فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


أولئك هم خير البرية
بينات من الآيات

[1] لقد أنعم الله على الانسان بالعقل ، و فطر نفسه على الايمان ، بيد انه ينفلت عن ظلال وغي ، و لا يكفيه ما لديه من فطرة و عقل ، بل يحتاج الى تذكرة الوحي و دعوة الرسول ، و أنى له ذلك و هو يتعرض لتيار عنيف من شهوا ت نفسه ، و وساوس شيطانه ، و تضليل أدعياء الدين ، و قمع أولي السلطة و الثروة . ألا ترى كيف لا يؤمن إلا نفر قليل بالرغم من ان الله ينزل الوحي ، و يدعوهم اليه داعي الفلاح ، و يخوض الرسول و المؤمنون صراعا شاملا في سبيل الدعوة .

[ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب و المشركين منفكين حتى تأتيهم البينة ]ويبدو ان الآية هذه التي صعبت على فهم بعض المفسرين حتى اعتبرها أعتد آية ، انما تذكرنا و بعبارات بسيطة و بينة بضرورة الرسالة الإلهية ، فمن دون رسالةالاسلام هل كان من الممكن إزالة تلك الحجب الكثيفة التي تراكمت عبر عصور الظلمات فوق بعضها ، و منعت إنارة العقل و هدى الفطرة ، و حرفت تعاليم الدين ، و مسخت شخصية الانسان .

كلا .. لان الفساد كان قد أطبق على البشرية ، فلم يعد أحد بقادر على مقاومته بسهولة ، فبعث الله النبي برسالة طاهرة من دنس ضلالاتهم و خبث ثقافتهم .

[2] لقد تنازع خطان قيادة الانسان عبر العصور : خط الوحي المتمثل في انبياء الله - عليهم السلام - و المؤمنون بهم ، و خط الجاهلية المتمثلة في الطغاة و المترفين ، و ثقافة الخــط الأول كانت نابعة من الوحي ، بينما ثقافة الجاهلية قائمة على أساس الضلالة .


و كلما انحسر الوحي أو ضعف دعاته استشرت الجاهلية ، و كانت المشكلة العاتية عندما يستسلم المؤمنون بالوحي تحت ضغط الجاهلية ، كما حدث قبيل بعثة النبي اذ لم يعد اتباع آخر الانبياء عيسى - عليه السلام - يشكلون قوة تذكر ، لا بسبب قلة عددهم بل لانهم بايعواالقياصرة في حقل السلطة ، و اتبعوا الفلاسفة في الحقل الثقافي ، و داهنوا المترفين و المستكبرين في المجتمع ، و لم يبق من الدين عندهم إلا طقوس فارغة ، فبدل ان يناهضوا سلطات الجور ، و يدافعوا عن المظلومين و المحرومين التهوا بمحاربة بعضهم ، و خلق عداوات جانبية بين مذهب و مذهب ، حقا .. أصبحوا كما كانت اليهود من قبل و تفشى فيهم ذات الاخلاق الفاسدة التي بعث عيسى بن مريم - عليه السلام - لإصلاحها ، و كذلك في حقل الثقافة فلم يدافعوا عن قيم الوحي في مقابل مفاهيم الفلسفة الضالة ، بل تراهم يلهثــون وراء التوفيقبينهما ، حتى و لو كان ذلك على حساب صفاء الوحي و نقائه . أرأيت كيف ذهبوا الى فكرة التثليث اتباعا للافلاطونية الجديدة ، و من هنا أصبحت الرسالة الإلهية أشد ضرورةمن اي وقت مضى ، ليس فقط لإصلاح البشرية من الفساد العريض الذي أحاط بها ، و انمــا ايضــا لتطهير الرسالة مما لحق بها من زيغ و انحراف على أيدي أهل الكتاب الكافرين ، و لإضاءة تلك المشاعل التي انطفأت او كادت بسبب عصف الشهوات العاتية ، فلم تعد تنير طريق السالكين ، و لكي يكون للناس على الله حجة بعد الرسل .

