بينات من الآيات
المستكبرون العائق الأكبر :
[88] الناس العاديون يستقبلون رسالات الله بفطرتهم النقية ، لو لا أن المستكبرين الذين يستغلون جهود الضعفاء يفرضون عليهم نهجا فكريا معينا بالقهر ، و هؤلاء هم الذين يشكلون حينا السلطة السياسية ، و حينا السلطة الاقتصادية ، و حينا السلطة المسماة بالدينية ، بيد أنها جميعا سلطة قهرية تسرق إرادة الانسان ، و هذا نموذج من قهرهم ، أنهم هددوا شعيبا ( عليه السلام ) بالاخراج من القرية لو عارض نهجهم السياسي .
[ قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب و الذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين ]و الكلمـة الأخيرة تدل على صفة الجبر و القهر في السلطة القائمة في مجتمع مدين ، و بالتالي على نظام الطاغوت الذي يعتمد على الملأ من الناحية الطبقية ، و على الاستكبار من الناحية الاجتماعية و الثقافية ، و على الارهاب من الناحية السياسية .
الصمود شاهد صدق :
[89] الذي يحمل رسالة الله الى الناس حقا لا يتنازل عنها تحت ضغط الظروف ، و تلك شهادة بينة على صدقه ، أما الذين يفترون على الله الكذب و يدعونأنهم رسل الله باطلا ، فانهم يتركون الرسالة حين يتعرضون للضغط ، من هنا قال المؤمنون من قوم شعيب :
[ قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها ]و حيث أن الله أنجاهم من ضلالة الطاغوت بالرسالة ، فالعودة الى ملتهم السابقة إنما تكون بعد وعي كاف ببطلانها ، فيكون ذلك تكذيبا متعمدا للحـــق ، و جحودا سافرا بآيات الله ، و العذاب سوف يكون عليهم مضاعفا .
ومن جهة أخرى العودة الى الملة الباطلة التي أنقذهم الله منها لا تكون ممكنة بالقهر و الاكراه ، لان الله قد ضمن للبشر حريته و كرامته ، و لن تكون القوى الشيطانية قادرة على إلحاق أي نوع من الأذى ، أو إيجاد أي قدر من التأثير على أحد من دون مشيئة الله واذنه سبحانه ذلك لان قوى الطاغوت لا تعصي الله عن غلبة - سبحانه - أو بتجاوز ملكوته .. كلا ، و إنما لأن الله أمهلهم و أعطاهم فرصة الاختيار الحر لفترة محدودة لهذا فان الطاغوت لا يقدر على جبر المؤمنين على الكفر لأن الله لا يسمح له بذلك .
[ و ما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما ]و كما ان قدرة الله مهيمنة على الكون فلا يقدر الكفار على تجاوزها ، كذلك علمه النافذ في كل شيء ، و لكي يقاوم المؤمنون قوى الطاغوت المادية يلتجؤون أكثر فأكثر الى قوة الله المعنوية و يقولون :
[ على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ]المؤمنون لا يسعون نحو تحقيق الانتصار على عدوهم بالباطل ، أي دون أن يكون لديهم مؤهلات النصر ، أو دون أن يكونوا أفضل من عدوهم ، بل إنما يريدون الفتحبالحق .
[ و أنت خير الفاتحين ]
الخسارة العظمى :
و اقتربت النهاية لقوم شعيب ، حيث انهم اعتمدوا على القوة المادية زاعمين أنها كل شيء ، وأن من يخسرها فانه يخسر كل شيء ، لذلك قالوا للمؤمنين : انكم لخاسرون ، يزعمون أن الثروة و السلطة و الجاه التي يملكونها و التي يحرمون المؤمنين منها تعتبر خسارة ، بينما المؤمنون يعرفون ان القيم الباطلة التي يقوم عليها بناء مجتمع الطغيان و الفساد تنسف كل تلك الماديات الظاهرة .
و من هنا أخذت قوم شعيب الرجفة فاذا بهم جاثمون ، و اذا بالخسارة الحقيقية هي من نصيبهم هم ، أما شعيب فلم يأسف لهم لأنه قد أبلغ رسالات ربه ، و قدم النصيحة لقومه ، و لكنهم كفروا بها فكيف ييأس عليهم .
[90] ان النظــرة المادية الضيقة التي يرى بها الكفار الأمور تجعلهم محدودين جدا ، لا يفهمون حقائق الحياة ، و هؤلاء يرمون الناس بالسفه و بالجنون ، و يزعمون أن الذي لا يعمل للربح المادي العاجل خاسر لحياته ، لذلك تجد الملأ من أهل مدين يعتبرون إتباع شعيب خسارة كبيرة لهم .
[ و قال الملأ الذين كفروا من قومه لان اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون ]و منتهى ما يستطيع الملأ المستكبرون ان يلحقوه من الأذى بالمؤمنين هو : منع بعض النعم المادية عنهم ، و هذا ما كان ولا يزال الطغاة يهددون الثوريين به ، و لكن من الذي تكون له عاقبة الدار ؟!
[91] إن الله سبحانه يعطي فرصة محدودة للبشر ليمتحن إرادتهم فيها ، و مدىقدرتهم على مقاومة إغراء الشهوات ، و قد منح هذه الفرصة لقوم شعيب ، وها هم الآن استنفذوا فرصتهم و اقتربت ساعة المصير .
[ فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين ]
وكانت الرجفة قوية الى درجة أن الله لم يمهلهم حتى يتخذوا حالة الاستلقاء استعداد للموت ، بل وقعوا على وجوههم ذلة و هوانا .
معيار الخسارة :
[92] و هنالك تبين ذلك الواقع الذي حذر منه شعيب ، و آمن به القوم المؤمنون و هو : أن الخسارة و الربح إنما هما بالقيم لا بالمصالح العاجلة .
[ الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها ]
إنتهت فرصتهم ، و تداعى كيانهم ، و زالت مكاسبهم ، حتى يخيل للانسان انه لم يكن شيئا موجودا .
[ الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين ]
[93] أما شعيب فقد ترك قومه الهالكين و هم صرعى دون أن يذرف عليهم قطرة دمع .
[ فتولى عنهم و قال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي و نصحت لكم فكيف ءاسى على قوم كافرين ] |