فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


قل أعوذ برب الناس
بينات من الآيات

[1] لكي يدرء الانسان الخطر العظيم الذي يهدده خطر وساوس الشيطان الجني أو الإنسي ، لابد ان يعقد عزماته وان يتحدى سلطان الشيطان ، فيصرح علنا بأنه مخالف له ، هكذا أمرنا الرب بان نقول ذلك قولا :

[ قل أعوذ برب الناس ]

و الإستعاذة كما سبق حالة نفسية تنبعث من الاحساس بالحاجة من جهة و الثقة بمن يستعاذ به من جهة ثانية ، وحينما تكون الإستعاذة بالله الذي خلق الناس طورا بعد طور ، و شملهم برعايته و رباهم فان ذلك يعني أمرين :

اولا : لان الله ربي أنا الذي استعيذ به فهو أولى بالتوكل عليه ، و الثقة به ، أليس هو الذي خلقني نطفة ، ثم جعل النطفة علقة ، و جعل العلقة مضغة ... و هكذا ، أنشأني خلقا بعد خلق ، و حفظني من الأخطار و الأضرار التي لن أحصيهاعددا ، حتى جعلني بشرا سويا ، فهو الذي أستجير به الآن ليحفطني من خظر الضلال ؟

ثانيا : لان الله رب الذي أستعيذ منه ، و مهيمن عليه وعلى أفعاله ، فهو قادر على درء شره عني .

[2] وإذا كان الناس يجأرون الى أصحاب القوة و الملك فان الله أعظم ملكا ، و أوسع سلطة . دعنا نستعيذ به و نجأر اليه .

[ ملك الناس ]

و الملك هو صاحب السلطة الحالية .

[3] و حينما يصيب الناس الضر ضل من يدعون سواه فاليه يألهون ، و يتضرعون ، و به يستغيثون .

[ إله الناس ]

فهو الذي ربى و ملك ، و اليه يجأر عند الخطوب أفلا نستعيذ به ؟!

[4] الإستعاذة بالله من شر الأفكار الضالة ، و الكلمات الموهنة للعزائم ، و الإيحاءات المنحرفة .

[ من شر الوسواس الخناس ]

قالوا : الوسوسة : حديث النفس ، و أصله الهمس ، و يقال لهمس الصائد و أصوات الحلي : وسواس ، و يقال لإلقاءات الشيطان في النفس ، و إيحاءاته وسوسة ، لأنها تشبه حديث النفس ، و قالوا : أنما سمي الشيطان بالوسواس لأنهصاحب وسوسة ، و ربما كان الوسواس بمعنى الموسوس أما " الخناس " فقالوا : أنه من الخنوس ، و هو بمعنى الاختفاء و منه قوله سبحانه : " فلا أقسم بالخنس " سميت النجوم به لاختفائها بعد ظهورها ، و لعل معنى الخنوس : التردد بين الظهور و الكمون، أو بين التقدم و التأخر ، فالنجوم تظهر و تختفي ، و لذلــك قال بعضهم : الخنوس بمعنى : الرجوع ، و أنشدوا :

و صــاحب يمتعــس امتعاســا يــزداد إن حييتــه خنـــاســـــاو على هذا تكون تسمية الشيطان بالخناس ، لانه دائم التردد ، كلما طردته عاد إليك ، فإذا ذكرت الله اختفى ، وإذا غفلت عاد ، من هنا حكي عن ابن عباس انه قال في تفسير الآية وجهين : أحدهما : أنه الراجع بالوسوسة عن الهدى ، الثاني : أنه الخارج بالوسوسة من اليقين .

[5] و يقوم الشيطان بإلقاءاته الضالة في القلب ، مركز العزم و اتخاذ القرار .

[ الذي يوسوس في صدور الناس ]

ولا يترك أحدا إلا و ألقي في صدره وساوسه لولا اعتصامه بالله دوما .

[6] و الوسواس من الجن ، و ذرية إبليس الذي لعنه الله و أبعده ، والى على نفسه اغواء بني آدم و تضليلهم ، وقد يكون من الإنس الذين أضلهم إبليس .

[ من الجنة و الناس ]

و روي عن أبي ذر - رضي الله عنه - أنه قال لرجل : هل تعوذت بالله من شياطين الإنس ، فقال : أو من الإنس شياطين ؟ قال : نعم لقوله تعالى :


" و كذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس و الجن " (1)أتدري ما هي الحكمة في الإستعاذة التي أمرنا بها عند تلاوة الكتاب ، حيث قال ربنا " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم " (2) ؟

أوتدري ما هي الحكمة في ان ختام القرآن الإستعاذة بالله من شر الوسواس الخناس ؟ دعنا للاجابة نذكر الحقائق التالية : أولا : قلب الانسان يتعرض لموجتين متقابلتين ، فمن اليمين تتنزل عليه موجة رحمة إلهية ، تتمثل في ملائكة الله ، ومن اليسار تعصف به موجة غضب و نقمة الشيطان ، تتمثل في جنود إبليس أبعده الله .

هكذا روي عن الامام الصادق - عليه السلام - ، انه قال : " ما من مؤمن إلا و لقلبه أذنان في جوفه : أذن ينفث فيها الوسواس الخناس ، و أذن ينفث فيها الملك ، فيؤيد الله المؤمن بالملك ، و ذلك قوله : " و أيدهم بروح منه " (3)روي عن الامام الصادق - عليه السلام - انه قال : " ما من قلب إلا و له أذنان ، على أحدهما ملك مرشد ، وعلى الآخر شيطان مفتر ، هذا يأمره و هذا يزجره ، و كذلك من الناس شيطان يحمل الناس على المعاصي ، كما يحمل الشيطان من الجن " (4)ثانيا : و قلب الانسان بيت مظلم متهاوي ، سراجه العقل ، و عماده الايمان ، و نور العقل من نور الله ، كما ان روح الايمان من ذكر الله ، وإذا غفل القلب عن الله عاث الشيطان فيه فسادا . لماذا ؟ لان طبيعة الانسان الأولية هي الجهل(1) الانعام / الاية 112 .

(2) النحل / 98 .

(3) موسوعة بحار الانوار / ج 70 - ص 47 .

(4) نور الثقلين / ج 5 - ص 725 .


والضعف ، أولم يقل ربنا سبحانه : " خلق الانسان من عجل " و قال : " هو الذي خلقكم من ضعف " و قال : " ان الانسان خلق هلوعا * إذا مسه الخير منوعا * وإذا مسه الشر جزوعا " و قال : " و الله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا " .

أوليس بنوا آدم من تراب و طبيعة التراب العجز و الضعف ، و الجهل و الغفلة .

فان لم يتصل القلب بنور الله لحظة بلحظة كيف يبصر الحقائق ، وقد قال ربنا " و من لم يجعل الله له نورا فما له من نور " .

وما لم يستمد العزيمة من الله بروح الايمان أنى له تجاوز ضعفه و عجزه ، و تحدي الشهوات و الضغوط .

ثالثا : من هنا يجــأر المؤمنــون الى ربهم ألا يتركهم و شأنهم لحظة و يقولون : " ربنا لا تكلنا الى أنفسنا طرفة عين أبدا " .

لان في تلك اللحظة الخاطفة قد تقع الواقعة ، ألم يترك الله نبيه يونس بن متى و شأنه ساعة ، فدعا على قومه ، و ابتلي بالسجن في بطن الحوت .

و أظن ان ما صدر من الأنبياء من ترك الأولى انما كان في اللحظات التي أوكلهم الله الى أنفسهم ، فغفلوا و نسوا ، و سمى الله ما صدر منهم عصيانا ، ثم تاب عليهم لكي لا يزعم أحد أنهم آلهة ، ولكي يزدادوا يقينا و اطمئنانا .

وهكذا روي عن النبي - صلى الله عليه وآله - : " ان الشيطان واضع خطمه (1) على قلب ابن آدم ، فإذا ذكر الله خنس ، وإذا نسي التقم ، فذلك(1) الخطم : أنف الانسان ، مقدم أنف الدابة .


الوسواس الخناس " (1) .

و هكذا ندب الاسلام مداومة الذكر فقال ربنا سبحانه : " و اذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون " (2) و قال تعالى : " و اذكر ربك كثيرا و سبح بالعشي و الأبكار " (3)و جاء في الحديث : عن الامام الصادق - عليه السلام - : " ما أبتلي المؤمن بشيء أشد عليه من خصال ثلاث يحرمها قيل : و ما هن ؟ قال : المواساة في ذات الله ، و الانصاف من نفسه ، و ذكر الله كثيرا ، امـا و إني لا أقول لكم : سبحان الله ، و الحمد لله ، ولا اله الا الله ، و الله اكبر ، و لكن ذكر الله عندما أحل له . و ذكر الله عندما حرم عليه " (4)و اعتبر الامام الباقر - عليه السلام - ذكر الله صلاة : فقال : " لا يزال المؤمن في صلاة ما كان في ذكر الله قائمــا كان او جالســـا او مضطجعـــا ، ان الله تعالى يقول : " الذين يذكرون الله قياما و قعودا وعلى جنوبهم و يتفكرون في خلق السموات والارض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار " (5) .

و روي عن النبي - صلى الله عليه وآله - انه قال : " قال الله سبحانه : إذا علمت ان الغالب على عبدي الاشتغال بي نقلت شهوته في مسألتي و مناجاتي ، فإذا كان عبدي كذلك فأراد أن يسهو حلت بينه و بين أن يسهو ، أولئك أوليائي حقا ، أولئك الأبطال حقا ، أولئك الذين إذا أردت ان أهلك الارض عقوبة


(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 724 .

(2) الجمعة / 10 .

(3) آل عمران / 41 .

(4) موسوعة بحار الانوار / ج 93 - ص 151 .

(5) المصدر / ص 153 .


زويتها عنهم من أجل اولئك الأبطال " (1)

بلى . ولكن إذا ترك المؤمن ذكر الله فإنه ليس يتعرض فقط لغواية الشيطان و السقوط في اشراكه ، بل و ايضا قد يتعرض لأخطار مادية . كذلك جاء في الحديث المأثور عن الامام الصادق - عليه السلام - : " يموت المؤمن غرقا ، و يموت بالهدم ، و يبتلى بالسبع ، ويموت بالصاعقة و لا يصيب ذاكرا لله " وفي رواية أخرى : " لا يصيبه وهو يذكر الله " (2)رابعا : و تذكر الله و سلطانه و قوته و رحمته ، و التوكل و الإستعاذة بقوته و بتأييــده لعباده , و وعي أسمائه الحسنى كل ذلك يقطع سياق الاسترسال مع وساوس النفس ، وهمزات الشيطان ، فتكون قرارات الانسان خاضعة لمحاكمة عقله و مقاييس فطرته ، دون أهوائه و تمنياته .

إن أغلب الناس يتخذون قراراتهم بلا وعي منهم لأسبابها ، حيث تنضج القرارات فيها سمي العقل بالباطن ، ثم يبررونها لأنفسهم بشتى التبريرات ، بينما المؤمن يمرر قراراته على منظار عقله ، فيمحصها تمحيصا دقيقا ، كل ذلك بفضل ذكر الله الذي يزيد من يقظة الذات ،و توهج العقل ، و استنارة الفطرة .

خامسا : ومن أبرز فوائد الإستعاذة بالله تجنب تفسير كتاب الله و نصوص الشريعة حسب الهوى و الرأي مما يسبب في تبديل كلمات الله عن مواضعها .

إن أكثر الناس يتخذون مواقف مسبقة من القرآن ، فترى الشيطان يوسوس في صدورهم ، فيقول لهم مثلا : الآية هذه تعني أعدائك ، و تلك الآية نزلت أساسا في(1) المصدر / 162 .

(2) المصدر .


الغابرين ، أو أنها تخص الفئة الكذائية ، المهم أنه يبعدك عن دائرة تطبيق الآية ، فلا يدعك تنتفع بها .

و ربما أمرنا بالإستعاذة من الشيطان قبل تلاوة الذكر ، و جاءت السورة الأخيرة من القرآن تأمرنا بالإستعاذة منه لكي لا نفسر آياته بالرأي ، و لا نؤولها تأويلا خاطئا ، و لا نتبع ما تشابه منها ابتغاء الفتنة ، و نترك المحكمات .

سادسا : كيف نستعيذ بالله من وساوس الشيطان ؟

الف : بالتزود ببصائر الوحي في المعرفة ، و مناهج الدين في العلم و التعلم وهي كثير و مبثوثة في النصوص المختلفة .

باء : باستقبال المواعظ من أهلها ، و ذلك بمعاشرة العلماء الربانيين ، و الدعاة المجاهدين ، و عباد الله الصالحين .

جيم : بتجنب دعايات أهل الضلال ، و مقاطعة مجالسهم و كتبهم و أعلامهم ، فان من عرض نفسه للإنحراف بالإستماع الى أبواق الشيطان ثم انحرف و ضل فلا يلومن إلا نفسه .

دال : بالتفكر المستمر في أمور الدين ، و التدبر في كتاب الله ، و التحري عن الخط السليم ، و عدم الإستعجال في الحكم على شيء .

هاء : و أهم من كل ذلك بالدعاء الى الله أن يهديه الى الصراط المستقيم ، و ألا يكله الى نفسه لحظة .

وهذا ما ندعو الله به في خاتمة تفسيرنا لهذه السورة الكريمة ، و نسأل الله أن يتقبل من عبده العاصي هذا اليسير من الجهد ، وأن يجعله ذخرا له ليوم فاقته ، وأن يغفر لهتقصيره في أداء حق كتابه ، وأن يجعل القرآن و العترة شفيعا له يوم القيامة . انه سميع الدعاء ، و الحمد لله رب العالمين .


طهران 9 / ذي القعدة الحرام / 1409 هـ

محمد تقي المدرسي


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس