فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


و ما أدراك ما ليلة القدر
بينات من الايات

[1] عندما انهمر فيض الوحي على قلب الرسول - صلى الله عليه وآله - في ليلة القدر فـي شهر رمضان ، و تنزلت ملائكة الرحمة و الروح بالقرآن ، رسالة السلام ، و بشير الرحمة ، عندئذ خلد الله هــذه المناسبة المباركة التي عظمت في السموات و الارض ، و جعلها ليلةمباركة خيرا من ألف شهر .

انها حقا عيد الرحمة ، فمن تعرض لها فقد حظــى بأجر عظيم !! فقال الله سبحانه :

[ إنا أنزلنا في ليلة القدر ]

و كذلك قال ربنا سبحانه : " إنا أنزلنا في ليلة مباركة إنا كنا منذرين * فيها يفرق كل أمر حكيم " (1) .


(1) الدخان / 3 - 4 .


كذلك نزل القرآن كله على قلب الرسول في تلك الليلة ، ثم نزل بصورة تدريجية طيلة ثلاث و عشرين عاما ، لتأخذ موقعها من النفوس ، و ليكون كتاب تغيير يبني الرسول به أمة و حضارة ، و مستقبلا مشرقا للانسانية .

و كذلك قال ربنا سبحانه : " شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن " (1) .

و معروف ان القرآن تنزل بصورته المعهودة في أيام السنة جميعا ، فله إذا نزلة أخرى جملة واحدة .

و السؤال : لماذا سميت هذه الليلة بليلة القدر ؟

يبدو ان أهم ما في هذه الليلة المباركة تقدير شؤون الخلائق ، و قد استنبط اللفظ منه ، فهي ليلة الأقدار المقدرة ، كما قال ربنا : " فيها يفرق كل أمر حكيم " .

و قال بعضهم : بل لانها ليلة جليلة القدر ، قد انزل الله فيها كتابا قديرا ، و لان الذي يحييها يكون عند الله ذا قدر عظيم .

[2] من ذا الذي يستطيع ان يدرك أبعاد تلك الليلة التي باركها الله لخلقه بالوحي ، و جعلها زمانا لتقدير شؤون العالمين ، مــــن ذا الذي يدرك عظمة الوحي ، و جلال الملائكة ، و معاني السلام الإلهي . انها ليست فوق الإدراك بصورة مطلقة ، و لكنها فوق استيعاب الانسان لجميع أبعادها ، و على الانسان ألا يتصور انه قد بلغ علم ليلة القدر بمجـرد معرفة بعض ابعادها ، بل يسعى و يسعى حتى يبلغ المزيد من معانيها ، وكلما تقدم في معرفتها كلما استطاع الحصول على مغانم أكبر منها .

[ وما أدراك ما ليلة القدر ]


(1) البقرة / 185 .


سبق القول من البعض : ان هذه الجملة وردت في القرآن لبيان أهمية الحقيقة التي تذكر بعدها .

بينما تترك الحقيقة مجملة إذا ذكرت عبارة و ما يدريك .. هكذا قالوا ، و اعتقد ان كلتا الجملتين تفيدان تعظيم الحقيقة التي تذكر بعدها .

[3] كيف نعرف اهمية الزمان ؟ أليس عندما يختصر المسافة بيننا و بين أهدافنا ، فاذا حصلت في يوم على ميلون دينار ، و كنت تحصل عليه خلال عام أليس هذا اليوم خير لك من عام كامل ؟ كذلك ليلة القدر تهب للانسان الذي يعرف قدرها ما يساوي عمرا مديدا : ثلاثا و ثمانين سنة و أربعة أشهر ، و بتعبير أبلغ : ألف شهر .

[ ليلة القدر خير من ألف شهر ]

أجل الواحد منا مسمى عند الله و قد يكون قصيرا ، قد لا يبلغ الواحد منا معشار أهدافـــه فيه ، فهل يمكن تحدي هذا الواقع ؟ بلى . و لكن ليس بالصورة التي يتخيلها الكثير ، حيث يتمنون تطويل عمرهم ، و قليل هم الذين يحققون هذه الأمنية ، لان عوامل الوفاة عديدة و أكثرها خارج عن إرادة الانسان ، فما هو إذا السبيل الى تمديد العمر ؟ انما بتعميقه ، و مدى الانتفاع بكل لحظة لحظة منه ، تصور لو كنت تملك قطعة صغيرة من الارض ، و لا تسطيع توسيعها فكيف تصنع ؟ انك سوف تبني طوابق فيها بعضها تحت الارض و بعضها يضرب في الفضاء و قد تناطح السحب ، كذلك عاش بعض الناس سنين معدودات في الارض و لكنهم صنعوا عبرها ما يعادل قرونا متطاولة ، مثلا عمر رسولنا الكريم - صلى الله عليه وآله - لا يتجاوز الثلاث و الستين ، و أيام دعوته ثلاث و عشرون عاما منها ، ولكنها أبعد أثرا من عمر نوح المديد ، بل من سني الانبياء جميعا و هكذا خص الله أمته بموهبة ليلة القدر ،التي جعلها خيرا من ألف شهر ، ليقدروا على تمديد أعمارهم في البعد الثالث ( اي بعد العمق ) و لعل الخبر المأثور عن رسول الله (ص) يشير الى ذلك ، فقد روي ان رسول الله - صلى الله عليه وآله و سلم - أري أعمار الأمم قبله فكأنه تقاصر أعمار أمته ألا يبلغوا من العمر مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر ، فاعطاه الله تعالى ليلة القدر ، و جعلها خير من ألف شهر . (1)و في حديث آخر : انه ذكر لرسول الله رجل من بني اسرئيل انه حمل السلاح على عاتقه في سبيل الله ألف شهر ، فعجب من ذلك رسول الله عجبا شديدا ، و تمنى ان يكون ذلك في أمته ، فقال : " يارب ! جعلت أمتي أقصر الناس أعمارا ، و أقلها أعمالا ، فأعطاه الله ليلة القدر ، و قال : " ليلة القدر خير من ألف شهر " الذي حمل الإسرائيلي السلاح في سبيل الله لك ولأمتك من بعدك الى يوم القيامة في كل رمضان " (2) .

انك قد تحيي ليلة القدر بالطاعة فيكتب الله اسمك في السعداء ، و يحرم جسدك على نار جهنم أبدا ، وذلك بما يوفقك له من إصلاح الذات إصلاحا شاملا ، من هنا جاء في الدعاء المأثور في ليالي شهر رمضان مجموعة من البصائر التي تتحول بتكرار تلاوتها الى أهداف و تطلعات يسعى نحوها المؤمن بجد و مثابرة ، و يجتهد في طلبها من ربه .

" اللهم اعطني السعة في الرزق ، و الأمن في الوطن ، و قرة العين في الأهل و المال و الولد ، و المقام في نعمك عندي و الصحة في الجسم ، و القوة في البدن ، و السلامة في الدين ، و استعملني بطاعتك و طاعة رسولك محمد - صلى الله عليه و آله - أبدا ما استعمرتني ، و اجعلني من أوفر عبادك عندك نصيبا


(1) القرطبي / ج 20 - ص 133 .

(2) نور الثقلين / ج 5 - ص 615 .


في كل خير أنزلته و تنزله في شهر رمضان في ليلة القدر " (1)و هكذا ينبغي ان يكون هدفك في ليلة القدر تحقيق تحول جذري في نفسك ، تحاسب نفسك بل تحاكمها أمام قاضي العقل ، و تسجل ثغراتها السابقة ، و انحرافاتها الراهنة ، و تعقد العزم على تجاوز كل ذلك بالندم من إرتكاب الأخطاء ، و العزم على تركها و الالتجاء الى الله ليغفر لك ما مضى و يوفقك فيما يأتي .

و قد جاء في تأويل هذه الآية : انها نزلت في دولة الرسول التي كانت خير من دول الظالميــن من بني أمية ، حيث نقل الترمذي عن الحسن بن علي عليهما السلام : " ان رسـول الله - صلى الله عليه وآله - أري بني أمية على منبره فساءه ذلك ، فنزلت " إنا أعطيناك الكوثر " يعني نهرا في الجنة ، و نزلت " إنا أنزلنا في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر " يملكها بعدك بنو أمية " (2) وكانت حكومة بني أمية ألف شهر لا تزيد و لا تنقص .

و هكذا فضيلة حكومة العدل و أثرها العظيم في مستقبل البشرية أكثر من ألف شهر من حكومة الجور .

[4] لماذا أمست ليلة القدر خيرا من ألف شهر ؟ لانها ملتقى أهل السماء بأهل الارض ، حيث يجددون ذكرى الوحي ، و يستعرضون ما قدر الله للناس في كل أمر .

[ تنزل الملآئكة ]

و الكلمة أصلها تتنزل ، و صيغتها مضارع تدل على الاستمرار ، فنستوحي منها :


(1) كلمات من دعاء ابي حمزة الثمالي الماثور لاسحار شهر رمضان / انظر مفاتيح الجنان - ص 196 .

(2) القرطبي / ج 20 - ص 133 .


ان ليلــة القدر لم تكن ليلة واحدة في الدهر ، و انما هي في كل عام مرة واحدة ، و لذلك أمرنا النبي - صلى الله عليه وآله - بأحيائها .

فقد جاء في الأثر عن رسول الله - صلى الله عليه وآله - انه لما حضر شهر رمضان - و ذلك في ثلاث بقين من شعبان - قال لبلال : " ناد في الناس " فجمع الناس ، ثم صعد المنبر ، فحمد الله و أثنى عليه ، ثم قال : " أيها الناس ؟ ان هذا الشهر قـدخصكم الله به ، و حضركم ، وهو سيد الشهور ، ليلة فيه خير من ألف شهر " (1)و روي عن الامام أمير المؤمنين عليه السلام انه قال لابن العباس : " ان ليلة القدر في كل سنة و انه ينزل في تلك الليلة أمر السنة ، و لذلك الأمر ولاه بعد رسول الله " فقال ابن عباس من هم ؟ قال ( عليه السلام ) " أنا و أحد عشر من صلبي " (2) .

[ و الروح ]

ما هو الروح ؟ هل هو جبرائيل - عليه السلام - أم هم أشراف الملائكة ؟ أم هم صنف أعلى منهم وهم من خلق الله ، أم هو ملك عظيم يؤيد به أنبياءه ؟

استفاد بعضهم من الآية التالية : ان الروح هو جبرئيل - عليه السلام - حيث قال " نزل به الروح الأمين " (3)و استظهر البعض من الآية التالية : ان الروح هي الوحي ، فان الملائكة يهبطون(1) نور الثقلين / ج 5 ص 618 .

(2) المصدر / ص 619 .

(3) الشعراء / 193 .


في ليلة القدر به قال الله تعالى : " وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا " (1)و جــاء فــي حديث شريف ما يدل على ان الروح أعظم من الملائكة ، فقد روي عـن الامــام الصــادق - عليـه السلام - انه سئل هل الروح جبرئيل (ع) ؟ فقال : " جبرئيــل مـن الملائكـــة ، و الروح أعظـــم من الملائكة ، أليـــس ان الله عز وجل يقول : "تنزل الملائكة و الروح " (2)

و قد قال ربنا سبحانه : " و أيده بروح منه " مما يدل على ان الروح هو ما يؤيد الله به أنبياءه .

و يبدو ان الروح خلق نوراني عظيم الشأن عند الله ، و ان الله ليس يؤيد انبياءه - عليهم السلام - به فقط ، وإنما حتى الملائكة و منهم جبرائيل يؤيدهم به ، و بهذا نجمع بين مختلف الاحتمالات و الأدلة ، و الله العالم .

[ فيها بإذن ربهم ]

عظيمة تلك الليلة التي تتنزل الملائكة فيها ، و عظيمة لان الأعظم منهم هو الروح يتنزل ايضا ، و لكن لا ينبغي ان نتوجه الى عظمة الروح بعيدا عن عظمة الخالق سبحانه ، فانهم عباد مكرمون ، مخلوقون مربوبون ، و ليسوا أبدا بأنصاف آلهة ، و ليس لهم من الأمر اي شيء و لذلك فان تنزلهم ليس باختيارهم و انما بإذن ربهم .

[ من كل أمر ]

قالوا : معناه لأجل كل أمر ، او بكل أمر ، فالملائكة - حسب هذا التفسير - يأتون لتقدير كل أمر ، و لكن أليس الله قد قدر لكل أمر منذ خلق اللوح و أجرى عليه(1) الشورى / 52 .

(2) تفسير نمونه / ج 26 - ص 184 نقلا عن تفسير البرهان / ج 4 - ص 418 .


القلم ؟ بلى . إذا فما الذي يتنزل به الملائكة في ليلة القدر ؟ يبدو ان التقديرات الحكيمة قد تمت في شؤون الخلق ، و لكن بقيت أمور لم تحسم و هي تقدر في كل ليلة قدر لأيــام عام واحد ، فيكون التقدير خاصا ببعض جوانب الأمور ، و ليس كل جوانبها ، بلى . تشمل التقديرات جميع الأمور ، و لكن من كل أمر جانبا ، و هكذا يكون حرف " من " للتبعيض وهو معناه الأصلي ، وهو ايضا ما يستفاد من النصوص المأثورة في هذا الحقل :

سأل سليمان المروزي الامام الرضا - عليه السلام - و قال : ألا تخبرني عن " إنا أنزلناه في ليلة القدر " في اي شيء نزلت ، قال : " يا سليمان ! ليلة القدر يقدر الله عز وجل فيها ما يكون من السنة الى السنة ، من حياة أو موت , أو خير أو شر أورزق ، فما قدره الله في تلك الليلة فهو من المحتوم " (1)و هكذا تختلف بصائر الوحي عن تصورات البشر ، فبينما يزعم الانسان انه مجبور لا اثر لمشيئته في حياته يعطيه الوحي قيمة سامية ، حيث يجعله قادرا على تغيير مجمل حياته : من سعادة و شقاء ، و خير و شر ، و نفع و ضر ، كل ذلك بإذن الله ، و عبر الدعاء الى الله في ليلة القدر .

ان البشرية في ضلال بعيد عن حقيقة المشيئة ، فهم بين من ظن انه صاحب القرار ، و قد فوض الله الأمور اليه تفويضا مطلقا ، فلا ثواب و لا عقاب و لا مسؤولية و لا أخلاق ، و بين من زعم انه مضطر تسوقه الأقدار بلا حرية منه و لا اختيار .

و لكـن الحق هو أمر بين أمرين : فلا جبر لاننا نعلم يقينا ان قرارنا يؤثر في حياتنا ، أولست تأكل و تشرب و تروح و تأتي حسب مشيئتك و قرارك ؟ و كذلك لا تفويض لان هناك أشياء كثيرة لا صنع لنا فيها : كيف ولدت ، و أين تموت ،(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 630 .


وماذا تفعل غدا ، و كم حال القضاء بينك و بين ما كنت تتمناه ، و كم حجزك القدر عن خططك التي عقدت العزمات على تطبيقها ؟

بلى . ان الله منح الانسان قدرا من المشيئة لكي يكون مصيره بيده ، إما الى الجنة و إما الى النار ، و لكن ذلك لا يعني انه سيــدخـل الجنة بقوته الذاتية أو النار بأقدامه , و انما الله سبحانه هو الذي يدخله الجنة بأفعاله الصالحة ، أو يدخله النار بأفعاله الطالحة .

إذا الانسان يختار ، و لكن الله سبحانه هو الذي يحقق ما أختاره من سعادة و شقاء ، و ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، وها هنا تتركز أهمية الدعاء و بالذات في ليلة القدر التي هي ربيع الدعاء ، وقد تتغير حياة الانسان في تلك الليلة تماما ، فكم يكون الانسان محروما و شقيا إن مرت عليه هذه الليلة دون أن يستفيد منها شيئا .

و يتساءل البعض : أليس هذا يعني الجبر بذاته ؟ فاذا كانت ليلة تحدد مصير الانسان فلماذا العزم و السعي و الإجتهاد في سائر أيام السنة ؟!

كــلا .. ليس هذا من الجبر في شيء ، و نعرف ذلك جيدا إذا وعينــا البصائر التالية :

البصيرة الأولى : يبدو أن التقدير في هذه الليلة لا يطال كل جوانب الحياة ، فهناك ثلاثة أنواع من القضايا : نوع قدر في ليلة واحدة في تاريخ الكون ، فقد روي عن الامام أمير المؤمنين - عليه السلام - قال : " قال رسول الله - صلى الله عليه و آله وسلم -: أتدري ما معنى ليلة القدر ؟ فقلت : لا يا رسول الله ! فقال : ان الله تبارك و تعالى قدر فيها ما هو كائن الى يوم القيامة ، فكان فيماقدر - عز وجل - ولايتك و ولاية الأئمة من ولدك الى يوم القيامة " (1)و النوع الثاني : تقديرات تتـــم فـي السنة التي يعيشها الانسان ، بينما النوع الثالث : تبقى مفتوحة تخضع لمشيئة الانسان و هي الفتنة ، مثلا : ان الله يقدر للانسان في ليلة القدر الثروة ، أما كيف يتعامل الانسان مع الثروة هل ينفق منها أم يبخل بها و يطغى، فان ذلك يخضع لمشيئة الانسان و به يتم الابتلاء ، كذلك يقدر الله للانسان المرض أما صبر المريض أو جزعه فانه يتصل بإرادته .

و مع ذلك فان لله البداء ، اذ لا شيء يحتم على ربنا سبحانه ، و قد قال سبحانه : " يمحوا الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب " (2) وقد جاء في حديث مأثور عن الامام الصادق عليه السلام قال : " إذا كانت ليلة القدر نزلت الملائكة و الروح و الكتبة الى السماء الدنيا ، فيكتبون ما يكون من قضاء الله في تلك السنة ، فاذا أراد الله ان يقدم شيئــا او يؤخره ، او ينقص أمر الملك ان يمحو ما شاء ، ثم أثبت الذي أراد " قلت : و كل شــيء هــو عنـده و مثبت في كتاب ؟ قال : " نعم " قلت فأي شــيء يكــون بعده ؟ قال : " سبحان الله ! ثم يحدث الله ايضا ما يشاء تبارك و تعالى " (3) .

هكذا تبقـــى كلمة الله هي العليا ، و مشيئته هي النافذة ، و لكن الاتكال على البداء ، و تفويت فرصة ليلة القدر نوع من السذاجة ، بل من السفه و الخسران .

البصيرة الثانية : ان الله يقدر لعباده تبعا لحكمته البالغة و لقضائه العدل ، فلا يقضي لمؤمن صالح متبتل ما يقدر لكافر طالح ، و ما ربك بظلام للعبيد . و هكذا(1) المصدر / ص 629 .

(2) الرعد / 39 .

(3) تفسير نور الثقلين / ج 5 - ص 631 .


يؤثر الانسان في مصير نفسه بما فعله خلال العام الماضي ، و ما يفعله عند التقدير في ليلة القدر ، و ما يعلمه الله من سوء إختياره خلال السنة ، مثلا : يقدر الله لطاغوت يعلم ان لا يتوب بالعذاب في هذه السنة لانه سوف يظلم الناس خلالها ، ولو افترضنا انه وفق للتوبة و لم يظلم الناس خلالها ، فان لله البداء في أمره ، و يمحو عنه السقوط و يمد في ملكه ، و قد قال ربنا سبحانه : " ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " (1)البصيرة الثالثة : ان الناس يزعمون ان هناك احداثا تجري عليهم ، لا صنع لهم فيها كموت عزيز ، و الاصابة بمرض عضال ، و الابتلاء بسلطان جائر ، او بالتخلف ، او بالجفاف ، و لكن ألامر ليس كذلك إذ ان حتى هذه الظواهر التي تبدو انها خارج إطار مشيئة الانسان انما تقع بإذن الله و تقديره و قضائه ، و ان الله لا يقضي بشيء إلا حسبما تقتضيه حكمته و عدالته ، و من عدله ان يكون قضاؤه و تقديره حسب ما يكسبه العباد ، أولم يقل ربنا سبحانه : " ظهر الفساد في البر و البحر بما كسبت أيدي الناس " (2)وان في ذلك لكرامة بالغة لمشيئة الانسان ان يجعل الله تقديره وفق قرار ما ، أليس كذلك .

[5] السلام كلمة مضيئة تغمر الفؤاد نورا و بهجة ، لانها تتسع لما تصبو اليه النفس ، و تتطلع نحوه الروح ، و يبتغيه العقل ، فلا يكون الانسان في سلام عندما يشكو من نقص في أعضاء بدنة ، أو شروط معيشته ، أو تطلعات روحه ، فهل للمريض سلام ، أم للمسكين عافية، أم للحسود أمن ؟ كلا .. انما السلام يتحقق


(1) الرعد / 11 .

(2) الروم / 41 .


بتوافر الكثير الكثير من نعم الله التي لو افتقرنا الى واحدة منها فقدنا السلام . أولم تعلم كم مليون نعمة تتزاحم على بدنك حتى يكون في عافية ، و كم مليون نعمة تحيط بمجمل حياتك و تشكلان معا سلامتها ، و ليلة القدر ليلة السلام ، حيث يقول ربنا سبحانه :

[ سلام هي حتى مطلع الفجر ]

حينما تنسب هذه الموهبة الإلهية الى الزمن نعرف انها تستوعبه حتى لتكاد تفيض منه ، فالليل السلام كل لحظاته سلام لكل الانام ، كما اليوم السعيد كله هناء و فلاح ، بينما اليوم النحس تتفجر النحوسة من أطرافه .

فماذا يجري في ليلة القدر حتى تصبح سلاما الى مطع الفجر ؟

لا ريب ان اللــه سبحانه يغفر في تلك الليلــــة لفئــام من المستغفرين ، و ينقذهم - بذلك - من نار جهنم ، وأي سلام أعظم من سلامة الانسان من عواقب ذنوبه في الدنيا و الآخرة .

من هنا يجتهد المؤمنون في هذه الليلة لبلوغ هذه الأمنية و هي العتق من نار جهنم ، و يقولون بعد ان ينشروا المصحف أمامهم : " اللهم إني أسألك بكتابك المنزل وما فيه ، و فيه إسمك الأكبر ، و أسماؤك الحسنى و ما يخاف و يرجى ان تجعلني من عتقائك من النار" (1)

كذلك يقدر للانسان العافية فيها ، و اتمام نعم الله عليه ، و قــد سأل أحدهم النبي - صلى الله عليه و آلــه - : أي شيء يطلبه من الله في هذه الليلة فأجابه - حسب الرواية - " العافية " (2)(1) مفاتيح الجنان / ص 225 .

(2) المصدر / ص 226 .


و قد تدخل على فرد هذه الليلة وهو من الأشقياء فيخرج منها سعيدا ، أوليست الليلة سلاما ؟ من هنا ينبغي للانسان ان يدعو فيها بهذه الكلمات الشريفة :

" اللهم امدد لي في عمري ، و أوسع لي في رزقي ، و أصح لي جسمي ، و بلغني أملي ، وإن كنت من الأشقياء فامحني من الأشقياء ، و اكتبني من السعداء ، فانك قلت في كتابك المنزل على نبيك المرسل - صلواتك عليه وآله - : " يمحو الله ما يشاء و يثبت و عندهأم الكتاب " (1)

وفي هذه الليلة يقدر الله الرزق لعباده ، وهو جزء من السلام و الأمن ، وعلى الانسان ان يطلب منه سبحانه التوسعة في رزقه .

كما يقدر الأمن و العافية و الصحة و الذرية و كلها من شروط السلام .

حقا .. ان المحروم هو الذي يحرم خيرها كما جاء في حديث مأثور عن فاطمة الزهراء - عليها السلام - انها كانت تأمر أهلها بالإستعداد ، لاستقبال ليلة ثلاث و عشرين من شهر رمضان المبارك بـأن يناموا فــي النهار لئــلا يغلب عليهم النعاس ليلا و تقـــول : "محروم من حرم خيرها " (2)

و قال البعض : ان معنى السلام في هذه الآية : ان الملائكة يسلمون فيها على المؤمنين و المتهجدين في المساجد ، و ان بعضهم يسلم على البعض ، و قيل : لانهم يسلمون على إمام العصر - عليه السلام - وهم يهبطون عليه .

ليلة القدر متى هي ؟

إذا كان القرآن قـد نزل في شهر رمضان وفي ليلة القدر حسب آيتين في القرآن ،(1) المصدر/ ص 235 .

(2) المصدر / ص 236 .


فان ليلة القدر تقع في هذا الشهر الكريم ، و لكــن متى ؟ جـــاء فـــي بعــض الاحـــاديث : " إلتمسوها في العشر الأواخر " (1)و روى عن الامام الباقر - عليه السلام - انه قال في تفسير " إنا أنزلناه في ليلة مباركة " قال " " نعم . ليلة القدر و هي في كل سنة في شهر رمضان في العشر الأواخر ، فلم ينزل القرآن إلا في ليلة القدر " (2)و جاء في حديث آخر تحديد واحدة من ليلتين : احدى و عشرين و ثلاث و عشرين ، فقـــد روى ابـو حمزة الثمالي ، قال : كنت عند أبــي عبــد اللـه الامـام الصـادق - عليه السلام - فقال له أبو بصير : جعلت فداك ! الليلة التي يرجــى فيها ما يرجى ؟ فقال : " فـي إحدى و عشرين أو ثلاث و عشرين " قال : فان لم أقو على كلتيهما ؟ فقال : " ما ايسر ليلتين فيما تطلب ؟ " قلت فربما رأينا الهلال عندنا و جاءنا من يخبرنا بخلاف ذلك من أرض أخرى ؟ قال : " ما أيسر أربع ليال تطلبها فيها ؟ " قلت : جعلت فداك ! ليلة ثلاث و عشرين ليلة الجهني ؟ (3) فقال : " ان ذلك ليقال " ثم قال : " فاطلبها في ليلة إحدى و عشرين و ثلاث و عشرين ، و صل في كل واحدة منهما مائة ركعــة ، و أحيهما - ان استطعت - الى النور ، و اغتسل فيهما " قال قلت : فان لمأقدر على ذلك و أنا قائـــم ، قال : " فصل و أنت جالس " قال : قلت فان لم استطع ، قال : " فعلى فراشك ، و لا عليك ان تكحل اول الليل بشيء من النوم ، ان أبواب السماء تفتح في رمضان ، و تصفد الشياطين ، و تقبـــل أعمال المؤمنين ، نعم الشهر رمضانكان يسمى على عهد رسوله الله : المرزوق " (4) .


(1) حسب رواية عن رسول الله ( ص ) تفسير نور الثقلين ج 5 - ص 629 .

(2) نور الثقلين / ج 5 - ص 625 .

(3) سوف نذكره انشاء الله .

(4) المصدر / ص 625 .


و قد استفاضت أحاديث النبي و أهل بيته في إحياء هاتين الليلتين ، إلا أن حديثا يروي عن رسول الله يحدده في ليلة ثلاث و عشرين ، حيث يرجى أن تكون هي ليلة القدر حيث قال عبد الله بن أنيس الانصاري المعروف بالجهني لرسول الله - صلى الله عليه وآله - : أن منزلي ناء عن المدينة فمرني بليلة أدخل فيها فأمره بليلة ثلاث و عشرين . (1)و يبدو من بعض الاحاديث : ان ليلة القدر الحقيقية هي ليلة ثلاث و عشرين بينما ليلة التاسع عشر و واحد و عشرين هما وسيلتان اليها ، من وفق للعبادة فيهما نشط في الثالة ، و كان أقرب الى رحمة الله فيها .

هكذا روي عن الامام الصادق - عليه السلام - انه قال لمن سأله عن ليلة القدر : " أطلبها في تسع عشر و إحدى و عشرين ، و ثلاث و عشرين " (2)وجاء في حديث آخر : ان لكل ليلة من هذه الثلاث فضيلة و قدرا ، فقد روي عن الامام الصادق - عليه السلام - انه قال : " التقدير في ليلة القدر تسعة عشر ، و الإبرام في ليلة إحدى و عشرين ، و الإمضاء في ليلة ثلاث و عشرين " (3)و جاء في علامات ليلة القدر : " ان تطيب ريحها ، و ان كانت في برد دفئت ، و ان كانت في حربردت فطابت " (4)وعن النبي - صلى الله عليه وآله - : انها ليلة سمحة ، لا حارة و لا باردة ، تطلع الشمس في صبيحتها ليس لها شعاع " (5) .

نسأل الله ان يوفقنا لهذه الليلة الكريمة و يقدر لنا السعادة فيها .


(1) تفسير نور الثقلين / ج 5 - ص 626 .

(2) المصدر / ص 628 .

(3) المصدر / ص 627 .

(4) المصدر / 623 .

(5) المصدر .

فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس