بينات من الآيات
جذور الانحراف :
[184] ويأتي هذا الدرس في بيان الجذور الخبيثة للتشريعات البشرية الباطلة في القضايا الاجتماعية التي بسببها يتبع البشر هواه ، و يعبد ذاته ، و يترك الحق و مسؤوليته ، و يتشبث بتصورات باطلة و أوهام بعيدة تستمد شرعيتها من الهوى ، فيقول بالحتميات الباطلة. مثلا : ان الليل و النهار و حوادث الحياة هي التي تجبره على اتخــاذ مواقفه ، أو يقول : ان الله أجبره على ذلك لان الله هو خالق ما في الوجود ، و القاهر فوق العباد ، فهو الذي اضطره على ذلك أو ما اشبه ، او يتشبث بالخرافة الباطلة التي تقول : ان الله فوض أمور العباد الى أنفسهم ، فهم يقررون لها ما شاءت عقولهم ، ( و هنا يخلطون بين العقل و الهوى خلطا متعمدا عجيبا ) .
و سواء تشبثوا بهذا النوع من التصور أو ذاك فان الهدف منه شيء واحد هو اعطاء الشرعية لعبادة أهوائهم ، والتمحور حول ذواتهم ، و اعتبار افكارهم و تشريعاتهم مقدسة ، بل و مدعومة من قبل الله من فوق عرشه سبحانه ، و هذه آخر مرحلة من الضلالة عند البشر .
[ سيقــول الذيـن أشركوا لو شاء الله مآ أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء ]فالله كان قادرا على منعنا من الشرك ، و التشريع الباطل ، فلم يفعل فهو راض بما نفعله و يجيب القرآن الحكيم على ذلك :
أولا : ان هذا الفريق هو الذي يكذب بالحق لذلك فهم يتشابهون مع كل من يكذب بالحق في التاريخ علما بأن أحد الطرق لكشف حقيقة جماعة هو الكشف عن التيار العام الذي يقعون فيه و يتسابقون معه ، فأذا مصدر هذا الزعم و سببه هو انهم يكذبون بـالحقائق ، و اذا عرف الداعي النفسي الى فكرة ما افتضحت طبيعتها و حقيقتها ، مثلا : اذا عرفت ان زيدا الذي يتحدث عن فكرة انما يتحدث عنها لانه ينتمي الى حزب كذا عرفت جوانب كثيرة من الفكرة .
ثانيا : ان النهاية التي جعلها الله لمثل هؤلاء هي العذاب الشديد . إذا فهم ليسوا بخارجين عن دائرة المسؤولية التي من أجل الهروب منها تشبثوا بمثل هـــذه الافكار الباطلة .
[ كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا ]
ثم - و بعد ان يشكك هؤلاء بأفكارهم - يطرح عليهم هذا السؤال : هل هـــذا علم أم ظن ؟ ان مجرد طرح هذا السؤال يعني جعل شرعية الافكار مناطة بالعلم لا بالمصلحة ، و بالتالي فضح جذور الفكرة ، و أنها نابعة من الهوى ، و بما انهم لم يدعوا العلم لانهم لا يعترفون بالحق ( بل بذاتهم ) حتى يبحثوا عن العلم الذي يهديهم اليه ، و لكن مع ذلك لا يمكنهم انكار شرعية العلم .
ثم يؤكد القرآن الحقيقة في أمر هؤلاء ، و يقول : ان اعتماد هؤلاء هو على التصــور و الوهم و التصور ( الظن ) هو الكذب المتعمد ، و الوهم هو الشك ( الخرص ) .
[ قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا ان تتبعون الا الظن وان أنتم الاتخرصون ]
وهم لا يستطيعون انكار ذلك . اذ انهم لو انكروه فقد فتحوا باب المباحثة البناءة ، و الحوار الفاعل على أنفسهم ، وهو يضرهم لانه يعيد الشرعية للحق و العلم لا للهوى و الظن .
لا للحتمية :
[149] لم يحتم الله على البشر الضلالة ، ولا رضي بها . اذ لم يجبرهم على ترك ضلالتهم ، بل وفر لهم فرصة الهداية كاملة ، فأعطاهم الحجة البالغة ، و بقي عليهم ان يقوموا بدورهم في استيعاب الهداية ، كما ان الله قادر على أن يجبر الناس على الهداية ، و لكنه لم يفعل ، كما لم يجبر الناس على الشرك .. فليس تركه للناس دليلا على رضاه سبحانه لانه أتم الحجة عليهم .
[ قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ]
الاستشهاد :
[150] احدى الوسائل الفعالة لتمييز الحق عن الهوى ، و العلم عن الظن ، و الصدق عن الكذب ، هي طرح الافكار على عقول الناس ، و استشهادهم عليها ، ذلك لان الناس حتى ولو كانوا يتبعون الهوى و الظن فانهم حين يقيمون أفكار الآخرين ، فليس من الضروري القبول بهاأو التصديق ، ذلك لان مصالح الناس مختلفة ، و اهواءهم متفاوتة ، و بالتالي كل حزب بما لديهم فرحون . بيد أن شهادة الناس ليست دليلا على الحق و لو كانت دليلا على بطلان الهوى . فهي مفيدة سلبيا فقط ( تنفي و لكنها لا تثبت ) .
[ قل هلم شهداءكم ]
أي اجمعوا شهداءكم ، لانه بجمعهم تفترق كلمتهم لانها باطلة ، و لذلك من وسائل كشف عصابة الاجرام جعلهم جميعا يشهدون على الواقعة فنرى كم أنهم يختلفون ، بل ويتناقضون مع بعضهم لانهم ان اتفقوا على مخالفة الحق فلن يتفقوا على نوع الباطل ، لذلك فصل القرآن و قال:
[ الذين يشهدون أن الله حرم هذا ]
ولكن الاتفاق على الباطل لا يصبح دليلا عليه .
[ فان شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا ]و القرآن الحكيم يبين هنا المزيد من جذور الشرك . حيث يبين ان السبب في عدم اتباع الحق لا تلفها الهوى هو عدم الايمان بالآخرة هذا أولا ، ثانيا : عدم معرفة الله و خلط الله و خلط الله بخلقه .
[ و الذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون ]
ومن يعدل الله بخلقه لا يعرف الله ولا خلق الله .
|