بينات من الآيات نعم للاحترام لا للعبودية :
[74] من دون تضحية لا تبلغ الحقائق ، و العلم كأي مكسب آخر بحاجة الى جهد بــل الى جهاد و تحد ، أن البشر معرض لأن تستعبده القوى الطاغوتية أو الطبيعية ، لذلك يبدء البشر تحرره بالتحرر العقائدي ، و ابراهيم كأي شخص آخر في مجتمع الجاهلية قد عرض لعبودية الطاغوت ، و لكنه رفضها وتحداها ، ان الطاغوت يصنع جوا فكريا في المجتمع ، يؤيده و يبرر اخطاءه ، و هذا الجو يضغط على الانسان من خلال تعامله مع أقرب الناس اليه ، أي من والديه و مربيه الذين يغذونه بالأفكار الباطلة ، و يدعون أنهم محترمون ، ولذلك فأن أفكارهميجب أن تحترم هي الاخرى ، وابراهيم كمثل أعلى للثوري الرسالي رفض هذه الافكار ، و صرخ هاتفا الاحترام للوالد نعم . اما للعبودية فلا ..
[ وإذ قال ابراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة ]
لم يقل هذا الكلام الفض لأخيه الأصغر منه ، أو لرفيقه أو لزميله ، كلا .. لأن الضغط الذي كان يمارسه عليه المجتمع انما كان بسبب أبيه آزر .
وآزر لم يلد ابراهيم ، بل هو عمه الذي رباه ، فخاطبه ابراهيم بالابوه ، وذكره القرآن ليذكرنا بأن الايمان يبدء من رفض الخضوع لاقوى سلطة اجتماعية على الفرد ، وهي سلطة المربي و الكفيل ، ثم أعقب ابراهيم رفضه لأبيه برفضه لسلطة المجتمع الجاهلي و قال :
[ إني أراك وقومك في ضلال مبين ]
ان الخوف من المجتمع لا يدعك تفهم الحقائق ، لانك آنئذ لا تشكك نفسك بتلك الافكار الباطلة ، فتستمر عليها ، و لذلك تجد الناس عادة يؤمنون بأفكار مجتمعهم ، حتى قيل : بأن المجتمع صنم الفرد ، حتى أن بعضهم آمن بالحتمية الاجتماعية ، لذلك فعليك ان تتشبع بالثقة بذاتك حتى تتحدى الناس جميعا .
كيف نحصل على اليقين ؟
[75] حين تخلص ابراهيم من ضغط مجتمعه أراه الله ملكوت السموات والارض المتمثلة في فهم تلك القوة التي تملكها وتدبرها .
[ وكذلك نري ابراهيم ملكوت السموات والارض وليكون من الموقنين ]اي ليخرج من الشك الى اليقين . ان الذي أوتي قدرة الشك قادر على أن يصل بأذن الله الى ذروة اليقين ، والشك لا يختص بالمجتمع ، أو بالمربي ، بل وأيضا بالافكار السابقة والخاطئة التي يزعم الفرد انها صحيحة في بعض مراحل حياته ، كما نري ابراهيم عليه السلامكانت له الشجاعة الكافية برفض أفكار مجتمعه السابقة كما نرى لاحقا .
[76] حين يهيمن الظلام على الكون يبحث الفرد عن أي نور ، فيرى الكوكب فيزعم أنه اله لانه أنقذه من ظلام دامس ، وهذه العقيدة العاجلة قد تكون نتيجة هيبة الظلام ، والخشية منه .
[ فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي ]
و قد يكون هذا رمزا لحالة الشك ، التي تزعج البشر ، فيبحث عن مخلص له منه ،فيتعجل بقبول أي ومضة نور تخلصه من حالة الشك ، فاذا به يعتقد بأول فرضية تطرء على ذهنه أو تبرق أمام عينه ، و لكن وجود الفرضيات الباطلة عند الفرد ليس عيبا ، انما العيب هو أن يستمر عليها بعد أن تثبت عنده أنها باطلة ، وابراهيم عليه السلام كانت له هذه الشجاعة أن يكفر بأفكاره السابقة .
الفطرة هي الدليل :
ان الفرضيات الباطلة قد يكون بطلانها واضح بدرجة أن ردها لا يحتاج الى دليل ، بل يكفي أن تراجع فطرتك لتوضح لك بطلانها ، لذلك قال ابراهيم عليه السلام بعد أن افل الكوكب أني لا أحبه .
[ فلما أفل قال لا أحب الآفلين ]
الحب هو الفطرة النقية قبل ان يصبح فكرة مستدلة متكاملة ، و حين تكون علاقة البشر بربه علاقة الحب ، حيث يحب البشر ربه بصورة طبيعية . ما دام ربه سبحانه قد أغدق عليه نعمه ظاهرة و باطنة فيكون عدم وجود هذا الحب بالنسبة الى الكوكب دليلا على أنه ليس بآلهةحتما ! لان الله ينعم على البشر ليلا نهارا ، أما الكوكب فانه يأفل نهارا .
ومن المعلوم ان بعض الناس لا يزالون يعبدون النجوم ، ويزعمون انها ذات أثر فعال في مصير الانسان ، و قد كان عمل ابراهيم ردا صارخا لمثل هؤلاء الذين كانوا موجودين آنئذ .
[77] و انتظر ابراهيم على مضض من شكه ، و توتر من قلبه ، ثم انتظر هذه المرة فترة أطول حتى بزغ القمر ، و أعجبه ذلك النور الهادئ الذي ينساب على الطبيعة بعفوية و سخاء . فقال : هذا ربي .
[ فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي ]
وربما كان بزوغ القمر هو السبب في عدم رفضه للقمر ، و قد يكون تعلق ابراهيـــم ظاهرا بالقمر رمزا للفرضية الباطلة التي هي ليست إلا مجرد ضغط حالة الشك ، و عذاب الفراغ الفكري .
[ فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضآلين ]بعد فشله الثاني في فهم الحقيقة قلل ابراهيم (ع) من ثقته المطلقة بفكره ، و توكل على الله ، ذلك أن هذه الثقة مفيدة في مرحلة الشك ، و رفض الافكار التي يريد الآخرون فرضها عليه . أما بعدئذ فقد يكون لها مردود سلبي .
بك عرفتك :
اما كيف أدرك ابراهيم عليه السلام أن القوة التي يجب انتظار دعمها للانسان و هو يبحث عن الحقيقة هي قوة الله ، وهذه قضية هامة ؟
ان فطرة الانسان تهديه الى وجود سنن ونظم في هذا الكون المهيب ، وأن الطبيعة تسير وفق نظام . الشمس والقمر والنجوم كلها تسير وفق خطة مرسومة . من الذي يهــدي الشمس الى مسيرتها ، و القمر الى فلكه ، والنجوم الى مراسيها ؟ انه الله . انه خالقها ، إذا فعلينا نحن أيضا ان نبحث عن الهدى هنالك عند الله ، لا سيما في وضوع الاله . إذ قد يكون ( وهذا واقع فعلا ) البشر عاجزا عن معرفة ربه ، و لكن ربه سبحانه ليس بعاجز عن تعريف ذاته له .
و مـن جهة أخرى : حين تكرر تجربة الانسان الفاشلة في الوصول الى الحقيقة ، تعتريه حالة اليأس ويقول : أنا اقل من أن أعرف الحقيقة ، فلماذا البحث ؟!
وهذا اليأس هو أخطر عدو للبحث ، وهو وراء اكثر من نصف الجهل الموجود لدى الناس ، واليأس لا يزول الا بالتوكل على الله ، لذلك قال ابراهيم ( ع ) وهو يعاني من صدمة الفشل :
[ لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ]
[78] اذا كان جمال القمر قد دفع ابراهيم ( ع ) الى اتخاذه إلها مؤقتا فأن كبر الشمس وضخامتها ، بالاضافة الى جمالها دفعه هذه المرة الى مثل ذلك .
[ فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر ]
و كانت صدمة الفشل الهائلة والمتكررة حيث اختفت الشمس العملاقة وراء الافق . هذه الصدمة نقلت ابراهيم من واد لواد آخر ، من وادي مجتمعه الى رحاب الحقيقة .
[ فلما أفلت قال يا قوم اني بريء مما تشركون ]
فتجعلون الشمس و هي خلق مما خلق الله شريكة لرب العالمين ، بينما شريك الألوهية يجب أن يكون قادرا حرا مريدا ما يشاء ، والشمس مسخرة بأمر ربها ، لا تستطيع ان تخالف أمر الله في الطلوع و الغروب .
التسليم المطلق .. المرحلة الاخيرة :
[79] ترك ابراهيم (ع) الخلق واستقبل بوجهه الخالق ، ترك الطبيعة الى مسخرها ومدبر أمرها ، وقال :
[ إني وجهت وجهي ]
اي اتخذت الله طريقا ، ومرضاته هدفا .
[ للذي فطر السموات والارض ]
خلقها و حدد مسارها ، و رسم حدودها ، وأظهر بذلك هيمنته التامة عليها .
و حين عبد ابراهيم ربه كفر بكل الشركاء ، و رفض الانداد جميعا و كان : -[ حنيفا ]
مائلا عما اعتمده الناس متمردا على عاداتهم وتقاليدهم ، وسلم أموره جميعا الى الله رافضا الانتماء الى المجتمع الكافر و قال : -[ و ما أنا من المشركين ]
|