فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


يا ايها الانسان ما غرك برك الكريم
بينات من الايات

[ 1] كما سورة التكوير تنساب فاتحة السورة في بيان اشراط الساعة حيث تنهار انظمة الخليقة ، فاذا بالسماء تنفطر ، و الكواكب تنتثر ، و البحار تتفجر ، و القبور تتبعثر .. و يكفي القلب الواعي ذلك واعظا و يتساءل : لماذ كل ذلك ؟ لكي يحاسب الانسان و يجازى ، واول من يحاكم الانسان يومئذ نفسه حيث تعلم ما قدمت و اخرت من خير او شر .

[ اذا السماء انفطرت ]

قالوا : اي تشققت بأمر الله و تنزلت الملائكة ، كما قال ربنا العزيز : " يوم تشقق السماء بالغمام و نزل الملائكة تنزيلا " (1) .


(1) الفرقان / 25 .


و يبدو ان الامر اعظم من ذلك ، فالسماء التي جعلها الله سقفا محفوظا لم تعد بناء متقنا . اوليس انتهى يوم الامتحان وجاء يوم الحساب ؟ اوليس امتحان البشر هو حكمة الخلق و الان ذهبت الحكمة فليذهب ما يتصل بنا .

و اذا انفطرت السماء تقاطرت الصخور العملاقة التي جاءت من تفتت النجوم على الارض ، فويل لمن لا يحتمي اليوم بظل التقوى حتى يكون ذلك اليوم محميا بظل العرش !

[ 2] حوادث عظيمة في تاريخ العالم ، كالانفجار الهائل الذي ترى بعض النظريات العلمية انه وقع قبل حوالي ( 15 ) مليار سنة ، و الذي تلتقط بعض الاجهزة العلمية الحساسة صداه في اطراف الكون .. و لا ريب ان هذه الحوادث تتكرر لان عواملها قائمة ، و لكن متى و كيف؟ لم يبلغ علمنا حتى اليوم معرفة ذلك ، بيد ان الوحي ينبؤنا بان نظام وجود المنظومة التي نعيشها ينهار ، فهل ينهار ايضا نظام سائر المنظومات و المجرات ؟ يستوحي بعض المفسرين ذلك من هذه الآية التي تقول :

[ و اذا الكواكب انتثرت ]

قالوا : الكواكب كل النجوم ، و معنى انتثارها تبددها ، لان انتثرت بمعنى الانتثار و التساقط . و لكن يحتمل ان يكون الامر خاصا بهذه المنظومة و كواكبها لان الحديث يتعلق بما فيها ، و الله العالم .

[ 3] و ماهي علاقة انتثار الكواكب بانفطار السماء ؟ هل ان ضغطا هائلا تتعرض له منظومتنا تسبب في تبدد السماء و انتثار النجوم ، ام ان انعدام الجاذبية يسبب فقدان التوازن الدقيق الذي تعيش عليه الارض ، ام شيء اخر ؟ لا نعلم انما الذي يبدو لنا من خلال النصوصان هزة عنيفة تصيب صميم الخليقة ، حيث


ان البحار تتفجر بعد ان تسجر نارا .

[ و اذا البحار فجرت ]

و قال بعضهم : ان معنى فجرت تداخل بعضها في بعض حتى يكون بحرا واحدا ، كما فسروا كلمة " سجرت " في السورة السابقة بالامتلاء ، بيد ان المناسب لانفطار السماء ، و انتثار النجوم فيها تفجر البحار ، و الله العالم .

[ 4] و تتماوج البسيطة كما مياه البحر ، و تخرج الارض اثقالها التي في بطنها ، و منها اجساد بني آدم التي تقذف منها بعد ان يحييها الله سبحانه .

[ و اذا القبور بعثرت ]

قالوا : بمعنى قلبت و اخرج ما فيها من اهلها .

[ 5] في مثل هذا الجو يجد الانسان اعماله ماثلة امامه ، حيث لاسماء تظله ، و لا جبال تكنه ، و لا بحر و لا بر يمكنه الفرار فيه .. الله اكبر ما اصعب موقف الانسان ذلك اليوم !

[ علمت نفس ما قدمت و اخرت ]

قالوا : ما قدمت في حياته ، و ما بقيت منه بعد وفاته كالسنة الحسنة الباقية او البدعة المستمرة من بعده ، و قال بعضهم : ما تقدم اول عمره ، و ما تأخر في سني حياته الاخيرة .. و يبدو هذا التفسير اقرب . و انى كان فان هذه هي المسؤولية التي تتجسد ذلك اليوم ، فقد يقدم الانسان بين يدي افعاله السيئة بعض الاعذار ، و قد يلقيها على غيره او ينساها او يتناساها و يخفيها في الدنيا و لكنه في الاخرة يجدها امامه بلا نقصان ، و لا يستطيع منها فرارا " يوم تجد كل نفس ما عملت من خيرمحضرا و ما عملت من سوء تود لو ان بينها و بينه امدا بعيدا " افليس من العقل ان يراقب الانسان نفسه لكي لا يصدر منه علم سيء ، و ان يلغي الاعذار و التبريرات فلا يتشبث بها في الدنيا ما دامت لا تنفعه شيئا في تلك الدار ، و ان يتخذ من التقوى حجابا بينه وبين اهوال ذلك اليوم الرهيب ؟

[ 6] و تنتفض النفس من اعماقها حينما يناديها الرب بكل حنان و عطف و كبرياء :

[ياايها الانسان ما غرك بربك الكريم ]

لماذا تتمرد عليه ؟ هل لانك استغنيت عنه فطغيت ؟ او لم يخلقك من ماء مهين ؟ او لم يسوي خلقك حتى اصبحت متكاملا متعادل الوجود ؟ ام انك تنكر هيمنته عليك ؟ اوليس هو الذي اختار صورتك التي انت عليها من قصر وطول و قوة و ضعف و بياض او سواد او سمرة و . و ؟ امانك اغتررت بكرمه الذي واتر عليك به نعمه ظاهرة و باطنة ؟ افلم يهدك قلبك ان تتقي غضبة الحليم ؟ او لم تبعثك مروءتك ان تجازي احسانه بالاحسان ام ماذا ؟ يبدو ان الاجابة عن هذا السؤال متفاوتة من شخص لاخر ، و لكن ليس هنالك اي تبرير مقبول ، ذلك لان الغرور حالةمرفوضة اساسا باي سبب كان .

و قد جاء في حديث ماثور عن رسول الله - صلى الله عليه واله - انه قال : " غره جهله " بلى . غرهم بربهم تواتر نعمه ، و تتابع الائه ، قال الامام السجاد - عليه السلام - : " اذهلني عن شكرك تواتر نعمك " .

بيد ان ذلك ليس من مصلحة الانسان ، انما عليه ان يحارب الغرور بيقظة الضمير ، و سلاح التقوى . كذلك اوصانا امامنا امير المؤمنين علي بن ابي طالب- عليه السلام - حيث قال بعد تلاوته للآية : " يا ايها الانسان ما غرك بربك الكريم " :

" ادحض مسؤول حجة ، و اقطع مغتر معذرة ، لقد ابرح جهالة بنفسه .

يا ايها الانسان ، ما جراك على ذنبك ، و ما غرك بربك ، و ما انسك بهلكة نفسك ؟ اما من دائك بلول ، ام ليس من نومتك يقظة ؟ اما ترحم من نفسك ما ترحم من غيرك ؟ فلربما ترى الضاحي من حر الشمس فتظلة ، او ترى المتبلى بالم يمض جسده فتبكي رحمة له ! فما صبرك علىذائك ، و جلدك على مصابك ، و عزاك عن البكاء على نفسك و هي اعز الانفس عليك ! و كيف لا يوقظك خوف بيات نقمة ، و قد تورطت بمعاصيه مدارج سطواته ! فتداو من داء الفترة في قلبك بعزيمة ، و من كرى الغفلة في نظرك بيقظة ، و كن لله مطيعا ، و بذكره انسا . و تمثل في حال توليك عنه اقباله عليك ، يدعوك الى عفوه ، و يتغمدك بفضله ، و انت متول عنه الى غيره . فتعالى من قوي ما اكرمه ! و تواضعت من ضعيف ما اجراك على معصيته ! و انت في كنف ستره مقيم ، و في سعة فضله متقلب . فلم يمنعك فضله ، و لم يهتك عنك ستره ، بل لم تخل منلطفه مطرف عين في نعمة يحدثها لك ، او سيئة يسترها عليك ، او بلية يصرفها عنك . فما ظنك به لو اطعته ! و ايم الله لو هذه الصفة كانت في متفقين في القوة ، متوازيين في القدرة ، لكنت اول حاكم على نفسك بذميم الاخلاق ، و مساوىء الاعمال ، و حقا اقول ! ما الدنيا غرتك ، و لكن بها اغتررت . و لقد كاشفتك العظات ، و اذنتك على سواء . و لهي بما تعدك من نزول البلاء بجسمك ، و النقص في قوتك ، اصدق و اوفى من ان تكذبك ، او تغرك . و لرب ناصح لها عندك متهم ، و صادق من خبرها مكذب . و لئن تعرفتها في الديار الخاوية ، و الربوع الخالية ، لتجدنها م ن حسن تذكيرك ، و بلاغ موعظتك ، بمحلة الشفيق عليك ، و الشحيح بك ! و لنعم دار من لم يرض بهادارا ، و محل من يوطنها محلا ! و ان السعداء بالدنيا غذا هم الهاربون منها اليوم .

اذا رجفت الراجفة ، و حقت بجلائلها القيامة ، و لحق بكل منسك اهله ، و بكل معبود عبدته ، و بكل مطاع أهل طاعته ، فلم يجز في عدله و قسطه يومئذ خرق بصر في الهواء ، و لا همس قدم في الارض الا بحقه ، فكم حجة يوم ذاك احضة ، و علائق عذر منقطعة !

فتحر من امرك ما يقوم به عذرك ، و تثبت به حجتك ، و خذ ما يبقى لك مما لا تبقى له ؛ و تيسر لسفرك ؛ و شم برق النجاة ؛ و ارحل مطايا التشمير " (1) .

و قد نظم بعضهم بعض هذه البصائر شعرا فقال :

يا كاتم الذنب اما تستحي و الله في الخلوة ثانيكاغرك من ربك امهاله و ستره طول مساويكاو قال اخر :

يا من علا في العجب و التيه و غره طول تماديهاملى لك لله فبارزته و لم تخف غب معاصيهو للمحقق الحلي - رحمته الله - شعرا بديعا يقول فيه :

يا راقدا و المنايا غير راقدة و غافلا و سهام الليل ترميه(1) نهج البلاغة / خطبة 223 .


بم اغترارك و الايام مرصدة و الدهر قد ملأ الاسماع داعياما ارتك الليالي قبح دخلتها و غدرها بالذي كانت تصافيهرفقا بنفسك يا مغرور ان لها يواما تشيب النواصي من دواهيه[ 7 ] حينما يعي الانسان نفسه ، و يعرف بدايته ، و كيف تقلب في يد القدرة طورا فطورا ، و تذكر انه كان نطفة مهينة ، يقذفها مبال في مبال ، و يستقذرها صاحبها ايما استقذار ، ثم جعل الله تلك النطفة التي خلقها بعظمته رجلا سويا ذا اعضاء يكمل بعضها بعضا ، و في نظام عظيم لم يسع العلم الاحاطة به ، بالرغم من الموسوعات الكبيرة التي كتبت حوله .. هذا التكامل الذي يبدا من تكامل اليد و الرجل و الاذن و سائر الجوارح و مدى تناسق ادوارها ، و ينتهي بتكامل كل خلية في الجسم مع سائر الخلايا ، ضمن قيادة حازمة من اعصاب المخ و خلاياه و من الغدد المنتشرة في اطرافه .

ثم مضافا الى الخلق يجد الانسان ذلك التناسق بينه و بين الخليقة من حوله ، كيف يتكيف جسمه مع الحر و البرد ، و الخشونة و الليونة ، و مع مختلف الطعام و الشراب ، و كيف يتعامل مع سائر الاحياء ابتداء من الوحوش الضارية و انتهاء بالجراثيم الفتاكة .. و قد جعلالله للانسان القدرة على التكيف و التفوق ثم تسخير الطبيعة .

اقول : حينما نعي كل ذلك اوليس نرى كرم ربنا و حكمته ؟ فلماذا الغرور و التمادي في معصيته ؟ !

[ الذي خلقك ]

افلم نكن عدما فانشانا لا من شيء كان ، بلا تعب و لا لغوب ، و لا مثل سابق يحتذى ، و خريطة تنفذ ؟


[ فسواك ]

فلم يجعل تقدير خلقك ناقصا ، بل زودك بما تحتاجه بافضل ما تحتاجه . الم يجعل لك عينين و لسان و شفتين ؟ و اذا انعمنا النظر راينا هذه التسوية في الخلق نافذة في كل اعضاء الجسد ، حتى قال ربنا عن البنان : " بلى قادرين على ان نسوي بنانه " ، و يأتيالعلم الحديث و يقول : ان لكل انسان بصمات مختلفة عن اي بشر اخر في العالم ، و يعتقد ان صورة بصمات بنانه منسجمة مع مجمل كيانه ، حتى انهم بداوا يكتشفون بعض الامراض من صفحة كف الانسان اوليس ذلك دليل الحكمة في الخلق ؟

و قال بعضهم في معنى التسوية : انه سوى بين طرفي جسد الانسان في كل شيء ( بما يتناسب و وجوده ) .

و قال البعض : انه سبحانه جعل كل عضو يتعامل مع سائر الاعضاء .

و قال اخر : انه سبحانه سخر له المكونات ، و ما جعله مسخرا لشيء ، ثم انطلق لسانه بالذكر ، و قلبه بالعقل ، و روحه بالمعرفة ، و سره بالايمان ، و شرفه بالامر و النهي ، و فضله على كثير ممن خلق تفضيلا .

و ان كل ذلك لمن بعض تجليات الاستواء في الخلق .

و قد بلغت درجة الاستواء منتهاها في خلقة البشر فكانت عدلا لا نجد فيه ثغرة او زيغا .

[ فعدلك ]

و يبدو لي ان الصفات الثلاث ( الخلق و التسوية و التعديل ) درجات في حالة واحدة ، فالخلق بمعناه اللغوي هو الترتيب ، و الاستواء تكامل الترتيب ، و العدل تناسقالتكامل مع حاجت الشيء ، و الحكمة منه فقد سوي الانسان بحيث يستطيع ان يقوم بالدور المحدد له تماما .

و قد قال بعضهم : المراد من التعديل : ان الله جعله معتدلا سوي الخلق ، و قال اخر : ان معناه ان الله اماله و حرفه في اي صورة شاء ، و يبدو ان المعنى الاول انسب و السياق . فيكون معنى الخلق الترتيب ، و معنى الاستواء التناسب بين اعضائه ، و معنى العدل التناسب مع المحيط .

[ 8] و بعد ان تكاملت خلقته و استوت على اساس الحكمة و العدل اختار الرب لها الصورة حسب مشيئته ، و حسب حكمة بالغة يصعب معرفة كنهها .

[ في اي صورة ما شاء ركبك ]

لكل واحد منا صورة ظاهرة جميلة او ذميمة او مقبولة اختارها الله لنا حسب تقسيم الارزاق الذي يتبع حكمته عليها ، قد لا يرضى ببعض مفرداتها هذا او ذاك لما في البشر من الحرص و الطمع و الاستئثار ، و لكنها من حيث المجموع مقبولة حسب شهادة فطرة كل انسان و عقله.

و كما الصور الظاهرة هناك صورة داخلية ركبت على الانسان . او لا ترى كيف فضل الله كل انسان بميزة ، و اودع في ضميره رغبة تختلف عن الاخرين ، مما يجعل كل شخص يختار طريقا مختلفا في الحياة ، يلتقي بالتالي في ايجاد حالة من التكامل في المجتمع ، فترى البعض يختار الطب و يصلح له ، و الثاني يرغب في الهندسة و تتناسب شخصيته معها ، و الثالث يطمح للقيادة او الادارة و هو لها اهل ، بينما لا يرغب البعض الا في الاعمال اليدوية .. و هكذا قال ربنا سبحانه : " ليتخذ بعضكم بعضا سخريا " .


و هذا لا يعني ان هذه الرغبات حتمية ، فان الانسان يستطيع تحويلها ، و لكن اغلب الناس يرضون بها مما يحقق الحكمة الالهية من توزيعها على البشر .

[ 9] ماذا ينبغي ان تكون علاقاتك بربك ؟ هل التمرد و الطغيان ام التسليم ؟ حقا : ان اغلب الناس ينحرفون نحو الطغيان الذي يبدا من التكذيب بالجزاء ، وهو اعظم اسباب الغرور ، فمن آمن بالجزاء اتقى غضب الرب .

[ كلا بل تكذبون بالدين ]

و ان هذا التكذيب لا يتناسب ابدا و تلك النعم الالهية التي تهدينا الى قدرة الرب و حكمته .

[ 10] و هل يتخلص الانسان بالتكذيب من أهوال الساعة او مسؤولية افعاله ؟ بتعبير اخر : هل اني لو كذبت بالموت لا اموت ، او كذبت بوجود المرض اعافى منه ؟ بالعكس التكذيب بذاته جريمة كبرى قدر لها عقاب عظيم ، و هو مفتاح لابواب الشر ، لانه يخدع الانسان فيسترسل في سلسلة من المعاصي دون رادع من ضمير او ناصح من عقل .. و كلها تسجل عليه فيحاسب عليها حسابا عسيرا .

[ و ان عليك لحافظين ]

يحفظون كل عمل يرتكبه الانسان او قول يتفوه به او هاجسة بقلبه ، قال ربنا سبحانه : " ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد " .

هكذا قال اكثر المفسرين ، و يحتمل ان يكون المراد من الحافظين الذين يحفظون البشر من المهالك حتى يأتي امر الله ، كما قال الله : " ان كل نفس لما عليها حافظ " ، و قال تعالى : " و يرسل عليكم حفظة " ، و قال : " له مقعبات من بين


يديه و من خلفه يحفظونه من امر الله " .

[ 11] و هؤلاء الحفظة كرام عند ربهم ، تساموا عن الكذب او الغفلة او السهو ، و هم بالاضافة الى ذلك يكتبون ما يصدر من الانسان .

[ كراما كاتبين ]

[ 12 ] و لا يمكن للانسان ان يخفي عنهم شيئا من اعماله لانهم حضور شهود .

[ يعلمون ما تفعلون ]

قال امير المؤمنين علي - عليه السلام - : " اعلموا عباد الله ان عليكم رصدا من انفسكم ، و عيونا من جوارحكم ، و حفاظ صدق يحفظون اعمالكم و عدد انفاسكم ، لا تستركم منهم ظلمة ليل داج ، و لا يكنكم منهم باب ذو رتاج " (2) .

و روي عنه - عليه السلام - انه مر برجل و هو يتكلم بفضول الكلام ، و يخوض في احاديث لا نفع فيها و لاطائل وراءها ، فقال : " يا هذا ! انك تملي على كاتبيك كتابا الى ربك فتكلم بما يعنيك ، و دع مالا يعنيك " (2) .

و جاء في كتاب سعد السعود لابن طاووس :

دخل عثمان على رسول الله - صلى الله عليه واله وسلم - فقال : اخبرني عن العبد كم معه من ملك ؟ قال : " ملك على يمينك على حسناتك ، و واحد على الشمال ، فاذا عملت حسنة كتب عشرا ، و اذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين اكتب ؟ قال : لعله يستغفر و يتوب فاذا قال ثلاثا قال :


(1) بحار الانوار / ج 5 / ص 322 .

(2) المصدر / ص 327 .


نعم اكتب ، اراحنا الله منه فبئس القرين ، ما اقل مراقبته لله عز وجل ! و ما اقل استحياؤه منه ! يقول الله : " ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد " و ملكان بين يديك و من خلفك ، يقول الله سبحانه : " له معقبات من بين يديه و من خلفه " و ملك قابض على ناصيتك ، فاذا تواضعت لله رفعك ، و اذا تجبرت على الله وضعك و فضحك ، و ملكان على شفتيك ليس يحفظان الا الصلاة على محمد - صلى الله عليه واله - ، و ملك قائم على فيك لا يدع ان تدخل الحية في فيك ، و ملكان على عينيك ، فهذه عشرة املاك على كل ادمي ،و ملائكة الليل سوى ملائكة النهار ، فهؤلاء عشرون ملكا على كل ادمي " (1) .

و ان وعي الانسان حضور هذا الحشد من ملائكة الله عنده افضل وسيلة لتعميق روح المسؤولية .

و تساءل البعض عن الحكمة في توكيل هؤلاء الحفظة بالانسان ، فقال : ما علة الملائكة الموكلين بعباده يكتبون عليهم و لهم و الله عالم السر و ما اخفى ؟ ، فاجاب الامام الصادق - عليهم السلام - : " استعبدهم بذلك و جعلهم شهودا على خلقه ، ليكون العباد لملازمتهم اياهم اشد على طاعته مواظبة ، و من معصيته اشد انقباضا ، و كم من عبد يهم بمعصية فذكر مكانها فارعوى و كف ، فيقول : ربي يراني و حفظتي علي بذلك تشهد ، و ان الله برافته و لطفه و كلهم بعباده يدبون عنهم مردة الشياطين ، و هوام الارض ، و افات كثيرة من حيثلا يرون باذن الله الى ان يجيء امر الله عز وجل " (2) .

[ 13] و تتجلى المسؤولية عندما يستقبل رب الرحمة عباده الصالحين في النعيم الخالد .


(1) المصدر / ص 324 .

(2) المصدر / ص 323 .


[ ان الابرار لفي نعيم ]

[ 14 - 15 ] اما الذين خرقوا ستر الفضيلة ، و اوغلوا في الفضائح فانهم يدخلون النار .

[ و ان الفجار لفي جحيم ]

هل هم اليوم في الجحيم ام غدا ؟ عندما يموتون ام عندما تقوم الساعة ؟ بلى . انهم اليوم في الجحيم . اولم يقل ربنا سبحانه : " و ان جهنم لمحيطة بالكافرين " ؟ و لكنهم اليوم محجوبون عنها ، و غدا عندما يموتون و بعد الحشر يجدون انفسهم في وسطها يصلونها مباشرة ، لان الذي سترهم عنها اليوم طبيعة الدنيا التي هي دار امتحان ، فاذا نقلوا الى دار الجزاء فيما الذي يستر اجسامهم الناعمة عن النار اللاهبة ؟

[ يصلونها يوم الدين ]

لان ذلك اليوم فعلا يوم الجزاء الاكبر ، فالجحيم تحرقهم و تلهب جلودهم نارا .

و قال بعضهم : ان معنى الآية ان الفجار يدخلون الجحيم يوم الدين ، و انما ذكر ذلك بصورة قاطعة و كانه واقع اليوم لان الوعيد يأتي من السلطان المقتدر و الذي لا يعجزه شيء و لا يحجزه عما يريده احد .

[ 16 ] و لا يقدر احد منهم ان ينتقل من الجحيم او حتى يغيب عنها ساعة .

[ وما هم عنها بغائبين ]

قال بعضهم : الاية تدل على خلودهم في جنهم فاذا معنى الفجار المعاندون .


بينما الاية ليست صريحة في هذا المعنى بل في انهم عند دخلوهم الجحيم و مدة مكثهم فيه لا يغيبون عنها ، و الله العالم .

و نقل الرازي عن الامام جعفر بن محمد الصادق - عليه السلام - ما يلي : " النعيم المعرفة و المشاهدة ، و الجحيم ظلمات الشهوات " (1) و هذا ينطبق على التفسير الاول .

[ 17] ليست قدراتنا العلمية في مستوى الاحاطة علما باحداث ذلك اليوم الرهيب ، لانه يوم يختلف كل شيء فيه تقريبا عن هذا اليوم .

[ و ما ادراك ما يوم الدين ]

انه يوم رهيب ، لابد ان نسعى جاهدين لنتصوره عسانا نتقي اليوم أهواله ، و حينئذ نعرف ان الفائزين هم الذين انخلعت قلوبهم عن شهوات الدنيا و احداثها ، و عاشوا ذلك اليوم ، و عملوا له ليل نهار .

[ 18] قد يغيب علم شيء عنا بسبب قلة ظهوره او عدم الالتفات اليه ، بينما غياب الانسان عن علم الاخرة بسبب اخر ، هو : تسامي مستواه عن مستوى ادراكنا ، و لعل هذا هو المراد بقوله سبحانه :

[ ثم ما ادراك ما يوم الدين ]

ما بالك بيوم تهابه السماوات ، و تشفق منه الجبال ، و تضج من هوله الارض ، و يخشاه حتى الملائكة المقربين ، و يحذره الانبياء و الصديقون ! اولا ينبغي ان نتقيه ؟

[ 19] في ذلك اليوم يقف الانسان منفردا امام رب السماوات و الارض ، و لا(1) التفسير الكبير / ج 31 / ص 85 .


احد بقادر على الدفاع عنه ، او الشفاعة له الا باذنه .

[ يوم لا تملك نفس لنفس شيئا ]

بل الانسان مسؤول عن عمله .

[ و الامر يومئذ لله ]

فهناك لا يخول الله احدا شيئا كما خولهم اليوم ، و لا يملك احدا من عباده امرا ، بل الامر كله له ظاهرا و باطنا .

و في ذلك اليوم يظهر التوحيد الالهي لكل انسان ، فلا احد يستطيع ان يفكر في ان غير الله يملك من امره شيئا كما هو يزعم ذلك في الدنيا .

روي عن ابي جعفر ( الباقر ) عليه السلام انه قال لجابر بن يزيد الجعفي : " ان الامر يومئذ لله ، و الامر كله لله . يا جابر ! اذا كان يوم القيامة بادت الحكام فلم يبق حاكم الا الله " (1) .


(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 527 .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس