فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


قتل اصحاب الاخدود
بينات من الايات

[ 1] الكائنات و الزمان و الانسان ثلاثة شهود عظام على مسؤولية البشر ، فأنى له الهروب ، و انى له التبرير ! و اعظم الكائنات حسب علمنا السماوات بما فيها من وحدات من بناء عظيم يسميها القرآن البروج .

[ و السماء ذات البروج ]

ما هي البروج ؟ يبدو انها طبقات السماء المتمثلة في مجاميع المجرات ، كل مجرة فيها اعداد هائلة من الشموس .

قالوا : اصل معنى البروج الظهور ، و لان البناء العالي ظاهر سمي القصر برجا ، كما سمي موقع الدفاع عن المدينة بالبرج . و لعل انتخاب هذه الكلمة هنا كان لان في السماء حرسا اتخذوا مواقع لرصد حركات الانس و الجن و الشياطين ، مماينسجم مع السياق الذي يجري فيه الحديث عن جزاء الطغاة على جرائمهم بحق المؤمنين ، فاذا تحصن الطغاة ببروجهم الارضية فان السماء بروجا لا يستطيعون مقاومة جنودها .

و قال بعضهم : البروج هي منازل الشمس و القمر و الكواكب و افلاكها التي لا تستطيع اجرام السماء على عظمتها تجاوزها قيد انملة ، مما يشهد على انها كائنات مخلوقة مدبرة .

[ 2] يوم القيامة رهيب ترتعد السماوات و الجبال و البحار و سائر الكائنات خشية منه و اشفاقا ، و اعظم ما فيه مواجهة الانسان لافعاله ، بلا حجاب من تبرير ، و لا قوة و لاناصر .. و هكذا يحلف السياق به على ما يجري الحديث عنه من مسؤولية الطغاة امام ربهم عن جرائهم بحق المؤمنين .

[ و اليوم الموعود ]

انه يوم لا مناص منه ، لانه وعد الله ، و وعد الله غير مكذوب ، و ليس الانسان وحده بل الكائنات جميعا موعودة بذلك اليوم ، فاي يوم عظيم ذلك اليوم ؟

[ 3] ثم يقدم الانسان للمحاكمة ، فقد حضر الشهود . كل مكان عاش فيه يشهد عليه ، و كل زمان مر به يشهد عليه ، و كل جارحة استخدمها تشهد عليه ، و كل انسان عايشه يشهد عليه ، و في طليعة الشهود الانبياء و الاوصياء و الدعاة الى الله ، يشهدون عليه ان قد بلغوه رسالات ربه فلم يقبلها . اي مسكين هذا الطاغية الذي تجتمع عليه الشهود من كل موقع و كل حدب ؟ ! ثم تراه في الدنيا غافلا لاهيا سادرا في جرائمه و كأنه لا حساب و لا عقاب .

[ و شاهد و مشهود ]


قال بعضهم : الشاهد يوم الجمعة بينما المشهود يوم عرفة ، و روي ذلك عن الامام علي - عليه السلام - ، و قال البعض : بل كل يوم يشهد على الانسان بما يفعل ، و روي عن الرسول - صلى الله عليه وآله - قوله : " ليس من يوم يأتي على العبد الا ينادي فيه : يابن ادم انا خلق جديد ، و انا فيما تعمل عليك شهيد ، فاعمل في خيرا اشهد لك به غدا ، فاني لو قد مضيت لم ترن ابدا ، و يقول الليل مثل ذلك " (1) .

[ 4] ارايت الذي خلق السماء ذات البروج فلم يدع فيها ثغرة و لا فطور ، و جعل للناس اليوم الموعود ليجمعهم و يشهدهم على انفسهم ، ارايته سبحانه يترك الانسان يعبث في الدنيا و يقتل عباده المؤمنين بطريقة شنيعة ثم لا يجازيه ؟ كلا ..

[ قتل اصحاب الاخدود ]

الذين شقوا في الارض اخاديد كالانهر العريضة ، و ملأوها نيرانا تستعر .

قال بعضهم : تلك لعنة ابدية تلاحق الظالمين ، فالقتل هنا كناية عنها .

و قال البعض : بل ان اولئك الظالمين قد قتلوا فعلا اذ خرجت شعلة من نيران اخدودهم و احرقتهم . و ربما قتلوا بعدئذ بطريقة اخرى .

المهم انهم لم يفلتوا من عذاب الاخرة ، و ان امهلوا في الدنيا لعدة ايام ، ذلك ان نظام الخليقة قائم على اساس العدالة ، و لن يقدر الظالم الانفلات من مسؤولية جرائمه .

[ 5] كانت نيران تلك الشقوق التي صنعوا في الارض مشتعلة تلتهم الضحايا بسرعة .


(1) القرطبي / ج 19 / ص 284 .


[ النار ذات الوقود ]

و كم هي فظيعة جرائم الطغاة ، و كيف يتوسلون بابشع الاساليب في سبيل بقائهم عدة ايام اخر في سدة الحكم .. افلا يستحق مثل هؤلاء نيران جهنم المتقدة ؟

[ 6] رهيب و مثير منظر الانسان البريء الوادع وهو يحترق بالنار و يجأر للمساعدة دون ان يستجيب له احد ، و قد يكون شيخا كبيرا او شابا يافعا او امرأة ضعيفة او حتى طفلة بعمر الورد .

ما اقسى قلوب الطغاة و اتباعهم و هم يتحلقون حول النار ينظرون الى المؤمين يلقون في النار فيحترقون ! حقا : ان الكفر يمسخ صاحبه ، و الطغيان يحوله الى ما هو اسوء من وحش كاسر .

[ اذ هم عليها قعود ]

[ 7] لقد دعوا الجماهير الى حفلة اعدام جماعية ، ليشهدوا عذاب المؤمنين ، و ليكون عذابهم عبرة لمن بعدهم لكي لا يفكر احد بمخالفة دين السلطان .

[ و هم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود ]

جريمة بشعة تقع في وضح النهار و بعمد و قصد و بتحدي سفيه لملكوت الرب حيث يستشهد على وقوعها المجرم الناس .. لا اظن ان جريمة تستكمل شروط الاجرام كهذه .. فماذا ينتظر المجرم غير القتل و ملاحقة اللعنة ؟

من هم اصحاب الاخدود ؟ و في اي بقعة كانوا ؟ قال مقاتل : ان اصحاب الاخدود ثلاثة : واحد بنجران ، و الاخر بالشام ، و الثالث بفارس ، اما بالشامانطياخوس الرومي ، و اما الذي بفارس فبختنصر ، و الذي بارض العرب يوسف بن ذي نواس (1) .

و حسب هذا القول يحتمل ان تكون جريمة الحرق بالنار عبر الاخدود شائعة في الجاهلية في اكثر من بلد ، و اذا لا يهمنا من كان يفعلها ، انما العبرة منها .

و جاء في بعض الاحاديث ان القصة وقعت في الحبشة حيث بعث الله اليهم نبيا فآمنت به طائفة فاخذوه و اياهم و القوهم في النار .. (2) .

الا ان النصوص استفاضت بقصة طريفة للاعتبار ، و لا يهمنا ذكر الاختلاف في تفاصيلها :

روى مسلم في الصحيح عن هدية بن خالد عن حماد بن سلمة عن ثابت بن عبد الرحمن بن ابي ليلى عن صهيب عن رسول الله - صلى الله عليه وآله - قال : " كان ملك فيمن كان قبلكم له ساحر ، فلما مرض الساحر قال : اني قد حضر اجلي فادفع الي غلاما اعمله السحر ، فدفع اليه غلاما و كان يختلف اليه ، و بين الساحر و الملك راهب ، فمر الغلام بالراهب فاعجبه كلامه و امره ، فكان يطيل عنده القعود ، فاذا ابطأ عن الساحر ضربه ، و اذا ابطأ عن اهله ضربوه ، فشكا ذلك الى الراهب ، فقال : يا بني اذا استبطأك الساحر فقل : حبسني أهلي، و اذا استبطأك اهلك فقال : حبسني الساحر ، فبينما هو ذات يوم اذا بالناس قد غشيهم دابة عظيمة ، فقال : اليوم اعلم أمر الساحر افضل ام امر الراهب ، فاخذ حجرا فقال : اللهم ان كان امر الراهب احب اليك فاقتل هذه الدابة ، فرمى فقتلها و مضى الناس ، فاخبر ذلك الراهب فقال : يا بني انك ستبتلى فاذا ابتليت


(1) القرطبي / ج 19 / ص 291 .

(2) تفسير الميزان / ج 20 / ص 256 نقلا عن الامام علي عليه السلام .


فلا تدل علي ، قال : و جعل يداوي الناس فيبرىء الاكمه و الابرص ، فبينما هو كذلك اذ عمي جليس للملك فأتاه و حمل اليه مالا كثيرا ، فقال : اشفني و لك ماهاهنا ، فقال : انا لا اشفي احدا ولكن الله يشفي ، فان آمنت بالله دعوت الله فشفاك ، قال : فآمن فدعا الله فشفاه ، فذهب فجلس الى الملك فقال : يا فلان من شفاك ؟ فقال : ربي ، قال : انا ؟ قال : لا ، ربي و ربك الله ، قال : او ان لك ربا غيري ؟ قال : نعم ربي و ربك الله ، فأخذه فلم يزل به حتى دله على الغلام ، فبعث الى الغلام فقال : لقد بلغ من امرك ان تشفي الاكمهو الابرص ، قال : ما اشفي احدا و لكن الله يشفي ، قال : او ان لك ربا غيري ؟ قال : نعم . ربي و ربك الله ، فأخذه فلم يزل به حتى دله على الراهب ، فوضع المنشار عليه فنشر حتى وقع شقتين ، فقال للغلام ، ارجع عن دينك فابى ، فارسل معه نفرا قال : اصعدوا به جبل كذا و كذا فان رجع عن دينه و الا فدهدهوه منه ، قال : فعلوا به الجبل فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت ، فرجف بهم الجبل فتدهدهوا اجمعون ، و جاء الى الملك فقال : ما صنع اصحابك ؟ فقال : كفانيهم الله ، فارسل به مرة اخرى قال : انطلقوا به فلججوه في البحر ، فان رجع و الا فاغرقوه ، فانطلقوا به في قرقور (1) فلما توسطوا به البحر قال : اللهم اكفنيهم بما شئت ، فانكفأت بهم السفينة ، و جاء حتى قام بين يدي الملك فقال : ما صنع اصحابك ؟ فقال : كفانيهم الله ، ثم قال : انك لست بقاتلي حتى تفعل ما امرك به اجمع الناس ثم اصلبني على جذع ثم خذ سهما من كنانتي ثم ضعه على كبد القوس ، ثم قل : باسم رب الغلام فانك ستقتلني ، قال : فجمع الناس و صلبه ثم اخذ سهما من كنانته فوضعه على كبد القوس و قال : باسم رب الغلام و رمى فوقع السهم في صدغه (2) و مات ، فقال الناس امنا برب الغلام ، فقيل له : ارايت ما كنت تخاف قد نزل و الله بك من الناس ، فأمر باخدود فخددت على(1) القرقور - بالضم - السفينة الطويلة .

(2) الصدغ - بضم الصاد - ما بين العين و الاذن .


افواه السكك ثم اضرمها نارا فقال : من رجع عن دينه فدعوه ، و من ابى فاقحموه فيها ، فجعلوا يقتحمونها ، و جاءت امرأت بابن لها فقال لها : يا امة اصبري فانك على الحق " (1) .

و روى سعيد بن جبير قال : لما انهزم اهل اسفندهان قال عمر بن الخطاب : ماهم يهود و لانصارى ، و لا لهم كتاب ، و كانوا مجوسا ، فقال علي بن ابي طالب : " بلى . قد كان لهم كتاب رفع ، و ذلك ان ملكا لهم سكر فوقع على ابنته - او قال : على اخته - فلما افاق قال لها : كيف المخرج مما وقعت فيه ؟ قالت : تجمع اهل مملكتك و تخبرهم انك ترى نكاح البنات و تأمرهم ان يحلوه ، فجمعهم فاخبرهم فأبوا ان يتابعوه فخد لهم اخدودا في الارض و اوقد فيه النيران و عرضهم عليها فمن ابى قول ذلك قذفه في النار و من اجاب خلى سبيله " (2) .