و هكذا بعث الله رسوله الخاتم بصحف طاهرة من دنس الإنحرافات الثقافية التي حرفت الديانات ، و طاهرة من تأثير الحكام الظلمة و المترفين الأشقياء .

[ رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة ]

و هكذا تتم البينة بالرسالة و الرسول معا ، إذ الرسول يدعو اليها بحكمة ، و يمثلها في سلوكه لتتجلى للناس روعتها ، و يدافع عنها بصبر و استقامة ، ثم ان الرسالة التي يحلمها مطهرة من شوائب الزيغ و الانحراف ، فتتقبلها الفطرة السليمة ، و العقل الرشيد .


[3] ماذا نقرأ في تلك الأوراق الطاهرة ؟ نقرأ كتبا أحكمت آياتها و فصلت ، لا تجد فيها عوجا و لا زيغا .

[ فيها كتب قيمة ]

يبدو ان معناها : الحقائق المكتوبة التي لا شبهة فيها و ريب ، و هي واضحة لا لبس فيها و لا غموض ، مستقيمة لا زيغ فيها و لا تحريف ، و على هذا فالكلمة أشارت الى الآيات المحكمة التي هي تكفي الانسان هدى و نورا ، و التي اليها يرجع ما تشابه من آيات الذكر بسبب تساميها عن مستوى كل الناس ، و تخصصها بالراسخين في العلم منهم فقط .


[4] و لعل البعض يتشابه عليه الأمر ، فيظن ان تفرق أهل الكتاب و اختلافهم في الدين كان من نقص في الحجة ، فاذا تمت الحجة و اكتملت البينة فلا أحد يختلف مستقبلا في الدين ، كلا .. ان الكتاب يوفر للناس فرصة الهداية ، و لكنه لا يفرضها عليهم فرضا ، فان آمنوا به فقد اهتدوا ، و إلا فهم المسؤولون عن ظلالهم و شقائهم .

[ وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ]يبدو ان أشد الضلال عند أهل الكتاب تفرقهم ، أليس الايمان بالله و رسله و شرائعه يوحد أهله في إطار الغايات التي يرسمها ، و المناهج التي يفرضها ، و السلوك الذي يوصي به ؟

لقد تفرق اليهود الى اثنين و سبعين فرقة ، أبرزهم طوائف الصدوقيين و الفريسيين ، و الآسيين ، و الغلاة ، و السامريين ، و كان لكل فرقة منهم ميزاتهم في الفكر و السلوك (1) .

و بذات العدد تفرق النصارى و كان أبرز طائفتين منهم ( الملكانية ) الذين ذهبوا الى عقيدة ازدواج الطبيعة عند السيد المسيح - عليه السلام - و ( المنوفوسية ) الذين زعموا ان طبيعته واحدة هي الألوهية ، و حاول الامبرطور الروماني ( 610 / 641 م ) ان يجمع مذاهب الدولة بالمنع عن الخوض في القضايا الكلامية ، الا ان القبط في مصر نابذوه العداء ، و وقع - جرا ء ذلك - اضطهاد فظيع على يد قيصر مصر استمر عشر سنين ، فكانوا يعذبون الرجال ثم يقتلونهم غرقا ، و توقد المشاعل على الضحايا حتى يسيل دهنهم ، و قد يوضع الضحية في كيس رمل و يلقى حيا في البحر (2) .


(1) في ظلال القران / ص 3950 .

(2) المصدر / 3951 .


و اختلاف الأمم بعد رسل الله و تمام الحجة عليهم دليل على مدى حاجة البشر الى الوحي ، حيث تراهم يختلفون حتى بعد تنزل الوحي بينهم ، و بمجرد ان يخبو ضوءه عنهم ، فكيف بهم إذا حرموه رأسا ؟!

[5] من أين يشجر الخلاف بين البشر ؟ من الشرك بالله ، حيث يقدس كل حزب شيئا لم يأذن الله به ، فتختلف المقدسات ، و تتفاوت القيم ، و يقع الخلاف ، بينما إذا كانوا جميعا يرجعون إلى تلك البصائر التي جاء بها الوحي ولم يقدسوا مصلحة أو أرضا أو عشيرة أو أشخاصا من دون الله إذا توحدت كلمتهم ، و صلحت أمورهم .

[ وما أمروا إلا ليعبدوا الله ]

دون الأنداد و الشركاء الموهومين ، ولا تتم العبادة إلا بالتسليم لله وحده ، و نبذ الخضوع لأية قيمة أو سلطة من دونه .

[ مخلصين له الدين حنفآء ]

يبـدو أن معنى الدين هو : ما يخضع له الإنسان من تلقاء نفسه من شريعة أو نظام ، و خلوصه رفض ازدواجية الولاء بين الله و الرسل و الأولياء ، و بين سائر السلطات المادية ، و هذا مالم يستقم عليه أهل الكتاب ، إذ تراهم ابتدعوا الكلمة الشائعة : ما لله لله ، وما لقيصر لقيصر ، و من اتبع هوى قيصر كيف يخلص دينه لله ؟!

وقد سبق منا اختيار معنى الطهر لكلمة الحنيف ، فلماذا تأتي الكلمة بعد بيان الإخلاص في الدين ؟ لعل التوحيد درجات : أولها الشهادة به لسانا ، و عقد القلب به مجملا ، و ثانيتها : رفض الأنداد ، و مواجهتهم ، و التمرد ضد سلطانهم ، و الثالثة : تطهير القلب منحبهم أو الميل إليهم ، و تطهير الفكر من رواسب ثقافتهم ، و تطهير السلوكمن آدابهم و أخلاقهم . و هذه درجة الحنيفية و الله العالم ، و من أبعادها الإلتزام بشرائع الله : من اقامة الصلاة على وجهها ، الى الخضوع فيها و تعاهدها دائما ، وكذلك إيتاء الزكاة .

[ و يقيموا الصلاة و يؤتوا الزكاة و ذلك دين القيمة ]قالوا : دين الكتب القيمة ، بدلالة قوله : آنفا : " فيها كتب قيمة " بلى . انها كتب لا عوج فيها و لا تعقيد ، و لا تفاوت و لا اختلاف . ولا نشوز عن فطرة البشر او حقائق الخلق .

[6] لا يجوز الاختلاف بين اتباع دين واحد ، كما لا يمكن توحيد دين الحق و مذهب الباطل ، بل لا بد ان يبقى الخلاف ماثلا بين الحق و الباطل وهو أساس توحيد الله ، و حينما ينماث الخلاف بينهما هنالك يغلب الباطل و يهزم أهل الحق ، و هكذا يذكرنا السياق هنا بأنالكفار هم شر البرية .

[ ان الذين كفروا من أهل الكتاب في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية ]لقد زعم بعض أحبار النصارى الأسبقون انهم يخدمون دين الله لو أدخلوا فيه بعض التعديلات ، و استخدموا كلمات الفلسفة لبيان مقاصده ، حتى استقرضوا من الثقافات الشركية بعض مفاهيمها و ألفوها مع حقائق الوحي ، ثم داهنوا القياصرة و المترفين فتنازلوا لهم عن الدنيا ليسمحوا لهم بممارسة طقوسهم الدينية الفارغة .

كلا .. ان المشركين هم شر البرية ، و من كفر من أهل الكتاب بقيم الدينالحق و داهن المشركيـــن فهو مثلهم تماما شر البرية ، و في ذلك انذار بالغ الوضوح لنا - نحن المؤمنين بالقرآن - الا نحذو حذو علماء اليهود و النصارى فنهادن الطغاة ، و نصانع المستكبرين طمعا في اعترافهم ببعض الدين .

و شر البرية تعبير بالغ الحدة لانه يعني انهم أضل سبيلا من كل ما خلق الله و برأه ، ولكن لماذا ؟ لانهم رفضوا الحق بعد البينة ، و كفروا بأعظم رسول ، الذي جاء بأفصح حجة و أبلغ إنذار .

[7] و حتى لو كانوا مستضعفين في الارض يأوون الى رؤوس الجبال ، و غور كهوفها ، و يسيحون في الارض فرارا بدينهم ، فان المؤمنين هم خير البرية .

[ ان الذين آمنوا و عملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ]لانهم آمنوا بأفضل نبي ، و اتبعوا أكمل منهج ، و اهتدوا بأبلج نور .

لقد خلق الله كل شيء في الارض للانسان ، و لكن اي انسان ، هل الذي يغتال كرامة نفسه ، و يدسها في وحل الجهل و الغرور ؟ كلا .. انه لا يساوي عند الله شيئا ، بل الذين يؤمن بالله و رسالاته ، و يعمل صالحا ، فيصبح أكرم خلق الله جميعا .

و جاء في الأثر في تأويل هذه الآية عن ابن عباس : لما نزلت قال النبي - صلى الله عليه وآله - لعلي ( عليه السلام ) : " هو أنت و شيعتك ، تأتي أنت و شيعتك يوم القيامة راضين مرضيين ، و يأتي عدوك عقبانا مقمحين " (1) .

و ذكر الدر المنثور للسيوطي طائفة من الأحاديث المماثلة نذكر منها ما يلي :


(1) شواهد التنزيل / ج 2 - ص 357 عن تفسير نمونه / ج 27 - ص 211 .


1 - أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله ، قال : كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وآله - فأقبل علي ، فقال النبي - صلى الله عليه وآله - : " و الذي نفسي بيده ان هذا و شيعته لهم الفائزون يوم القيامة " و نزلت : " ان الذين آمنوا و عملواالصالحات أولئك خير البرية ، فكان أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله - إذا أقبل علي قالوا : جاء خير البرية .

2 - و أخرج ابن عدوي و ابن عساكر ، عن ابي سعيد مرفوعا : علي خير البرية .

3 - و أخرج ابن عدي عن ابن عباس : لما نزلت " الآيـــة " قـــال رســـول الله - صلى الله عليه وآله - لعلي : " هو أنت و شيعتك يوم القيامة راضين مرضيين " .

4 - و أخرج ابن مردوية ، عن علي ، قال : " قال لي رسول الله - صلى الله عليه وآله - : ألم تسمع قول الله : " ان الذين آمنوا و علموا الصالحات أولئك هم خير البرية " أنت و شيعتك ، و موعدي و موعدكم الحوض ، إذا جاءت الأمم للحساب تدعون غرا محجلين " (1) .

[8] ما هو المقياس لخير البرية ، هل كثرة الأموال و الأنصار ؟ كلا .. بل رضوان الله و الجنة ، اما الثــروات و الأولاد فانها فتنة و ابتلاء يقدرهما الله للناس جميعا .

[ جزآؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ]أليس قد صلحت طينتهم فأصبحوا أهل الجنة دائمين فيها ، لان الجنة هي ذاتها(1) تفسير الدر المنثور / ج 6 - ص 379 .


الصلاح ، و قد أعدت لأهل الصلاح ، و أعظم من الجنة رضوان الله الذي يغمر قلوبهم رضا و سكينة و نورا .

[ رضى الله عنهم و رضوا عنه ]

كيف يبلغ الانسان درجة الرضوان ؟ انما بمعرفة الله وخشيته ، التي هي ميراث معرفته سبحانه ، و علامة القرب منه ، و شهادة رفع حجب الذنوب بينه و بينهم .

[ ذلك لمن خشى ربه ]

لذلك جاء في الدعاء المأثور عن النبي - صلى الله عليه وآله - : " اللهم اجعلني أخشاك كأني أراك و أسعدني بتقواك " .

و جاء في الآية الكريمة : " إنما يخشى الله من عباده العلماء " (1) .

فالخشية هي زينة العلماء بالله ، و هكذا جاء في دعاء الصباح المأثور عن الامام أمير المؤمنين عليه السلام : " لا إله إلا أنت سبحانك اللهم و بحمدك ، من ذا يعرف قدرك فلا يخافك ، و من ذا يعلم ما أنت فلا يهابك " .

نسأل الله ان يملأ قلوبنا خشية و فرقا منه ، و شوقا اليه ، حتى نكون من خير البرية ، و من شيعة علي التابعين لنهجه حقا . آمين رب العالمين .


(1) فاطر / 28 .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس