فالهمها فجورها و تقواها
بينات من الايات [1] هل للطبيعة لسان ينطق ؟ بلى . يلهج بحمد ربها ، و لكن ليس لكل الناس أذن تتلقى . ان إشاراتها خفية فمن التقطها كانت له الكائنات مدرسة مسجدا و طهورا ، و لعل من غايات القسم في القرآن تعليمنا لغة الكائنات . أوتدري بأية صورة ؟ ان لنفس البشر شفافية تغطي عليها الرغبات الملحـة و الهموم الطاغية ، فالنفس شاعرة تحب الجمال ، و تعشق النور ، و تنجذب الى روعة النظام ، و دقة التناغم ، و لكن الذين يشتغلون أبدا بلذات البطن و ما دونه ، و تلعب بعقولهم خمرة التفاخر و التكاثر أنى لهم الإستماع الى همسات روحهم ،و الاهتمام بلذات عقلهم من هنا يحتاجون الى من يذكرهم بها ، و يستثيــر في نفوسهم الإحساس بجمال الطبيعة و روعتها و تناسقها و نظمها الدقيق ، يجعلهم ينظرون الى الشمس و ضحاها ببراءة الطفل ، و احساس الشاعر ، و شفافية الواله العاشق ، كلما أشرقت الشمس على البسيطة و نشرت ضحاها فوق الروابي و السهول ، و بثت أشعتها عبر النوافذ و المداخل ، استلهموا منها درسا جديدا بل روحا جديدة . و زخة عاطفية .
[ و الشمس و ضحاها ]
قسما بها .. أنظر اليها و كأنك لم تعرفها من قبل ما هذه الكتلة العظيمة من النيران ، التي لا تزال تحترق منذ ملايين السنين و لا زالت في كهولتا ؛ لان احتراقها يتم بالتفاعل النووي ، و نحن لازلنا على الأرض نتمتع بدفئها و ضوئها و فوائدها ، و ننتظر نتائجالقمر الصناعي الذي بعثناه أخيرا الى مدارها ، و سيصل بإذن الله هناك بعد حوالي ثلاث سنوات ، و ربما زودنا بالمزيد من المعلومات عنها ، و لكن دعنا - و نحن ننتظر ذلك - نتدبــر في ضحوة الشمس و هي كما قيل ضد الظل أي أشعتها المنبسطة على الارض ، و تتجلى عند ارتفاع الشمس و قال بعضهم : ضحى الشمس هي النهار كله ، و يبدو ان القول الأول أظهر وهو ان الضحى من الضح و هو نور الشمس .
[2] للشمس جمالها الناطق وروعتها الصارخة ، أما القمر فجماله صامت و روعته هادئة ، لذلك أختاره الشعراء لسهراتهم ، و العشاق لنجواتهم ، و أهل الطاعة لسبحاتهم . ما هذا الفيض المتدفق من النور الهادىء ؟ يسبح في الفضاء و ينتعش به جمال الطبيعة ، و يهتدي بهالسري !
[ و القمر اذا تلها ]
اي يلي الشمس ، و من أوتي حسا رهيفا سمع سبحات الشمس و القمر و نورهما فاهتدى الى ربهما العزيز .
[3] قسما بضحوة الشمس و نور القمر . قسما بالنهار الذي يحيط الأرض بضيائه و دفئه و حيويته .
[ و النهار إذا جلاها ]
يبدو ان الضمير يعود هنا الى الارض و ان لم تذكر كقوله سبحانه عن الشمـس : " حتى توارت بالحجاب " و لم تذكر الشمس في السياق .
و قيل : جلى الظلمة وان لم يجر لها ذكر كما نقول أضحت باردة نريد أضحت الغداة باردة او الليلة باردة ، و أنى كان فان التدبر في النهار و نوره و جماله يزيد الانسان بصيرة و هدى .
[4] بعد نهار طويل مجهد يغشى الأرض ظلام الليل و هدوئه ، فيستريح على كفه الناس و الأحياء و النبات ، و من يتدبر في النهار و ضيائه و نشاطه و حركته يصعب عليه كيف يغشى الارض بعد ساعات الليل بسباته و دجاه و سكونه و سكوته . دع فكرك يقارن بينها و ينطلق فيآفاق المعرفة .
[ و الليل إذا يغشاها ]
و الضمير هنا كما الضمير في الآية السابقة يعود الى الارض ، و جاء في بعض النصوص تأويل هذه الكلمات في الجوانب المعنوية من حياة المجتمع ، و ان الشمس رسول الله - صلى الله عليه و اله - بينما القمر امير المؤمنين- عليه السلام - اما النهار فأئمة الهدى ، بينما الليل أئمة الضلال (1) .
[5] عندما يستجلي المتدبر في ظواهر الطبيعة آيات الله فيها يعي الانسان عظمة السماء و بنائها المتين ، و الأرض و إعدادها لراحة البشر ، و فيذكره الله سبحانه بهما قائلا :
[ و السمآء وما بناها ]
أي تدبير عظيم ، وأية حكمة بالغة ، و اية قوة واسعة ، وأي علم محيط وراء بناء(1) تفسير نور الثقلين / ج 5 - ص 585 .
السماء و ما فيها من أجرام سماوية مسخرة في افلاكها . لا يكاد حتى الخيال العلمي الخصب ملاحقة أبعادها و آفاقها و مبتدئها و منتهاها .
[6] أنظر الى الأرض التي تعتبر بالقياس الى سائر أجرام السماء كسمكة صغيرة على شاطىء المحيط إذا قستها الى الحيتان الكبار التي تجوب البحار الواسعة ، او كأصغر حرف من أصغر كلمة في كتاب متواضع بالنسبة الى مكتبة تضم ملايين الأسفار ، فاذا نظرت الى الأرض وبحارها و سهولها و جبالها و أنواع الخلق فيها - مما لا يحصيها العلم - كل نظرك و نصب مخك ، و قلت : سبحان الله ! ما أعظم تلك القوة التي دحت الأرض و هيأتها للحياة بعشرات الملايين من وسائل الحياة و الراحة و أسبابها .
[ و الأرض وما طحاها ]
قالوا : الدحو و الطحو واحد ، و معناهما البسط ، و قال الماوردي : و يحتمل انه ما خرج منها من نبات و عيون و كنوز لانه حياة لما خلق عليها ، و يبدو ان أصل الطحو هو تهيئة الشيء و تمهيده و الله العالم .
[7] لماذا خلقت السماء و الأرض ، و أحكمتا البناء أوليس للانسان ؟ ! تعالوا و فكروا في هذا العالم الكبير : إنه آية على ما خلقهم الله من الأرض من أحياء و أشياء .
[ و نفس و ما سواها ]
في أعماق هذه النفس آيات لا يتسنى لغير صاحبها بلوغ أغوارها ، كذلك في أعماق سائر النفوس و سائر الحقائق . انك ترى الشمس من ظاهرها ، تلامس جدرانها الخارجية فهل تعرف ما يجري هناك في داخلها ، كذلك القمر و النهاروالليل ، بينما نفسك أقرب الكائنات اليك لا تقدر على اكتشاف جانب من أغوارها الذاتية ، فتفكر اي خلق عظيم هذه النفس التي هيئها الله سبحانه ، و نظم أمرها ، بأحسن تنظيم .
[8] و اعظم ما في النفس العقل الذي هداها الله به الى خيرها و شرها ، تقواها و فجورها ، ما يصلح لها و عليها ان تأتي به ، و ما يفسدها و عليها ان تتركه .
[ فألهمها فجورها و تقواها ]
كما قال سبحانه : " و هديناه النجدين " و معرفة الفجور قدمت على معرفة التقوى إذ ان النفس تعرف أولا أسباب الهلاك ، ثم تعرف كيف تتجنبها بوسائل الصلاح . علما بان اكثر الواجبات هي سبل للتخلص من المفاسد .
جاء في الحديث المأثور عن النبي - صلى الله عليه و اله - انه كان اذا قرأ هذه الآية : " فألهمها فجورها و تقواها " رفع صوته بها و قال : " اللهم آت نفسي تقواها . أنت وليها و مولاها ، و أنت خير من زكاها " (1) .
و جـاء في حديث مأثور عن الامام الصادق - عليه السلام - انه قال : في تفسيرها : " بين لها ما تأتي وما تترك " (2) .
[9] عظيمـة جدا نعمة العقل الذي هو مرآة للطبيعة ، تعكس ما فيها من خير و شر ، و حسن و قبح ، و جمال و دمامة ، و أعظم منها المشيئة التي بها يتم انتخاب الانسان لواحد منهما ، و يبلغ بها البشر أرفع درجات الكمال المتمثلة في الفلاح ، أوليس الفلاح بلوغ المنى ، و تحقيق أبعد الأهداف و الغايات ؟!
(1) القرطبي ج 20 - ص 76 ، و في تفسير نور الثقلين ج 5 - ص 586 مثله بتغيير قليل .
(2) تفسير نور الثقلين ج 5 - ص 586 .
بلى . و لكن كيف يبلغ الانسان ذلك ؟ بتزكية النفس و تطهيرها من حوافز الشر ، و رواسب الشرك ، و وساوس الشيطان .
[ قد أفلح من زكاها ]
قالوا : الزكاة بمعنى النمو و الزيادة ، و منه زكاة الزرع إذا كثر ريعه ، و منه تزكية القاضي للشاهد لانه يرفعه بالتعديل .
و يبدو لي ان أصل معنى الزكاة التطهير ، و بما ان الشيء الطاهر ينمو بينما لا يكون الخبيث إلا نكدا تلازم معنى الزكاة و التطهير .
و قال بعضهم ان أجواد العرب كانوا ينزلون الربا و المرتفعات ليسهل على أصحاب الحاجة الوصول اليهم ، بينما اللئام كانوا يختارون الأطراف و المنخفضات هربا من الفقراء و طالبي المعروف ، فأولئك علوا أنفسهم و زكوها ، و هؤلاء أخفوا أنفسهم و دسوها .
[10] كما ان من زكى نفسه و طهرها من أدرانها و أنقذها من قيودها و أغلالها ينطلق في معارج الكمال ، و يبلغ الفلاح ، فان من دس نفسه في أوحال الجهل ، و سلاسل العبودية ، للمال و الجاه ، فانه يخيب و لا يبلغ أيا من أهداف وجوده .
[ و قد خاب من دساها ]
و اصل الدس من التدريس ، و كما قالوا : هو إخفاء الشيء في الشيء ، فأبدلت سينه ياء ، كما يقال : قصيت أظفاري ، و أصلها قصصت أظفاري ، و قد أستخدمت الكلمة في الإغواء كما قال الشاعر :
و أنت الذي دسست عمرا فأصبحت جلائله منه أرامل ضيعاو السؤال : ما هي علاقة الدس وهو الإخفاء بالخيبة ؟ انهما تعبيران متناسقان ، ذلك ان الخيبة التي هي خسارة غير متوقعة ، و فشل غير محتمل تأتي نتيجة الإحجام و الإنطواء و الإنغلاق ، و النفس مثل كتلة عظيمة من الأحجار الكريمة أخفيت تحت ركام من الرمل و الحجر ، ماذا تنفع هذه الكتلة لو زدناها ركاما فوق ركامها ، انما تنفع إذا استخرجناها ، و نظفناها ، و أبعدنا عنها الأجسام الغريبة ، كذلك أنت كتلة هائلة من المواهب و الفرص ، بإمكانك ان تستغل كل لحظة من حياتك في العروج بنفسك درجة من الكمال ، و لكن إذا استسلمتللضغوظ ، و اشتغلت بالتوافه ، و تعللت بالتبريرات و الاعذار فان عمرك يذهب عبثا . و تخيب ظنونك .
[11] و الدس لا يأتي من فراغ بل ضمن سلسلة من العلل ، تبدأ بالطغيان الذي هو صفة ملازمة للانسان ، أوليس الطغيان نتيجة الكبر الذاتي . و الكبر يلازم الجهل ، و الفرح بمــا تملكه النفس دون النظر الى ما لا تملكه ؟ و من الطغيان يأتي التكذيب بآيات الله ، والإنغلاق دون الانذار و من التكذيب ينتج الحرمان ، أرأيت لو دعاك صاحبك الى مائدة في يوم مجاعة فكذبته كيف تحرم نفسك ! كذلك الرسل دعونا الى رحمة الله فكذبهم قوم فخابوا مثل ثمود الذين دعاهم طغيانهم الى تكذيب آيات الله .
[ كذبت ثمود بطغواها ]
قالوا : اي بطغيانها فيكون الطغيان سبب التكذيب . و به جاءت الرواية المأثورة عن الامــام الباقر - عليه السلام - قال : في تفسير الآية : " و الطغيان حملها على التكذيب " (1) .
وقال بعضهم : بل الطغوى هو العذاب الطاغي الذي كذبوا به ، و الأول أظهر .
(1) المصدر .
[12] و التكذيب كان صفة عامة لثمود و لكنه تركز في شخص واحد هو الذي عقر ناقة صالح من بعد ان طلبوها آية لهم .
[ إذ انبعث اشقاها ]
و هكذا يقوم شخص او أشخاص معددون بالجريمة ، و لكن الآخرين يرضون عنهم لانهـــم لا يقومون بها إلا ضمن سياق اجتماعي يساعدهم عليها : سكوت أهل الصلاح ، و مجاهرة المكذبين ، و صلافة المجرمين . من هنا روي عن الامام علي - عليه السلام - انه قال :
" أيها الناس ! انما يجمع الناس الرضى و السخط ، و انما عقر ناقة ثمود رجل واحد ، فعمهم الله بالعذاب لما عموه بالرضا ، فقال سبحانه : " فعقروها فأصبحوا نادمين " فما كان إلا ان خارت أرضهم بالخسفة خوار السكة المحماة في الأرض الخوارة " (1) .
و معنى انبعث : نهض ، و انما سمي عاقر الناقة أشقى ثمود لانه قام بما لم يجرأ عليه غيره منهم ، و جاء في حديث مأثور عن الامام امير المؤمنين - عليه السلام - انه قال له النبي - صلى الله عليه و اله - : " أتدري من أشقى الأولين ؟ قلت الله و رسوله أعلم؟ قال : عاقر الناقة ، قال : أتدري من أشقى الآخرين قلت : الله و رسوله أعلم : قال : قاتلك " (2) .
و روي عن عمار بن ياسر قال : كنت أنا و علي بن أبي طالب في غزوة العسرة نائمين في صور من النخل و دقعاء من التراب فو الله ما أهبنا إلا رسول الله يحركنا بـرجله ، و قد تتربنا من تلك الدقعاء ، فقال : " ألا أحدثكما بأشقى الناس من(1) نهج البلاغة / خ 201 - ص 319 .
(2) القرطبي / ج 20 - ص 78 .
رجلين ؟ " قلنا : بلى يا رسول الله قال : " أحيمر ثمود الذي عقر الناقة ، و الذي يضربك يا علي على هذه - و وضع يده على قرنه - حتى يبل منها هذه واخذ بلحيته " (1) .
[13] حينما يكون الذنب تحديا لسلطان الرب يحل بصاحبه العذاب العاجل ، كما كان عند ثمود ، إذ أنهم هم الذين طالبوا نبيهم صالحا بآية مبصرة ، و اقترحوا عليه ان تكون ناقة تخرج من الجبل ، و تعهدوا بتصديقه عندئذ ، و التسليم لأمره ، و لكنهم كذبوه و عقروا الناقة بعد ان حذرهم نبيهم من مغبة ذلك طغيانا و عتوا ، فنزل العذاب بساحتهم .
[ فقال لهم رسول الله ناقة الله و سقياها ]
قالوا : معناه احذروا ناقة الله ، كما يقال : الأسد الأسد : أي احذره ، و الصبي الصبي : اي احفظه من الوقوع في البئر ، و نسبت الناقة الى الله تشريقا لها باعتبارها آية مبصرة ، و كان عليهم ان يتقوا الله فيها ، اما كلمة " سقياها " فتعني ذروها تشرب ، و كان لها شرب يوم معلوم ، و لهم مثله .
[14] ولكنهم كذبوا رسول الله ، و عقروا الناقة ، و تحدوا أمر ربهم و انذاره ، فاطبق عليه العذاب ، و لم يبق من قراهم شيئا .
[ فكذبوه فعقرها فدمدم عليهم ربهم ]
يقال دمدم على الشيء اذا طبق عليه ، و دمدمت على الميت التراب اي سويت عليه ، و يبدو ان الدمدمة هي الاطباق بتدريج ، أي بتكرار مرة بعد أخرى .
(1) الصور : المجتمع من النخل ، الدقعاء : التراب الدقيق على وجه الارض . انظر نور الثقلين ج 5 - ص 587 .
[ بذنبهم ]
فلم يفعل بهم ظلما . حاشاه ، وانما جزاء لأفعالهم ، وكل من يذنب يهيء نفسه لمثل تلك الدمدمة .
[ فسواها ]
كما يسوي القبر بعد ان يهال التراب عليه طبقا بعد طبق .
[15] وهل سأل الله أحدا في أولئك الهلكى لماذا أهلكهم ؟! كلا ..
[ و لا يخاف عقباها ]
سبحان الله و تعالى كيف يخاف عقبى دمدمة وهو جبار السموات و الأرض ؟!
و هكذا لم تنفعهم الشركاء و الأنداد ، و لم تنقذهم الأعذار و التبريرات . أفلا نرتدع بمصيرهم ، كذلك كانت عاقبة قوم دسوا أنفسهم فخابوا أشد الخبية ، و كذلك تكون عاقبة كل من ضيع نفسه و دسها ، إنها الخيبة و الندم أعاذنا الله منهما .
|