و روي عن الامام الباقر - عليه السلام - قال : " ارسل علي - عليه السلام - الى اسقف نجران يساله عن اصحاب الاخدود فاخبره بشيء ، فقال - عليه السلام - : ليس كما ذكرت و لكن سأخبرك عنهم : ان الله بعث رجلا حبشيا نبيا و هم حبشية ، فكذبوه فقاتلهم اصحابه، و اسروه و اسروا اصحابه ، ثم بنوا له جسرا ، ثم ملؤوه نارا ، ثم جمعوا الناس فقالوا : من كان على ديننا و امرنا فليعتزل ، و من كان على دين هؤلاء فليرم نفسه بالنار ، فجعل اصحابه يتهافتون في النار ، فجاءت امرأة معها صبي لها ابن شهر فلما هجمت هابت ورقت على ابنها ، فنادى الصبي : لا تهابي و ارميني و نفسك في النار ، فان هذا و الله في الله قليل ، فرمت بنفسها في النار و صبيها ، و كان ممن تكلم في المهد " (3) .

و جاء في حديث مأثور عن الامام الصادق - عليه السلام - قال : " قد كان(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 546 .

(2) المصدر / ص 547 .

(3) المصدر .


قبلكم قوم يقتلون ، و يحرقون ، و ينشرون بالمناشير ، و تضيق عليهم الارض برحبها ، فما يردهم عما هم عليه شيء مما هم فيه من غير ترة و تروا من فعل ذلك بهم و لا اذى ، بل ما نقموا منهم الا ان يؤمنوا بالله العزيز الحميد ، فأسالوا ربكم درجاتهم و اصبروا على نوائب دهركم تدركوا سعيهم " (1) .

و هكذا يفعل الايمان بالقلب الانساني فيجعله اقوى من زبر الحديث ، اثبت من الراسيات ، اسمى من القمم السامقة ، اشد صلابة من كل ما يبتدعه الطغاة من وسائل الاذى و التعذيب و القتل ! !

و قد نتساءل : ما الذي جعل هذا الانسان الذي لا يكاد يتحمل اذى بقة يقتحم النيران المتقدة بجسده النض ليحترق امام اعين الناقمين و الشامتين ، دون ان يتنازل عن ايمانه ؟

اقول : اولا : ان وضوح الرؤية عندهم كان قد بلغ حدا كانوا يعيشون ( ببصائر قلوبهم ) الجنة و نعيمها فيتسلون بها عن شهوات الدنيا ، و يعيشون ( بقوى قلوبهم ) النار و عذابها فتهون عليهم مصائب الدنيا و مشاكلها .

و اننا نقرا قصة الام التي ترددت قليلا باقتحام النار مع رضيعها فقال لها ابنها : يا اماه اني ارى امامك نارا لا تطفأ ( يعني نار جهنم ) فقذفا جميعا انفسهما في النار .

ثانيا : عندما يقرر الانسان شيئا يسهل عليه القيام به ، و بالذات حينما يكون الامر في سبيل الله يهونه الرب له ، و يثبت عليه قدمه ، و يرزقه الصبر على آلامه و تبعاته ، و يقوى ايمانه ، و يشحذ بصيرته ليرى بها اجره في الاخرة .. و هكذا ترى عباد الله الصالحين يقاومون عبر التاريخ مختلف الضغوط ، و يتحملون الوانا من(1) المصدر .


الاذى بقلب راض و نفس مطمئنة ، لعلمهم ان سنن الله واحدة لا تتغير و لا تتبدل ، و ان المؤمنين الذين احترقوا في الاخدود هم سواء مع اي مؤمن يعتقل اليوم في سجون الطغاة او يعذب او يقتل او يتحمل مشاكل الهجرة و الجهاد و مصائبهما ، و كما خلد الله امجاد اولئك الصديقين فانه لا يضيع اجر هؤلاء التابعين لهم ، و كما ان الله قتل اصحاب الاخدود و نصر رسالاته فانه يهلك الجبارين اليوم و يستخلفهم بقوم اخرين .

[ 8] عند هيجان الصراع و ثورة الدعاية ضد المؤمنين . لا يعرف الناس ماذا يفعلون ، و اي جريمة يرتكبون ، و لكن عندما يرجعون الى انفسهم بعدئذ و يتساءلون : لماذا قتلوا المؤمنين ، و لماذا نقعموا منهم ، يعرفون انهم كانوا في ضلال بعيد .

[ و ما نقموا منهم الا ان يؤمنوا بالله العزيز الحميد ]فلا افسدوا في الارض ، و لا اعتدوا على احد ، و لا طالبوا بغير حق ، و انما استعادوا حريتهم ، و آمنوا بربهم الله العزيز المنيع الذي لا يقهر و الحميد الذي لا يجور و لا يبخل ، و يعطي جزاء العباد ، و يزيدهم من فضله .

[ 9] و ايهما الحق التمرد على سلطان السماوات و الارض ، و الدخول في عبودية بشر لا يملكون دفع الضر عنهم ، ام التحرر من كل عبودية و قيد ، و الدخول في حصن الملك المقتدر القاهر ؟

[ الذي له ملك السماوات و الارض ]

و بالرغم من ان الله منح الطغاة فرصة الاختيار ضمن مهلة محدودة الا انه شاهد على ما يعملون ، و لا يغيب عنه شيء في السماوات و الارض .


[ و الله على كل شيء شهيد ]

[ 10] و شهادة الله ليست للتاريخ فقط ، و انما للجزاء العادل ، فانه يسوق الطغاة الى جهنم ذات النار اللاهبة و العذاب المحرق .

[ ان الذين فتنوا المؤمنين و المؤمنات ]

و هذه حكمة الله في اعطاء الطغاة فرصة الامتحان ، لانهم بعملهم هذا فتنوا المؤمنين و اختبروا ارادتهم ، حتى ظهر للناس قيمة الايمان و معناه ، و كيف انه فوق الماديات ، و ان دعوة الرسول و اتباعه ليست من اجل مال او سلطان . ثم انهم فتنوا المؤمنين فخلص ايمانهم من رواسب الشرك ، و خلصت نفوسهم من بقايا الجهل و الغفلة ، و خلصت صفوفهم من العناصر الضعيفة ، كما يخلص الذهب حينما يفتن في النار من كل الرواسب .

تلك كانت حكمة الرب في اعطاء الجبارين فرصة ارتكاب تلك المجازر البشعة بحق الدعاة الى الله . و لعل بعضهم عادوا الى الله و تابوا من فعلتهم ، و لذلك اشار ربنا بقوله :

[ ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم و لهم عذاب الحريق ]و فرق كبير بين عذاب جهنم الاشد و الابقى ، و بين عذاب الاخدود الذي يمر كلمح البصر ، ثم ينتهي المعذبون الى روح و ريحان .

[ 11] اما اولئك المعذبون فان الجنات تنتظرهم .

[ ان الذين امنوا و عملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الانهار ذلك الفوز الكبير ]سواء دخلوا التحديات الكبيرة كأصحاب الاخدود ام كانوا من التابعين لهم . و اي فوز اعظم لهم من انتهاء محنتهم و فتنتهم ، و بلوغ كامل اهدافهم و تطلعاتهم ؟ !

[ 12] قسما بالسماء ذات البروج و باليوم الموعود و بالشاهد و المشهود : ان اخذ الله شديد حيث يأخذ الطغاة و الظالمين .

[ ان بطش ربك لشديد ]

قالوا : ان هذه الجملة جواب للقسم في فاتحة السورة . و لعل قوله : " قتل اصحاب الاخدود " ايضا جواب اخر للقسم ، فيكون القسم اطارا لكل الحقائق التي تذكر في هذه السورة .

و من هذه الآية يظهر ان الله قد اخذ اصحاب الاخدود اخذا اليما كما اخذ سائر الطغاة .

[ 13] و كيف لا يكون شديدا بطش جبار السماوات و الارض الذي يبدىء خلق الانسان و يعيده بعد الفناء ؟ !

[ انه يبدىء و يعيد ]

[ 14] و انما لا يأخذ اهل الارض بما كسبوا عاجلا ، و يعفو عن كثير من سيئاتهم لانه يستر ذنوبهم و يحبهم .

[ وهو الغفور الودود ]

[ 15] و وده للمؤمنين و غفرانه لذنوب عباده انما هو لعزته و قوته .

[ ذو العرش المجيد ]


و سواء قرأناه بالضم ليكون صفة للرب او بالكسر ليكون صفة للعرش فانه واحد اذ عرشه هيمنته و سلطانه ، وهو اسم من اسمائه الحسنى ، و صفة من صفاته الكريمة .

[ 16] و كيف لا يكون سلطانا عظيما من يفعل ما يريد دون ممارسة لغوب و لا علاج ؟

[ فعال لما يريد ]

و ارادة الله صفة قدرته المطلقة . و هذه الآية تدل على انه لا شيء يحد ارادته ، فليست ارادته قديمة كما زعمت فلاسفة اليونان ، و تسربت تلك الفكرة الى اليهود فقالوا : " يد الله مغلولة " ! سبحان الله كيف يكون القادر اولا عاجزا اخرا ؟ ! و هل يوصفالرب تعالى بالاول و الاخر فيكون متغيرا ؟ !

و انعكاس هذه الصفة علينا - نحن البشر - الا يدعونا استمرار نعم الله و عادته الكريمة علينا الى الغرور به ، و التمادي في الذنوب دون خشية عقابه .

[ 17 - 18] فهؤلاء جنود ابليس اجتمعوا ليبطشوا بالمؤمنين فأين انتهى بهم المقام ؟

[ هل اتاك حديث الجنود * فرعون و ثمود ]

يسوقهما القرآن سوقا واحدا بالرغم من اختلاف اكثر الظروف ، ذلك لانه سنة الله واحدة فيهما كما في غيرهما .

[ 19] قد يبني البشر بنيانا متكاملا من الكذب و يحشر نفسه فيه ، فتراه يبحث لانكاره لوجود ربه او لقدرته او لسنته في الجزاء عن فلسفة ذات ابعاد لعله يقنع نفسه و الاخرين بها ، و يسميها - جدلا - فلسفة الالحاد او الفلسفة المادية ، و قديتجاوز كل الحقائق و يسميها زورا بالفلسفة العلمية ، ثم يجعل امام كل حق باطلا ، و لكل صوات بديلا من الخطا ، ثم يحكم - في زعمه - نسج هذه الاباطيل ببعضها و يسميها نظرية او مبدا ، و ان هي الا سلسلة من الاكاذيب .

ومثل هذا الانسان لا يسهل عليه الخروج من شرنقة الكذب التي نسجها حول نفسه ، و لذلك يتحصن ضد كل العبر و المواعظ حتى ولو كانت في مستوى عبرة العذاب الذي استأصل شأفة فرعون و ثمود .

[ بل الذين كفروا في تكذيب ]

لانهم كفروا باعظم و اوضح الحقائق ( بالله العظيم و رسالاته ) و دخلوا في نفق التكذيب فلم يخرجوا منه للاعتبار بمصير فرعون الذين اشتهرت قصته بين اهل الكتاب او بمصير ثمود الذين عرفت العرب أمرهم .

[ 20] و هل ينفعهم التكذيب شيئا ؟ هل يمنعهم جزاء اعمالهم او يخدع من يجازيهم فينصرف عنهم ؟ كلا .. لماذا ؟ لان الانسان يواجه ربه و الله محيط بهم علما و قدرة .

[ و الله من ورائهم محيط ]

قالوا : وراء الشيء الجهات المحيطة به الخارجة عنه ، فيكون مفهوم الآية ان الله محيط بكل بعد من ابعاد حياتهم .

و هذا يتقابل مع كونهم في تكذيب .

[ 21] و لكن اينتظرون ما يذكرهم و يخرجهم من نفق التكذيب اعظم من هذا الكتاب العظيم ؟


[ بل هو قرآن مجيد ]

عظيم المستوى ، رفيع المجد ، لا تناله ايدي التحريف ، و لا يبلغ مستواه التافهون الحقراء الذين يعيشون في حضيض الشهوات ، و لا يمس جواهر حقائقه و لآلى معانيه سوى المطهرين من دنس الشرك ، و من رجس العقد النفسية ، و من ظلام الافكار الباطلة .

لا بد ان ترتفع الى قمة المجد حتى تدرك بعض معاني الكتاب العظيم .

[ 22] و من علامات مجده و عظمته انه محفوظ في لوح عند الله لا يستطيع احد المساس به .

[ في لوح محفوظ ]

جاء في الدر المنثور عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه واله - : " خلق الله لوحا من درة بيضا دفتاه من زبر جدة خضراء ، كتابه من نور ، يلحظ اليه في كل يوم ثلاث مائة و ستين لحظة يحيي و يميت ، و يخلق و يرزق ، و يعز و يذل ، و يفعل و يشاء " (1) .

و هذا الحديث تفسير قوله سبحانه : " فعال لما يريد " . اما اللوح المحفوظ المذكور في هذه الآية فلعله اشارة الى الآية الكريمة : " انا نحن نزلنا الذكر و انا له لحافظون " ، حيث ان ربنا يحفظ اللوح من ان يرسم فيه غيره .


(1) تفسير الميزان .

فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس