتباع رسله و رسالاته ، الا ان الانسان غالبا ما لا يفعل ذلك ، بل تراه كفورا مكذبا ، و يل له يوم القيامة من شديد العذاب على قلة حمده ، و مقابلته احسان ربه بالتكذيب .
[ ويل يومئذ للمكذبين ]
من غضب الله و عذابه ، فان غضبه عليهم و تكذيبهم لرسله و كتبه يستحيلان في الاخرة الوانا من العذاب الذي لا يطاق ، ينطلقون اليه بزجر خزنة جهنم و مقامع من(1) نهج البلاغة / خ 91 / ص 132 .
(2) موسوعة بحار الانوار / ج 3 / ص 126 .
نار تلظى ، و لسان الحال قولا و فعلا ما حكى رب العزة :
[ انطلقوا الى ما كنتم به تكذبون ]
قال العلامة الطبرسي : يعني من العقاب على الكفر ، و دخول النار جزاء على المعاصي (1) ، و علق الرازي بالقول : و الظاهر ان القائلين هم خزنة النار (2) ، و الذين يكذبون به هو الجزاء و النار ، و التكذيب بذلك يعني انكاره ، و انكار الحقائق الاخرى بسبب هذا التكذيب .
[ انطلقوا الى ظل ذي ثلاث شعب ]
و لعل الظل بسبب الدخان الذي يحجب النور ، او هو الظلام الحالك ، و قد اختلف المفسرون في معنى " ثلاث شعب " ، فقيل معناه : يتشعب من النار ثلاث شعب : شعبة فوقه ، و شعبة عن يمينه ، و شعبة عن شماله فتحيط بالكافر (3) ، و قيل : يخرج من النار لسانفيحيط بالكافر كالسرداق ، فينشعب ثلاث شعب فيكون فيها حتى يفرغ من الحساب (4) ، و في اللغة : الشعبة جمعها شعب و شعاب : الفرقة و الطائفة من الشيء ، يقال : اشعب لي شعبة من المال اي اعطني قطعة من مالك ، و يسمى الغصن من الشجرة شعبة (5) ، و نفهم من ذلك ان الظل ينشعب الى ثلاثة اقسام ، ولعل المكذب يلقى في كل شعبة الوانا من العذاب تختلف عما في الشعبتين الآخريين شدة و نوعا .
(1) مجمع البيان / ج 10 / ص 230 .
(2) التفسير الكبير / ج 30 / ص 274 .
(3) التبيان / ج 10 / ص 230 .
(4) مجمع البيان / ج 10 / ص 418 .
(5) المنجد / مادة شعب بتصرف .
و يختلف ذلك الظل عن ظل الدنيا بصورة تامة ، فاننا نأوي الى الظلال فيها طلبا للراحة ، و هربا من حر الشمس و لفحها ، اما الظل المقصود في الآية فانه قطعة من عذاب جهنم .
[ لا ظليل ]
معناه : غير مانع من الاذى يستر عنه .. فالظليل من الظلة و هي السترة (1) ، و سمي الظلال بذلك لانه يحجب الشمس و يسترها و يمنع الحر . و ليس الظلال المشار اليه في الآية يسبب الراحة لاهله .
[ و لا يغنى من اللهب ]
و اللهب ما يعلوا من السنة النار و حر لفحها ، و ليس ذلك الظل يدفع عنهم حر لهب جهنم .
[ انها ترمى بشرر كالقصر ]
قيل : مثل القصور و الجبال (2) ، و في حديث طويل عن النبي ( ص ) في شأن النار : قال : " تزفر النار بمثل الجبال شررا " (3) ، و قيل : مثل اصول الاشجار المتشعبة الجذور ، قال ابن عباس : كجذور الشجرة ، و عن مجاهد قال : حزم الشجر ، و عن الضحاكقال : اصول الشجر العظام (4) . و العرب تشبه الابل بالقصور (5) ، و المهم ان التشبيه بالقصر كناية عن الضخامة و التشعب معا و هما(1) التبيان / ج 10 / ص 230 .
(2) في القمي و التبيان و مجمع البيان و الكشاف و التبيان و الدر المنثور و التفسير الكبير .
(3) نور الثقلين / ج 5 / ص 490 .
(4) الدر المنثور / ج 6 / ص 304 .
(5) مجمع البيان / ج 10 / ص 418 .
مجتمعتين في مثل القصور .
[ كانه جمالت صفر ]
و قد ذهب اغلب المفسرين الى القول بأنها الجمال ، و قيل : هي قطع النحاس و هو مروي عن الامام علي ( ع ) (1) ، و النحاس يسمى صفرا عند العرب ، و بناء على هذا القول ينبغي حمل الجمالة على انها جمع جمل وهو الحبل و السلك العظيم ، لقوله تعالى : " حتى يلجالجمل في سم الخياط " (2) .
و هذه الالوان من العذاب هي بعض ما يلقاه المكذبون من الويل في الآخرة ، و الذي يشيره اليه القرآن بتكرار الآية الكريمة :
[ ويل يومئذ للمكذبين ]
و من و يلاتهم يوم الفصل انهم تسلب حرياتهم التي طالما اساؤوا استخدامها و فهمها في الدنيا ، الى حد لا يستطيعون النطق ، و لا يؤذن لهم من قبل الله عز وجل . و لعل ذلك جزاء اطلاقهم العنان لانفسهم في الاهواء و الشهوات ، و عدم التزامهم بحدود الله و شرائعه.
[ هذا يوم لا ينطقون ]
و في الاحاديث : ان أهل جهنم يلجمون بلجم من نار ، و تحبس السنتهم التي سخروها لحرب رسالة الله و حزبه ، بل لا يستطيعون النطق للحجج الالهية البالغة التي لا تدع لهم مجالا للتبرير و لا قدرة على الكلام في محضر رب العزة .
(1) التفسير الكبير / ج 30 / ص 276 .
(2) الاعراف / 40 .
ان النفس اللوامة توخز ضمير الكاذب المنحرف ، و ان عقله يهديه الى الاعتبار بمصير الغابرين ، و لكن نفسه الامارة بالسوء تلح عليه بأتباع الشهوات و امتطاء مركب الغرور و الجحود ، و هنا يقدم الشيطان بالحل الوسط ، هو التسويل و التزيين ، فيؤول آيات الذكر ،و يعتذر للدعاة اليها ، و يبرر للناصحين ، و يخادع نفسه .. و هكذا تجد أكثر المكذبين و المجرمين يعدون تبريرات و اعذار لانفسهم كما للآخرين بما يزعمون انها سبب انحرافهم و فسادهم ، و لكن في يوم القيامة ليس لا تقبل منهم تلك المعاذير الباطلة بل و لا يسمح لهمبسردها لانها محكومة سلفا بالسفاهة و الدجل ، مما يدعونا الى اعادة النظر و بصورة جدية فيما نعتذر به للآخرين او نخدع به انفسنا انطلاقا من الثقة بانها لا تغني عنا شيئا في يوم القيامة .
[ و لا يؤذن لهم فيعتذرون ]
لان الاعتذار النافع هو اعتذار الانسان لربه في الدنيا عن الخطيئات بالتوبة الخالصة ، اما الآخرة فهي للفصل و الجزاء فقط ، من هنا لا يؤذن لهم للاعتذار ، و الامام الصادق ( ع ) يهدينا الى فكرة دقيقة في الآية فيقول : " الله أجل و أعدل و أعظم من ان يكون لعبده عذر و لا يدعه يعتذر به ، و لكنه فلج فلم يكن له عذر " (1) ، بلى . انهم لا يريدون الجدال عن حقهم بالمنطق السليم ، و انما يريدون التوسل بالاعذار الواهية ، و لذلك لا يؤذن لهم . و هذا من حكمة الله عز وجل اذ لو كان يترك الانسان يفعل ما يشاء في الحياة الدنيا ، ثم يفتح له يوم الفصل باب التبرير لفسدت حكمة الخلق ، كلا .. بل لهم الويل بعد الويل .
[ ويل يومئذ للمكذبين ]
ومن هذه الآية نكتشف ان الاعذار الواهية هي بدورها كذب و لصاحبها(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 490 .
الويل .
[ 38 - 44 ] و بعد ان عرض القرآن مشاهد من يوم الفصل يضع النفوس المكذبة في موقف الشاهد لذلك المستقبل بزمانه ، و لكنه حاضر بحقائقه و شواهده و مواقفه و لحظاته الحرجة ، لعلها ترجع عن غيها و ضلالها .
[ هذا يوم الفصل جمعناكم و الاولين ]
و للجمع هنا معنيان :
الاول : هو البعث بجمع الاوصال و العظام و جمعها مع الروح ليكون بشرا سويا بعد الموت ، و قد أشار القرآن الى هذا المعنى في آيات عديدة منها قوله في سورة القيامة : " ايحسب الانسان الن نجمع عظامه " (1) . و انما ذكر الاولين لان المشركين عادة ما كانوا يستبعدون البعث ، و بالذات بعث اولئك الاولين الذين اضمحلت ابدانهم و تبددت اوصالهم .
الثاني : ان يكون الجمع بالمعنى الظاهر للكلمة ، فان الناس ( أولين و آخرين ) يجمعون في عرصة القيامة للفصل بينهم و في مصائرهم . و انما ذكر الاولين و الاخرين من المكذبين تمهيدا لتحديهم في الآية اللاحقة ، اذ لا يريد الله ان يتحدى بعض المكذبين وحسب بل كلهم مجموعين الى بعضهم عددا و عدة .
[ فان كان لكم كيد ]
تدعون الغلبة به و تعتمدون عليه .
(1) القيامة / 3 .
[ فكيدون ]
و هذا رد على ما اجمعوا عليه و توارثوه من الخبرة في الكيد ضد الحق ( قيما و قيادة و حزبا ) في الحياة الدنيا . و ما عسى ان يبلغ كيد هذا الانسان الضعيف و الجاهل حتى يبارز ربه عز وجل ؟ ! ولكن يتكبر و يأخذه الغرور فيلقي بنفسه في مهلكة المكايدة مع الله ،فالويل للمكذبين مما يصيرون اليه نتيجة حربهم لله الملك الجبار المتكبر .
[ ويل يومئذ للمكذبين ]
و هل ثمة ويل اعظم من كيد الله العظيم باحد ؟ ! كلا .. فهو حق بكل ما تتسع له الكلمة من معنى . و هكذا يسفه السياق القرآني الظن الذي يبعثهم نحو التكذيب وهو انهم قادرون على مقاومة جزاء اعمالهم بكيدهم و ما يستخدمونه من خطط و اساليب . اما المتقون الذين امنوا بالله ، و صدقوا رسالاته ، و اتبعوا رسله و اولياءه ، فمصيرهم الى رضوانه و جزائه الحسن .
[ ان المتقين في ظلال و عيون ]
و ليس الظلال كالظل " ذي ثلاث شعب * لا ظليل و لا يغني من اللهب " بل هو ظلال رضوان الله الذي يلقى فيه المتقون غاية الأمن و السعادة ، حيث اللذة ببرد لطف الله و رحمته ، و حيث التمتع بنعيم الجنة كالمناظر البديعة للعيون التي تستريح العين لرؤيةمائها المتفجر .
[ وفواكه مما يشتهون ]
بكل ما تنطوي عليه كلمة الاشتهاء من معنى ، ففي الجنة يطلق الله بفضلهو مشيئته عنان الشهوة لاولئك الذين عقلوها بعقال أحكام الله و حدوده ، فالمتقون هناك يجدون ما يحبونه من الفواكه في كل مكان و زمان ، اذ تسقط معادلة الفصول و المواسم ، كما يبلغون شهوتهم كيفما يريدون ، اذ تأتي الفواكه بالحجم و اللون و الطعم و الشكل الذي يتخيله واحدهم و أحسن منه .
و العلاقة واضحة بين هذه النعم الثلاث ، فان الظل و العيون و الفواكه المتنوعة هي أبرز معالم الجنة ، و انما ذكرها الله كناية عن الجنة ، و تفصيلا في المعنى للمزيد من التشويق و الترغيب للمتقين في نعيمها .
و من سمات المنهج الاسلامي انه يوصل بين السعي و الجزاء ، و ذلك لكي لا يتحول الشوق الى جنات الله و رضوانه الى مجرد اماني و ظنون ، و انما تكون الرغبة لبلوغها نهج عمل و سعيا حثيث من أجل الوصول اليها و تحقيقها في الواقع . هذا على صعيد الدنيا ، اما على صعيد الاخرة فان بيان الله للمتقين علاقة عملهم بجزائهم نوع من الاكرام لهم ، و الا فان ما يلقاه المتقون في جنات الله من الناحية المادية و الموضوعية أعظم من ان يبلغه بشر بسعيه ، انما هو فضل من الله و رحمة . و من هذا المنطلق يخاطب المتقون في الآخرة :
[ كلوا و اشربوا هنيئا ]
خاليا من كل اسباب النكد و النغص يمكن ان يكون في طعام او شراب .
[ بما كنتم تعملون * انا كذلك نجزي المحسنين ]
الذين يحسنون الصنع ( الالتزام بالقيم ، و التعامل مع الآخرين ، و الاستفادة من نعم الله عليهم ) ، و قد ذكر الله صفة الاحسان في المتقين كسبب لاستحقاقهم الفضيلة و الرضوان عنده تاكيدا على انها ارفع درجة يبلغها احد في القرب من الله ،و العروج في افاق الايمان و العمل الصالح ، و ذلك لما يشتمل عليه الاحسان :
الاول : انه من أعظم صفات الله و اخلاقه .
الثاني : انه مرتبة رفيعة في الكمال البشري ، اذ يعني خروج الانسان من شح النفس الى حب الآخرين و ايثارهم .
[ 45 - 50] و في ختام السورة التي تهدف علاج موقف التكذيب عند الانسان من خلال توجيهه الى آيات الله ، و تخويفه من عذابه ، يؤكد القرآن عاقبة الويل لكل مكذب ، مبينا لهم بان متعتهم لن تمتد الا قليلا ثم يعقبها مصير سيء نتيجة اجرامهم و عدم استجابتهم لداعيةالحق .
[ ويل يومئذ للمكذبين ]
و كفى بتكرار هذه الآية عشر مرات في السورة تأكيدا للحقيقة الهادية اليها ( ان الويل للمكذبين ) . و المكذبون يختلفون عن المتقين في المصير يوم الفصل ، فبينما يصير هؤلاء في ظل و عيون و فواكة مما يشتهون ، يصير اولئك الى الويل و الثبور " ظل ذي ثلاث شعب * لا ظليل و لا يغني من اللهب " ، كما يتهنا المتقون بأكلهم و شربهم حيث لا يساورهم خوف انقطاعه او انقطاعهم عنه ، اما المكذبون المجرمون فلا تطول بهم المتعة الا قليلا ثم تنتهي راحتهم الى عذاب مقيم .
[ كلوا و تمتعوا قليلا انكم مجرمون ]
و اذا كان المكذبون مترفين ، و في ايديهم نعم الله و الوان المتع ، فانه لا يعني حضوتهم برضوان الله ، لانهم مجرمون ، فلا جريمة أكبر من تكذيب الانسان بالحق و ممارسته الباطل في الحياة ، سواء فعل ذلك الفقير او صاحب الثروة والاتباع .
و الاية تهدينا من جهة اخرى الى ان لهث البشر وراء حطام الدنيا و متعها هو العامل الرئيسي في ضلاله و اقتحامه كل جريمة .. و ليس لهذا الأمر من علاج في نفس المكذب المجرم الا بالتفكير في العاقبة يوم الفصل ، لان ذلك مدعاة للعاقل ان يترك المتع القليلة في ذاتهاو مدتها و الموجبة للويل المقيم يومذاك ، و هذا ما يفسر علاقة الاية (46) بقول الله بعدها :
[ ويل يومئذ للمكذبين ]
و حينما يستحضر الانسان في وعيه و تصوره حقائق ذلك اليوم فسوف يجد نفسه مدفوعا لترك الجريمة و كل أكله و متعه لا ترضي الله ، و من ثم ترك التكذيب الى الاحسان ، و الطمع في نعيم الآخرة ، و التسليم لله و لرسله و رسالاته ، لان جاذبية شهوات الدنيا لا تقاوم الا بمثل جاذبية الجنة و خشية مصير المكذبين و المجرمين ، و وعي العذاب الشديد الذي ينتظر المكذبين .
و يبين القرآن صفة اخرى للمكذبين اضافة الى لهثهم وراء حطام الدنيا و متعها ، و اضافة الى كونهم مجرمين ، الا و هي عدم تسليمهم لاوامر الله و عدم خضوعهم لها .
[ و اذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ]
قال مقاتل : نزلت في ثقيف حين أمرهم رسوله الله ( ص ) بالصلاة فقالوا : لا ننحني ، و اضاف العلامة الطبرسي : و الرواية لا ننحني فان ذلك سبة علينا ، فقال رسول الله : " لا خير في دين ليس فيه ركوع و سجود " (1) ، ذكر ذلك اغلب المفسرين . و قد ذكرالركوع بالذات لأمرين رئيسين :
(1) مجمع البيان / ج 10 / ص 419 .
الاول : انه ذكر كناية عن الصلاة ، لان الركوع ابرز ما فيها ، و لذلك تسمى وحدات الصلاة بالركعات ، و الصلاة تمثل عمود الدين ، و ذكر مخالفتهم و عصيانهم لله في ابلغ اوامره و شرائعه اوضح دلالة على عصيانهم و تكذيبهم .
الثاني : لان الصلاة هي مظهر العبودية لله ، و الركوع منها رمز الخضوع و التسليم و مظهره العملي ، و بيان تكذيب المكذبين و تمردهم عن التسليم لله و للقيادة الرسالية يكون اجلى عند التمثيل له بالركوع و السجود من التمثيل له باي شيء آخر ، و على هذا الاساس نستطيع حمل الركوع هنا على انه رمز للتسليم بكل مفرداته لا كونه محصورا في ركوع الصلاة فقط ، و لذلك فان رفض التسليم - بجميع معانيه - يستلزم الويل للمكذبين .
[ ويل يومئذ للمكذبين ]
الذين يكذبون بالحقائق ، و من أبرزها و أهمها :
اولا : الآخرة ، فان الايمان بها اساس ايمان الانسان بسائر القيم و الحقائق الالهية ، و أساس التزامه بكل مفردات الدين في الحياة .
ثانيا : القرآن الكريم وهو حديث الله للناس ، و الذي لا يصلحه حديث ربه ، و لا تداوي ادواءه آياته ، فلن تجد له علاجا ابدا ، و هكذا فان من لا يؤمن به و يسلم له على ظهور حججه و دلائله فبماذا يؤمن بعده ؟ !
[ فباى حديث بعده يؤمنون ]
لان الاحاديث غيره كلها لا تصل الى مستواه في الصدع بالحق ، و اشتمالها عليه ، و لا في بيانها و هدايتها له ، و كيف يرتفع حديث مخلوق الى صحة حديثالخالق و بلاغته ؟ !
و من الآية نهتدي الى ان من لا يؤمن بحديث القرآن ، و منه بالذات حديث الآخرة ، فانه يبقى في شك من كل شيء و حديث ، بل يبقى في التباس من وجوده و وجود اوضح الموجودات كالشمس الساطعة في الآفاق !
اما عن راي المفسرين في الآية الكريمة فقد اتفقوا على ان الحديث هو القرآن ، و يمكن حمله على انه حديث الآخرة ، و بتعبير اصح نقول : هو القرآن الذي من ابرز احاديثه بعد تعريف الانسان بربه حديثه عن الآخرة ، التي يحتل موضوعها أهمية كبيرة في القرآن كما و كيفا ، و في الثقافة الاسلامية بصورة عامة .
|