فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


أليس الله بأحكم الحاكمين
بينات من الآيات

[1] و تفتتح هذه السورة بالقسم بما يصلح اطارا لهذه البصيرة . فما هو التين و الزيتون ؟

[ و التين و الزيتون ]

تتميز الفاكهة عن سائر الطعام بسهولة تناولها دون معالجة ، فاللحم لا يستساغ نيا ، و الحبوب بحاجة الى معالجة و إعداد ، بينما العنب مثلا يجنى و يؤكل بلا معالجة ، بينما يتميز أنواع من الطعام بامكانية تخزينه ، و بزيادة فوائده للجسم ، بيد أن ألوانا منالفاكهة تجمع الى ميزاتها كفاكهة ميزات الطعام ، بإمكانية تخزينها و غناها بالمواد الضروريـة للجسد و منها التين ، فهي سهلة التناول كأنها قد صنعت بقدر فمك ، طيبة المذاق ، جليلة الفائدة ، تجفف لأوقات الحاجة ، و قد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وآله - فيفضلها انه قال : " لو قلت ان فاكهة نزلت من الجنةلقلت هذه هي ، لان فاكهة الجنة بلا عجم ، فكلوها فانها تقطع البواسير ، و تنفع من النقرس " (1) .

و كذلك فاكهة الزيتون التي هي من اعظم الفواكه نفعا للجسد و بالذات لان زيتها يعتبر الدهن النادر الذي لا يضر الجسد شيئا ، و جاء في حديث مأثور عن النبي - صلى الله عليه وآله - : " كلوا الزيتون و أدهنوا به فانه من شجرة مباركة " (2) .

[2] في كنف جبل مشجر تحلو الحياة لما فيه من فوائد و منظر و حماية ، من هنا جاء ذكر الطور بعد ذكر طعام الانسان فقال ربنا :

[ و طور سينين ]

و قيل في معنى " سينين " الحسن باللغة السريانية ، و قيل : ان كل جبل ذا اشجار مثمرة يسمى بسينين ، فقد قال مقاتل و الكلبي : " سينين " كل جبل فيه شجر مثمر (3) .

[3] و أنى كان فان الصورة تنسجم مع القسم بالتين و الزيتون من جهة و بالبلد الأمين من جهة أخرى ، حيث قال ربنا سبحانه :

[ و هذا البلد الأمين ]

ذلك ان أصول مدنية الانسان : الطعام ، و الارض ، و السلام . فاذا كان التين و الزيتون مثلا لأرقى أنواع الطعام ، و طور سينين لأحسن الأراضي و أكثرها بركة ، فان البلد الأمين مثل لأفضل البلاد و هي بلاد الأمن ، و يتناسب هذا الاطار مع(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 607 .

(2) القرطبي / ج 20 - ص 112 .

(3) المصدر .


محور السورة المتمثل في خلق الانسان بأحسن تقويم ، ذلك لان تسخير الحياة له ، و إعداد طعامه و ارضه ، و توفير الأمن , و بالتالي توفير وسائل المدنية له بعض جوانب حسن صنعه اليه ، و جميل عطائه له .

و قد فسرت هذه الكلمات تفسيرات أخرى لا تتنافى وسعة كلمات القرآن و تخومها المتعددة ، فقالوا : " البلد الامين " : مكة شرفها الله " و طور سينين " : الجبل الذي نادى الله جل ثناؤه فيه موسى - عليه السلام - اما " التين " فقيل: انه البيت المقدس او المسجد الحرام او مسجد دمشق ، بينما الزيتون الجبل الذي عليه بيت المقدس ، او ان التين هو مهبط سفينة نوح حيث جبل الجودي .

و جاء في رواية مأثورة عن النبي - صلى الله عليه وآله - : " ان الله تبارك و تعالى اختــار من كل شيء أربعة . الى ان قال : و اختار من البلدان اربعة : فقال تعالى : " و التيـن و الزيتــون * و طور سينين * و هذا البلد الأمين " فالتين : المدينة ، و الزيتون : بيت المقدس ، و طور سينين : الكوفة ، و هذا البلد : مكة " (1) .

[4] قسما بتلك الديار المقدسة . و قسما بتلك النعم التي تصنع حضارة البشر ان الانسان قد خلق خلقا سويا حسنا .

[ لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم ]

تتجلى قدرة الله في صنع جسده ، من استقامة قامته ، الى شبكة أعصابه ، الى قدرات مخه ، الى مرونة جسمه و ما فيه من قدرة احتمال للظروف المختلفة ، مما يدل على انه قد أعـد لدور أعظم من مجرد دوره الحياتي أو البنائي ؛ انه ليس مجرد فرد متطور ، انه مخلوق مكرم، سخر الله له الأحياء و النباتات و الطبيعة ، فاذا دوره(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 606 .


الحقيقي ليس في جسمه و انما في روحه ، في تلك الومضة المباركة من نور المشيئة التي منح من دون سائر الأحياء ، في ذلك القبس من نور العقل و العلم و المعرفة الذي زود به و ميز به عن سائر الخلائق .

وهذا المعنى هو الذي ينسجم مع سياق السورة ، فالقوام الحسن الذي من الله به علـى الانســان ليس تقويم جسده فقط ؛ لان هذا التقويم مقدمة لما هو أهـم وهو قوام روحه ؛ ولأن المؤمن و الكافر يشتركان فيه ، و لا معنى لرد الكفار و حدهم الى أسفل سافلين .

ان الانسان قد خلق ليكون ضيف ربه الأعلى في جنان الخلد ، ليكون جليس مقعد صدق عند مليك مقتدر ، ليكون مثل ربه العظيم يقول : للشيء كن فيكون ، ليكون في خط ذلك الانسان الذي يعرج الى ربه و يعرج حتى يكون قاب قوسين أو أدنى .

[5] و لكـن هذه الفرصة المباركة التي منحت له تنعكس تماما عندما لا يستفيد منها ، فيكون كالمتسلق جبلا عظيما ان زلت قدمه هوى الى الوادي السحيق .

[ ثم رددناه أسفل سافلين ]

الى أين ؟ الى جهنم و ساءت مصيرا ، حيث يتمنى لو يكون ترابا .

[6] ما دام الانسان قد خلق في احسن تقويم فليترك نفسه مع الأقدار تحمله أنى اتجهت ؟ كلا .. إذ ان ذلك يؤدي به الى اسفل سافلين ، لا بد من الوعي و النشاط حتى لا يهبط الى الدرك الأسفل ، و مثله في ذلك مثل الذي يوضع في قمة جبل سامق ، فتهب عليه عاصفة شديدةان لم يستخدم كل وعيه و قوته و عزمه لطوحت به الى الوادي .


هكذا استثنى الذكر " الذين آمنوا و عملوا الصالحات " فقط ، و هم الذين يبقون في القمة حيث و جعلهم الله .

[ إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون ]لا ينقطع أجرهم ، و تتواتر عليهم نعم الله ، أوليس ربنا لا تزيده كثرة العطاء الا جودا و كرما .

[7] لا يحتاج أي حيوان الى العناية في أمور حياته بقدر ما يحتاج الانسان ، فالطفل البشري تتضاءل احتمالات بقائه من دون عناية مناسبة قد يظل يعتمد على والديه فترة طويلة ، كما ان الانسان نفسه لا يملك وسائل دفاعية كافية في مقاومة سائر الأخطار ، بينما أوتي كل حيوان أدوات كافية للدفاع ، بينما أوكل هذا الأمر بالنسبة الى الانسان الى عقله و ذكائه ، كل ذلك يدل على انه مخلوق متحضر ، يحتاج في وجوده و في تكامله الى النظام .

[ فما يكذبك بعد بالدين ]

مالذي يدعوك الى تكذيب الجزاء أيها الانسان ! ومن دون الايمان بالجزاء لا يمكن ان يبقى الانسان حيث جعله الله في قمة الخلائق ، كما انه من دون الايمان بالجزاء لا معنى للالتزام بالدين ( الشريعة ) بينما الدين ضرورة عقلية يهتدي اليها الانسان ، أليس الانسان قد خلق اجتماعيا فهو بحاجة الى نظام ، و أفضل نظام هو الذي يوحي به الرب ، أوليس في الانسان فرص التكامل الروحي و التقرب الى الله ، فهو إذا بحاجة الى رسل و رسالات ينجزون له هذه الفرص ، و من جهة أخرى : ألا تجدون الانسان كيف ينهار الى منتهى الوحشية و الفساد من دون روادع ، فيستخدم ذكاءه و قدراته في تدمير نفسه ، ألم تر كيف نشر الفساد في البر و البحر ؟ ألم تسمع أنباء الحروب العالمية ، أولم تقرأ عما يعده لنفسه من وسائل التدمير ؟! كلذلك يشهد على ان هذا الكائن العظيم لا يتكامل إلا بنظام الهي عظيم .. انه من دون الدين سفينة جبارة بلا ربان ، طائرة كبيرة بلا طيار ، فما هو مصيره يا ترى ؟ !

[8] ولولا الجزاء الموعود لكان خلق الانسان عبثا أو حتى ظلما سبحان الله !

فكيف يتساوى عند الله من يهبط الى أسفل سافلين فينشر الفساد في الارض ، و من يتسامى الى قمة الخير و الإحسان ؟ ان آيات الله في الخليقة تهدينا الى ان ربنا هو أحكم الحاكمين ، فتشهد ذلك على انه جعل لهذا الانسان جزاء يبلغه في يوم الدين .

[ أليس الله بأحكم الحاكمين ]

جاء في الحديث عن قتادة : وكان رسول الله - صلى الله عليه وآله - إذا ختم هذه السورة قال : " بلى . و أنا على ذلك من الشاهدين " (1) .


(1) مجمع البيان / ج 10 - ص 512 .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس