فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


خاتمة الكتاب



بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حمدا يسعد به الحامدون ، و يسمو به المؤمنون ، حمدا كثيرا كما هو أهله و مستحقه ، حمدا يوازي حمد ملائكته المقربين ، و أنبيائه المرسلين ، و عباده الصالحين ، حمدا من نشأة الخلائق الى بقاء الخالق . و صلى الله على البشير النذير ، و السراج المنير ، الــذي ابتعثه للعالمين رحمة ، و للمتقين هدى ، و للمحرومين كهفا و ملاذا ، و للمذنبين شفيعا و أملا ، محمد سيد المرسلين و على آل بيته الدعاة الى الله ، الأمناء على رسالاته ، المخلصين في طاعته ، سادات المجاهدين ، و قادة الصالحين ، و أئمة المسلمين .


و السلام على عباد الله الصالحين .


[1]

في الاسبوع الأخير من شهر ربيع الثاني من عام 1401 هـ وفي خضم المشاكل السياسية التي كنت أعيشها صدمتني وفاة زوجتي الفجائية ، و مضت المصيبة كصعقةكهربائية في كياني .. و بدأت اتساءل : إذا كانت مطية الانسان الى العالم الآخر جاهزة أبـدا ، و قد تحمله اليه في أية لحظة و دون سابق إنذار في رحلة أبدية لا رجعة فيها ، فلماذا الغفلة (1) ؟ وإذا كانت زوجتي التي كانت تقاربني سنا ، ولم تكن تشكو من مرض سابق تموت بهذه الطريقة الغريبة ، فلماذا لا أفترض ذلك لنفسي ؟؟ و أثر ذلك بصورة مباشرة في شحذ عزيمتي لإنهاء التفسير .. قبل أن يفاجئني الموت .

في ذلك التاريخ كنت قد بلغت الجزء وقد قررت حين بدات به أن أكتب كل يوم عدة فحات من التفسيـــر دون ان أخطط لإنهائه ، و أساسا لم أكن أحلم - يوم شرعت فيه - بأني قادر على إنهائه ، بسبب ظروفي التي حفلت بالعديد من المسؤوليات المتنوعة .

عند بداية التفسير كنت في الكويت ، وكما ذكرت في مقدمة الجزء الأول كنت أستريح الى بيت من بيوت الرحمن في منطقة ( بنيد القار ) لبعض الوقت ، و أحاول أن أختفي خلالها من المراجعات الروتينية حتى أتفرغ للكتابة ، و ربما كنت أسبب بعض الضيـــق لإخواني الذين لم يعرفوا السبب ، و فعلا كنت أحرج عندما يسألني بعضهم عن ذلك ، ولكن ذلك كان الوسيلة الوحيدة للإستمرار في التفسير .

و يشهد الله أنها كانت ساعات شيقة تلك التي أجدني تلميذا صغيرا في مدرسة القرآن العظيم و كنت أسعى لإستنطاق كل آية ، وكل كلمة من آية ، و ربما كل حرف في آياته الوضيئة ، ثم أسجل بعض ما يمكن تسجيله .. بينما أكثر ما في القرآن كان أسمى من التسجيل ، و هل كلمات مثلي قادرة على الاحاطة برفرفة الروح ، و تموج النور ، و انسياب الجمال الإلهي من خلال آيات الذكر الحكيم .

كانت وصية أحد الكتاب الكبار نصب عيني عندما أستمر في الكتابة ، حيث أوصى بالتوقف عنها عند الإحساس بالتعب ، ولذلك أصبحت مشكلتي بعد صدمة(1) بعد كتابة هذه المقدمة . بأشهر صدمتنا وفاة أخينا الفاضل الخطيب المجاهد سماحة الشيخ شهاب ( علي المهدي آل حيدر ) الذي كان نعم العون لنا في دار الهدى حيث ساهم بأدبه الرفيع . و ذكاءه المتقد ، و علمه الجم في بلورة رؤانا في التفسير و صياغته ، و بالذات فيالأجزاء الأربعة ما قبل الأخيرة .

فجاءت وفاته التي كانت بحادثة سيارة - جاءت دليلا جديدا على ان فرصة العمر أقصر مما نتصور . و أنها تنتهي في أية لحظة فعلينا الاجتهاد في استغلالها .


الوفاة مزدوجة ، فمن جهة كنت أريد إكمال التفسير ، و من جهة لا أستطيع التسرع فيه تطبيقا لتلك الوصية ، و الذات لان منهجي كان قائما على التدبر المابشر في آيات الذكر قبل مراجعة التفاسير ثم البحث عن صلتها بالواقع ، مما يستدعي صفاء الذهن و فراغ البال ، مماكان يتناقض و ظروفي العامة .. فاتجهت نيتي نحو إلقاء المحاضرات في التفسير في محاولة لإستباق الأجل ، و ربما كنت في اليوم الواحد ألقي ثلاثة دروس ليقوم الإخوة بإعادة صياغتها و إعدادها للطبع .

وقد كنت يومئذ ألقي محاضرات في التفسير كل يوم تقريبا في القسم العربي من إذاعة الجمهورية الاسلامية في ايران ، و فكرت في نفسي أنني سوف أحقق هدفين برمية واحدة : إنشاء مكتبة صوتية في كامل تفسير القرآن ، و التسريع في تكميل مشروع التفسير ، و قد حققنا بحول الله و قوته الهدف الأول ، حيث استقرت محاضرات التفسير في خمسمائة شريط كاسيت ، ولكن الهدف الثاني لم يتحقق بتلك الصورة التي حلمت بها .. و كان لذلك قصة أخرى .


[2]

منذ بداية توجهي الى التفسير لاحظت فراغا فيه من بعدين هامين :

الأول : اتساع الفجوة بين التفاسير المكتوبة و بين الواقع المعاش للإمة ، حيث كان هدف أغلب المفسرين إلا نادرا توضيح كلمات القرآن ، وليس تطبيقها على حقائق الزمان ، و لذلك لم يهتموا أكثر بتأويل القرآن و تنوير الواقع بضيائه ، بينما الهدف الأسمى للآيات انما هو تذكير الانسان بالله و اليوم الآخر ثم تبصيره نفسه و واقعه ليعيش بصورة أنبل و أفضل ، ولعل الظروف السياسية لأغلب المفسرين و إنغلاق بيئتهم الاجتماعية كانت تمنعهم من ذلك .

وقد حاولت أن أعالج الفراغ بقدر محدود من خلال التفسير و المحاضرات .


الثاني : وجود فجوة بين التفاسير و الأحاديث المأثورة عــن النبــي و أهل البيت - عليهم السلام - اللهم الا تلك التي تهتم بصورة مباشرة بتفسير آية كريمة ، علما بأن كل أحاديث الرسول و أهل بيته في الواقع تفسير للقرآن ، فليست سوى انعكاس نور الوحي على أفئدتهم ، فلابد إذا أن نبحث عن منهج جديد لتوصيل التفسير بهذا الرافد العظيم من الروايات الشريفة ، ولكن كيف ؟

إنما بإلغاء قيد اللفظ منها و التوجه الى المعاني ، فعندما نستوحي من آية كريمة حقيقة نبحث في النصوص عما يتصل بها من بصائر توضيحية فنثبتها في تفسير تلك الآية لتتكامل المعنى .. مثلا عندما نبحث عن آية كريمة تبصرنا بدور العلم و العلماء نثبت في توضيحها وتفسيرها نصوصا مأثورة حول العلم ، بغض النظر عن ورودها حول تلك الآية أم لا ، لأنها بالتالي تفسير للآية سواء ذكرت فيها الآية أم لا ..

و بالذات الادعية المأثورة التي هي بحق كنوز المعارف الاسلامية ، و هي بالتالي قبسات من نور الوحي تجلت على السنة سادة العرفاء الميامين النبي و أهل بيته الهداة عليهم السلام . أفلا ينبغي ان نستفيد منها في تفسير آيات العرفان التي هي نصف القرآن او تزيد ؟


كل ذلك دفعني و الاخوة الى تأسيس ( دار الهدى ) التي تعني بهدف تأليف تفسير موسع يعتمد على الاحاديث المأثورة بالمنهج الآنف ذكره ( الاهتمام بالمعاني ) ، و الاسم الذي أفضله لهذا التفسير ان خرج الى النور هو : ( من بينات القرآن ) ليكون تفصيلا لهذا التفسير ( من هدى القرآن ) .

وقد شقت دار الهدى طريقها بين غابة من الاشواك ، لاننا كنا بحاجة الى تربية بعض الاخوة على استخراج النصوص من مختلف المصادر ، وعلى فهم عميق للآية المفسرة في إطار تفسيرنا ( من هدى القرآن ) ، و لصعوبة العمل ، و قلةالامكانات ، و ايضا قلة الوقت الذي صرفناه على هذه المؤسسة الناشئة ، فان ثلاثة من بين حوالي خمسة عشر أخا دخلوها بقوا فيها و تقدموا بها ، و الحمد لله .

و أنى كان فقد مشينا معهم خطوات واسعة في طريق التفسير الموسع ، حيث جمعنا بحول الله وقوته مواد تفسير سورة البقرة و آل عمران ، و لعلنا نوفق لتكميل المسيرة بعد الفراغ من هذا التفسير إنشاء الله .

بيد ان العمل توقف في دار الهدى في هذا الاتجاه ، حيث استقر الرأي الى التفرغ لمحاضرات التفسير التي كنا قد انهيناها في عام 1402 هـ ، ولم نفلح بتشكيل جهاز لاعادة صياغتها ، و لكن بما ان الاخوة في " دار الهدى " كانوا قد تعودوا على اسلوب التوسععبر ذكر النصوص و مراجعة سائر التفاسير استفادوا من هذا المنهج عندما اهتموا بالتفسير ، فتغير الاسلوب بقدر أو بآخر .

كنت يومئذ قد أنهيت تفسير نصف القرآن تقريبا ، و بالضبط الى سورة النحل ، فبدأ الاسلوب منذ تلك السورة يختلف ، حيث اعتمدنا على المحاضرات ثم كانت تصاغ المحاضرات ثم اطلع عليها و اصححها من جديد .. و كان في هذا المنهج فائدة التوسع ، حيث كان المعدل في تفسير النصف الاول صفحة لكل آية فغدى المعدل حوالي صفحتين لكل آية ، الا ان ذلك كان ثمنه التباطىء حيث تعددت المراحل .. و هكذا جرى الأمر حتى بلغنا الخمس الأخير من القرآن فطورنا الاسلوب مرة أخرى حيث كان أحد الاخوة يراجع كافة التفاسير المشهورة و يكتب ملاحظات منها ، و كنت بدوري اراجعها مع مراجعة بعض التفاسير ، ثم ألقي محاضرة مفصلة تصاغ بعد مراجعة لملخص التفاسير ، ثم أعيد النظر فيها لتأتي في صيغتها النهائية .

ولا ريب ان هذا الاسلوب نفعنا كثيرا في التمهيد للتأليف الجمعي ، حيث انهبالرغم من كوني بالتالي المسؤول عما كتب في كل الاجزاء الا ان للاخوة مساهمات كبيرة ، خصوصا في الخمس الأخير من القرآن .

و كانت تمر سنة بعد أخرى و كنا نحدد كل سنة لتكون سنة الحسم ، إلا ان عقبات داخلية و خارجية كانت تمنعنا ، حتى بقيت ثلاثة أجزاء من القرآن لهذا العام ( 1409 هـ ) الذي وفقنا الله لاكمال التفسير فيه ، و ما كدنا نفعل لولا اني استبقت الاخوة و خلال سفرة قصيرة الى بعض البلاد بدأت بكتابة الجزء الأخير متجاوزا اسلوب السابق .. و هكذا كان هذا الجزء كما الأجزاء الأولى بقلمي بصورة كاملة .


[3]

من يبلغ الخامسة و الاربعين سنة تكون شمس عمره قد دلكت و زالت عن نصف النهار ، ولا ريب ان عنفوان حياته قد انتهى ، و لابد ان يحاسب نفسه حسابا عسيرا على ما مضى من أيامه .. و حين انظر الى الوراء أتساءل : ماذا فعلت ؟ لقد كانت السنين أسرع مما كنت احتسب ؛انها كنبتة الربيع لا تكاد تزهر حتى تذوى . ان عمر البسيطة التي نحن عليها يتجاوز الاربعة ملايين عاما فما قيمة أربعين أو ثمانين سنة بالنسبة اليها ؟ و إذا كانت هذه الفرصة تحدد حياتنا الخالدة فكم هي خسارة من يضيعها باللهو و اللعب ؟

نحن و الزمن في سباق عنيف و حاسم ، و الزمن يعصرنا عصرا حتى يخرج آخر قطرة من ماء الحياة من كياننا .. و اننا لفي خسران كبير لو لم نتحد سرعته !

لقد كنت أنتهز الفرص المتاحة في كتابة التفسير .. لقد تابعت التأليف في حوالي عشرة دول مختلفة ؛ كتبته و انا في حالات صعبة .. استشهاد عزيز ، أو وفاة قريب ، او مرض مؤلم ، و ربما كنت في مطار انتظر ، او كنت مستقلا طائرة او سيارة او قطارا ، او حتى متنزهافي حديقة عامة ، حيث أذكر أني كنت جالسا في بلد


غريب مشغولا بكتابة التفسير في حديقة عامة اذ مر بي أطفال كانوا في رحلة مدرسية فلما رأوني التفوا حولي ينظرون مستغربين ، ولم أكن أعرف لغتهم الغربية حتى أوضح لهم عملي ، حتى جاء بعض مرافقي و طلب منهم الابتعاد . على العموم : كان المنظر غريبا بالنسبة اليهم ،كما كان غريبا بالنسبة الى جليسي في طائرة حلقت بنا ساعات طويلة ولم أتحدث اليه ، حتى مل مني لاني كنت أتابع كتاباتي .. و مضيفي في باريس كان يلح علي بالخروج من البيت للتفرج على معالم تلك المدينة ، لكني كنت أفضـــل متابعة الكتابة إلا قليلا .. و هكذا كانعلي ان ادفع الثمن لو أردت متابعة التأليف ، و الحكمة العربية تقول : لكل شيء آفة و للعلم آفات ، و على المتعلم ان يتحدى كل الآفات .

و مع كل ذلك أحس بأن العمر قد ضاع في زحمة الآفات المتنوعة ، كالمشاغل الكاذبة ، و الجلسات التافهة ، و الفراغات التي لم املاها بجدية كافية . انني اشعر ان اهتمامنا باعظم مواهب الله علينا ( العمر ) أقل مما كان ينبغي ، لذلك نضيعه فيما لا يغني شيئا ، و قد نقضيه في اللهو و اللعب ولا نعرف قيمته حقا إلا بعد ان نوقف للحساب و نسأل عن كل ساعة ساعة منهم فيم أفنيناها .

و قد كان سر التوفيق الذي حالف علماءنا الكرام فأنجزوا تلك المشاريع العظيمة معرفتهم بقيمة الوقت ، و جديتهم في ألا يخسروا من عمرهم شيئا يحاسبون غدا عليه حسابا عسيرا .

حقا : كانت لهم انجازات رائعــة نتضــاءل أمامهــــا ، فكيف تسنى للعلامة الحلي - رضوان الله عليه - ان يؤلف ألف كتاب مع أمور مرجعيته و قيادته للمؤمنين ؟ فلولا انه كان يتحدى آفات العلم بإرادته الصلبة لما وفق لمعشار ذلك ! مثلا عندما دعي الى حفل زواج فيمدينة بعيدة سافر اليها في عطلة نهاية الاسبوع


( الخمــيس و الجمعـة ) عاد بكتاب ( تبصرة المتعلمين ) الذي أوجز فيه الفقه الاسلامي كله ، ضمنه عشرة آلاف فرع فقهي ( قانون اسلامي ) ولا يزال الكتاب يعتبر قمة في موضوعه ، و قد تناوله كبار فقهاء المسلمين بالشرح و التعليق ، و كان يعتبر من أهم البنود الدراسية في الحوزات العلمية الى وقت قريب .

وإذا عرفنا مدى صعوبة السفر على الدواب حيث كانت الوسيلة الوحيدة للسفر في ذلك العهد ، و بالذات إذا أراد الراكب ان يؤلف عليها و بأقلام مصنوعة من القصب ، نعرف مدى الجهاد الذي كان قد مارسه عند كتابته هذا المؤلف الكبير !

و الشيخ الكبير صاحب كتاب ( جواهر الكلام ) الذي وفقه الله لتأليف موسوعة فقهية تتسع لكل أبواب الفقه .. بأدلتها التفصيلية العمل الذي عزم عليه الكثير من الفقهاء الاسلام فلم يوفقوا .. فلولا تحديه للعقبات بإرادة فولاذية إذا ما استطاع متابعة ذلك العملالجبار .. حتى قيل أنه أثكل بإبنه الشاب فلم يترك ما قرره على نفسه من الكتابة كل يوم ، بل انكب على الدراسة و البحث ، ولم يميز أحد حتى اليوم تلك الصفحات التي ألفها في أيام مصابه مما دل على عدم حدوث تغيير في مستوى تأليفه !

وهكذا سار الفقهاء الذين عاش الواحد منهم أكبر من عمره الزمني أضعافا مضاعفة ثم مضوا الى ربهم راضين مرضيين . انهم كانوا يعرفون قيمة كل ساعة بل كل لحظة من عمرهم ، فما كانوا يستريحون حتى ينجزوا خلالها عملا صالحا ينفعهم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، ذلك اليوم الذي من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية ، و من خفت موازينه فأمه هاوية !

و اليوم حين ننظر الى سلوك المسلمين كيف فقدوا وعي الزمن ، و ضيعوا فرص العمر ، و غرقوا في اللهو و اللعب ، نتساءل : كيف يمكن إعادة المسلمين الى مناهجدينهم الحضارية ، حتى يتغلبوا على مشكلة التخلف و التبعية التي هي أم المشاكل ؟

و هذا التساءل يشغلني كثيرا ، و قد قارنت بين منهج علمائنا السابقين القائم على تفجير الطاقات و استغلال الفرص و ضغط الزمن بأي طريقة ممكنة ... و بين منهج علماء الغرب القائم على العمل الجمعي وعلى أساس تكاتف جهود كثير من ذوي الاختصاص على عمل واحد ، و تساءلت كيف يمكننا التوفيق بينهما ؟ دعنا نضرب مثلا بين المنهجين : العلامة الأميني كتب موسوعة ( الغدير ) بجهده الشخصي و ميزانيته الخاصة المحدودة ، و الكتاب بحاجة الى جهود العشرات من المحققين ، بالاضافة الى ميزانية كبيرة ، و المحدث القمــــي ألــف ( سفينــة البحـار ) التي قال عنها أحد المستشرقين - حسبما سمعت - أنه لا يمكن ان يكون جهد شخـــص واحــد أبدا ، و الشيخ آغا بزرك الطهراني كتب موسوعة ( الذريعة ) بجهدة الشخصي ، وهي فهرست واسع لكل ما ألفه علماء الشيعة عبر التاريخ وحتى اليوم .

ان هذه الاعمال الكبيرة ليست سوى انعكاس لمنهج الاسلام في التربية القائم على تحسيس الفرد بقيمة الزمن و قيمة الفعل عبره .

اما المنهج الغربي فان الموسوعة الفرنسية و الموسوعة البريطانية تعتبران من إنجازات العمل الجمعي التي لا ريب انها كبيرة و رائعة .. و أخيرا أنجزت الموسوعة الصينية التي ساهم فيها مائة ألف عالم .

ان المقارنة بين ذلك تجعلنا نكتشف مفارقة غريبة حيث ترانا - نحن المسلمين - قد تركنا منهجنا القائم على أساس الاعمال الفردية الكبيرة ، ولم نتعلم منهج الآخرين القائم على العمل الجمعي ، فصرنا كمن ضيع المشيتين ! ولو كنا نتبع في تفجير طاقاتنا الفردية ، ووعي الزمن ، و السعي وراء إنجاز العمل الصالح لوجه الله ، نتبع في ذلك منهج علمائنا الكرام ، وفي ذات الوقت نستفيد من المنهجالغربي في القيام باعمال مشتركة ، إذا لكنا نسبق الآخرين .

و هذا هو المطلوب اليوم ، وقد أنشأنا مؤسسة دار الهدى وفقا لهذه النظرية .


(4)

الى وقت قريب لم يكن الذي يشتغل بتفسير القرآن او كتابة التاريخ الاسلامي وما أشبه محترما بمستوى الذي يتمحض في دراسة الفقه الاسلامي ، بينما اليوم مع عودة الوعي الى الامة نجد الكثير من المراجع و العلماء اهتموا بالقرآن ، وقد كتب كثير منهم في التفسير كتبا مفصلة ، و هناك العديد من المؤسسات القرآنية قد أنشئت بأمر من العلماء أو بتشجيع منهم ، وهي بادرة طيبة تدعو الى التفاؤل بمستقبل زاهر ، لأن القرآن هو الشافع المشفع الذي من جعله أمامه قاده الى الجنة ، و من جعله خلفه ساقه الى النار .

و لكن تبقى المسافة بيننا و بين واجبنا تجاه كتاب ربنا شاسعة ، و المقترحات التالية قد تساهم في تقريبها :

الف : ان تصبح دراسة القرآن ( تلاوة و تدبرا و تفسيرا و تأويلا ) كما علوم القرآن قاعدة الدراسات الأخرى في المعاهد الدينية و الحوزات العلمية ، حيث ينبغي البدء بها بعد دراسة اللغة و قواعد اللغة لكي يتربى الدعاة الى الله وفق المنهج الرباني ، فلا يتأثروا بالثقافات الدخيلة ، كالفلسفة اليونانية أو الأفكار الهندية القديمة او المبادىء الوافدة من الغرب أو من الشرق .

باء : ان نسعى جاهدين لاستنباط قيم الوحي و مقاصد الشريعة و أهداف الدين من القرآن الكريم ، فتكون قاعدة فهمنا للفقه ، و تحليلنا للتاريخ ، و مواقفنا في السياسة . لابد ان نقضي على الفجوة المصطنعة بين علمي الفقه و التفسير . أوليس كتاب ربنا بالنسبة الى الفقه كما الدستور بالنسبة الى القوانين و اللوائح ؟


جيم : كيف ندعو الناس الى الدين ؟ كيف ننذرهم عاقبة الكفر و الفسوق و العصيان ؟ كيف نربيهم على التقوى و الفضيلة ؟

لا ريب ان بعض مناهج التبليغ خير من بعضها ، و الدعاة يختلفون في هذه المناهج ، ولكن أفضلها جميعا منهج القرآن الذي اتبعه النبي و آل بيته الكرام ( صلوات الله عليهم ) ، فلابد ان نتخذ آيات القرآن و تفسيرها وسيلة للوعظ و الإرشاد ، و كفى بها واعظا ، ومن لم تنفعه آيات الذكر لن ينتفع بشيء .

و الواقع : كانت هذه الأفكار التي اختصرتها هنا في صورة مقترحات على أمل أن أفصلها في مناسبات أخرى كانت وراء اتجاهي نحو التفسير قبل حوالي 12 سنة . كم وفقت في تحقيقها ؟ لا أدري ، و لكن لازلت مقتنعا بأنني بحاجة الى الاستزادة من القرآن ، وقد سألت الله ان يجعلني مشغولا الى نهاية عمري بتفسيره ، فهل أوفق أم تحول مشاكل الحياة دون هذه الأمنية الشيقة ؟ أنى كان فإن أملي بالله ، ثم بهذا التوجه الجديد الى القرآن من قبل العلماء و المفكرين ، كما بإخوتنا في مؤسسة دار الهدى ، الإستمرار في هذا الإتجاه إنشاء الله.

و كلمة أخيرة :

انني أشكر الله الذي هداني الى كتابه فأصبحت أنظر الى الحقائق بصورة أجلى ... و أصلي على النبي محمد و آله ، سيما الامام علي بن موسى الرضا الذي طالما سألت الله عند ضريحه التوفيق في إتمام التفسير .

و أذكر بالخير إخواني الذين ساهموا بشكل أو بآخر في هذا التفسير ، و أخص بالذكر الإخوة سماحة الشيخ صمدي و سماحة الشيخ شهاب و سماحة الشيخ عبد الشهيد و الأستاذ طالب خان من دار الهدى الذين ساهموا بصورة فعالة في إنجاز التفسير ، كذلك الأستاذ الحاج حسن الرضوي و الأستاذ عبد الله اكبري و سائر


الإخوة في مكتبي ... و الأستاذ حسنين في دار البصائر ممن ساهم في تهيئة وسائل طبع و نشر الكتاب بالصورة الجميلة التي عليها .

و لا أنسى أخيرا ان أذكر زوجتي المرحومة أم صالح ، التي أهديت ثواب التفسير الى روحها وفاءا لصبرها معي في الشدائد .

أسال الله العلي القدير أن يتقبل منا ذلك ، وأن يغفر لنا ذنوبنا و تقصيرنا في أمرنا إنه غفور رحيم .


مشهد المشرفة محمد تقي المدرسي

13 / ذي الحجة الحرام / 1409


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس