بينات من الآيات
رسالات الله منطلق التحضر :
[73] يبدو أن ثمودا كما قوم عاد و قوم نوح ، بدأت حياتهم الاجتماعية بفهم سنن الله في الحياة و منها ضرورة الاصلاح ، و تسخير امكانات الطبيعة من أجل الأهداف النبيلة ، إلا انهم بعد نمو مدنيتهم ، و تواتر نعم الله عليهم فسدوا و أفسدوا ، فجاءت رسالة الله تحذرهم من عاقبة الافساد ، و تذكرهم بأن هذه النعم التي يرونها ليست ذاتية لهم ولا هي أبدية ، و إنما هي آلاء الله ، كانت عند قوم فأهلكوا بسبب فسادهم و افسادهم و أورثها الله لهم ، فاذا فسدوا و أفسدوا يهلكهم الله أيضا ، و ربما تكون الناقة التي اخرجها اللهلثمود من بطن الجبل آية كبيرة ، ربما تكون رمزا لتلك النعم ، فلو اهتموا بها و لم يمسوها بسوء ، و لم يتعرضوا لها بقتل لانتفعوا بها ، و لكن عذبهم الله .
[ و الى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جئتكم ببينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله و لا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم ][74] [ و اذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد و بوأكم في الأرض تتخذونمن سهولها قصورا و تنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ]لقد كانت تلك حضارتهم ، حيث استقروا في الأرض من دون خوف من الطبيعة أن تقسوا عليهم ، و ذلك بسبب توفر وسائل الحياة في تلك الأرض ، حتى كانت لديهم القدرة على نحت الجبل ليتخذوا منه بيوتا ، أو حتى رفع الأبنية فوق السهل قصورا ، و لكن كانت ثمود تتجه نحو الفساد شأنها شأن الحضارات التي تغتر بمدى قدرتها فتتآكل و تتداعى و تنهار ، لذلك وقف رسول الله اليهم صالح ( عليه السلام ) محذرا و قال :
[ و لا تعثوا في الأرض مفسدين ]
و الفساد ضد الاصلاح ، و ليس بين الفساد و الاصلاح عمل آخر و صبغة اخرى ، ذلك لان علاقتك بالاشياء قد تكون علاقة التربية و السعي للتغيير نحو الأفضل ، و أن تضيف اليها من نفسك شيئا جديدا كأن تبني الأرض ، و تنشأ الحقل ، و تربي الطفل ، و تصنع من الحديد آلة مفيدة ، و هذا كله إصلاح ، أو تكون علاقتك هي الانتفاع بالاشياء فقط ، فتملك البيت دون ان تبنيه أو ترممه ، و تأكل من الحقل دون ان تنشأ بديله أو تسقيه ، و تترك إبنك لتربية الشوارع و الأزقة ، و تستهلك الآلات و المكائن دون أن تصنع بديلها أو تقوم بصيانتها، و تلك كلها علاقة الفساد ، و المجتمعات قد تكون متجهة بصفة عامة نحو الاصلاح و البناء و التصنيع و تغيير الأشياء الى الأفضل ، فتكون آنئذ متجهة نحو الحضارة و المدنية ، أو متجهة نحو الاستهلاك و الانتفاع و التغيير نحو الأسوأ ، فتهدم حضارتها و تهوي نحو التخلف ، و رسالات الله تأمرنا بالاصلاح الذي يبني الحضارة و تسوق الأمة نحو التقدم .
صفات المستكبرين ( الملأ ) :
[75] إن حالة الاسراف و التبذير ، و صبغة الفساد و الاستهلاك من دونالاصلاح و الانتاج لا تنتشر مرة واحدة في المجتمع ، بل تتجلى أولا في الملأ منهم الذين يشكلون طبقة المستكبرين ، و ابرز صفاتهم هي :
إستهلاك المزيد من النعم ، و خلق تيار معارض للاصلاح ، و لأنهم يريدون أن يأكلوا أكثر مما ينتجون ، فانهم يسرقون انتاج الآخرين بشتى الوسائل و الحيل و يستضعفونهم ، و يتسارع المستضعفون نحو الرسالة الجديدة التي تبشر المجتمع بالاصلاح و العدالة ، فيبدأ الصراع المرير بينهم و بين أولئك المستكبرين ، و ينتهي الصراع بهلاك المستكبرين و نجاة المستضعفين باذن الله .
[ قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما ارسل به مؤمنون ]إن المستكبرين يحاولون إفساد الطبيعة و الانسان معا ، فلذلك تراهم يفسدون آراء المستضعفين و يجرونهم نحو التيه و الضلالة لكي يستمروا في استغلالهم ، و استهلاك المزيد من انتاجهم ، بيد ان طائفة من المستضعفين يسارعون الى الايمان ، و يقوم الصراع بينهم و بين المستكبرين .
[76] و لذلك تجد المستكبرين يكفرون بالرسالة ليس بمجرد أنها رسالة ، و انما لانها مبدأ يؤمن به المستضعفون و يتخذون منه أداة لصراعهم ضدهم ، و هذا يبدو جليا من أقوالهم حيث[ قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون ]
المستكبرون يريدون دينا يؤيدهم في استغلالهم للناس و تسلطهم عليهم ، و لا يؤمنون بدين يؤمن به المستضعفون ، و يتخذون منه وسيلة لنجاتهم ، و خشبة خلاص لهم من ظلمهم .
[77] و لكي يتحدى المستكبرون دين المستضعفين ، و يجردوهم من تلك الوسيلة التي تنقذهم من أيديهم ، عمدوا الى الناقة - رمز الرسالة الالهية عند ثمود - فقتلوها ظنا منهم ان إعدام الناقة يضع حدا لتحرك المؤمنين ، لأنها رمز وحدتهم ، و عنوان نشاطهم الاجتماعي ، ولكنهم أخطأوا حيث ان عقر الناقة و ما تبعه من أعمال تخريب و إفساد عرضهم لغضب الله سبحانه و عجل في نهايتهم .
[ فعقروا الناقة ]
ومن المعروف ان واحدا منهم فقط هو الذي عقر الناقة ، و لكن البقية رضوا بعمله فكانوا كما لو أن الجميع اشتركوا في عقرها .
[ و عتوا عن أمر ربهم ]
حيث تجاوزوا الحد في الفساد برغم أمر الله لهم بالاصلاح .
[ و قالوا يا صالح أئتنا بما تعدنا ان كنت من المرسلين ]النهاية الحتم :
[78] و كما نهاية ثمود كذلك نهاية كل الطغاة المستكبرين كلما بالغوا في الفساد ، و انما يفعلون ذلك بعد تنامي حدة الصراع بينهم و بين أصحاب الرسالة اذ أنهم يضطرون آنئذ الى مقاومة الرسالة بالمزيد من عمليات التخريب و الفساد ، و هكذا أنزل الله على ثمود العذاب حيث ارتجت بهم الارض و تزلزلت من تحتهم ، و تهدمت مدنيتهم ، و ماتوا و هم جالسون دون ان يمهلوا حتى يمدوا ارجلهم استعدادا للموت .
[ فأخذتهم الرجفة فاصبحوا في دارهم جاثمين ]
[79] إن البشر يهرع لمساعدة نظرائه و اخوته ، و لكن المستكبرين لم يحزنلهلاكهم أحد ، و هذا منتهى الخزي و العار الذي قد يلحق بأحد .
[ فتولى عنهم و قال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي و نصحت لكم و لكن لا تحبون الناصحين ]إن قصة ثمود عبرة لكل واحد منا كي يبادر لقبول النصح ، و يتجه نحو التربية و الاصلاح ، و يكون همنا الانتاج و الانشاء لا الاستهلاك و الافساد .
|