ألم نشرح لك صدرك
بينات من الآيات [1] هكذا جاء الخطاب الإلهي لرسوله يفيض حنانا و عطفا ، و يذكر المسلمين بفضيلة رسولهم ، و يلقي حبه و احترامه في روعهم ، و يقول :
[ ألم نشرح لك صدرك ]
لقد بلغ محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وآله - أسمى درجة من الكمال مما لم يبلغ أحد قبله ، و لا يمكن لأحد ان يبلغه غيره ، كل ذلك بفضل الله و منه و توفيقه ، و علينا أن نميز تماما بين إكرام مخلوق لكرامته عند الله ، ووصفه بالكمال الذي حباه ربه و إعظامــه ؛ لأن الله أمـر بذلك و في حدود أمر الله ، و بين ان نفعل مثل ذلك بعيدا عن الله .. ألا ترى أننا حين نشهد للنبي بالرسالة في الصلاة ، نقول : و أشهد أن محمدا عبده و رسوله ، فلماذا نؤكد على أنه عبد الله ؟ أحد أسباب ذلك لكي لا يدفعنا حبنا للرسول الى الغلو فيه ، كما فعل النصارى في ابن مريم
- عليهما السلام - .
و الآيات في سورة الضحى وهذه ترفع شأن الرسول الى أسمى المراتب ، و لكن بصيغة تنفي في ذات الوقت بدعة الغلو التي ابتليت بها الأمم فيما يتصل بالصالحين منهم ، و إنك لترى - مع كل هذا الوضوح في التعبير - ان عامة المسلمين لا تخلوا نظراتهم حول النبي و سائراولياء الله من شوائب الغلو ، جهلا بأن مقاماتهم السامية ليست بذواتهم ، بل بما حباهم الله سبحانه ، و إلا فهم بشر كسائر البشر لولا رحمة الله .
و قد شرح الله صدر النبي بالايمان ، و شرحه باليقين ، و شرحه بالرسالة ، حتى جعله يتحمل ما تشفق الجبال من حمله ، حتى واجه ذلك المجتمع الجاهلي الفظ الجافي الحاد العنيف بتلك الاخلاق الحميدة التي نعتها الله جل ثناؤه بالقول : " و إنك لعلى خلق عظيم" (1) .
لقد وسع قلبه لما مضى من الزمان ولما قد يأتي ، و هيمن بقلبه الكبير عليهما جميعا ، و لا يزال الزمن يتقدم و يتطور و رسوله الله يقوده و حتى قيام الساعة .
و لقد شرح الله صدر الرسول بأولئك الصفوة من أصحابه الذين حملوا رسالته ، و تابعوا مسيرته وفي طليعتهم ابن عمه الامام علي - عليه السلام - الذي كان منه بمنزلة هارون من موسى - حسب الحديث المتفق عليه - أولم يؤيد الله كليمه موسى - عليه السلام - بأخيه هارون ، و كان استجابة لدعائه ، حيث قال : " رب اشرح لي صدري " الى قوله : " و اجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي " .
[2] حينما يشرح الله القلب بالايمان فانه يتسع للمشاكل و الصعاب ، و يقدر(1) القلم / 4
على مواجهة أعتى التحديات ، أوتدري كيف ؟ لان القلب يومئذ يضحى طاهرا من وساوس الشيطان ، نقيا من رواسب الشرك ، بعيدا عن أغلال التبرير و الخداع الذاتي ، سليما من البغضاء والضغائن و الحسد و الظنون و التمنيات ، و آنئذ يكون صاحبه خفيف المؤنة ، نشيط التحرك ،كما لو نشط من عقال ، ولعل القرآن يشير الى ذلك بقوله :
[ و وضعنا عنك وزرك ]
لأن الوزر هو الحمل الثقيل ، و وضع الحمل رفعه ، فأي حمل أشد ثقلا من حب الدنيا ، و الخوف من أهلها ، و التثاقل الى الأرض ؟ و نجد تأييد ذلك في الحديث المأثور عن النبي - صلى الله عليه وآله - حيث سئل فقيل له : يا رسول الله ِ! أينشرح الصدر ؟ قال : "نعم " قالوا : يا رسول الله ! و هل لذلك علامة يعرف بها ! قال : " نعم . التجافي عن دار الغرور ، و الإنابة الى دار الخلود ، و الإعداد للموت قبل نزول الموت " (1) .
فاذا كان شرح الصدر - في حسب هذا الحديث - يتم بالتجافي عن الدنيا ، فان وضع الوزر يكون أحد مظاهره ، كما نجد تصديق ذلك في قوله سبحانه صفة الرسول : " و يضع عنهم إصرهم و الأغلال التي كانت عليهم " (2)و الإصر هو الحمل الثقيل ، و قد فسرت بالشرك و الخرافات ، كما ان أحد معاني الأغلال : القيود النفسية التي تمنع التحرك .
وقد تم كل ذلك بالوحي المتمثل في الكتاب ، وأي مؤمن ليستفيد منه نصيبا عندما يتلوه حق تلاوته ، فينشرح به صدره و يتخفف عن وزره و أثقاله .
(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 603 .
(2) الاعراف / 157 .
[3] وأي وزر عظيم هو ضيق النفس و حرج القلب ؟ ! انه ينقض ظهر صاحبه ، و بالذات إذا حمل رسالة الله الى العالمين ، انه وقر كبير لا يقدر عليه إلا من شرح الله صدره بالايمان و اليقين و التوكل عليه ، و تفويض الأمر اليه ، هكذا قال شعيب - عليه السلام - حينما تحدى فساد قومه و قال : " ان أريد إلا الإصلاح ما استطعت و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و اليه أنيب " (1) .
[ الذي أنقض ظهرك ]
قالوا : أي أثقله ، حتى سمع نقيضه ، وهو صريره الذي يكون من شدة الحمل .
[4] عندما يخلص العبد لربه حياته ، و يصفو من أدران الدنيا و مصالحها و شهواتها ، و يتخلص من قيود المادة او أغلالها فانه يصبح قرين الرسالة ، يسمع بها ، و يعلو ذكره بسبب تصديه لنشرها و ذوبانه في بوتقتها ، كذلك سيد المرسلين استخلصه الله لنفسه ، فأصبح ذكره قرين ذكر الله ، و طاعته امتدادا لطاعة الله ، و كلامه و سنته و سيرته و آدابه جزء من أحكام الله ، فقال ربنا سبحانه : " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " (2) هكذا رفع ذكره ، ألا ترى كيف يهتف المؤذنون بإسمه مع كل شارقة و غاربة، و عبر ملايين الحناجر المؤمنة .
[ و رفعنا لك ذكرك ]
و ذكر الرسول مرفوع في الدنيا بتأييد الله لدينه الذي يظهره على الدين كله و بقبول شفاعته في الآخرة التي يرضيه بها ، و اليوم و بعد أربعة عشر قرنا من نزول القرآن الكريم نجد اسم الرسول محمد - صلى الله عليه وآله - هو أشهر اسم في العالم ، و شخصيته الكريمة أحب الى قلوب الملايين من أي شخصية أخرى ، وإذا
(1) هود / 88 .
(2) الحشر / 7 .
ذكروا أعظم شخصية عبر التاريخ فسوف يكون هو الأول ، لا ريب حتى عند غير المسلمين .
[5] من يتيم عائل يحيط به الأعداء أضحى رسول الله سيد قومه ، ثم باني أمة ، ثم شيد البشرية جميعا ، من فعل ذلك به أوليس الله ؟ فلماذا نيأس من روحه ، و نتراجع ببعض الأذى الذي يصيبنا في سبيله ؟
[ فان مع العسر يسرا ]
انه يلازمه أنى سار ، لان العسر يحمل في ذاته بذور اليسر ، و لان العسر حالة عابرة في حياة الانسان ، أوليس قد خلق الله الخلائق ليرحمهم ، و انما يبتليهم بالعسر و الشدة ؟ أوليس قد سبقت رحمة ربنا غضبه ؟ إذا فالعسر لا يدوم ، و الدليل على ذلك سيرة الرسولالتي أخلدها القرآن للعبرة بها ، لانها مثل أعلى لحياتنا نحن المسلمين ، نتبع هداها فيرزقنا الله روحها و عقباها ، و بتعبير آخر : الذي يتبع سيرة الرسول بقدر او آخر فان الخطوط العريضة لحياته سوف تتشابه مع تلك السيرة في عسرها و يسرها ، في صعابها وفي عواقبها الحسنى .
و لقد قال ربنا سبحانه : " ولكم في رسول الله أسوة حسنة " (1) فمن تأسى برسول الله في حياته حصل على جزء من مغانم سيرة الرسول و مكتسباتها .
[6] وراء العسر الواحد يسران : يسر في الدنيا و آخر في الآخرة ، يسر نابع من رحمة الله التي وسعت كل شيء ، و يسر منبعث من الصبر و الإستقامة ، و بالتالي من رحمة الله الخاصة بالمؤمنين ، لذلك كررت الآية :
[ إن مع العسر يسرا ]
(1) الاحزاب / 21 .
قالوا : ان من عادة العرب إذا ذكروا إسما معرفا ثم كرروه فهو هو ، و اذا نكروه ثم كرروه فهو غيره ، و هما إثنان ليكون أقوى للأمل و أبعث للصبر .
و لذلك جاء في الحديث المروي عن الرسول - صلى الله عليه وآله - : انه خرج مسرورا فرحا ، و هو يضحك ، و يقول " لن يغلب عسر يسرين ! " (1) .
و جاء على لسان الشاعر :
إذا ضاقت بك الأحوال يوما توســـل بألــم نشـــرحتجـــد عسرين مع يسرين لا تحــزن و لا تفـــرح[7] كيف جعل الله مع عسر واحد يسرين إثنين ؟ انما بتوكل المؤمن على ربه ، و اجتهاده في العمل ، حتى إذا فرغ من مسؤولية لمسؤولية أخرى فمن دون توان أو انقطاع .
[ فاذا فرغت فانصب ]
قالوا : فاذا فرغت من الصلاة فانصب للدعاء ، قبل ان تقوم من مقامك ، أو إذا فرغت من أمور الدنيا فانصب للعبادة ، أو إذا فرغت في نهارك عن أمور الخلق فانصب بالليل في طاعة الحق .
و يبدو ان كل هذه المعاني صحيحة لان الكلمة تسعها ، و معناها - فيما يظهر - الفراغ من عمل و الإجتهاد في عمل جديد ، و العمل الأول يكون أسهل من الثاني لانه قد بذل جهده فيه ، و لذلك جاء التعبير بـ " فانصب " .
ذلك ان القلب المتقد شوقا الى رضوان الله ، و ولها الى الزلفى منه لا يني يحمل(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 604 .
الجسد على الأعمال الصالحة ، لا يفرغ من واحد حتى تراه يشتغل بالثاني و يجتهد فيه و ينصب لتحقيقه ، ان نفسه منه في نصب لان أهدافه كبيرة ، و تحسسه بالزمن و سرعة انصرامه عنه ، و بالموت و تسارع خطاه اليه ، و بالأجل الذي لا يستأخر و لا يستقدم ساعة حلوله ، وبالقبر الـــذي ينتظره لنومــة طويلة ، و بالحساب ينتظره بكل هيبته و دقته .. اقول : ان عمق تحسسه بكل ذلك يقض مضجعه ، و يسلب راحته ، و يلهيه عن اللهو ، و يشغله عن اللعب ، و يصومه عن لذات الدنيا إلا بقدر حاجته ، و يزهده في درجاتها الزائلة .
هكذا كان أولياء الله الصالحين و لا يزالون فطوبى لهم ثم طوبى لهم ، و هكذا تجدهم عند نزول الموت بهم يتحسرون لا لفراق الأحبة ، و انعدام لذات الدنيا . كلا .. و انما لانهم بالموت يفقدون لذة قيامهم بالليل و مناجاتهم مع رب العباد ، كما يفقدون لذة العطش في صيام الهواجر .
كذلك يصفهم الامام علي - عليه السلام - في خطبة المتقين حيث يقول : " ولولا الأجل الـذي كتب اللــه عليهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين ، شوقا الى الثواب ، و خوفا من العقاب . عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم ، فهم و الجنة كمن قدرآها ، فهم فيها منعمون ، وهم و النار كمن قد رآها ، فهم فيها معذبون . قلوبهم محزونة ، و شرورهم مأمونة ، و أجسادهم نحيفة ، و حاجاتهم خفيفة ، و أنفسهم عفيفة ، صبروا أياما قصيرة أعقبتهم راحة طويلة . تجارة مربحة يسرها لهم ربهم . أرادتهم الدنيا فلم يريدوها، و أسرتهم ففدوا انفسهم منها . اما الليل فصافون أقدامهم ، تالين لأجزاء القرآن يرتلونها ترتيلا . يحزنون به أنفسهم و يستثيرون به دواء دائهم . فاذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا اليهاطمعا ، و تطلقت نفوسهم اليها شوقا ، و ظنوا انها نصب أعينهم . وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا اليها مسامع قلوبهم ، و ظنوا ان زفير جهنم و شهيقها في أصول آذانهم ، فهم حانون على أوساطهم مفترشون لجباههم و أكفهم و ركبهم ، و أطراف أقدامهم ، يطلبون الى الله تعالى في فكاك رقابهم . وأما النهار فحلماء علماء ، أبرار أتقياء . قد براهم الخوف بري القداح ينظر اليهم الناظر فيحسبهم مرضى ، و ما بالقوم من مرض ؛ و يقول : لقد خولطوا ! " (1) و قد كان رسول الله المثل الأعلى لهذه الصفات ، فقد قام الليل حتى تورمت قدماه ، و عانى من الجوع حتى شد على بطنه حجر المجاعة ، و طلبته الدنيا فكشح عنها .
و لم يزل خلال أيام رسالته المحدودة يهدم بنى الجاهلية في كل يوم ليقيم مكانها صرح الاسلام ، فما فرغ من مهمة إلا لينصب للثانية ، حتى إذا أكمل الله به الدين نصب نفسه لمهمة الخلافة من بعده ، فاستوزر عليا - عليه السلام - إماما من بعده ، وكانت تلك أصعب مراحل حياته ، حيث واجه مخالفة واسعة من بعض أصحابه و لكنه نهض به بكل عزم و استقامة .
من هنا جاء في تفسير الآية عن الامام الصادق - عليه السلام - : " فاذا فرغت من نبوتك فانصب عليا ، و الى ربك فارغب في ذلك " (2) .
[8] و ما الذي يجعل المؤمنين في حركة ذاتية ، و نشاط لا ينقطع ؟ انه حب الله و الرغبة اليه ، و من وله بأحد استسهل الصعاب من أجله ، وأي حب أكبر في صدور المؤمنين من حبهم لله و قد قال الله : " و الذين آمنوا أشد حبا لله " (3) لذلك جاء النداء
(1) نهج البلاغة / ج 193 - ص 303 .
(2) تفسير نور الثقلين / ج 5 - ص 605 .
(3) البقرة / 165 .
للرسول و من خلاله للأمة :
[ و إلى ربك فارغب ]
لقد كان قلبه عند ربه ، تناه عيناه و لا ينام قلبه ، و كان إذا جن عليه الليل تفرغ للإبتهال و الإجتهاد ، دعنا نستمع الى قصة ترويها عائشة عن قيامه بالليل حسبما جاء في رواية الامام الصادق - عليه السلام - قال : " كان ليلة النصف من شعبان و كان رسولالله - صلى الله عليه وآله - عند عائشة ، فلما انتصف الليل قام رسول الله - صلى الله عليه وآله - عن فراشه ، فلما انتبهت وجدت رسول الله - صلى الله عليه وآله - قد قام عن فراشه ، فداخلها ما يدخل النساء ( اي الغيرة ) و ظنت انه قام الى بعض نسائه ، فقامت و تلففت بشملتها - و أيم الله ما كانت قزا و لا كتانا و لا قطنا ، و لكن سداه شعرا و لحمته أوبار الإبل - فقامت تطلب رسول الله في حجر نسائه حجرة حجرة فبينما هي كذلك إذ نظرت الى رسول الله ساجدا كثوب متلبد بوجه الأرض ، فدنت منه قريبا فسمعته يقول في سجوده :
" سجــد لك سوادي و خيالي ، و آمن بك فؤادي ، هذه يداي و ما جنيته على نفسي ، يا عظيم ! ترجى لكل عظيم ، إغفر لي العظيم ، فانه لا يغفر الذنب العظيم إلا الرب العظيم " .
ثم رفع رأسه و أهوى ثانيا الى السجود ، و سمعته عائشة يقول :
" أعوذ بنور وجهك الذي أضاءت له السموات و الأرضون ، و انكشفت له الظلمات ، و صلح عليه أمر الأولين و الآخرين من فجأة نقمتك ، ومن تحويل عافيتك ، و من زوال نعمتك . اللهم ارزقني قلبا تقيا نقيا ، و من الشرك بريا ،لا كافرا و لا شقيا "
ثم عفر خديه في التراب و قال : " عفرت وجهي في التراب و حق لي أن اسجد لك " (1) .
(1) مفاتيح الجنان ( اعمال النصف من شعبان ) ص 169 .
|